المسيري. "الاستعمار الصهيوني وتطبيع الشخصية اليهودية: دراسات في بعض مفاهيم الصهيونية والممارسات الإسرائيلية" (بالعربية)
Reviewed Book
Full text: 

الاستعمار الصهيوني

وتطبيع الشخصية اليهودية: دراسات في بعض

مفاهيم الصهيونية والممارسات الإسرائيلية

بقلم د. عبد الوهاب المسيرى. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ١٩٩٠.

 

هذا الكتاب عبارة عن تجميع لعدد من المقالات تم نشرها قبل أعوام في دوريات وصحف عربية. وعلى الرغم من سعي المؤلف لإدخال التعديلات التحريرية التي يتطلبها إخراجها من جديد في شكل كتاب، فإنَّ المقالات ظلت تعاني جراء أصلها الصحافي والتكرار، وبقيت بحاجة إلى ما يربطها بشكل متماسك من حيث الصيغة أو المنهج.

من حيث الشكل، نلاحظ أنَّ المؤلف عالج موضوعاته بدقة متفاوتة. إذ نراه دقيقًا جدًّا في الفصل الأول (أكثر من ثلاثة هوامش لكل صفحة)، بينما نراه يتحاشى التوثيق تمامًا في الفصلين الثاني والثالث. ويحيلنا على قائمة مراجع في نهاية كل من الفصلين الرابع والخامس. ويبدو للقارىء أنَّ المؤلف كان يمكن أنْ يؤدي خدمة أكبر  لمادته لو أنَّه اهتم بتحريرها وتوثيقها بما ينقلها من مادة تنشر في صحيفة يومية إلى مادة لكتاب يتناول موضوعًا مهمًا كالاستعمار الصهيوني، وتطبيع الشخصية اليهودية.

ينقسم الكتاب قسمين لا رابط بينهما: أولهما يتناول في فصلين: "الخلفية التاريخية" و"بعض المفاهيم الصهيونية". وفيهما يركز المؤلف على محاولة دراسة "الظاهرة الصهيونية في سياقها الغربي، السياسي والاقتصادي والثقافي، كجزء من التشكيل الاستعماري الغربي." آخذًا بعين الاعتبار "بُعدها الخاص وهو استيطانيتها، ثم بُعدها الفريد وهو إحلاليتها." ويتناول القسم الثاني، في ثلاثة فصول، "بعض الممارسات الصهيونية" التي تتمثل في الهجرة ونظام الكيبوتس والجريمة.

يكرر المؤلف في هذه المجموعة من المقالات أفكارًا سبق أنْ طرحها في مؤلفات سابقة (أنظر على سبيل المثال: "الأيديولوجية الصهيونية"، سلسلة عالم المعرفة، العددين ٦٠ و ٦١، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب، ١٩٨٢ و١٩٨٣). وتتلخص هذه الأفكار، بشيء من التبسيط، فيما يلي:

  • إنَّ الصهيونية فكرة استعمارية ذات صفة إحلالية فريدة (ص ١٧ – ٢٦).
  • إنَّ إسرائيل هي التعبير الحي عن تلك الفكرة (ص ٢٧ – ٣٠).
  • إنَّ الاستعمار الصهيوني الإحلالي، وبالتالي إسرائيل، لا بد من أنْ يكون عميلًا لقوة خارجية (ص ٣٠ – ٣٢).
  • إنَّ المجتمع الإسرائيلي لم يتكون بعد. فما زال تجمعًا لمستوطنين ومهاجرين (ص ٩٣ – ١٠٥).
  • إنَّ المشروع الصهيوني الاستعماري الإحلالي يعاني مجموعة أزمات، بينها: الأزمة السكانية وتتمثل في نضوب مصادر الهجرة، وتساقط المهاجرين في الطريق إلى إسرائيل، ونزوح الإسرائيليين (ص ١٠٦ – ١٢٠)، وأزمة الاستيطان التي يعمقها تكاثر العرب غير الطبيعي (ص ٢٣ – ١٢٨)، والأزمة الاقتصادية المتمثلة في ازدهار المضاربات والاستهلاك الشره والإنتاج الهزيل وتمويل الشعب الطفيلي (ص ١٢٨ – ١٤١)، وأزمة الفكرة الصهيونية وانحسارها (ص ١٧١ – ١٧٣)، وانتشار الجريمة والفساد (ص ١٨٧ – ٢١٨).
  • إنَّ الاستعمار الصهيوني بدأ يفقد بالتدريج صفته الإحلالية (ص ١٢٨).

