أساطير في انتفاضة نابلس
Keywords: 
الانتفاضة 1987
نابلس
الضفة الغربية
Full text: 

القدس 

يقولون إن نابلس ما دامت بخير فالانتفاضة بخير. وكان جبل النار هو قلب الانتفاضة الذي ما دام مستمراً في الخفقان استمرت هي في قيد الحياة. هذا في الضفة الغربية على الأقل، إذ أن لقطاع غزة نبضه الخاص الذي يجعل أتون الانتفاضة مشتعلاً باستمرار.

ومن لا يسكن نابلس ويسمع عنها ينتابه إحساس بالغموض والإثارة إنْ فكّر في الذهاب إليها ودخول بلدتها القديمة التي قيل إنها أرعبت جنود الاحتلال، وباتت كابوسهم الذي يتردد في منامهم، وحتى في يقظتهم. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فالبلدة القديمة هي حارة الياسمينة، وتصفية العملاء، والحجر الوحيد الذي قتل جندياً. وهي "النسر الأحمر" و"الفهد الأسود" اللذان سيطرا على البلدة القديمة، وفرضا حكمهما إلى أن اغتيل بعض أفرادهما واعتقل الباقون، ولم يبق إلا ذكراهم وشعارات على الجدران في الياسمينة والأريون (حي آخر في البلدة القديمة) تقسم على الثأر لهم.

عندما أردت أول مرة زيارة الياسمينة، هذه الحارة الأسطورية في الانتفاضة، قال زميلي النابلسي: لا مجال لدخولك فهي تشتعل اليوم. ربما في يوم آخر عندما يكون هناك هدوء نسبي وأستطيع أن أرتّب لك ذلك مع شبان من الداخل.

  • وما المانع أنْ أدخل وحدي، فالجنود لا يتحرشون بالسيدات؟ أستطيع أن أدخل بشكل عادي من سوق البصل وأسال هناك.
  • عندها ستجدري نفسك انتقلت فجأة من الشارع إلى أحد السراديب، وبين السين والجيم لن يكون الأمر لطيفاً بالنسبة إليك وأنت لست "وجه بهدلة". أنصحك ألا تدخلي وحدك.

طبعاً الشيء العادي في أي مكان ليس بالضرورة أن يكون عادياً في نابلس. فلكل مكان قواعده التي تفرضها أوضاعه. والقاعدة في نابلس ألا يدخل غريب البلدة القديمة وحده. وزميلي الذي يسكن خارج البلدة القديمة لا يستطيع المجازفة بتعريض نفسه للجنود داخل البلدة، وخصوصاً أنه يحمل بطاقة هوية خضراء تعني أنه "ذو سوابق أمنية".

ثاني مرة كان زميلي النابلسي قد دبّر الأمر. وكي أعرف التفاصيل، قال عبر الهاتف: سيري عن يمين الدوار، ثم أمام الصيدلية في اتجاه المعرض وانتظريني أمامه. سرت، فوصلت وانتظرت. وفجأة ظهر أمامي. قال:

  • ادخلي الآن وسيري في الشارع الذي أمامك حتى تصلي إلى درج، فاصعديه واستمري في السير إلى الأمام. وعندما تجدين محلاً للحلويات إلى يمينك اتجهي يساراً حتى تصلي محل كذا حيث ستجدين أحدهم في انتظارك. وأنا سأتصل بعد دقائق لأتأكد من أنك وصلت.

لم أسأل عن اسم الشخص الذي سينتظرني. فهذا سؤال لا يُسأل، ولن تفيد معرفة الاسم في شيء؛ إذ أنه في البلدة القديمة في نابلس لا يسأل غريب شخصاً عن اسمه. فسرت حتى وصلت ونظرت إلى المكان، فبادرني صاحب المحل: أنت زميلة فلان؟ ادخلي وانتظري قليلاً.

أنتظر ماذا؟ لا أعرف، ثم دخل أحدهم فأخبره الذي استقبلني بأني زميلة صديقه. قلت: هل أنت الذي ستصحبني إلى الياسمينة؟

  • لا. لكن سأجد شاباً مناسباً، فأنت تعرفين. الشباب هنا كلهم جيدون، لكن بعضهم متهورون، ولا نريد أن يصيبك أذى.
  • أي أذى؟
  • أنت غريبة عن البلد، وأي غريب يثير الشكوك. ولا يجوز أن يوقفك الشباب ويسألوا عن هويتك. نحن لا نرضاها لك.
  • وما المانع من أن يتأكدوا إذا كان هذا يريحهم؟
  • تقولين هذا الآن، لكنك لن تستريحي للأمر. صدّقيني.

