Jerusalem and Zionist Ihala (Swarming): Tracing the Dynamics of Endless Dispossession
Full text: 

تمهيد

شو احتلال... الاحتلال... كلمة ما بتكفي حتى توصف يلّي عم بصير فينا... الاحتلال ما بيتلخص بحاجز عسكري، بهوية مسحوبة، بجندي حاضر يقتل، أو بحاجز بسكّر عليكي حياتك... هيك بلا سبب... الاحتلال إهالة... عنكبوت... جرف... هيك، إهالة... بخبِط بالروح... منصبّح ومنمسّي بوجوههم بعنفهم وبنادقهم، وقنابل غاز، ومياه عادمة وحياة بتخنق، واستفزاز، وشهادات غير معترف فيها، ولغة مقرفة وإهانة يومية للفلسطينيين... وموت الحبايب، وفقدان وفقدان وفقدان... إهالة (عنان، 27 عاماً، مخيم شعفاط - القدس). 

صوت عنان ورفاقها يرشد خريطتي الفكرية في هذه الدراسة التي سأحلل فيها مصطلح "الإهالة" ليس بصفته حدثاً، بل بصفته حيزاً متغير الدلالات، يقود إلى مفاهيم جديدة تسمح لنا بقراءة الاحتلال الإسرائيلي كمنظومة تتحكم في الفلسطيني الخاضع للاستعمار.

يسمح لنا هذا المصطلح بفهم مجموعة من الاستراتيجيات وهياكل السلطة التي تعمل أساساً من خلال "الإهالة" المستمرة (من تفصيلاتها الدقيقة والمخترقة للمساحات الحميمية، إلى قنابلها القاتلة للجسد، والنفس، والتي تدمر البيت، والحيز الفلسطيني)، وفي أشكالها المتنوعة والمتفاعلة مع منظومات اقتصادية - سياسية متعددة تتداخل بحركات وأنساق لولبية تهدف مثلما أشارت سناء، 28 عاماً من العيسوية، "إلى نزع الفلسطينيين من عائلاتهم وأرضهم وحياتهم ومستقبلهم."

الإهالة تساهم، كأداة تشخيصية، في الكشف عن التحولات التاريخية في التركيبات الاجتماعية - الاقتصادية والنفسية، والتحولات الجيو - سياسية للمكان، والزمان السياسي. إن تفكيك وحشية الإهالة واختراقاتها للنفس والأرض والشبكات الاجتماعية – الاقتصادية، يساعدنا أيضاً في تحليل أساليب مقاومتها، وفهم القوى الداخلية الموجودة والمولدة لصدّها. علاوة على ذلك، فإن الإهالة كأداة تشخيصية تمكّننا من كشف التغييرات في ديناميات القوى في واقع استعماري استيطاني يحاول فيه المستوطن استلاب المجتمع المحلي من خلال عنف الاقتصاد - السياسي (المحلي والعالمي) للدولة الصهيونية.

تأسيساً على ذلك تكشف الإهالةُ المنظومةَ القيمية التي تسيّر الفلسطيني في محاولاته حماية بيته وعائلته وحارته وعلاقاته الحميمية، والدفاع عن أرضه واقتصاده ووطنه، أي المنظومة التي تحمي القيمة الأخلاقية لحياة حرة كريمة وتدافع عنها.

في مناقشتنا لمفهوم الإهالة كأداة تشخيصية، أود الإشارة إلى أربع ملاحظات مرتبطة بتهويد القدس، وإبطال فلسطنتها، وسرقة فضاءاتها: (أ) ارتباطها بمصير الحياة المقدسية الاجتماعية التقليدية، وبمساحاتها ومساراتها؛ (ب) تعلُّقها بمسارات الحياة الثقافية من تربية وتعليم، وكشّافة، ومهرجانات، وشعر، وموسيقى، وأدب ؛ (ج) اتصالها بعمل مؤسسات المجتمع المدني؛ (د) ارتباطها بالعمل السياسي العام والنسوي الخاص المقاوم لجرافات الإهالة.

إن فهمنا لعمل منظومات الإهالة يمكّننا من تطوير فكر نقدي يتحدى التحليل الجزئي الخطي (الذي هو عكس التحليل اللولبي) والمختزل للقوى والعوامل والمؤثرات، ويسمح لنا بتفكيك منظومات القمع. أمّا جهدنا في فهم مقاومة الإهالة اليومية من طرف المقدسيين فلا يسعى لتبجيل أو "رمنسة" البطولات اليومية (علماً بأنها قوية وبارزة ومهمة وثمينة ومثمرة)، وإنما يساهم في توثيق وتحليل مقاومة الإهالة كمنهج نتعلم منه دروساً عن التداخلات المعقدة لهياكل القوى وأساليب إعاقتها وإضعافها وإبطالها. 

مقدمات منهجية: الإهالة في حفر الواقع الفلسطيني

ترتكز هذه الدراسة على أصوات الرجال والنساء والأطفال في القدس الذين تعلمتُ منهم في دراساتي المتعددة خلال ما يقارب الأربعين عاماً، وهذه الأصوات هي مرتكز تحليلنا لمفهوم الإهالة. إن أصوات الناجين والمقموعين والمستعمَرين تكشف وتُبرز حجم الخيوط المتشعبة لاختراقات المنظومة الاستيطانية الاستعمارية. فاعتمادي على السرديات المقدسية يمكّنني من تأطير مفهوم الإهالة كجزء من منظومة المحو الاستيطانية، وتحليل آلياته وتطبيقاته العملانية البنيوية واليومية على أجساد وأنماط ومساحات الوجود الفلسطيني في القدس. 

خسرت شغلي... شغلي كلّو كان عذاب بعذاب... بس لقمة عيش... آآ... كنت أبني بمستوطناتهم... وطردوني لمّا عرفوا إنو ابني انسجن على رمي حجارة على المستوطنين الوحوش هون... خسرت شغلي... وسجنوا ابني... وهجموا على بيتنا بنصاص الليالي... ومن وقتيها ضايعين... محامية، مصاريف، بِذِلّوا فينا وفي أولادنا شمال يمين... حاسس هيك الدنيا... الأرض... اللي بجوف الأرض... بعمقها يتحرك تحت رجلينا... مش عارفين وين نقف... تحت رِجلي كل شي بتحرك... لا الأولاد بأمان... لا البيت بأمان... لا في مدخول... ولا عارفين شو نساوي... بخابط مخابطة... بجرب هون... بحكي مع هادا وهداك... بس ضياع... بلعونا... زي الطوفان... البركان... إهالة... بقلك النَّفَس والعقل مدمّى... إهالة بكل ما في الكلمة من معنى (أحمد والد هديل، 46 عاماً، سلوان - القدس). 

يستهل أحمد كلماته في الحديث عن العنف اليومي، أي طرده من عمله وقذفه خارج دائرة بنائه لذاته وعائلته إلى درجة أوصلته إلى وصف حالته بـ "النَّفَس والعقل مدمّى". حياة مليئة بالتناقضات، فهذا المقدسي يعمل في قطاع بناء المستعمرات، أمّا ابنه فيقاوم وجودها. هذه هي نواة تشكّل الإهالة كشبكة كاملة من القوى المنظمة الاستعمارية والترتيبات الاقتصادية والسياسية التي تحاصر الهواء الذي يتنفسه المقدسيون وتُميته. انظروا إلى وصف أحمد لاعتقال طفله بصفته حياة موازية من القمع الشديد بما تمثّله من تكاليف وحاجات وضربات وهجوم نفسي ومادي ومؤسساتي عبر متواليات وسلاسل ثقيلة وقعت على أكتاف الرجل وأفراد عائلته بعد طرده من عمله نتيجة الفعل السياسي المقاوم لابنه.

