إعادة الإعمار ومشروعنا التحرري
التاريخ: 
17/04/2024

اليوم، ومع استمرار الهجوم الصهيوني الأخير على غزة في شهره السادس، تكثر مقالات الرأي عن تصوّرات ليوم ما بعد الحرب، وهنا يكمن سؤال "إعادة الإعمار" في صميم هذه النقاشات؛ إذ يبدو أنه توجد لدى صناع السياسات، والاقتصاديين، والمعماريين، والمخططين كلّهم اقتراحات وآراء لمستقبل غزة. وكالعادة، يوجد هناك بينهم التقنيون من البنك الدولي، ومحللو السياسات في الأمم المتحدة، إلى جانب دعاة آخرين، يتبنّون بحُسن نية نهجاً مجتمعياً يُعنى بالحلول المحلية والأهلية. وعلى الرغم من اختلاف هذه المشاريع، فإنها تشترك بمحدوديّة جامعة - محدوديّة الأفق السياسي، ذلك الأفق المتجذّر - في مفهوم إعادة الإعمار ذاته. 

وتطغى الحلول الاقتصادية على معظم التصورات بشأن إعادة الإعمار، مختصرة جلّ تجربة الإبادة بأرقام وفواصل وحسابات بنكية. فيذكر تقرير للأمم المتحدة، على سبيل المثال، تقديرات البنك الدولي بفاتورة 18,5 مليار دولار لإعادة بناء غزة، وبين تفاؤل البعض بإمكان تحصيل هذا المبلغ، وتشاؤم البعض الآخر بشأن المدة المطلوبة لإعادة بناء اقتصاد غزة، يتحول الزمن الفلسطيني – زمن الإبادة- إلى عملة لها قيمة اقتصادية، فيقول أحد خبراء الأمم المتحدة ملاحظاً: "ربما يستغرق الأمر حتى سنة 2092 كي تعود غزة إلى المستويات الاقتصادية لسنة 2022". 

ولا يكشف هذا التوقع (أن غزة ربما تعود إلى حالتها الاقتصادية في سنة 2022 فقط بحلول سنة 2092، أي بعد سبعة عقود) عن خيال محدود فحسب، بل أيضاً يفضح عجز الأطر المنظماتية عن التعامل العملي مع الحاضر والمستقبل بما يخدم مشروعنا التحرري. وإذا كنا نتحدث عن سبعة عقود هنا، ففي إمكاننا أيضاً أن نتخيل فلسطين قبل سبعة عقود، أي قبل تحوُل العصابات الصهيونية في بلدنا إلى كيان استعماري، وهذا التحوُل الجذري في المشهد السياسي خلال هذه الفترة الفائتة لا يمكن له إلاّ أن يدفعنا إلى التشكيك في ديمومة الأوضاع الاستعمارية الحالية. فبينما تبدو هذه التوقعات الاقتصادية كتقييمات عقلانية، فإنها تُبرز تردداً جماعياً في تصوُر مستقبل يتجاوز النموذج الحالي، وهو ما يشير إلى قبول ضمني للحاضر الاستعماري كحد لطموحاتنا وإمكاناتنا. 

وفي سياق مشابه، يحضر نقص الرؤية أيضاً في خطاب التكنوقراط وتجلياته في العمارة والعمران. وإن أغلب تفرعات هذه العلوم في مجالات إعادة البناء، وما يتعلق بها من عمارة "إنسانية"، تم صوغها عقب الحرب العالمية الثانية، في سياق مختلف تماماً عن سياقنا الاستعماري. لذلك، فإن إسقاط هذه المفاهيم من دون التفكير في جوهر الأوضاع السياسية، وما يترتب على بقائها وعدمه، ليس إلاّ تفادياً لمواجهة الأسئلة الحقيقية عبر حلول موضعية. ونحن هنا لا نتحدث فقط عن توأمة الابتعاد عن "السياسي" في العمارة بطهرانية مهنية، بل أيضاً عن الكيفية التي تصبح فيها آليات الإعمار المعقم سياسياً أدواتاً للتكيف مع الوضع السياسي الراهن بدلاً من بناء واقع بديل. 

