Mohammad Abu al-Nasir: The Freedom Fighter’s Rifle and the Writer’s Pen
Full text: 

يكثر الكلام عنه في المخيم والمدينة بأسماء متنوعة مثل اسم" الوحش"، أو اسمه الحقيقي وهو محمد أبو النصر الذي مثل شخصية البطل في قصص كتبها عدد من الأسرى، وهو بنفسه كاتب قصة قصيرة ساهم في أدب السجون في سبعينيات القرن الماضي.

 

رسم لصورة محمد أبو النصر

المصدر: الموقع الإلكتروني للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - فرع لبنان.

 

برز اسم محمد أبو النصر بعد اعتقاله في سنة 1970، إذ كان أصيب بـ 11 رصاصة في ساقه دخل في إثرها إلى المستشفى، ثم اقتيد إلى إحدى محاكم الاحتلال ليُحكم بالسجن 99 عاماً بتهمة مقاومة المحتلين.

أخبره الأطباء بضرورة بتر ساقه للحفاظ على حياته فرفض، لكن كعادة مستشفيات الاحتلال، جرى علاجه باستخفاف، الأمر الذي جعل حركته عند السير غير متوازنة، لكن ذلك لم يمنعه من ممارسة حياة الأسرى الحافلة بالتحدي والمواجهة، فكانت شخصيته متميزة داخل المعتقل المزدحم بالمناضلين، وكان عنيداً صلباً، ممتلئاً بالتحدي.[1]

قبل اعتقاله، قاد محمد أبو النصر مجموعة "النسر الأحمر" التابعة للجبهة الشعبية، وكان معروفاً بلقبه "الوحش" بين رفاقه، وفي أزقة المخيم.

ومثلما امتشق البندقية خارج السجن، امتشق الكلمة فيه، فكتب العديد من القصص القصيرة التي كان يهرّبها عبر الكبسولات. وأول مجموعة قصصية له نُشرت في سنتَي 1983 و1984 في مجلة "الكاتب" التي كان يرأس تحريرها أسعد الأسعد.

واهتم بنشر تلك القصص عضو هيئة تحرير المجلة عمر حمش الذي كان يستقبل الكبسولات المرسلة من السجون بحماسة شديدة، ويقوم بتفرغيها وترتيبها بنفسه إلى أن يتم نشرها، في وقت رفض آخرون استقبالها خوفاً من الملاحقة.[2]

من تلك القصص: "كعبة نفحة"؛ "ذو الكوفيات الحمراء"؛ "جنين"، وقصص أُخرى. وقد كُتب معظمها في السجن ونُسخ على قصاصات ورقية صغيرة يمكن تهريبها بين الأقسام بمساعدة عمال المطبخ أو المغسلة، وكانت تنتقل بين غرفة وأُخرى خلال فترة التنزه "الفورة" في القسم الواحد، وتتحول إلى "كبسولة" تُضغط وتُغلَّف بالبلاستيك للنقل إلى خارج المعتقل. وغالباً ما كان يتم بلعها لضمان إفلاتها من إجراءات التفتيش، ثم يجري استخراجها حين يصل حاملها إلى برّ الأمان.

في سنة 1980 تأسست دائرة الكتّاب في جمعية الملتقى الفكري العربي في القدس، وكان محمد أبو النصر عضواً فيها ممثلاً عن الأسرى. وضمت الدائرة محمد البطراوي، وصبحي شحروري، وأسعد الأسعد، وجميل السلحوت، وإبراهيم جوهر، وسامي كيلاني، وعادل الأسطة، وعبد الناصر صالح، وجمال بنّورة، وحسن أبو لبدة، ومحمد شريم، وغريب عسقلاني، وعبد الله تايه، ومحمد أيوب، وزكي العيلة، وكان علي الخليلي منسقاً لهذه الدائرة، بإشراف رئيس الملتقى الفكري إبراهيم الدقاق. واعتُبرت هذه الدائرة بمثابة أول اتحاد للكتّاب الفلسطينيين في الأرض المحتلة،[3] وبعد خروج أبو النصر من السجن واظب على حضور اجتماعاتها. 

ناشط ثقافي

أُفرج عن "الوحش" في سنة 1985 ضمن صفقة تبادل الأسرى التي أُبرمت بين الجبهة الشعبية "القيادة العامة" وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن أمضى 15 عاماً في السجن، وعاد حراً إلى قطاع غزة لا ليرتاح بعد قسوة وعناء السجن والاعتقال، بل ليعاود نشاطه من جديد وبالزخم الذي ميّزه قبل الاعتقال.

التحق بعد سنة 1986 بجامعة بيرزيت لدراسة الأدب، وبقي على اتصال دائم بزملائه الكتّاب في الضفة الغربية ومناطق 48، وكان المحرر الصحافي عمر حمش من أوائل مَن التقى بهم بعد تنسّمه الحرية، والذي تفاجأ بحضور "الوحش" مع شقيقه حسني إلى منزله، في زيارة تدل على احترام وتقدير وعرفان لموقفه النبيل في استلام الكبسولات وإخراج القصص إلى النور.