تبيّن لنا شهادة أحمد ضرورة استخدام منهجيات الاقتصاد السياسي من أجل فهم الحياة اليومية في فلسطين وتفكيكها وإعادة تأطيرها، كونها عرضة بشكل دائم للاستهداف والسلب، من أجل الاستيلاء على وسائل الإنتاج وقواه، أي الأرض والإنسان (Harvey 2004; Wolfe 2006)، كما أن الهزّات التي تلقّاها أحمد، انعكست على البيئة المادية الفيزيائية من حوله، إذ تتعرض فيها الأرض تحت قدميه لهزة عظيمة. إن المفهوم الفلسفي الذي سكّه وليد دقّة، "الزمن الموازي"، ينتشر أفقياً من الحركة الأسيرة داخل السجون، إلى الجغرافيات الفلسطينية كلها، امتداداً إلى واقع الفلسطينيين وحيواتهم اليومية كسجن مفتوح (الشيخ 2019).

لنعد إلى كلمات عنان التي تعبّر عن تلك الأزمنة الموازية وهي تتداخل مع وصف أحمد. قال أحمد: 

... مش طبيعي ما أقدر أحمي زوجتي، وهيّاها بنص المخاض... وموجوعة... وواقفة بتستنى إذن الجندية يللي مش فاضية... بتتمنكر (تضع ألواناً على أظافرها)... بتحكي وبتتصهون مع صاحبها... أو بتتفرج عل تِكْ توك... وزوجتي بتعضّ على شفتها من الوجع... وخانسة... خانسة والدموع نازلة... عشان نمرّ بسلام... وأنا خانس... هاي الإهالة. 

أمّا عنان فقالت: 

... ويوم يوم بدك تكون بني آدم... تحافظ على قوتك اليومي... بدك تمشي... تعيش... تشتغل... تجيب مصاري... تعيش بلا عيشة... وفش حقوق... عمالة العبودية... الاحتلال قادر يخترق كل المساحات... والاحتلال إهالة مثل العنكبوت... ما هو مش طبيعي ما تقدر تطل من شباكك تتنفس بدون ما تشوف جنازات... مش طبيعي ما تقدر توصل على شغلك بدون إهانة، تحرّش، ووجع... مش طبيعي ما تقدر توخذ ولادك يلعبوا... يمشوا... يوكلوا بوظة... هاي مش إهالة!؟ (عنان، 27 عاماً، مخيم شعفاط - القدس). 

ما أودّ تسليط الضوء عليه هو كيفية عمل الإهالة من خلال "المعّاطة" (البوابة الحديدية ذرات الأذرع التي تشبه ماكينة "معط" الدجاج على الحواجز العسكرية) والعنف الماعط والخاطف والخانس بستار الدولة الذي يدوسك عبر الاعتداءات الوحشية، وعبر الهجوم على نُظم الحياة اليومية البسيطة من خلال مجسّات القتل والمراقبة. إن المعاني الحتمية القاطعة التي تخصّ فلسطينيي القدس وأطفالهم وعائلاتهم ومنازلهم ومقابرهم، تؤسس سردية تاريخ شعب وماضيه عبر تحويلها إلى نظم سائلة ومرتابة ومتأرجحة. وهذه اللحظات الحاسمة يعبّر عنها المقدسي باستمرار كإهالة.

تعالوا ندقق في وصف نوال للإهالة على أجساد الأطفال في أثناء سيرهم نحو المدرسة: 

قبل ثلاث أسابيع... الأولاد بالطريق للمدرسة... الساعة سبعة الصبح... صغار... والأولاد الحلوين، يللي عاملين دنبة وجدايل وبُكَل ملوّنة حلوة، حاملين العصرونة... وفجأة قنابل غاز نزلت... وبلحظة... بطّل في ولاد بالشارع... محونا... هيك... لحظة وراحت الأصوات والألوان... والأمان... هالوا على الصغار... واختفوا الصغار... فضْيَت الشوارع... هادا كله الصبح قبل ما نصل على المدرسة (نوال، 15 عاماً، مخيم شعفاط - القدس). 

العالم بأكمله يهتز وينهار ويهيل سواء أكنتَ أحمد أم عنان أم نوال. إن تأطير الهجمات ضد المساحات الفلسطينية تكشف لنا قدرة الإهالة على غزو المساحات الحميمية للفلسطينيين من خلال سرعتها وكثافتها وقوتها في إحداث المفاجأة والخوف والإرهاب. هذا هو مفتاح فهمنا لكيفية عمل الإهالة الصهيونية، وهذا نجده في الأصوات التي تتحدث عن جروح ممتدة على الأطفال من أجل لا - طفلنتهم، وعن الجروح على الأجساد المارة على "المعّاطة"، وعن تجارب زمنية موازية، تقذفهم خارج الزمن الإنساني.

لنستمع إلى كلمات فاطمة، في وصف تشكيلات الإهالة المتجذرة في أنساق اقتصاد - سياسي للمحو: 

بتعرفي كيف اعتقلوا ابني؟ كان رايح يشتري خبز من الفرن... والبيت... حتى داخل البيت هون مش أمان... ومصاريف محامين... وخنق من كل النواحي... بهيلوا علينا من جميع الجهات... إهالة عل الطالع والنازل... لدرجة إنو جسمي، قلبي، عقلي... إجريّ... إجريّ بطّلوا يتحملوا حتى يمشوا... إهالة (فاطمة، 40 عاماً، سلوان - القدس). 

تتكرر آليات الإهالة مجدداً في الهجوم على مصادر العيش والعمل والأطفال والعائلة، والمجتمع والبيئة والمساحات.

تتجمع متوالية من الضبط والقمع والإبادة وتتراكم، وتُشعرك بأنك في مواجهة عدة حصارات واختراقات في كل مجال وفي كل فعل يومي: "من جميع الجهات... إهالة عل الطالع والنازل"، هذا هو التعبير الدقيق للحصار الفيزيائي المكاني والزمني، من حيث تعدد الضربات وضمن وتيرة دورية، عبر تنسيقات الأجهزة والمؤسسات الاستعمارية الاستيطانية التي تعيد إنتاج الإهالة من خلال تدفقات يومية تخترق التجربة الحياتية المقدسية. ونستكمل مع فاطمة، وهي تصف تجربتها كالتالي: 

ماشية بالحارة... ماسكي إيدين الولاد... يعني عاصّي على إيديهم... خايفة فجأة يطلعولنا المستوطنين هون... وييجي الجيش يسجنوا كمان واحد... الكبير بالسجن، الثاني بسجن منزلي... أبوهم بقدرش ييجي لأنو هوية ضفة... يعني حرمونا نشوفو... وبيتنا عليه أمر هدم... وشغلي على كفّ عفريت... ممكن يطردوني عشان أولادي انسجنوا... ماشية بحكي مع حالي... لبعدين؟ شو هل عيشة... بالمدرسة محل ما بشتغل منضلنا مصرصعين يقتحمون المدرسة، بالشارع هدول المستوطنين مستوطين حيطنا، ولاحقين ولادنا كيف ما تحركوا... (فاطمة، 40 عاماً، سلوان - القدس). 

ما تصفه لنا فاطمة هو تشكيلات الإهالة وبصماتها على الخوالج والمشاعر، والحيز والمجتمع والذوات عبر القانون والمنظومة المعسكرة، إذ إنها تشكل مصفوفة كاملة من القوى الكولونيالية الحداثية المتمثلة في احتجاز أطفالها في السجن. زوجها من الضفة الغربية المصنفة مساحة مكثفة من القمع والتقييدات والإبادة، وهو ما يؤثر مباشرة في حركة الأب إلى القدس، الأمر الذي يحاول تمزيق العلاقة العائلية واليومية ضمن تشابك مع أمر هدم البيت كونه مساحة حميمية، إلى جانب تهديدات المستوطنين الدائمة في الشوارع والطريق والمدارس والحدائق. لذا تأتي تطبيقات الإهالة من خلال تلفيق ترتيبات الأنظمة والعلاقات الاجتماعية الفلسطينية وإعاقتها وبعثرتها، وتحويلها إلى جزء من عملية التراكم الاستلابية الداعمة للا - فلسطنة القدس من خلال تجريم وسجن أطفالها، خدمة لمصالح المستعمِر.