وبمرور شاب يدعى أمجد ناداه، وقال: تستطيعين أن تذهبي معه، فأمجد يرتكن عليه. سترين كل ما تريدين معه، وستكونين في أمان. وقال لأمجد: تريد أن ترى البلدة والشباب.

سرت معه وأنا لا أثق بجديته؛ فقد بدا صغيراً في السن أشبه بالشاب الطائش. لكن تبين لي، فيما بعد، أنه أمضى ستة أشهر في الاعتقال الإداري، في معتقل أنصار – 3 في صحراء النقب. ونحن نعبر الأزقة:

  • إلى أين نذهب؟
  • إلى الياسمينة.
  • وكيف عرفت أنني أريد أن أرى الياسمينة؟
  • لم أعرف، لكنه المكان المناسب.

رأيت من بعيد شابين يلبسان الأسود آتيين صوبنا، فقال أمجد: هذان من شباب الياسمينة، هل تريدين أن تتكلمي معهما؟

قلت: طبعاً.

عندما وصلنا إليهما استوقفهما وقال: تفضلي.

هنا، في الشارع، هكذا، من دون أن نجلس. قلت للشابين. هل نستطيع أن نجلس في مكان ما ونتكلم؟

فأجاب أحدهما: انتظري قليلاً. ودخل مكاناً معتماً أشبه بشق في الحائط ثم عاد مع شاب آخر تركني معه وذهب. سألته: هل نستطيع أن نتحدث في مكان ما. فأجاب: طبعاً، انتظريني لحظة. وعاد إلى الشق المعتم.

سألت أمجد: ماذا يوجد هناك؟

  • لا شيء.
  • فلم لا ندخل إذاً؟

لم يجب. ففهمت أنه كان يجب ألا أسأل. لكن الشق المعتم ازداد غموضاً عندما مررت أمامه عدة مرات خلال جولتي وفي كل مرة يقول شبان واقفون أمامه لمرافقي: فلان سأل عنك. فيدخل ثم يعود ونكمل طريقنا من دون أن يذكر كلمة واحدة عن المكان أو الأشخاص في داخله.

عاد الشاب الذي سيحل محل أمجد في مرافقتي في أحياء البلدة القديمة، وقال: فلنصعد. صعدنا درجاً معتماً يمر تحت أقواس أشبه بمكان للاختفاء، لكنه كان في الواقع بيتاً عادياً من بيوت البلدة القديمة، على الرغم من أنه لم يكن عادياً بالنسبة إلى أهله. كان هذا بيت أحد شهداء الياسمينة خالد طبيلة. وكثيرون هم شهداء نابلس.

قال أحد الشباب الحاضرين:

الياسمينة اشتهرت لأن كافة الشباب كان لهم اتصال معها خلال الانتفاضة. فهي فرزت فرزاً جيداً، بمعنى أنه لا يوجد فيها "متعاونون" كثيرون. والذين كانوا فيها إمكا انسحبوا أو أجرى الشباب تحقيقاً معهم أو تمت تصفيتهم على يد مجموعات "الفهد الأسود" و "النسر الأحمر". أما الشباب فيعيشون حياتهم فيها "على أعصابهم". إذ قد يقتحم الجيش في أية لحظة، يهرف من يهرب وقد يصاب خلال هروبه. ولكن ميزة الحارة أن جميع الشباب يد واحدة، لا يجرؤ أحدهم على سبّ الآخر فتخلوا عن المشاكل. الكل متفاهم وقناعتهم أن الله واحد لا يوجد غيرهـ، والموت واحد كذلك.

واشتهرت الياسمينة لأن أحداث الانتفاضة كانت تتركز فيها، الملثمون جاؤوا، الملثمون ذهبوا، المتعاونون سحبوا إليها، التحقيقي معهم تم فيها، الاشتباكات فيها والشهداء فيها. "الفهد الأسود" مقره كان في الياسمينة.

  • هل كان أعضاء "الفهد الأسود" معروفين من الناس قبل أن يغتالهم جنود الاحتلال؟
  • بالطبع، الكل كان يعرف عندما يمر عماد الناصر وعمر عرفات في الشارع أنهم هم "الفهد الأسود". حتى الآن بقي إثنان منهم هما أمجد أبو ربيع وناصر العظمة وهما مطلوبان حيّين أو ميّتين. ولكن نشاطهما قلّ جداً بعد أن جاءت تعليمات من الخارج بوقف قتل "العملاء". وغير ذلك فهم متمسكون بالبلدة، يحلون المشاكل إذا وجدت، يساعدون الناس إذا احتاجوهم في أمر، وهكذا.