كما جمعت الوحش علاقة صداقة قوية بالفنان التشكيلي "فتحي غبن" الذي كان قد رسمه في بورتريه أهداه له بعد التحرر من الأسر. وقد نشرت مجلة "مرج ابن عامر" آنذاك لقاء مشتركاً ضم غبن وأبو النصر تحدثا فيه عن الفن والثقافة والمخيم.

واستوقفتني صورة قديمة من أرشيف "الوحش" الخاص جمعته بعدد من الكتّاب هم: ربحي شويكي؛ محمد شريم؛ جمال بنّورة؛ إميل حبيبي؛ الكاتب اليهودي العراقي شمعون بلاص؛ الكاتبة والناشرة سهام داود، وعدد آخر، وتبيّن أن الصورة التُقطت في غرفة خلف مسرح الحكواتي في القدس، وكان لقاؤهم للتضامن مع عدد من الكتّاب الملاحقين من سلطات الاحتلال.

 بصماته كبطل شعبي

تأثر الأسيران حافظ أبو عباية ومحمد البيروتي بشخصية محمد أبو النصر في كتابهما "نصب تذكاري"، كما كان بطلاً حاضراً بشخصية "الوحش" في الصفحات الأولى من رواية "نصفي الآخر" لشفيق التلولي، وقدّمه الروائي أسامة العيسة في مجموعته القصصية "أربع وردات" بشخصية عادل. وعاد البيروتي ليذكره بشخصية محمد في رائعته "مليحة".

أكثر من رواية ذُكرت عن أحداث جرت خلال فترة اعتقاله في سبعينيات القرن الماضي، ومنها تلك التي جرت في الحافلة التي تُقلّ سجناء مرضى من سجن الرملة، حين قام  ضابط حرس الحدود المرافق للمعتقلين المقيدين بالأيدي والأرجل، في أثناء سير الحافلة، بالبصق على معتقل ضرير اسمه علاء البزيان من القدس. ولأن هذا المعتقل كان شجاعاً واثقاً بنفسه فإن الضابط الحاقد اعتدى عليه بوحشية، بينما جميع السجناء كانوا خلال الاعتداء مكبلين. لكن بمجرد وصولهم إلى باحة سجن بئر السبع، وفور فكّ الأصفاد، هاجم أبو النصر ذلك الضابط بشفرة حلاقة كان يخفيها، وقد تركت جرحاً غائراً في وجه الضابط الذي أُدخل إلى المستشفى وقُطبت جروحه باثنتي عشرة قطبة، واستمر يحمل آثارها في وجهه.

أصيب الضابط بنوع من الهستيريا لكثرة النزف وقوة الضربات في قيظ حر تموز/يوليو، وعندما انقضّ أفراد الشرطة العسكرية على" الوحش" بالضرب المبرح وكسروا يده، صرخ أبو النصر بهم قائلاً إن القيادة الفلسطينية أمرت السجناء بالتصدي لأي شرطى يعتدي عليهم بكل ما أوتوا من قوة، وإن هذه تعليمات من أبو عمار شخصياً، وهو ما أخاف الإدارة وجعلها تتراجع عن ممارساتها العدوانية تجاه السجناء لفترة طويلة من الزمن. وكانت النتيجة أن أضيف إلى أبو النصر حكم المؤبد أربعة أعوام أُخرى، كما أن ضابط الاحتلال المضروب سُرّح من الخدمة بسبب حالته النفسية والمعنوية.[4] وقد جعل هذا الأمر ضباط إدارة السجون، في معظمهم، يخشون "الوحش" الذي لم يكتفِ بما فعله مع الضابط، وإنما هاجم جنوداً فى سجن السبع وسجن غزة المركزي وعسقلان وكفار يونا. 

حضور أدبي

تحدث القاصّ حسن عبد الله عن تجربة أدب السجون في كتابه "النتاجات الأدبية الاعتقالية" الذي أشار فيه إلى تجربة أبو النصر في المعتقل بصفته أحد الذين ذاعت شهرتهم الأدبية داخل المعتقلات، وخصوصاً في مجال كتابة المقالة التحليلية والقصة القصيرة. وكان أبو النصر من ضمن الذين نشر لهم اتحاد الكتّاب الفلسطينيين - فرع الداخل، كتاب "دراسات في أدب غسان كنفاني".[5]

أمّا الكاتب عادل الاسطة فاستحضر أبو النصر في مقالتين منفصلتين نشرهما في جريدة "الأيام" تحدث فيهما عن "الوحش" بعد زيارته لقطاع غزة في سنة 1987، وقال ربما لم يعد أحد يذكره، مع أنه أصدر مجموعة قصصية تذكّرنا بكتّاب القصة الروس كمكسيم غوركي وآخرين.[6] وقال الأسطة أيضاً في ندوة للقصة القصيرة عُقدت في مقر وزارة الثقافة في رام الله، إن أبو النصر كان من أهم روّاد أدب السجون، وامتاز بحسّ أدبي جيد، لكن كتاباته ضاعت جرّاء المصادرات وحملات التفتيش شبه اليومية.