إن هذه الصورة التي رسمتها فاطمة تتطلب منّا فهم جميع هذه المركّبات المتبعثرة في إطار متكامل، من خلال فتح الأفق التحليلي لأصوات أولئك الذين يصرخون في السجون والتظاهرات والجنازات والفاعليات الفلسطينية بصوت واضح: "اِرفع إيدك وعَلّي، الموت ولا المذلة... اِرفع إيدك عَلّي الصوت... واللي بيهتف ما بيموت." فعلى الرغم من البُنى الاضطهادية المميتة، وقدرتها على الإيلام لمحو الوجود الفلسطيني داخل القدس، وهو ما أسمّيه الإهالة الصهيونية النيكروسياسية، فإنني أنظر إلى الحياة اليومية كمصفوفة من الأنظمة والبُنى المتصلة، والتي قد تبدو متمايزة، لكنها في الواقع تتقاطع مع القيود السياسية العنصرية والجندرية، والعلاقات الاجتماعية، والأنشطة الاستعمارية (Abu-Lughod 2013)، ومع ذلك فإنها تُنتج على الرغم من قوتها الإماتية القاتلة، خطوات وأصوات وعمليات صمود وهدماً للإهالة.

في جهودي لتعطيل النظرة الاستعمارية التي تحجب وجهة نظرنا، وتقيّد تحليلنا، كان لا بد من تحدّي منظومات الإبادة المعرفية التي توظَّف في الإحباط المتكرر واليومي لأصوات الناس (Mignolo 2009; Santos 2014). توقفتُ أمام العنف المعرفي - أي العنف الذي يمارَس ضد المعرفة أو من خلالها - لأنه وسيلة لإعاقة ممارستي البحثية في الكشف عن هذه النظم التي تؤسس لإهالة عنيفة على الفلسطينيين، وتساهم بالتالي في كسر تسلسل زمنهم، وخلق زمن موازٍ. وفي مواجهة ذلك نحتاج إلى أصوات فاطمة وأحمد ووليد. إن تأكيدنا أن مصادر المعرفة هي خارج الاستخدامات التقليدية الاستعمارية والتمركزات الأورو - أميركية، يتواصل مع مفهوم إدوارد سعيد بشأن "الإذن بالرواية" (سعيد 2021)، من خلال تحدي المؤسسة الاستعمارية وعمليات إنتاجها وامتدادتها المعرفية. وهنا نبدأ بسؤال سعيد: "هل نحتاج إلى إذن لسرد روايتنا وتجربتنا"، أو بسؤال غاياتري سبيفاك: "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" (Spivak 1988).

تجسّد أصوات الناس المرتفعة والصاخبة والمحسوسة تجليات الإهالة، ونعثر عليها في الطريق إلى المدرسة، أو حين يلعب الأطفال، أو عبر عمل النساء والرجال على المحافظة على لقمة عيشهم. كما أن الإهالة قد تكون غير مرئية، وربما نجدها في أعماق الأرض حين يجري الحفر تحت أقدام المقدسيين لمحو وجودهم، كي تتخلخل أعمدة بيوتهم، من أجل إثبات "التملك الصهيوني" (روحانا 2022).

نعثر على الإهالة أيضاً في السكون والهدوء والصمت والسرّية، عبر الترهيب والترويع، فمصطلح الإهالة يجمع دينامية شبكات وتشكيلات مترابطة من العنف التي تشكل حياة المستعمَر في سيولتها وكثافتها وإحاطتها المُعرقنة (racialized). 

إهالة الخوالج والجسد والحميميات في إعادة مفهمة الحياة اليومية

تخترق الإهالة البُنى اليومية الاعتيادية، وتعيد تشكيلها كجزء من الهجوم الاستعماري المتسلسل والمتواصل ضد الفلسطيني، فيتحول الصباح إلى بداية تعب وإرهاق وقمع وحصار، ثم يعاد إنتاج ذلك بشكل يومي.

تقول هديل: 

لمّا بشوف كيف دولتهم بتحميهم - بتحمي المستوطنين هان بسلوان... لمّا بشوف كيف بيوخذوا بيوتنا... وبصيروا بيوتهم (عيونها تدمع)... أو بدهم يحولوهم لحدائق توراتية... ويملّوها مستوطنين وهدول تاعون الأمن، والأسلحة المْتَلّاية سمانا مراصد وكاميرات... وبشاعة... ويهجموا... من وج الصبح... من لمّا بفتح عيوني... والله والله ما بسمع صوت إمي بتقول صباح الخير... بسمع صباح الموت... كل شي حوالينا بقول إحنا للموت... إنولدنا لنموت... وبموتنا هيك العالم بصير يشوف إسرائيل أقوى... فاهمة عليّ؟.. إحنا للموت (هديل، 15 عاماً، سلوان - القدس). 

ما تعكسه هديل بشأن الموت والهدم هو من مميزات المنظومة الاستعمارية الاستيطانية (Wolfe 2006) الهادفة إلى محو / إخراج / موت الفلسطيني وتهويد القدس. فهديل طفلة مقدسية تتعرض هويتها ومساحاتها ومجتمعها للهدم والمحو على أساس يومي، والمنظومة ترفض وتحاول إلغاء وجودها، وتعطّل تجربتها، وتنزع طفولتها، فالصباح في سياق حياتها يتحول إلى نقطة البداية الجديدة للموت الدائم المكوكي. تحيلنا هديل إلى زمن موازٍ من إعادة إنتاج الموت في كل صباح ويوم جديد، فالأسلحة والبشاعة والأمن والهجوم هي آلات هدم ومحو الفلسطيني للا - فلسطنة القدس، واستبداله بمستوطنين وحدائق توراتية، أو مثلما قالت زينب: 

عايشين على موتنا... والغريب إنو مع كل الإهالات علينا... العالم بتّطلّع عليهم كأنهم أقوى... بس أنا بفكر... أنا... آآ أنا... كتير أقوى... (زينب، 30 عاماً، الطور - القدس). 

تلفيقات السردية في "صباح الموت"

يعيد مفهوم الإهالة رسم وتأطير هذه المكونات وأنماط النظم الاستعمارية الاستيطانية كونها تتداخل في الحياة اليومية لتميتها. فكلمات هديل تربط بين طلوع الصباح ومنظومات الهدم باعتبارها تمثل الموت. فبدلاً من "صباح الخير"، صارت تسمع "صباح الموت"، وهذا يبيّن لنا الحاجة إلى مفهوم الإهالة بطاقاتها الإماتية النكرو-عقابية (Shalhoub-Kevorkian 2020) لتأطير جميع هذه الحيثيات والجروح، ومَن ينظّمها ومَن يعيد إنتاجها، وكيف ننظر إلى تطبيقاتها على الجسد والمشاعر والأرض "والشجر والبشر" مثلما أوضحت لي السرديات . كما أن كلمات سلمى تبيّن لنا الإهالة التي تطوّقها يومياً فيزيائياً ومعنوياً.

إهالة تتيح لنا فهماً مركّباً لتعقيدات وأشكال الهجمات المتعددة الجوانب، والمجالات التي يتعرض لها أهل القدس، كما أنها توضح دينامية شبكة التواطؤ العنيف المتشابكة ضد المستعمر، وقوة ونفاذ العنصرية فيها.

عندما نستمع بتمعن إلى ما تمرّ به سلمى يومياً في احتكاكها مع المستوطنين الذين نعتوها بـ "عماليك" (عماليق) (أي الشر الأبدي الذي يجدر محوه في المفهوم التوراتي)، وصنفوها ذاتاً ومجتمعاً أصلانياً كعائق أمام بناء الحدائق التوراتية على أنقاض بيت هديل، وعندما نستمع إلى هتاف المستوطنين: "عسى أن تُحرق قريتكم"، مثلما روى لي الناشطون في سلوان والشيخ جرّاح، وكما سمعته بنفسي حول بيتي في شوارع القدس القديمة، فإن الإهالة تتجلى في مواجهات كلامية صوتية تتكثف من فعل المستوطن والجرافة والبرج، ذلك بأن الممارسة والمشهد المادي المتكون في القدس متداخلان مع الأصوات الاستيطانية الاقتلاعية التي تعزز المحو واللا - فلسطنة، مستهدفة الصمود المعنوي والروحي والثقافي. وبغضّ النظر عن نجاح هذه الأصوات أو فشلها، فإننا نسعى لتأطير المنظومات المتشابكة الموجهة ضد الفلسطيني ووجوده في الحيز. 