وإن كان لا بد لنا هنا من توضيح أن المشكلة ليست بالعمل الإغاثي المطلوب في وقتنا هذا، فلا بد لنا أيضاً من معرفة حدود الإغاثة وإدانة خلطها ومداخلاتها إلى درجة استبدالها بعملية إعادة البناء، ولا أستطيع إلاّ أن أعتقد أن هذا الخلط متعمَد؛ ففي السياق الفلسطيني، لا غرابة في تدويم الموقت، كحين أصبحت المخيمات مدناً، والأسلاك الشائكة أصبحت حدوداً، والاتفاقيات أصبحت حلولاً. فبينما تدابير الإغاثة الفورية ربما تكون أساسية في مواجهة الإبادة والتهجير القسري والتجويع، فإنه لا يمكن اعتبارها تعويضاً عن ماضٍ مضى، إنما هي خطوة مكملة لسعينا الطويل نحو التحرير، والمنطق هنا دائري؛ إذ إن صناعة الدمار تنشئ الحاجة إلى العمل الإنساني، والعمل الإنساني يستجدي المزيد من الدمار. 

فكيف يمكننا كسر هذه الدائرة؟ وكيف يمكننا أن نقارب إعادة الإعمار بطريقة أُخرى؟ يمكن أن يبدأ النقد بمفهوم "إعادة الإعمار" نفسه، وهناك دلالة رجعية في المصطلح يمكن أن تقيّد قدرتنا على تصوُر المستقبل، وهي تلك الدلالة التي تمنعنا من تخيُل فلسطين 2092 بأوضاع مغايرة لفلسطين 2022. فما الذي نود "إعادة" إعماره بالضبط؟ أيّ واقع وتحت أي أوضاع؟ 

تكمن المعرفة التاريخية المتراكمة للشعب والأرض في صلب سؤال إعادة الإعمار، فتصب هذه المعرفة في بناء رؤية للمستقبل، مع النظر بعين ناقدة إلى الماضي، فتدركه ولا تحتكم به. وتُحرِرنا هذه المعرفة التاريخية من الجغرافيات الضيقة التي يرسمها المستعمِر لنا، فبينما الحرب على غزة هي التي دفعت بقضية إعادة الإعمار إلى الواجهة اليوم، فإن مسألة إعادة الإعمار هي مسألة إعادة بناء الكل الفلسطيني؛ الأرض والشعب والنضال. 

إذاً، ترتبط قضية إعادة الإعمار في فلسطين ارتباطاً وثيقاً بتصوُر مستقبل يتجاوز القرن الفائت من الاستعمار ومشاريع التقسيم المتتالية. أمّا التقسيم الأول، فهو اتفاقية سايكس - بيكو لسنة 1916، عندما تم قطع فلسطين عن اتصالاتها الطبيعية مع العالم العربي والمتوسطي بأسْره. ثم كان التقسيم الثاني في نكبة سنة 1948، عندما تم احتلال معظم أراضي فلسطين العربية، واختراع وحدات جغرافية جديدة ومنعزلة سُميت بـ "الضفة الغربية" و"قطاع غزة" في إبان التطهير العرقي لما يقرب مليون فلسطيني من ديارهم. أمّا التقسيم الثالث والأخير، فهو اتفاقات أوسلو لسنة 1993، وهو ذلك الإجراء "الموقت" الذي تحوَل إلى أطول "وضع سياسي راهن" للفلسطينيين منذ بداية القرن العشرين. 

تاريخ فلسطين غني بالجهود المتراكمة لتحدّي التقسيم الاستعماري والعمل لإعادة توحيد البلد؛ ففي سنة 1919، أصدرت الرابطة المناهضة للصهيونية، التي تأسست في نيويورك من جانب مثقفين بارزين من فلسطين وسورية ولبنان، كتاباً بعنوان "فلسطين وتجديد حياتها"، وهو كتاب يقترح رؤى لإعادة الإعمار تتحدى التقسيم الجيوسياسي للمنطقة عقب الحرب العالمية الأولى، مؤكداً أن "فلسطين جزء لا يتجزأ من سورية، وسورية جزء لا يتجزأ من فلسطين." ولم يقتصر مفهوم الوحدة على الجانب الجيوسياسي فحسب، بل أيضاً أكد الروابط الثقافية والتاريخية والاقتصادية والسياسية العميقة التي تربط فلسطين بالمنطقة العربية. 