وقال شاب آخر عرف عماد الناصر قبل استشهاده:

كان عماد فهداً بالفعل، لا يخاف ويقفز إلى الموت برجليه، وكان محبوباً من قبل أهالي البلدة، يرفع معنوياتهم، يساعد من يحتاج، يحل مشاكل الناس ويتعاطف معهز.

يوم استشهاده، كان يجلس مع هاني وعمر في حي العقبة يتحدثون ويضحكون. قلنا لهم لماذا لا تعيدون أجهزة الهاتف التي كانوا جمعوها من كل منازل البلدة القديمة. فأجابنا ليس بعد، ربما بعد بضعة أيام. فقد كان يريد التحقيق أكثر في موضوع الكمائن التي جاءت عن طريق الهاتف ثم قام ثلاثتهم وغادرونا. لم تمض دقائق حتى سمعنا إطلاق النار بكثافة. في البداية، اعتقدنا أنهم هاجموا دورية، فقد كان عماد يحمل رشاش م – 16 دائماً معه، وعمر وهاني يحملان مسدسات. ثم بدأ الخبر ينتشر بين الناس: "استشهد عماد الناصر". في البداية، لم أصدق لا أنا ولا غيري من الشباب. حاولنا أن نخرج من الحارة فبدأ الجيش يرمي قنابل الصوت باتجاهنا، ثم أطلق النار. كان واضحاً أن أي شاب يجازف بالخروج سيقتل. ثم فرضوا منع التجول على البلدة.

استشهد عماد الناصر (24 عاماً) ورفيقاه هاني (19 عاماً) وعمر (28 عاماً) في الأول من كانون الأول/ديسمبر الماضي. واستشهد شاب رابع يدعى مسعود بتيري (20 عاماً) كان أمام المكان الذي اقتحمه الجنود متخفين بثياب نسائية، ويغطون رؤوسهم بالكوفية الفلسطينية. ويروي سكان المنطقة التي دار الاشتباك فيها، إن جنوداً إسرائيليين أُصيبوا خلال تبادل إطلاق النار بينهم وبين مجموعة "الفهد الأسود" إذ شوهدت سيارات إسعاف عسكرية تنقل جرحى من الجنود، إلا أنه لم يتم إعلان شيء في هذا الشأن.

خلال جولة في شوارع الياسمينة والأزقة الضيقة المعتمة والبيوت المتصل بعضها ببعض، قال مرافقي مشيراً إلى باب خشبي: "هنا في الداخل توجد 'محكمة الثورة'. فهنا تم التحقيق مع المتعاونين مع الاحتلال قبل أن يصدر قرار بالإفراج عنهم أو تصفيتهم." أما ما وراء الباب الخشبي فهو عبارة عن ساحة معتمة أشبه بمكان مهجور يؤدي من طرفه الآخر إلى زقاق آخر ومخرج. "وهنا كان يجلس 'الفهد الأسود'" – مشيراً إلى طريق تتوسطه بضع درجات تؤدي إلى أحد المنازل. "كانوا يشعرون بالأمان في هذا المكان بسبب إخلاص سكان الحي."

وفي مكان آخر شبه مهجور، لا يمكن التنبؤ بما قد يكون داخله، قال مرافقي: "في هذه المصبنة القديمة كان يختبىء 'الفهد الأسود' في وقت من الأوقات. كانوا ينامون هنا إلى أن اقتحمها الجيش ولكن لم يمسك أحداً. فليس هناك عاقل ينام في مكان ليس له مخرج آخر." وعلى بعد أمتار عدة من المكان، أشار إلى باب مقفل بالصفيح: "في هذا المكان وجدوا أغراض الشباب التي تستعمل في العروض العسكرية."

وعلى بعد أمتار أخرى من المصبنة، نظر مرافقي إلى أعلى وقال: "من هذا المكان أُلقي الحجر الذي أصاب رأس جندي فصرعه. كان شبان ثلاثة يختبئون في شبه الجسر الذي يعلو الزقاق حيث استدرجوا مجموعة من الجنود حتى صاروا تحتهم وألقوا بالحجر على رأس أحدهم."