بالحارة عنا بالشيخ جرّاح... المستوطنين بنادونا "عمالك... عمالك... الله يحرقكم"... هيك بدهم يحرقونا حرق زي ما حرقوا محمد أبو خضير... لا بقدر ألعب زي كل صغار العالم... ولا بقدر أتحرك... كسّروا الشبابيك... طلعوا بالسيارة على صحابي... دهسوهم دهس... عالمدرسة مش عارفين نوصل بلا تحرشاتهم... ووحشنتهم... بتعرفي شو يعني عمالك... يعني طُخّوهم للفلسطينيين، اقتلوهم... حاربوهم... اقلبوا بيوتهم حدايق توراتية... يعني ممنوع نلعب، نعيش... نتنفس... هادا اقتلاع... نكبونا (سلمى، 10 أعوام، سلوان - القدس). 

في دراسة سابقة لفهم الهجوم على المقدسيين (حينها لم أستخدم مصطلح الإهالة) قمتُ بموضعة الخوالج والروح والإيمان في قلب تحليل طرق السيطرة والهيمنة والمحو عند الاستعمار الصهيوني في القدس تحديداً، ذلك بأن الهدف الرئيسي هو الإماته من خلال خلخلة ما يمكن خلخلته، وتوثيق زمام الاحتلال المعسكر للخوالج والمشاعر والسردية والإيمان وطاقات الاستمرار وبناء الحياة الكريمة من خلال تشغيل قوى وأدوات عسكرية استخباراتية، تقنية فنية ودينية تعيد إنتاج الإماتة للفلسطيني باستخدام تلفيقات تعمل على المستوى العالمي (Kevorkian 2017-Shalhoub). 

في تعريف / اختراق الجماليات المعنفة الاستلابية

مفهوم الإهالة يساعدنا على فهم المشروع الذي يقوم بتنقيب الجسد والأرض عبر ترتيبات اقتصادية سياسية من خلال مسيرات ما يسمى "يوم القدس"، أو مشاريع مثل مشروع "مهرجان أضواء القدس" لجذب السياح والمستوطنين الجدد، وأيضاً من أجل الإيهام بوجود مدينة موحدة باسم "يروشلايم" تُنتَج لتلغي الوجود الفلسطيني. كما أن المسيرات والمهرجانات تكثِّف عبر المشاهد والأضواء والروائح والمذاقات، معاني الاستيطان والمحو والهدم الإبادية للفلسطيني (Genocidal)، لتتحول المدينة الفلسطينية إلى مساحة إماتة، ولا سيما أن هذه المهرجانات هي لحظات موقتة من تشديد الحصار والتضييقات على المقدسيين، من أجل خلق الشعور لدى الأصلانيين بأنهم "موقّتون" و"مهدورون" و"فائضون" عن المدينة التي يؤسَّس لها ضمن مشاريع التهويد الجمالية الفنية، ومشاريع النيكروبوليتيك الإجرامية.

فالدولة في سياقات الاستعمار الاستيطاني تذهب إلى ما هو أبعد من الضبط والأمن، والسيطرة على المستعمَرين وأراضيهم، فهي تسعى لإعادة إنتاج المساحات والأماكن والأجساد والخوالج، وبالتالي تصبح الإهالة شرطاً لفهم هذه النموذج من الاستيطان الاستعماري. علاوة على ذلك، فإن الاستخدامات الجمالية داخل هذه النظم، "تفترض مسبقاً انقساماً جمالياً بين المرئي وغير المرئي، والمسموع وغير المسموع، والمنطوق وما هو من غير الممكن النطق به" (Rancière 2013, p. xiii). إن مسيرة الأعلام السنوية احتفالاً باحتلال القدس، تقدم مثالاً إضافياً لقيام الدولة بمصادرة الشوارع موقتاً، وتحويل المساحة المقدسية إلى مساحة مهودة (أي لليهود فقط) تتكثف فيها أعمال ونشاطات التخويف والترويع والتحريض. فالسمة العامة لهذه الأنشطة هي خلخلة وإلغاء الوجود الفلسطيني عبر المساهمة في تفكيك وضرب المعاني، وإماتة الوجود الفلسطيني، والاعتداء على ذاكرة وحكايات هذه المساحات وتحويلها إلى مساحة مترعة بالممارسات العنيفة القومية الصهيونية. وهذه الطقوس من الإهالة تمثل الرغبة في المحو الدائم ضد الفلسطيني لبناء شرعية تاريخية، وفرض محفزات حسية مفرطة على "الرعايا المستعمَرين"، بحيث تتفاعل المسيرات والمهرجانات ومجسّات العسكرة كهجوم إضافي ضد الوجود الفلسطيني الذي هو مركّب حيوي داخل الإهالة الصهيونية.

والإهالة عنف فعلي ورمزي يخترق غرف نوم المقدسيين عبر اختراقات تعريفهم القانوني وإرهابهم "جمالياً"، وخلخلة أمان المساحات الحميمية. فعنان تصف لنا أولاً حاجتها النفسية إلى إعادة ترتيب غرفتها بما يسمح لها بالراحة والاطمئنان الشخصي، لكن لا هروب من هذه النظم وتعقيداتها، فهذا النوع من الاستعمار الاحلالي يجعل الإهالة تخترق شبّاك غرفتها المرتبة كي تتذكر دائماً الوجود اللامنقطع للمستعمَر، إذ تقول: 

يعني... أنا صرت أبحث عن الأمان... قلت بغيّر ديكور غرفتي هون... وبتصير أكثر أمان... أحلى... مزبوط بالمخيم... ومزبوط بهيلوا علينا... وبفقدونا أعصابنا... وعقلنا... بس أنا أقوى... فرتّبت غرفتي، صارت حلوة، مزبطة... ملونة... بس بعدين... بتطلّع من شبّاك غرفتي... هادا الشباك... آآ حلو... بس اتذكرت... وذكّرت حالي... إنو من شبّاك غرفتي هادا حضرت أكثر من خمس جنازات [صمت] (عنان، 27 عاماً، مخيم شعفاط - القدس). 

عنان تحوك لنا مشهداً عينياً للكيفية التي تكشف فيها الإهالة خيوطها وتركيباتها وشموليتها وديمومتها وقدرتها على اقتحام المساحات الآمنة والحميمية والجميلة وقتلها. الإهالة - بحسب عنان - تحيل هذه المساحات إلى حالة من الإماتة عبر تكثيف التعبيرات الفيزيائية والجمالية والفكرية والفنية التي تُقصي وتسجن وتحاصر الفلسطيني، وهو ما يتجسد في اختراق تعبيرات الموت المتعددة داخل غرفة عنان التي تضيف قائلة: 

اخترقت قلبي حتى حبّي... يعني مين أحب؟ من أي منطقة أحب؟ مين لازم أتزوج؟ إبن مين لازم أخلّف؟ وإحنا منتعلّم نمشي حسب منظومة الإهالة، حتى ما ينهال عالمنا كلّو... ونموت... ويموتوا يللي منحبهم... هيك... ما إحنا مخيم ما فيو إلّا مدخل واحد... وجندي صغير... بسكّر علينا زي ما بدو... يعني تخيلي 80 ألف تحت رحمتهم... يعني مخيمك، بيتك، قلبك، عقلك بتسكر بمفتاح... إهالة (عنان، 27 عاماً، مخيم شعفاط - القدس). 