 بطبيعة الحال، فإنَّ المؤلف ليس وحيدًا في الإيمان بهذه الطروحات، إلا أنَّ هذا القارىء، على الأقل، لا يرى كيف يمكن لهذا الطرح الإيماني أنْ يسهّل الوصول إلى ما يتوخاه المؤلف من هدف جدير بالثناء: "إنارة الظاهرة الصهيونية، [ووضع] أسس فهم عربي لها يدركها بأبعادها العامة والخاصة"؟. ويرى المؤلف أنَّ الكتابة عن الصهيونية في العالم العربي تندرج تحت أحد منهجين: أولهما "المنهج التآمري... [الذي] ينظر إلى الظاهرة الصهيونية باعتبارها تعبيرًا عن شر ميتافيزيقي متأصل في النفس أو في الطبيعة اليهودية. وكل ما يأتي به الصهاينة أو الإسرائيليون (الذين يشار إليهم في مثل هذه الكتابات باصطلاح "اليهود") إنَّما هو تعبير عن هذا الشر..." (ص ٧)؛ وثانيهما منهج علمي موضوعي "لا يصدر عن أية منطلقات ميتافيزيقية مسبقة، وإنَّما يحاول أنْ يرصد الظاهرة الصهيونية في أصولها وبنائها وحركتها، ويجمع المعلومات والحقائق لإظهار طبيعة الظاهرة الصهيونية وللتوصل إلى نبوءات في شأن مستقبلها" (ص ٨).

والمؤلف، إذ يسعى للانتماء إلى المنهج الأخير، فإنَّه يميز نفسه منه بحذره من "العدد الهائل" من المفاهيم الصهيونية التي تسللت داخل النهج العلمي الموضوعي (ص ٩). ولقد أدَّى هذا الحذر وذلك التميّز إلى "دراسة الظاهرة الصهيونية الإسرائيلية باعتبارها ظاهرة اجتماعية اقتصادية وحضارية لا تنتمي إلى ما يسمى 'التاريخ اليهودي'، وإنَّما تنتمي أساسًا إلى التشكيل الحضاري الاستعماري الغربي" (ص ١١).

بداية، لا يمكن أنْ يتفق هذا القارىء مع هذا التقسيم الثنائي؛ فالساحة الفكرية أرحب من ذلك كثيرًا. كما أنَّ من الصعب، بعد قراءة متأنية لمقالات هذا الكتاب، أنْ نوافق المؤلف على أنَّه ينتمي إلى واحد فقط من النهجين اللذين يذكرهما.

لا يجد المرء صعوبة في الإشارة إلى العديد من الأحكام المسبقة التي تخطتها الكتابة العربية عن الصهيونية وعن المشروع الصهيوني/ الدولة. فنحن لا نجد، لحسن الحظ، من يكتب حتى على جدران المخيمات المقهورة أنَّ العنصر الأساسي وراء الأزمة الاقتصادية في إسرائيل هو أنَّ الإسرائيليين "أقل شعوب العالم إنتاجية وأكثرها بلطجة" (ص ١٣٤)، أو أنَّ مؤشرات فشل المشروع الصهيوني تكمن في أنَّ "ثلث الإسرائيليين الاشكنازيين [ما بين] ٢٥ و ٣٠ عامًا يعانون إرهاقًا نفسيًا.... وأنَّ ٣٨٪ من الإسرائيليين يدخنون السجائر" (ص ١٩١). ناهيك بالقول إنَّ "من أهم أسباب تزايد معدلات الجريمة [في إسرائيل] هو الشعور العميق بالعدمية، نتيجة الإحساس بعدم الأمن الناجم عن الرفض العربي والكفاح الفلسطيني المسلح..." (ص ٢١٥ – ٢١٦).