كان الشبان الثلاثة سمير النعنيش وإبراهي الطقطوق وعمار أبو شرخ أعضاء في مجموعة "الفهد الأسود" أيضاً. وقد حكم على اثنين منهم بالسجن المؤبد، وعلى الثالث بالسجن 15 عاماً.

وعندما يمر شبان في الأزقة بشبان آخرين، فإن السؤال: "هل هناك جيش" يسبق التحية. فإذا كان الجواب بالنفي شعروا بالأمان وأكملوا طريقهم. وإذا كان يالإيجاب أحسّوا بالخطر وتراجعوا، أو غيّروا طريقهم. حتى الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم السابعة أو الثامنة، حفظوا قوانين اللعبة في البلدة القديمة؛ فهم يحذرون، من آن إلى آخر، كلما شاهدوا شباناً يسيرون في الطريق: "هناط جيش!"، وأصبحا ردة الفعل على وجود الجنود تلقائية بالنسبة إليهم.

قال مرافقي:

بعد أن اغتيل "الفهد الأسود" و"النسر الأحمر" قلّت كثيراً عمليات قتل المتعاونين مع السلطات. وتوحّدت جميع المجموعات تحت اسم "القيادة العامة للقوات الضاربة"، ولهذه القيادة مسؤول في كل حارة. أما الشباب فليس لهم أية رغبة في تجديد نمط "الفهد الأسود" و"النسر الأحمر". فهم وإنْ كانوا يؤمنون بحتمية قتل المتعاونين لوضع حد للأذى الذي يسببونه، لكن ليس أي متعاون يستحق القتل.

وعن التنسيق بين القوات الضاربة، قال:

هناك فريق يدعى "الأمن الداخلي" ومهمته مراقبة المتعاونين وتقديم تقاريرهم قبل أن يصدر أي قرار بشأنهم. وهناك فريق يدعى "الأمن الثوري" وهو الوحيد المخول بقتل المتعاونين  عندما يصدر أمر بذلك. وهناك "الشرطة العسكرية" التي حلّت محل أفراد الشرطة العادية الذين استقالوا بناء على طلب قيادة الانتفاضة. وفريق يدعى الحرس الوطني" ومهمته حراسة من قبل سلطات الاحتلال.

وباقترابنا من منطقة السوق قال مرافقي: هناك أحد الشبان المطلوبين والمطاردين، هل تريدين أن تتكلمي معه؟

قلت: طبعاً، هذه فرصة.

قال الشاب النحيل ذو البشر السمراء والعينين اللتين تبدوان أنهما لم تريا النوم منذ فترة ولا تتوقفان عن الالتفا إلى الهجمات كافة:

إنهم [جنود الاحتلال وأجهزته] يطاردونني منذ خمسة أشهر ولا أعرف إلى متى سيستمر هذا الحال، قد يقبضون علي في أية لحظة، وقد يغتالونني بدل الإمساك بي، وقد لا يمسكون بي أبداً.

  • لماذا؟
  • لأنني مع الشباب قتلنا العملاء الذين يتعاونون مع السلطات وأجهزة المخابرات الإسرائيلية.
  • كيف قتلتموهم؟
  • البعض بالرصاص، والبعض الآخر بالبلطات.

لم يبدو عليه التأثر وهو يتكلم. كانت الكلمات تخرج من فمه وعيناه تتلفتان يمنة ويسرة.