قامت عنان بتأطير مدى الاختراق والاقتحام وسِعَة شبكة الإهالة وخيوطها التي تعمل جاهدة على خلخلة العلاقات الحميمية ومساحات الاطمئنان والراحة والأمان في بُعديها النفسي والفيزيائي، تحت هدف دفع الفلسطينيين إلى زمن موازٍ من القمع الشديد، وإدامة هذا القمع باعتباره إهالة كاملة منذ ولادة الفلسطيني الذي يعيش ويموت، ميتاً بقواميس المستعمِر ومنظوماته. 

جغرافيات ونيكروبوليتيك المعّاطةمن المخيم إلى الحاجز

وفي استكشافنا واقع القدس من خلال كلمات عنان في تجربتها اليومية واستشعارها الإهالة الكلية على جسدها وغرفة نومها وحركتها ومساحاتها، نعثر على "المعّاطة"، أي مسار الخروج / الدخول إلى المخيم عبر ما يسميه أهل المخيم "المعّاطة"، وهي تقصد البوابة الدائرية التي ربما نجدها عادة عند بوابات الدخول إلى الشركات والعمارات الرفيعة. لكن لنتخيل أن يتم تخطيط بوابة واسعة يدخلها في الصباح الباكر، ويتزاحم عليها المئات من أهالي المخيم المتجهين إلى العمل والمدارس والجامعات إلخ، ولنستمع إلى كلمات عنان وهي توضّح لنا ملامح هذه المساحة - الزمن، وسياقات التعرية "المعط" في المعّاطة، لتعيننا على تخيل ظروف شروط الإهالة في تكوّنها: 

... وهاي المعّاطة... يلي بتلفّ... وأنا بلفّ بداخلها... اسمها معّاطة [الكاتبة: شو يعني معّاطة؟] أظني من الجاجة... الجاجة يللي بِمْعَطوها معط... بس هيك ممكن ندخل أو نطلع من المخيم... وهاي المعّاطة موجودة بكل حاجز... ومندخل الحاجز... والمعّاطة... وكمان معّاطة على أساس الجندي يفتشنا... بقلّك... إذا حيوان بعيش هيك... راح تزعلي عليه... كيف الإنسان هون بمخيم شعفاط... (عنان، 27 عاماً، مخيم شعفاط - القدس). 

جغرافيات الإهالة في المعّاطة، هي التجسيد الفيزيائي المادي لأدوات وطرق ومدارس هندسية تساهم في خلق منظومة "ماعطة"، وبيئة معادية محاصِرة وهادفة إلى "المعط" (والمعط يؤلم ويدمي ويقتل). والمعط فعل سياسي لجرائم الدولة الصهيونية يتماشى مع الفعل الإبادي العسكري للمنظومة الاستعمارية الاستيطانية، باعتبار أن إنتاج المساحة هو جزء من إعادة إنتاج نظم الإبادة التي تشكل بذاتها إهالة على الجسد والأرض والحركة والروح (Shalhoub-Kevorkian 2014; Weizman 2017). 

... يعني معّاطات عل حاجز... مبيّنة... مننتبهلها... ومعّاطات عجيوبنا... بتسرق لقمة عيشنا من خلال الضرايب والغرامات، وتضويع وقتنا عل معابر... ومعّاطات نفسية قلبتنا مجتمع عصبي، صوتو عالي، مريض، معصب... كلّو هادا غير هاي المعّاطات فوق روسنا... شوفي هادا البالون... بصوّرنا... براقبنا... إهالة (هدى، 37 عاماً، جبل المكبر - القدس) 

يتم توظيف الإهالة ومعاطاتها في كل حي وبيت ومنطقة، بتفاوت وبعدة أشكال، وأثرُ ذلك مثلما شرحت عنان، نفسي واجتماعي وسياسي واقتصادي وحيوي. إن إحدى جغرافيات الإهالة مرتبطة بإهمال البُنية التحتية الفلسطينية، مثلاً: إبقاء حفر كبيرة في الشوارع؛ عدم وجود طرق ملائمة عند المدارس؛ عدم وجود أرصفة أو خطوط هاتف أو إنترنت في مناطق معينة؛ تعطيل الإشارات الضوئية (traffic lights) أو تركها من دون تصليح. كما أن مشكلة البُنى التحتية تؤدي إلى خراب كبير في السيارات والأحذية، وينجم عنها إصابات للأطفال والمسنين، علاوة على تزايد عدد حوادث الطرق، بحيث إن الهدف هو تضييق مستمر في الحياة اليومية عبر توظيف جغرافيات الإهالة ومعّاطاتها المرئية واللامرئية.

يقول باسل: 

يعني فوق كل اعتقالاتهم، واضطهادهم... اتطلّعي على الحُفر بالشوارع، الطرق المليانة حفر بتخوّف، أو يللي بتزحلق... وهادا بزيد حوادث طُرق مخيفة... شوفي شارع الحردوب... أكم حادث طُرق صار فيو، صرنا نخاف الطرق... نخاف الدنيا تشتي... ومقصود [أي هذا شيء مقصود]... هني الصهاينة قاصدين يهلكونا... مقصود يتعبونا، يرهقونا، يهيلوا علينا... والناس بتصير عطيلة... ومعهم إعاقة، أو بموتوا، وتوجّهنا للبلدية لقسم الـ "تشتيت" [وهي بالعبرية تعني البُنية التحتية] بس لا حياة لمَن تنادي... أنا وزوجتي منسميّه قسم التشتيت الفلسطيني... بقلك... نكبة ومستمرة (باسل، 37 عاماً، الطور - القدس) 

الإهالة كتجسيد للنكبة المستمرة المقصود منها جعل الفلسطيني "عطيلة" مثلما شرح باسل، كما أن عدم متابعة ملفّ إصلاح مشكلة البنى التحتية وعلاجها "التشتيت"، يعتبره باسل إهالة للتشتيت المستمر، بل نكبة مستمرة من خلال إرهاق الفلسطيني وإيصاله إلى "تشتيت داخلي"، ولذلك وفقاً لوصف باسل، فإن "أدوية وأقراص الضغط ووجع الرأس" لم تعد مفيدة في مواجهة هذا الكمّ اليومي من الضغط والإهالة الشديدة.

تحلل عنان بدقة جغرافيات الإهالة بالكلمات التالية: 

اليوم أنا صرت خبيرة "تشتيت"... بيستهبلونا... منستهبلهم... قدّمنا أكثر من 35 شكوى... عشان حُفر بالشوارع... أبسط شي... الصَّبِيّة اللي زحلقت سيارتها، المعلمة اللي قتلت 3 أطفال في المخيم... وتبيّن إنو الشارع سمّوه الناس شارع الموت... وهيك ماتوا الأطفال... هاي مش إهالة؟... الإهمال هوي إهالة... كل ما هو مطلوب شوي تشحيط للأرض لمنع الحوادث... بس هني بالناقص فلسطيني... إهالة للموت... للتشتيت (عنان، 27 عاماً، مخيم شعفاط - القدس). 

تتعدى الإهالة في النظام الاستعماري الاستيطاني الصهيوني البُنى الكلاسيكية للعنف الفيزيائي على المجتمع والشعب، فتنحو إلى اجتثاث الشعب المقدسي من خلال استهدافات متعددة المجالات، بدءاً بالنساء والحوامل والولادة، لأن هذا الأمر يرمز إلى سيرورات إعادة - ولادة للشعب، وهي سيرورات يُنظر إليها على أنها تهديد للوجود الاستيطاني، وانتهاء بهدم البيوت، باجتياح مساحة العائلة الحميمة بما تحمله من ذكريات وثقافة ووعي وسياسة ووطن، وهو ما يحوّل هذه المساحات الحميمة إلى تجارب تمتد من دخول المعّاطة، وصولاً إلى الإماتة اليومية والبطيئة والفعلية. وفي السياق الفلسطيني المقدسي فان هذه التجارب تُستخدم ضمن اقتصاديات سياسية تبتغي الهدم الممنهج للمجتمع الفلسطيني، تهويد القدس ولا - فلسطنتها.