وكتب محرر الصفحة الثقافية في جريدة "الاتحاد" الحيفاوية عن قصة "مناورات في الأفق" التي كتبها محمد أبو النصر في مجلة "الجديد"، كما نشرت لجان العمل الثقافي الديمقراطي في الضفة الغربية وقطاع غزة قصة لأبو النصر بعنوان "وتعانق الفدائيان".[7]

في تلك المرحلة كان العمل في الثقافة أخطر في نظر سلطات الاحتلال من العمل في قضايا وطنية. وكانت قائمة الكتب الممنوعة التي تصدر عن الرقيب العسكري تطول كل يوم، ويُزاد عليها كتب جديدة من إصدارات فلسطينية وعربية وعالمية، بل كان يمكن محاكمة مَن يُضبط في حيازته كتاب مدرج في هذه القائمة. 

نهاية رجل شجاع

تداولت أوساط الحركة الوطنية في قطاع غزة في احتمال اتخاذ قرار إسرائيلي بتصفية أبو النصر، ولم يمضِ وقت طويل حتى قامت قوات الاحتلال بتطويق مخيم جباليا بحثاً عنه، فنصبت الحواجز العسكرية على الطرقات والمداخل والمخارج، لكنها لم تعثر عليه. وحدثت آخر العمليات التي نفذها أبو النصر ضد الاحتلال في شرقي الشجاعية حيث كان الهدف اقتحام حاجز عسكري إسرائيلي والاشتباك مع الجنود، لكنه تفاجأ بحاجز طيار وهو في سيارته فاشتبك مع الجنود، واستشهد في هذه العملية، واحتُجز جثمانه.

لم تنتهِ الأمور عند هذا الحد، فقد اقتحمت جيبات عسكرية إسرائيلية بيت العزاء في شارع الهوجا في مخيم جباليا، وقام جنود الاحتلال بتصوير العزاء ولوحات النعي والجداريات ثم انسحبوا من العزاء، الأمر الذي أضفى غموضاً على نيات المحتلين. وطالبت الشخصيات الوطنية في المخيم بأن يسلّم الاحتلال جثة الشهيد أبو النصر، وبعد محاولات وضغوط من طرف الصليب الأحمر، وافقت السلطات على تسليمها، لتتفاجأ العائلة بأن الموجود في التابوت هو جزء من حصان أو دابة. وكشفت العائلة النقاب عمّا جرى أمام الإعلام والرأي العام فتدخّل الصليب الأحمر مرة أُخرى مطالباً بتسليم الجثمان، لكن العائلة استلمت في المرة الثانية جثماناً لشخص آخر رأسه مفصول عن جسده، وتبيّن لها أن الجثمان ليس للشهيد أبو النصر، إذ لم يكن هناك آثار لرصاصات في قدمه. وبعد محاولات ومماطلات سُلِّم الجثمان، وهذا كله موثّق لدى الصليب الأحمر.

استشهد "الوحش" محمد أبو النصر وظلت شخصيته حاضرة في الرواية المحكية والمكتوبة.

 

المصادر:

[1] عيسى عبد الحفيظ، "محمد أحمد أبو النصر"، "الحياة الجديدة" (رام الله)، العدد 7270، 14 / 2 / 2016، ص 20.

[2] مقابلة تليفزيونية في غزة مع عمر حمش، في 16 / 11 / 2022.

[3] هذه المعلومات أدلى بها عبد الناصر صالح، خلال مقابلة معه في رام الله في 22 / 11 / 2022.

[4] عبد الحفيظ، مصدر سبق ذكره، ص 20.

[5] محمد أبو النصر، "دراسات في أدب غسان كنفاني" (القدس: منشورات اتحاد الكتّاب الفلسطينيين، 1990).

[6] عادل الاسطة، "أفراح غزة"، صحيفة "الأيام" (رام الله)، العدد 3444، 21 / 8 / 2005، ص 24؛ عادل الاسطة، "تأملات في حركة القصة القصيرة"، صحيفة "الأيام" (رام الله)، العدد 6040، 4 / 11 / 2012، ص 24.

[7] انظر: محمد أبو النصر وآخرون، "أصوات.. لم يخنقها القيد: قصص قصيرة، أشعار، رسائل" (لجان العمل الثقافي الديمقراطي في الضفة الغربية وقطاع غزة، 1987)، ص 20 – 31.

Author biography: 

حسام أبو النصر: كاتب فلسطيني.