  • هل قتلت أنت شخصياً أحداً منهم؟
  • نعم، إثنين.
  • أين قتلتهما؟
  • هنا، وأشار إلى "بالوعة المجاري" بجانبنا، وهناك البالوعة الثانية.
  • لماذا تقتلوهم؟
  • لأنهم جواسيس وما "خرب بيتنا إلا العملاء". عندما ترين أفعى أمامك، لا بد من أن تقتليها.
  • وكيف تأكدت أنهم تعاونوا مع السلطات؟
  • لأن هناك بالطبع من يراقبهم. وعندما تأتي البيانات نحقق معهم بعد إحضارهم. البعض منهم يعترف بما فعله، ويخبر عن غيره أيضاً من المتعاونين. ونحن لا نفعل سوى تنفيذ حكم الشعب بهم.
  • من أين تأتي قوة القلب هذه؟
  • لا تقلقي، لم يبق لدينا قلب منذ زمن، ولكن ليس في كل شيء. "العميل الأصلي" فقط يستحق ذلك. أما الباقون فمنهم من يأتون من تلقاء أنفسهم ليعترفوا، فنتركهم يذهبون في حالهم بعد أن تابوا. لكننا لهم بالمرصاد إذا تكرر الأمر.
  • هل تعلم بأن أبو عمار أوصى بوقف قتل المتعاونين؟
  • نعم، نعلم ذلك. لكن مع احترامي لأبو عمار فهو غير معني بأن يقتلوا، لأسباب خاصة. أما نحن فلن نعطيهم الأمان كي يأتوا هم لقتلنا. وبرأيي عندما نقول لهم لن تُقتلوا، فكأننا نعطيهم الفرصة كي يكثفوا من نشاطهم ضدنا. لذلك لن نتركهم، خاصة المسيحيين منهم، يجب أن نصفّيهم. وأنا متأكد أن أبو عمار يعلم أن من يقتل أبناء شعبه يجب أن يُقتل.
  • أين تعيش؟
  • في أي مكان، أخرج من البلدة متى أريد وأعود إليها متى أريد. أنام في أي مكان وأختبىء باستمرار.
  • وأهلك؟
  • أشاهدهم صدفة في السوق. والدتي التقيتها هذا الصباح عند الجزار سألتها عن صحتها، سلّمت وتركتها.
  • ألست خائفاً؟
  • مما أخاف؟ لم يبق شيء نأسف عليه. كل واحد منا يريد حريته وكرامته، فهل هذا يخيف؟

تقول ام نمر حمامي إنها عندما تريد أن ترى ابنها جاسر، المطارد، تذهب إلى السوق وتقف في الشارع منتظرة؛ فلربما يمر وتراه. فهي لا تعرف عنه شيئاً منذ ثلاثة أشهر. لكن من حين إلى آخر يأتي شباب ويقولون لها إنه بخير ويبعث بسلامه إليها ويوصيها بألا تقلق عليه.

قبل ذلك كان ابنها نمر مطارداً هو الآخر. وبقي ثمانية أشهر حتى ألقي القبض عليه في الثالث والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 1989. وكانت تذهب إلى السوق مع زميلتها أم بسام خراز، أملاً بأن ترى هي الأخرى ابنها مروان إذ كان هو ونمر لا يفترقان. كان نمر ومروان من رفاق عماد وهاني، وأُلقي القبض عليهما بكمين كان معداً في الأساس لإلقاء القبض على أفراد المجموعة كافة. وعندما لم يتمكنوا من عماد وهاني، اغتالوهما في كمين آخر بعد ثلاثة أيام من عملية إلقاء القبض هذه.

تروي ام نمر:

في تلك الليلة اتفق مروان ونمر أن يناما في البيت الذي كان ينام فيه عمان وهاني. وعندما اكتشف عماد أنه وهاني مراقبان، خاف على رفيقيه، وطلب من نمر ومروان أن لا يذهبا معهما. فناما في تلك الليلة في بيت آخر في حارة الياسمينة مع زميل ثالث. عند منتصف الليل  كانت الحارة بأكملها محاطة بالجيش، وطُوقت تطويقاً كاملاً. أما أبواب البيوت ففتحوها بالأوكسجين مستعينين بالقنابل المضيئة كي لا يسمع صوت ولا يشعر الشباب بهم. ولكن المطارد لا يشعر بالأمان ولا ينام. فأحسوا بحركة غريبة حول البيت في اللحظة الأخيرة وصعدوا إلى الأسطح.

وجد مروان نفسه فجأة وسط مجموعة من الجنود، فاستسلم. أما نمر فكان هرب من طريق ثان، ومن سطح إلى آخر وهو الذي يعرف الحارة بيتاً بيتاً. عندما وصل فوق حائط وأراد أن يقفز علق رباط حذائه بسلك يتدلى من الحائط فوق على ظهره. تبعه صديقه الثالث ويدعى أمجد أبو العينين وقال: كيف سأحملك. أجاب نمر: لا تحملني لأني أعتقد أن شيئاَ ما قد كسر في جسمي، ولا أستطيع تحريك نفسي. فاحرب أنت، فليمسكوا بواحد أفضل من الاثنين (لم يكن يعلم بعد أن مروان أُلقي القبض عليه). هرب أمجد وبقي مطارداً، جاء الجنود وأخذوا نمر بعد أن أوسعوه ضرباً. فقد روى أصحاب البيت الذي سقط أمامه داءه التي سالت هم الذين غسلوها في اليوم التالي.