وإذا نظرنا إلى تجارب النساء الفلسطينيات في أثناء تعرّضهن لمنظومات الإهالة التي تتشابك مع تصنيفات وممارسات استعمارية عرقية في أبعاد متعددة - بما في ذلك الجسدية والمكانية والسياسية والاجتماعية والنفسية - نكتشف آثار العنف السياسي بمنطق "المعط"، أي الاختراق والإقصاء والإنهاك والإماتة، على أجساد النساء عند الولادة (Shalhoub-Kevorkian 2009; 2014). فتنظيم الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي يتم من خلال عنف بيو- سياسي (Zureik et al. 2010)، يتضمن السيطرة والتحكم في أنماط النمو الديموغرافية والتركيبات السكانية للسكان الأصليين، والصحة الإنجابية للنساء وسياسات الجسد (Kanaaneh 2002). وبالتالي، فإن القدرات الإنجابية للمرأة الفلسطينية وعسكرتها، بما في ذلك تجربتها مع الحمل والولادة، تتحول إلى أحد أشكال التشتيت والمحو داخل مشروع الاستعمار والإهالة الإسرائيلي الاستيطاني.

وهذا الأمر يتأتى عبر جغرافيا ومسارات النساء في أثناء الولادة وفترة الحمل من حيث كونها مجموعة من التحديات والتضييقات والقمع المتراكم، إذ تقوم إسرائيل بتحديد مساحات الولادة المشروعة والمعترف بها، والتي "توفر" للطفل ووالديه حالة قانونية من "الإقامة" أو اللا - إقامة والتشتيت. فخلال تسعة أشهر تضيّق الجغرافيا ويخلخَل التاريخ الفلسطيني لتقوم الإهالة بتقويض مفهومنا حتى للمساحة الرحمية المعطية للحياة، والفعلية الموجودة في القدس. لقد شددت النساء اللواتي قابلتهن في أثناء إعداد دراستي الأولى عن النساء والولادة، على اضطرارهن إلى تنفيذ القيود المفروضة بهدف الالتزام بـ "المساحات المشروعة" للولادة على مدار تسعة أشهر، وهو ما أدى إلى آثار نفسية سلبية متعددة مثل الشعور بالسجن بالخوف والاختناق، والبكاء المفاجىء، والتهيج الشديد، والشعور بالوحدة.

تقول عايدة (البالغة من العمر 29 عاماً): 

كانت الأيام الثلاثة الماضية أسوأ أيام حياتي... إنجاب الطفل تحت مثل هذا الضغط، ومجبورة أركب الباص وأنا بنصّ المعاناة من الوجع الشديد والانقباضات الشديدة، مع العلم أني ممكن أولد بالباص... آآ بالطريق... كانت عندي انقباضات عاطلة، ورحت أموت من الخوف والألم والرعب... الرعب الحقيقي... وماسكي...عابطة دزداني... كأن الدزدان راح يخفف الألم، وأبكي في صمت، وبلحظة صار بدي أرجع لبيتي... لأولد الطفلة هناك... لكن بعدين... شو بصير... بحرم الصغيرة بطاقة الهوية، وبتصير مش مسجلة، مش مؤمّنة، ومشردة... مشتتة [نازحة] طوال حياتها... عنجد مريت بأسوأ أيام حياتي... هالوا على أنفاسي... (عايدة، 29 عاماً، كفر عقب - القدس). 

تؤكد قصة عايدة، وإصرارها على الولادة في القدس لضمان حصول طفلها على بطاقة هوية مقدسية، على الجوانب الجيوسياسية للإهالة العنيفة على الرحم والمشاعر والجسد في أثناء الولادة. ومع ذلك، فإن إصرارها على الوصول إلى مستشفى في القدس يوضح قدرتها على تحدي متاهة العنف الجيوسياسي على الرغم من آلام المخاض. 

عن مقاومة الإهالة

في 10 مايو / أيار 2022 قررت السلطات الإسرائيلية هدم منزل عائلة الرجبي في حي سلوان داخل القدس المحتلة في ظل ترقّبهم لعرس واحتفال العائلة بزفاف ابنتهم ربيحة، وقد صدر أمر الهدم عن الحكومة الإسرائيلية بدعوى عدم ترخيص البناء وقانونية المنزل، ذلك بأن السلطات تمعن في إهالة المقدسيين عبر هذه الأساليب والتكتيكات في إطار نزع شرعية وجودهم في وطنهم، وهذه الممارسات تتكثف داخل القدس بسبب مركزيتها في المشروع الاستيطاني. وما يهمّنا في هذه الحادثة هو أن المستعمر خطط لهدم البيت في لحظات سعيدة للأسرة قبل أيام قليلة من حفل الزفاف، إذ وصل الجنود الإسرائيليون إلى منزل العائلة حاملين أوامر الهدم وهدموه، غير أننا استكشفنا مناوءة الإهالة ومقاومتها عبر التشديد على الوجود الفلسطيني في ممارسة حياته.

لقد نهضت ربيحة وعائلتها من الركام، وقرروا إقامة حفل الزفاف في المنزل المهدم. لم تسِرْ أحلام ربيحة مثلما أرادت في يوم عرسها، إذ لم يكن في الحسبان أن تقيم حفل زفافها وهي تجرّ فستانها الأبيض فوق الحجر المتشظي والأسمنت والركام، لكنها مع أسرتها عزموا على تجاهل هذا الإخطار وعدم تعطيل فرحة العائلة، وقرروا شلّ قوى الإهالة الفعلية للفرحة، حتى إن هُدم المنزل. وهذه الاستجابة العنيدة والمثابرة التي جعلت من الزفاف أمراً ممكناً، أبرزت الصمود الفلسطيني، ذلك بأن وعي ربيحة بالإهالة وأهدافها ونتائجها دفعها إلى بناء وتعزيز طريقتها في الاستجابة للألم والدمار والتشريد، وها هي تبني بيتاً من جديد، وتؤسس في إصرارها الإبداعي - حتى في عدم وجود باب، أو نوافذ، أو مداخل، أو حتى بيت فيزيقي - استراتيجيا الصمود والإهالة المضادة. إن تحدّيها للإهالة الاستيطانية الاستعمارية أبرز قدرتها على تملّك الفرح، والبيت، والحياة، فلبست فستان زفاف مطرزاً بالتراث الفلسطيني، وأعلنت في احتفالها أمام الجميع أن وجودها وممارسة حقّها في العيش والاحتفال والزفاف والبناء هما جوابها على الإهالة الاستعمارية الاستيطانية.

وعلى غرار ربيحة يقدم باسل دينامية الإهالة المضادة: 

الشباب ما بقبلوا الإهالة... بصيروا هن يهيلوا عل الجنود... بلخموهم لخم... بغنّوا بصوت عالي... بِلْتَمّوا مع بعض... بحملوا العلم... ببنوا بيوت هدّها الاحتلال... بسكروا الحواجز... بكبّوا الزبالة... وأكثر... بس يللي بخوّف إنو هلقد سهل إنو مخيم كامل يتسكر بدقيقة... يعني حرقوا حوّارة بسهولة... أسهل يحرقونا وما حد يسمعنا، حوّارة ممكن تصير بمخيم شعفاط... هين... سهل والله يحرقونا... وأهل القدس ما راح يسمعوا ولا يفزعوا... عشان هيك بصير إجرام، بصير حيازة أسلحة، بستخدموا مخدرات... وبكل حي الاحتلال بِشَكّل صورة مختلفة من الإهالة (باسل، 37 عاماً، الطور - القدس). 

الواقع المعقد الذي يصفه باسل هو جرّاء الإهالة الصهيونية وأجهزتها العسكرية والأمنية، ونتيجة الصمود اللامتناهي للفلسطيني مثلما برز وبقوة في جنازة شيرين أبو عاقلة.

