شهادات من تحت النار
التاريخ: 
15/10/2023

في هذه المادة، شهادة لطفلة تسكن في غزة اسمها مريم، وشهادة أُخرى لأم مريم، وشهادة ثالثة لشريكي في الكتابة بهاء شاهرة رؤوف. 

أتواصل يومياً مع بهاء، الذي يسكن في منطقة في دير البلح قرب مقام الخضر الأثري، للاطمئنان على أحواله، ومعرفة الظروف التي يمر بها مع أمه وأخويه وجيرانه، وعند كل سؤال، يكون الرد: "تقلقش، بعدنا طيبين"، وفي مرة من المرات أجابني: "مش حاطط في بالي أموت بحرب".

عادة ما يكتب بهاء في الصحافة الفلسطينية والعربية مقالات رأي. وأنا وهو لم نتحدث هاتفياً سوى مرة واحدة، إذ نلجأ عادة إلى تبادل الرسائل الطويلة للحديث عن مشاغلنا وهمومنا وقلقنا ويومياتنا. في ثاني أيام العدوان أرسل إليّ قائلاً: "أُلقي نكتة أو اثنتين في الأيام الصعبة هذه ليقفز قلبي ضحكاً هنا وهناك، ولا يقف مكانه من صوت القصف الإسرائيلي على مدينتنا. أُخرج رأسي من شباك غرفتي، أستنشق غبار القنابل وأرجع مرة أُخرى كي أُلقي نكتة ثالثة". بعد هذه الرسالة، طلبت منه أن يسجل لي عن أحواله، وأن يسجل أيضاً مع الجيران، كي نكتب معاً هذه المقالة، فسجل مع مريم وأمها حين كانتا في بيتهما يومها.

مريم وأم مريم

مريم في التاسعة من عمرها، غادرت مع أمها المنزل من شدة القصف القريب منهما، وخوفاً من وصوله إليهما. تقول أم مريم: "البارحة (اليوم الأول) كان في بدايته نهاراً عادياً، والمنطقة حيث أسكن كانت بأمان نسبي، لكن مع غياب الشمس، انقلبت الدنيا. قبل ذلك كنا نسمع الأصوات من هنا وهناك، بعدها لم نعد نعرف أين تسقط الصواريخ من كثرتها. ومع اشتداد القصف انقطعت الكهرباء، ولم يعد الإنترنت يعمل، فانقطعتُ عن معرفة التفاصيل". هكذا عاشت أم مريم تلك اللحظات، فقد كان الخوف يغلف قلقها على نفسها وعلى ابنتها، تضيف: "منذ الساعة السادسة تقريباً حتى الفجر، كانت الصواريخ تسقط في محيطنا، لم أكن أعرف أين تحديداً، كانت أمي تتصل بي من حين إلى آخر، لتطمئن عليّ وعلى مريم، ولم تكن تزودني بمعلومات كثيرة كي لا أخاف".

ترك كثيرون من الناس بيوتهم، وبعض المناطق في غزة بدت موحشة، إمّا بسبب إبادتها تماماً، وإمّا بسبب نزوح أهلها عنها، فقد أفادت وكالة "الأونروا" أن هناك "حوالي 218,600 نازح داخلياً يقيمون في 92 مدرسة تابعة للأونروا في كافة مناطق قطاع غزة".[1]  هذا العدد من المنازل الفارغة من سكانها فاقم شعور الوحشة لدى أم مريم، التي قالت لبهاء: "في الليل شاهدت بعض الجيران يتركون بيوتهم ويخرجون إلى الشوارع، بعضهم كان يحمل معه فراشاً. لم يكن واضحاً لديهم إلى أين عليهم الذهاب، فكل المناطق تقريباً تتعرض للقصف". أمام هذه الحالة، تقول أم مريم: "حين نسمع أصوات الانفجارات والقذائف والصواريخ، وليس هناك ناس، والكهرباء مقطوعة، نستوحش أكثر. كان القصف المتواصل وأصوات الرعب تجعل الأرض تهتز تحتنا، وحينها كنت أعود إلى القاعدة التي تعلمناها من عدة حروب سابقة، وهي أنه ما دمنا نسمع صوت الصاروخ فنحن بأمان، ولا أعرف إن كانت هذه القاعدة صحيحة، لكنها كانت مريحة بالنسبة إليّ"، وتضيف أم مريم: "شاهدت بعض الصواريخ وهي تهوي، بعدها كنت أسمع أصوات الحجارة وهي تتضارب بعضها ببعض".

هذا الدمار الذي نشاهده نحن الذين خارج غزة، هو لأبنية رأينا بعضها يهوي بساكنيه وعلى من حوله، كبرج فلسطين الذي قصفته إسرائيل وجعلت طبقاته الأربع عشرة طبقة واحدة مدمرة، والذي كانت تستخدمه العديد من المؤسسات والطواقم الإعلامية، كما كان يوجد فيه عيادات طبية وشقق سكنية.