نقل نمر إلى مستشفة تل هاشومير قرب تل أبيب، وبقي فيه 18 يوماً تحت الحراسة المشددة، بعد أن تبين أنه أصيب بكسر في حوضه. ثم نقل في إثر ذلك إلى سجن بيتح تكفا للتحقيق معه، ثم إلى سجن نابلس، وبعدها إلى زنارين سجن جنيد، بانتظار تقديمه للمحاكمة. وتروي ام نمر أن عليها، في يوم زيارة السجن، أن تنتظر هي وعائلة المعتقل جابر هواش حتى يفرغ من الزوار ولا يبقى أحد سواهم فعندها يحضروهما. وكان جابر هواش من مجموعة "النسر الأحمر" التي اغتيل قائدها أيمن الرزة (23 عاماً) في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 1989، عندما اقتحم جنود الاحتلال منزلاً قرب نابلس كان يختبىء فيه مع جابر وثلاثة آخرين أُلقي القبض عليهم أيضاً.

وتتابع ام نمر:

عندما علم ناصر وهاني أن مروان ونمر قُبض عليهما فقدا شعوريهما، وفرضا منع التجول على البلدة القديمة، وجمعا أجهزة هاتف البلدة وبدآ بالتحقيق مع كل رجل وامرأة يمر أمامهما. كانت تلك المرة الأولى والوحيدة التي يفرض فيها الشباب منع التجول على نابلس. كانا متأكيد أن وقوع مروان ونمر كان مؤامرة، وأن الكمين كان معدّاً جيداً. وكان هذا ما ردده نمر أمام ضابط المخابرات الذي قال له عندما بدأ يصحو من غيبوبته: أخيراً أمسكناك يا نمر. فأجاب: لم تمسكني بشطارتك، بل بشطاره كلابك.

وعلى الرغم من قلق ام نمر على ابنها الثاني جاسر، المطارد هو الآخر، فإنها تبدو محتفظة بشجاعتها، كأن شيئاً لم يحدث؛ إذ بالنسبة إليها كما تقول: "المهم أنهم لا يزالون بخير،ولا يوجد أهم من ذلك" – تقول ذلك، وهي لا تعرف مصير جاسر؛ إذ أردفت قائلة:

فجاسر كان مطلوباً هو الآخر في العام الماضي. وعندما داهم الجنود المنزل الذي كان يختبىء فيه مع زملائه الثلاثة في حارة الياسمينة نجح في تهريبهم أولاً. وعندما حاول الهرف من النافذة أصيب برصاصة في رجله. فاعتقلوه وهو ينزف ونقلوه في اليوم التالي إلى مستشفى تل هاشومير حيث بقي 18 يوماً تحت الحراسة المشددة كأخيه. ثم نقل للتحقيق معه إلى سجن نابلس. وخلال التحقيق مع جاسر ادعى أنه كان مستيقظاً عند الفجر، ويستهعد للذهاب إلى عمله. وعندما داهم الجنود المنزل، خاف وحاول الهرب. ولعدم وجود أدلة ضده أو اعترافات من شبان آخرين أُطلق سراحه بعد ثلاثة أشهر، مرفوع الرأس.

ولم تمض أسابيع قليلة حتى جاء الجنود يطلبونه في بيته لكنهم لم يجدوه. ومن هنا بدأت عملية المطاردة. إذ أن جاسر، باكتشافه أنه أصبح مطلوباً ثانية، لم يقترب من بيته ولو مرة. قالت له ام نمر في البداية: "لا زالت رجلك غير معافاة ولا تساعدك على الهرب، فدعني أسلمك لهم على الأقل كي أضمن أنهم لن ينالوا منك بسبب ضعف رجلك، وأطمئن أنك ستبقى حيا." فأجاب جاسر: "مع رِجْل مصابة أستطيع أن أفعل الكثير، أما إذا أخذوني فلا فائدة مني بعد ذلك. وفي وقتنا هذا نحن بحاجة لكل عنصر ابتداء من سن الخامسة."

أما ناصر (16 عاماً)، شقيق جاسر ونمر، فقد اعتقلته السلطات بحجة أنه يساعد أخويه في نشاطهما. واتهمته، خلال بجلب المتعاونين إلى أخيه كي يقضي عليهم. ثم اتهمته بعد ذلك بحيازة أعلام وأقنعة وبلطات.