لكن يبقى السؤال: كيف نواجه مثل هذه الإهالة؟ كيف نخلق واقعاً مضاداً، أو على الأقل كيف نعمل على خلخلة مثل هذا الواقع؟ فعلى سبيل المثال أحد النماذج المهمة والملهمة في الإهالة المضادة هو نموذج "هبّة الكرامة" باعتباره الحدث الأكثر قوة وتعبيراً عن ثقلية الكرامة الإنسانية  للفلسطيني. إن الوحدة التي تجسدت في فلسطين هي مقاومة ضد النظم الصهيونية من أقصى الشمال، حتى أقصى الجنوب، بدءاً بالشيخ جرّاح في أيار / مايو 2021، وتوافد الفلسطينيين من كل صوب ضد الإهالة المنظمة على العائلات المهددة بالتهجير. لقد شكلت هذه الحالة إهالة مضادة ضد المنظومة الاستعمارية الاستيطانية، واستطاعت إجهاض مخطط طرد العائلات.

وتلا ذلك ما حدث في ليلة القدر حين قدمت حافلات فلسطينية تُقلّ أشخاصاً جاؤوا للصلاة وإحياء الليلة في المسجد الأقصى، فنصبت شرطة الاحتلال حواجز عند مفترق أبو غوش في مدخل القدس، لمنع عشرات الحافلات من التوجه إلى المسجد، وهذا يعبّر عن أحد أنواع الإهالة ضد الطقوس الدينية والحياة اليومية وحرية الحركة. لكن ما إن وصل الخبر إلى شبّان القدس حتى لبّوا نداء الأهالي الفلسطينيين من الداخل، فخرجوا من البلدات والأحياء المقدسية بسياراتهم وحافلاتهم الصغيرة كي يُقلّوا الفلسطينيين من الشوارع في أبو غوش حتى القدس. هذه الومضات من الإهالة المضادة، تجترح طريقها في سياقات وضمن عدة صعوبات استعمارية، إلّا إنها تظهر وتقاوم، وهي تمثل إرادة الفلسطينيين الحية، وتجعلنا نعي أن الإهالة ليست حتمية ولا تعني أن على الفلسطيني تلقّيها من دون استجابة أو مقاومة. 

ختاماً: لماذا إهالة؟

هذه الدراسة هي تمهيد نظري لاستخدامنا التشخيصي لمنظومة وحشية، ولمفهوم الإهالة، اللذين يصفان التجربة اليومية والنظم الاستعمارية الموجهة ضد المقدسيين خاصة، والفلسطينيين عامة. وقد تأسس هذا المفهوم بناء على تجارب الفلسطينيين الواقعية في القدس المحتلة، فالإهالة في هذا الصدد تعبير سياسي وإبستمولوجي ونفسي للفلسطينيين، وتعكس لنا قدرة الفلسطيني على وصف وإدراك واستيعاب وتفكيك النظم والمنظومة، والأنشطة الاستعمارية من حوله. إن طرح المنظومة والمفهوم هو مواجهة وتحدٍّ للغزو، والاحتشاد، والهجمات الوحشية والعاصفة، وتسونامي الإجرام المنظم والإجرام العشوائي المهووس لدى عابدي السيادة والاستعلائية، والتي تُشنّ يومياً ضد المستعمَر. الإهالة هي مفهوم ومصطلح يساهم في خرق منظومات المعرفة الاستعمارية التي تقيد احتمالات التعبير والتصور بشأن ما يجري حولنا، بشكل بارز وخفي، وبصوت مرتفع أو صامت.

ما وددت كَشْفه في هذا النصّ هو التعبيرات الفلسطينية المحلية عن شدة الهجمات التي تستهدف الفضاءات الفلسطينية، فهي تفاجىء وتُخيف وتروّع، كما أن تتابعها بشكل متسلسل، متنوع ومتسارع يُفقد الفلسطينيين القدرة على مواكبة وحشيتها مثلما يبرز في مقولة: "مش ملحقين"، وتجعلهم عرضة للهجوم الدائم والدوري والمكوكي، من كل جانب وفي كل مساحة، بانتظام هيكلي منظم وفوضوي، متناسق وغير متناسق في آنٍ واحد، وذلك عبر تجليات مؤسساتية وأجهزة أمنية، ومجسّات مراقبة وطائرات مع ومن دون طيار، وحواجز عسكرية، تؤدي إلى شلّ الطاقات والإمكانات من أجل إفقاد الفلسطينيين القدرة على الاستجابة للحياة؛ وإضفاء حالة من الفقدان والحزن الدموع، وبالتالي تأطير القدس كحيّز إماتة للفلسطيني. 

التشخيص

يقدم المصطلح أفقاً نوعياً لتحليل ديناميات المفاجأة والخوف والإرهاب التي تُلحقها إسرائيل بالفلسطينيين. فعندما أقف أمام منظومات هائلة وبيروقراطيات ومناهج ودراسات وأيديولوجيات حديثة وكلاسيكية في مجال الأمن والاستعمار والإبادة، جميعها يفشل في مواكبة حجم وشمولية وسيولة العنف المتدفق في أركان الفرد والشعب، أُدرك كباحثة مقدسية ضرورة نحت مصطلح يقوم على تحدّي ومقاومة منظومات الانتشار الفطري لعنف الدولة الصهيونية. إن التفكير في مفهوم "الإهالة" العربي المحلي وفقاً لكلمات فلسطينية كعِلْم نقدي، يسمح لنا بالكشف عن المميزات الإجرامية السياسية والعملية والتجريدية والأيديولوجية التي تعمل على تصميم ممنهج لإرهاب دولة مبني على تفكيك وشل واختراق وتشتيت، ومحو مجتمعي مقصود وإنتاج كل جمعي متخيل لأجزاء منفصلة ومبتورة. ولهذا مهمتنا هي العمل على ربطها بشبكة إنتاج القوة الاستعمارية الاستيطانية، لتسليط الضوء على السلوكيات الجماعية المعقدة.

إن الأصوات المذكورة أعلاه تكشف العنف الممنهج، ومنطق القوة الاستيطاني بأيديولوجيته التوراتية والعلمانية المعسكرة، كما أن طبيعة العنف المتعددة الوسائط، والمتقاطعة، والممتدة، والتراكمية، والمستمرة، علاوة على هيكليات القمع ببُنيتها، عرّفتني إلى مصطلح الإهالة الذي يصعب جداً ترجمته إلى الإنجليزية بكلمة واحدة. إن استخدام المقدسيين للإهالة يُبرز العنف الاستعماري كغازٍ يهجم كالعاصفة، وكاحتشاد لأنواع وحشية من الإيلام تضرب الحي والميت، وتقلب القبور مثلما قلبت مقبرة اليوسفية، والبيوت، وتمحو حارات، وتغير المشهد الفلسطيني المقدسي، راسمة خرائط جديدة تهدف الى تمزيق النسيج الاجتماعي – الاقتصادي – النفسي - السياسي، وتمحو، أو تحاول محو الفلسطيني مثلما قال أبو أحمد أحد أصحاب متاجر البلدة القديمة في القدس: "زي الجرف... بغيّروا كل تضاريسنا." فالإهالة بمفهومها هذا يمكن أن تكون صاخبة ومحسوسة كما عند هدم البيوت، أو زعزعتها من أعمدتها بشكل بطيء من خلال الحفر، ويمكن أن تكون لامحسوسة كما في مشروع "التحضير" أو "تنوير" و"تطوير المجتمع" كما في السيطرة على التعليم والصحة والاقتصاد. إلّا إن الهدف الأساسي هو اختراق المجتمع والبيوت والعلاقات لاستخدامها في تشتيت ولا - فلسطنة المجتمع المقدسي والمراقبة والملاحقة الضبطية، أو في الاعتقال، أو التخطيط للمحو، إلخ. فالإهالة يمكن أن تكون مرئية وغير مرئية، محسوسة، ولامحسوسة، وذلك للوصول إلى خلخلة عمق الأرض التي يمشي عليها الفلسطيني في قدسه. إن الاقتلاع اللامتناهي للواقع والأرض المعسكرة، مثلما شدد المقدسيون، جعل من مصطلح الإهالة كما أكدت سناء: 

كلمة... بتوصف واقع الناس... وكتابتها كإهالة كثير كثير بعنيلي، وقريب كثير للقلب... لما بقرأ بحسّ وأخيراً قدر حدا يوصف واقعنا ويعبّر عنو ويخلّي الناس تقراه وتحسّو معنا، لأنو صحيح بهيلوا علينا من كل النواحي. لمّا سمع زوجي الكلمة... خطر عبالو بيت شعر من اللي بيحكوه في الدحية بالعيسوية بالعادة في سهرات الشباب (العَوِّيدة) وبقولوا فيها: "... حنشان وهالن عليّا"، يعني شبّه الإهالة بالأفاعي اللي بنهالن علينا من كثرتهن (سناء في رسالة إلى الكاتبة). 