لا يتوقف المؤلف كثيرًا أمام موضوعته الرئيسية "إنَّ الأيديولوجية الصهيونية قد أخفقت في تحقيق هدفها الأساسي، والتحدي الرئيسي الذي طرحته على نفسها: تطبيع الشخصية اليهودية" (ص ١٤٠). ويبدو لهذا القارىء أنَّ أحد أسباب ذلك يكمن في اعتماد المؤلف على خليط مما سماه المنهج التآمري والمنهج العلمي. وهذا الخلط المرتبط بكم ملحوظ من الأحكام المسبقة أدَّى إلى الانتقائية التي تعيب أية دراسة مهما تكن نياتها حسنة.

وتبرز هذه الخاصية بوضوح في تحاشي المؤلف التعاطي مع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية باعتبارها، في الوقت نفسه، أداة لتطبيع الشخصية اليهودية / الإسرائيلية ومجالًا له. ففيما عدا حديثه عن الفساد والجريمة في الجيش  (ص ١٩٣ – ١٩٥)، بما في ذلك "العلاقات الجنسية غير المشروعة"، وحالات اغتصاب المجندات وإجهاضهن، فإنَّ هذه المؤسسة العسكرية التي يصفها المؤلف، بحق، أنَّها "أهم مؤسسات التجمع الاستيطاني الصهيوني... وعموده الفقري" تكاد تكون غائبة عن الكتاب. ويشكل هذا الغياب قصورًا منهجيًا أساسيًا في اعتقادنا.

للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية دور متميز في تطبيع الشخصية الإسرائيلية، وتوفير مجالات الاندماج الاجتماعي، سواء فيما يتعلق بالفئات والطبقات الاجتماعية ذات الأصول الإثنية والثقافية المختلفة المقيمة في إسرائيل، أو فيما يتعلق بدمج المهاجرين الجدد واستيعابهم وتلقينهم أساليب التكيف إزاء مجتمعهم الجديد. وبطبيعة الحال، فإنَّ هذه إحدى خاصيات إسرائيل التي تميز دور المؤسسة العسكرية فيها من دور مثيلتها في بريطانيا أو الهند، على سبيل المثال. ففي المجتمعات "الاعتيادية" تقوم المؤسسة العسكرية بدور ثانوي في تطبيع شخصية المواطن. أمَّا في إسرائيل، حيث يشكل التجنيد الإجباري وخدمة الاحتياط والخدمة العسكرية الدورية واجبات أساسية من واجبات المواطنة، فإنَّ للمؤسسة العسكرية دورًا متميزًا لا يمكن إغفاله عند الحديث عن إخفاق أو نجاح الأيديولوجية الصهيونية في تطبيع الشخصية اليهودية. ويبرز الخلط بين المنهجين، وتأثير الأحكام المسبقة، والانتقائية، بوضوح أيضًا، في تناول المؤلف لعمليات الاستيطان.

يقول المؤلف: "وتتضح أزمة الصهيونية وانحسارها أكثر ما تتضح في عملية الاستيطان. فالحركة الصهيونية أصبحت غير قادرة على العثور على 'يهود' لتوطينهم في المستعمرات الجديدة" (ص ١٧٢). ولعل ما نشهده الآن من موجات هجرة/ تهجير اليهود السوفيات إلى إسرائيل يقود المؤلف إلى إعادة نظر يستحقها الموضوع.