وتختم ام نمر حديثها عن أولادها:

يقولون لي لو يُقطع لحمنا قطعاً لن نتراجع. فجدنا استشهد في حرب أيلو/ سبتبمر، ونحن نعرف ماضيه. وها نحن نكمل ما بدأ. ولو أنتِ فعلاً ابنة حسن عليك أن تسلمينا بيديك إلى الشهادة. فماذا يبدي أن أفعل عندما أرى أولادي هكذا سوى أن أكون أشجع منهم. وهذا هو الواقع، لا أخاف الجنود، وأكرر أمامهم ذلك في كل مرة يداهمون البيت وهم يفعلون ذلك بشكل شبه يومي. أقول أنتم لا تخيفوننا وتتحامون وراء سلاحكم، اتركوا سلاحكم وراءكم وسترون من نحن.

*    *    *

"المهم أنهم ما زالوا بخير" – قالت ام نمر. هذا ما فعلته الانتفاضة بنابلس؛ المعاناة تتحول إلى أساطير بطولية يعيش الناس عليها، ويستمدون بقاءهم منها. وببقائهم هذا تبقى الانتفاضة مشتعلة في نابلس. لكن المعاناة تتحول أحياناً إلى ألم غير محتمل، ولا سيما عندما يرويها شاب في الخامسة والعشرين من العمر، عرف سجون الاحتلال أكثر من مرة وعاش حالات الاستشهاد في بيته عدة مرات، وعرف هذا البيت معنى الإبعاد. لكنه لم يجد أصعب من أن يُقتل أخوه ظلماً، ويكون شاهداً على ذلك.

هذه حكاية ابراهيم كما رواها في بيته في البلدة القديمة، الذي كان لا يزال يستقبل المعزين في حين كان يفترض أن يستقبل في الأيام ذاتها المهنئين بخطبة أخيه موسى:

كنا نجلس أنا وموسى ووالدتنا نشاهد التلفزيون، عندما سمعنا طَرْقاً على الباب. كان واضحاً أن قوات من الجيش وراءه فلا أحد غيرهم يطرق الأبواب في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً. قامت والدتي وفتحت الباب. وفي ثوان كان موسى قد اختفى من البيت عبر السطح. ظهر ضاط يطلق على نفسه اسم كابتم ابراهيم يحمل رشاش عوزي في يده وقال لي: مَنْ في البيت؟ قلت: لا أحد سوى أنا ووالدتي. فانقض عليّ جنوده ورموني على الأرض وأوثقوا يديّ خلف ظهري. أما والدتي فأدخلوها إلى غرفة أخرى، وأشهروا سلاحهم في وجهها وطل منها الكابتن ابراهيم أن تسمي أسماء أولادها. فسمتهم ولم تذكر اسم موسى. فقال: وأيضاً موسى. أجابت أنه ذهب إلى عمله ولم يعد بعد. وعادوا بها إلى حيث كنت، وضربوني أمامها ثم أخذوني إلى الشارع.

أجلسوني على الماء في الشارع وبدأوا بضربي وأنا لا زلت موثوق اليدين. في هذه الأثناء سمعت صوت إطلاق نار وكان الجنود يتنقلون بين الأسطح يصعدون وينزلزن على سلالم حديدية وشعوها. قال الكابتن ابراهيم: ما هذا؟ قلت: كما سمعت. فتابع: هذا صوت رصاص واستمر يتحدث إلى جنوده عبر اللاسلكي. ثم ذهب وعاد بعد لحظات وقال لي:

  • أريد أن أريك شخصاً وتقول لي ما اسمه.
  • إذا كنت أعرفه.
  • ستعرفه وتقول لي ما اسمه.

كنت أتخيّل أني سأري شاباً واقفاً على رجليه ألقوا القبض عليه وسيعتقلونه. ولكني عندما نظرت أمامي وجدت بيجاما مطروحة على الأرض تخرج منها قدمان حافيتان وفوقها عباء النوم والوجه مغطى بالدماء.

قلت: هذا أخي موسى وقبل أن أتابع سحبوني بسرعة إلى الخلف قبل أن أنهار فوقه ولكني شاهدت جندياً بأم عيني يغمى عليه.

قال: من أنت؟

  • أنا ابراهيم.
  • أعلن، ولكني أسألك أنت حي أم ميت؟
  • أنا حي.
  • وأخوك؟
  • كما ترى.
  • مات.
  • لا بل قتل. [قال ابراهيم قبل أن يسحبون أمامهم].