ثم استطردت سناء كاتبة في رسالتها لي: 

لمّا بنوا مبنى هداسا الجديد وحفروا الأرض وبلّشوا يكبّوا التراب على جهة المدخل الغربي للقرية (العيساوية)، حكت لي أمي: يا خوفي يضلّوا يهيلوا علينا التراب ويطمّونا هيك بما إنو مش زابطة معهم يخلصوا منا. 

إن كلمات أم سناء والتي تحذرنا من أن "ويطمّونا هيك" يكشف طابع الإبادة الجمعية (genocidal nature) للإهالة الصهيونية، وأصوات المقدسيات تدعونا إلى التعمق في الإهالة، ليس من أجل إدراك موقعها عند الصهيوني فحسب، بل أيضاً لاستيعاب ما تحذرنا أم سناء منه في الإهالة المتنوعة، وما تشير إليه مقاومتها عن أشكال القوى الموجودة في حياة الفلسطينيين. فحين توظّف الصهيونية الإهالة في عملها المكوكي واللامتناهي، عبر تفكيكها واقتلاعها وضربها للفلسطيني في جميع لحظاته وخطواته واختياراته، لتكون كالتسونامي مثلما أشار وليد، أو مثل العاصفة "لطمنا طم" كما أوضحت أم سناء، أو مثل "الجرف المجرم" بحسب تأكيد عنان، يتوجب علينا التفكير فيها بثقة مطلقة. إن تفكيك منابر الإهالة المتعددة يمكّننا من فهم أنواع وعلاقات القوى الموجودة ليس فقط لدى القوى الغاصبة، بل لدى الفلسطيني عبر الوعي المقاوم، والإنتاج المعرفي البديل. فمفهوم "إهالة" ، بصفته الأنطولوجية، يشكل فرصة لاستكشاف تعقيد السلطة والقوة والحوكمة وانتشارها من خلال الدولة الصهيونية ومنظوماتها ومستوطنيها، على أجساد سكان القدس ومساحاتهم وعلاقاتهم ومشاعرهم، ليوفر لنا مجالاً للتآزرات النظرية والمنهجية والعملية الناشئة.

 

* تشكر الكاتبة مساعدها البحثي محمد قعدان (من باقة الغربية)، وهو طالب دراسات عليا في جامعة كوليدج دبلن، على ما قدّمه في أثناء كتابتها هذه الدراسة.

 

المراجع

 

بالعربية

روحانا، نديم (2022). "الملّاك والمستأجرون في الدولة اليهودية: المواطنة الاستعمارية الاستيطانية والوطن وحق الانتماء". ورقة قُدمت في "المنتدى السنوي لفلسطين: دورة أولى". 

سعيد، إدوارد (صيف 2021). "إذن بالرواية". تقديم وترجمة عبد الرحيم الشيخ. "مجلة الدراسات الفلسطينية"، المجلد 31، العدد 127، ص 181 – 208. 

الشيخ، عبد الرحيم (ربيع 2019). "الزمن الموقوت: نكبة فلسطين ومسارات التحرير". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 118، ص 16 - 26.

 

بالأجنبية

Abu-Lughod, Lila (2013). Do Muslim Women Need Saving?. Cambridge: Harvard University Press. 

Harvey, David (2004). “The 'New' Imperialism: Accumulation by Dispossession”. Socialist Register: The New Imperial Challenge, vol. 40, pp. 63-87. 

Kanaaneh, Rhoda Ann (2002). Birthing the Nation: Strategies of Palestinian Women in Israel. Berkeley: University of California Press. 

Mignolo, Walter D. (December 2009). “Epistemic Disobedience, Independent Thought and Decolonial Freedom”. Theory, Culture & Society, vol. 26, issue 7–8, pp. 159–181. 

Rancière, Jacques (2013). The Politics of Aesthetics. London; Newyork: Bloomsbury Academic. 

Santos, Boaventura de Sousa (2014). Epistemologies of the South: Justice Against Epistemicide. Boulder, Colorado: Paradigm Publishers. 

Shalhoub-Kevorkian, Nadera (2009). Militarization and Violence Against Women in Conflict Zones in the Middle East: A Palestinian Case-Study. United Kingdom: Cambridge University Press. 

Shalhoub-Kevorkian, Nadera (January 2014). “Criminality in Spaces of Death: The Palestinian Case Study”. The British Journal of Criminology, vol. 54, issue 1, pp. 38–52. 

Shalhoub-Kevorkian, Nadera (November 2017). “The Occupation of the Senses: The Prosthetic and Aesthetic of State Terror”. The British Journal of Criminology, vol. 57, issue 6, pp. 1279–1300. 

Shalhoub-Kevorkian, Nadera (2020). “Necropenology: Conquering New Bodies, Psychics, and Territories of Death in East Jerusalem”. Identities, vol. 27, issue 3, pp. 285-301. 

Smith, Andrea (2005). Conquest: Sexual Violence and American Indian Genocide. United States: South End Press.

Spivak, Gayatri Chakravorty (1988). “Can the Subaltern Speak?”, In: Marxism and the Interpretation of Culture. Edited by Cary Nelson and Lawrence Grossberg. Urbana and Chicago: University of Illinois Press, pp. 271–313. 

Weizman, Eyal (2017). Forensic Architecture: Violence at the Threshold of Detectability. New York: Zone Books. 

Wolfe, Patrick (2006). “Settler Colonialism and the Elimination of the Native”. Journal of Genocide Research, vol. 8, issue 4, pp. 387-409, DOI: 10.1080/14623520601056240 

Zureik, Elia and David Lyon and Yasmeen Abu-Laban (eds) (2010). Surveillance and Control in Israel/Palestine: Population, Territory and Power. London: Routledge.

 

مقابلات ورسائل

رسالة من سناء (28 عاماً)، العيسوية – القدس.

مقابلة مع أحمد والد هديل (46 عاماً)، سلوان - القدس.

مقابلة مع باسل (37 عاماً)، الطور - القدس.

مقابلة مع زينب (30 عاماً)، الطور - القدس.

مقابلة مع سلمى (10 أعوام)، سلوان - القدس.

مقابلة مع عايدة (29 عاماً)، كفر عقب - القدس

مقابلة مع عنان (27 عاماً)، مخيم شعفاط - القدس.

مقابلة مع فاطمة (40 عاماً)، سلوان - القدس.

مقابلة مع نوال (15 عاماً)، مخيم شعفاط - القدس.

مقابلة مع هدى (37 عاماً)، جبل المكبر -القدس.

مقابلة مع هديل (15 عاماً)، سلوان - القدس.

مقابلة مع وليد (32عاماً)، سلوان - القدس.

Author biography: 

نادرة شلهوب – كيفوركيان: ناشطة نسوية نقدية وباحثة فلسطينية، تشغل كرسي لورانس دي - بييل في معهد علم الإجرام في كلية الحقوق وكلية الخدمة الاجتماعية في الجامعة العبرية في القدس. وتعمل أستاذة كرسي في مجال القانون العالمي في جامعة لندن QMUL.