وتجاوزت هذه الدعوات للوحدة الدوائر النخبوية، لتجسد مشاعر واسعة النطاق في الشارع الفلسطيني. وبحلول سنة 1919، شهدت القدس احتجاجات تؤكد أن "فلسطين هي سورية الجنوبية"، تتحدى بصورة علنية حدود سايكس بيكو ووعد بلفور المشؤوم. وبعكس الصهيونية التي ترى في تعبيرات كهذه دليلاً على هوية فلسطينية باهتة، تشير هذه الاحتجاجات إلى إحساس عميق بالانتماء إلى فلسطين والمنطقة معاً؛ إذ من الطبيعي للهوية الفلسطينية أن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنطاقها الإقليمي الأوسع، ولا غرابة في أن تكون هويةٌ متجذرةٌ ومنفتحةٌ كهذه صعبةَ الفهم على المستوطنين الصهيونيين الجدد، بفهمهم السطحي والضيق للقومية والانتماء. 

وعلى مدى العقود المنصرمة، أكد الفلسطينيون وحدتهم في مواجهة قوى الاستعمار والتقسيم، وهي وحدة لا تقتصر على حدود فلسطين الجغرافية، بل أيضاً تجسّد إرادة جمعية نحو التحرير. ومن شعارات يوم الأرض في الناصرة خلال السبعينيات والثمانينيات، والتي أصرّت "في الجليل والخليل، شعب واحد، ونضال واحد، ومصير واحد"، إلى مسيرات العودة الكبرى سنة 2018، حين تظاهر أهالي غزة على أطراف القطاع مطالبين بحقهم في العودة، وليس بتحسين أوضاع الحصار، ومروراً بانتفاضة الوحدة سنة 2021، والتي جابت شوارع القدس واللد ورام الله وحيفا ومخيّمات اللجوء، مؤكدةً أن قرناً من الاستعمار والتفتيت غير قادر على دثر مشروعهم الوحدوي والتحرري. 

 لم تمثّل كل هذه اللحظات الحاسمة في العقود الفائتة استحضاراً لقضية فلسطين فحسب، بل أيضاً تجسيداً لإمكانات إعادة ولادتها وتكوينها. وهكذا تكون إعادة الإعمار الحقيقية، ويعود بها مفهوم "الإعمار" إلى أصله المرتبط بالإنسان، وليس البنيان فقط، فالحجارة والأسمنت قشور العمران، أمّا جوهرها، فهو استعادة الكرامة والروح الجمعية. 

اليوم، وسط حرب الإبادة، فإن على إعادة البناء الحقيقية أن تتجاوز قيود الحاضر الاستعماري، وترفض تحديد مستقبل غزة وفلسطين ضمن "الواقعية" الضيقة التي يفرضها المشاركون في اضطهادنا، فواقعيتهم هي نفسها التي سمحت بقرن من الاستعمار والتطهير العرقي والإبادة، ولا يمكن أن تحدد مصيرنا، فهي واقعية المستعمِر، أمّا واقعيتنا، فهي لا تُحصر في مجابهة المشروع الصهيوني فحسب، بل أيضاً تتجاوزه. كما أن واقعيتنا لا تحتكم بالواقع، بل ترسم خطى تغييره.

 

* مع جزيل الشكر لوسام العسلي، والذي تمت مناقشة أفكار هذه المقالة معه.

عن المؤلف: 

ندي أبو سعادة: هو معماري وباحث فلسطيني، ولد في القدس. حاز على درجتي الماجستير والدكتوراه في العمارة من جامعة كامبريدج البريطانية، وله كتابات عديدة حول تاريخ العمارة والعمران في فلسطين والمنطقة العربية، وهو محرر مساهم في "فصلية القدس" الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية باللغة الإنكليزية.