سأل: إلى أين تأخذوني؟

  • إلى مركز الشرطة.
  • ولكني أريد أن أدفن أخي، ووالدتي وحدها في البيت.
  • لا داعي، نحن سنهتم بدفنه.
  • من يعني أنتم؟
  • الإدارة المدنية (العسكرية) وأنت عليك أن تذهب مع الجنود.
  • هل أنا معتقل؟
  • لا أعرف.
  • أنت ضابط مخابرات ولا تعرف؟
  • هذا كل ما عندي.

فسحبوني معهم بينما كان جنود آخرون يجمعون الرصاص [الفارغ] عن الأرض. ومع ذلك وجدنا فيما بعد 18 رصاصة حول المنزل.

كنت في العادة أودع أمي عندما يأتون ليعتقلوني، وأقول لها أني سأعود. ولكن بعد أ، ضُربت أمامها هذه المرة لم أجرؤ أن أطلب ذلك ولكني سمعتها تنادي: يا ابراهيم فتش عن أخيك.

عاد الجنود في الساعة الثاني صباحاً يبحثون عن والدتي التي أخذها الجيران عندهم. فوجدوها وأبلغوا إليها أن تذهب بصحبة عشرة أشخاص فقط لتأخذ جثمان موسى، مهددين أنها إنْ لم تأت حتى الرابعة والنصف صباحاً فسيدفنونه هم على طريقتهم. فاجتمع الجيران حولها وذهبوا لإحضار الجثمان. إلا أن الحاكم العسكري لنابلس رفض أن يدفن بجانب أحد من أهله كما هي العادة وإنما في مقبرة بعيدة.

كان موسى يخاف من الجيش. هذه طبيعته التي لم يستطع التحكم بها. في اليوم ذاته كان الجنود أوقفوه خلال عودته من عمله وطلبوا هويته. وبعد أن دقّقوا فيها تركوه يذهب في سبيله. والاستنتاج الطبيعي في حالة كهذه أنه لم يكن مطلوباً من قبل السلطات. إلا أنهم في بيانهم العسكري في اليوم التالي، قالوا إنهم قتلوا شاباً مطلوباً لانتمائه إلى القوات الضاربة. فلماذا إذاً تركوه إنْ لم يكن ليقتلوه؟

عندما طلب تقرير الطبيب الشرعي الذي فحص الجثة قرأت فيه أنه "أُصيب بطلقة غير عادية، متفجرة، دخلت من الجانب الأيسر للصدر، وطلقة أخرى في الفخذ الأيمن من الأمام، إضافة إلى كسر في عظمة الفخذ الأيسر." كما جاء في التقرير أن الرصاصات أُطلقت من مسافة قريبة جداً. والتقرير يفسّر نفسه بنفسه، كيف قتل موسى.

قلت للضابط في إحدى المرات أن هناك من يُقتلون ظلماً. فأجابني:

"لكن موسى لم يكن مظلوماً، فهذا مصير كل إنسان شارك في الانتفاضة." ومع ذلك فوجئنا جميعنا بهذا، وفوجئنا أكثر عندما رأينا عدد الذين حضروا للعزاء وكانوا يعرفونه. مع أنه في البيت كان هادئاً وضحوكاً، ودائماً يقول: لا علاقة لي بالسياسة، وليس شغلي. وكل من يراه كان يقول عنه إنه ساذج، لا يحلّ ولا يربط.

وعلى الرغم من أن أخي أسعد استشهد قبل ذلك في عملية عسكرية على الحدود الأردنية عام 1969، إلا أنه ليس عادياً أن يكون شهيد في البيت بهذه الطريقة، وأن يذهب برجليه إلى الموت. صحيح أن لا حرية بدون عطاء، وصحيح كما يقولون أن الشهداء جسر لحياة الآخرين، وصحيح كذلك أن ما من حياة دون كرامة وشرف. ومن أجل ذلك أقول لن نبكي بل سنشدّ على أيدي بعضنا بعضاً.

ماذا نفعل أمام هذا العبث؟ الظلم واقع ونحن ندفع الثمن مسبقاً، نُدان قبل أن نرتكب العمل، العقاب دائماً يسبق الذنب. إذاً لم يبق سوى أن نفعضل شيئاً ما كي نخفف الظلم، ولسنا أحسن من الذين مضوا.

وتبقى نابلس مشتعلة. وحتى في الأيام التي تعتبر هادئة، فإن الزائر يشعر بأن هذا الهدوء ليس إلا هدوء ما قبل العاصفة.