بعد بدء نزوح الناس عن حيها، كان الخوف لدى أم مريم على ابنتها مريم أكبر من أي شيء آخر، كما أوضحت: "ابنتي نامت، نامت من الخوف، ومع كل صاروخ جديد كانت تمسك يدي بشدة". وتقول الطفلة مريم مؤكدة كلام أمها: "كنت نايمة، كل ما ينزل صاروخ كنت أكبس على إيد إمي، ما كنت واعية، كنت وأنا نايمة أسمع صوت الصاروخ، فأضغط على إيد إمي".

مريم كغيرها من الأطفال في العالم، لها أحلامها البسيطة، تقول لبهاء: "أنا في الصف الرابع، لما أرجع عالمدرسة، بدي أطمن ع صديقاتي في الصف، وعلى معلمتي، وعلى مديرتي لأنها علمتنا وبتطلب منا دائماً ندرس".

في اليوم الثاني للحرب كتبت مريم قصة قصيرة، صورتها أمها وأرسلتها إلى بهاء، تقول فيها: "أنا شعرت بالخوف الشديد عندما انكسر الباب، وذهبت أنا وأمي إلى منزل خالتي، رأيت الزجاج المتطاير في جميع أنحاء البيت، وركضت أنا وأمي في الشارع وتركنا العصفور في المنزل، وأتمنى أن تنتهي الحرب. أنا اسمي مريم عمري 9 سنوات، اشتقت إلى حياتي في المدرسة".

بهاء

أجرى بهاء المقابلة مع مريم وأمها عبر الهاتف، وأرسل التسجيل إليّ، فقمت بتفريغه وصياغته كما هو ظاهر أعلاه. وطلبتُ من بهاء الإجابة عن الأسئلة ذاتها التي سألها لمريم وأمها، وأن يحدثني عن هذه الحرب، كإنسان يعيش في غزة؛ يقول بهاء: "أنا شخص لديه شعور باهت في الغالب، ذلك بأنني مصاب بالاكتئاب، وأخضع إلى العلاج. لكن شعوري الآن هو الفخر، لأننا امتلكنا كشعب ومقاومة المبادرة، والحق معنا؛ نحن اليوم نقوم بالفعل، ولم نعد نقوم بردة الفعل فحسب". يتابع قائلاً، ويبدو صوته في التسجيل هادئاً: "لا أشعر بالحزن، وإنما بالغضب مما أراه".

لهذا الغضب معنى عند بهاء وعند أي متابع، ولا سيما حين نتابع العدوان على الهواء مباشرة، ونرى حجم القتل والتدمير الذي يمارسه الاحتلال؛ فقد صرح جيش الاحتلال يوم الخميس الماضي أنه "قصف غزة بـ 4000 طن من المتفجرات منذ بدء العدوان".

يرى بهاء أن الناس في غزة متماسكة نوعاً ما، على الرغم من كل شيء، يقول: "يوجد رعب، وخوف على الحياة، وقلق من القادم، لكن المشاعر جياشة إزاء ما يجري، لدينا شعور بالفخر. لست متفاجئاً بهذه المشاعر لدى الناس ولدي، أنا مرتاح لهذه الروح المناضلة في شعبنا، فمن الواضح أننا سنستمر في المقاومة، والمقاومة ليست فقط بالسلاح، بل هي أيضاً بالصمود، وبهذه الروح الموجودة، وبالمفاهيم التي تشكلت لدينا عبر تجارب كثيرة من الحروب والاعتداءات علينا في غزة."

ينشط بهاء مع جمع من أصدقائه للمساعدة في مختلف أماكن مدينة غزة، ويوضح: "أنا شخص أرى أنه عليّ القيام بواجب وطني ونضالي من أجل الناس، وأتخيل أن هذا الدور الطبيعي الذي عليّ أن أقوم به بشدة".

يختم بهاء تسجيله بالقول: "لن أقبل أن أكون خبراً عاجلاً على الشاشات، أنا حياة خلفها قصة خلفها حياة، بينما الاحتلال يريد تحويلنا إلى أخبار عاجلة، وأنا أرفض ذلك، وبالتالي أنا لدي دور نضالي، وهذا هو المهم، وهذا ما سأقوم به".

 

[1] انظر الموقع الإلكتروني للأونروا.

 

عن المؤلف: 

أيهم السهلي: صحافي فلسطيني من مدينة حيفا، ولد في مخيم اليرموك ويقيم ببيروت.

بهاء شاهرة رؤوف: كاتب فلسطيني مقيم في غزة.