Anziska, Preventing Palestine: A Political History, from Camp David to Oslo
Reviewed Book
Full text: 

قطع الطريق على فلسطين: تاريخ سياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو

سِثْ أنزيسكا

ترجمة داود تلحمي

بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2022. 553 صفحة.

 

كثيرون من العرب أو من الإسرائيليين أو من جنسيات أُخرى، كتبوا عن مفاوضات واتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، كما كتبوا عن اتفاق أوسلو وملحقاته بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال، وفي هذا الكتاب المعزز بأحدث الوثائق نجد الخلفيات التي أوصلت إلى هذين الاتفاقين ومآلاتهما.

يتناول الكتاب زاوية خاصة من هذين الاتفاقين، هي موقع مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة ومآلها، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في ضوء المفاوضات والاتفاقيات التي أُبرمت، وكيف استطاع الطرف الإسرائيلي أن يحافظ على ثبات نسبي في موقفه ويُجرّع الأطراف الأُخرى رؤيته بالتدريج. فرؤية مناحم بيغن إلى لحكم الذاتي، والتي وُضعت كقاعدة تفاوض، بمعزل عن أي تطبيق ملموس أو اتفاق نهائي، انتقلت بما تتضمن من أفكار وخطط لتصبح قاعدة لاتفاق إعلان المبادىء بين منظمة التحرير ودولة الاحتلال، بينما كان راعي المفاوضات في الاتفاقيتين واحداً هو الولايات المتحدة، بغضّ النظر عن تقلّب الإدارات والتوجهات فيها، وبصرف النظر عن التحولات في إسرائيل. أمّا الثابت الوحيد حتى الآن فهو عدم قيام دولة فلسطينية من جهة، ومنع أي شكل حقيقي من أشكال تقرير المصير للشعب الفلسطيني، من جهة أُخرى.

هذا الكتاب هو أطروحة الدكتوراه التي كتبها سِثْ أنزيسكا، وهو أميركي يهودي من نيويورك جاء إلى مستعمرة غوش عتصيون ليدرس في مدرستها الدينية، فهالته الوقائع المتوحشة للاستيطان، وقمع المواطنين الأصليين خلال الانتفاضة الثانية، فاتجه إلى قراءة كتب التاريخ والسياسة من جديد كي يعيد النظر في المسلمات التي تعلّمها، سواء في الأوساط الأميركية اليهودية في الولايات المتحدة، أو في المدرسة الدينية الاستيطانية داخل دولة الاحتلال، فكان هذا الكتاب هو الجواب الصادم على الأسئلة التي طرحها الكاتب على نفسه.

يتألف الكتاب من 553 صفحة، فضلاً عن ملاحظات المترجم الفنية بشأن منهجية الكتاب وترجمته، ومقدمة أعدها البروفسور رشيد الخالدي، والتي خلص فيها إلى استنتاج الكاتب أن كامب ديفيد وضع المحددات لاتفاق أوسلو.

يتوزع متن الكتاب على ثمانية فصول وخاتمة استنتاجية، مع ملحق عبّر فيه المؤلف عن شكره للعديد من الباحثين الذين قدموا له المساعدة، وكتب ملاحظات بشأن المصادر التي استند إليها، وهي في معظمها وثائق مُفرَج عنها حديثاً في أكثر من دولة، وقد ضمت قائمة المصادر والمراجع أكثر من 155 صفحة، فضلاً عن فهرس للإعلام.

شكل الاحتفال الاستيطاني في الذكرى الخمسين للتمدد الاستيطاني في التجمع الاستيطاني غوش عتصيون المقام على أراضٍ فلسطينية محتلة، نقطة افتراق بين الكاتب ومدرسته الدينية، وذلك حين ألحّت عليه أسئلة عن سبب إقدام الفلسطينيين على القيام بأعمال عنف، وعمليات استشهادية، ولماذا لا يتم التطرق في مدرسته الدينية إلى واقع الفلسطينيين، فاندفع إلى مسار آخر مبتعداً عن الكهنوت اليهودي، ومتجهاً نحو التاريخ السياسي ودراسته.

يرصد الكاتب بشكل منهجي كيف ولد اتفاق أوسلو من رحم اتفاق كامب ديفيد في سنة 1979، من خلال التركيز على وجود مبدأين أساسيين لدى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بشتى توجهاتها وهما: لا لدولة فلسطينية مستقلة، ولا لحقّ تقرير المصير للفلسطينيين. وعلى هذين المبدأين لم يجرِ أي اعتراف إسرائيلي بالشعب الفلسطيني، بل تواصل الاستيطان واستمرت السيطرة على الأرض والحدود، وهو حل طرحته إسرائيل منذ بداية الاحتلال ولا يتعدى حكماً ذاتياً، أو إدارة ذاتية للسكان من دون الأرض. وفضلاً عن ذلك، فإن مشروع بيغن وصل إلى حد دمج مواطني الضفة الغربية وقطاع غزة بعد دمج مواطني القدس في إطار الدولة الإسرائيلية، مع إعطائهم جميع الحقوق المدنية، وحتى حيازتهم حق الانتخاب، لكنه لم يتزحزح عن ثوابته بشأن السيطرة على الأرض ومنع قيام دولة فلسطينية طوال مفاوضات الحكم الذاتي مع المصريين بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد.

ويقارن الكاتب بين مشروع الحكم الذاتي في كامب ديفيد وبين اتفاق إعلان المبادىء، فيلتقط نقطة أساسية هي أن ترحيل قضايا الحل النهائي كلها إلى مفاوضات الحل الدائم كان جزءاً من خطة تفاوضية إسرائيلية قدمت الحكم الذاتي، وأجّلت تقرير المصير والدولة وعودة اللاجئين والسيطرة على الأرض والمعابر، وهذه الخطة أدت إلى قطع الطريق على قيام دولة فلسطينية.

وبيّن الكاتب أيضاً كيف أصبحت قضية فلسطين، حتى في إطار الحكم الذاتي، قضية ثانوية بالنسبة إلى مصر، إذ تمت مقايضتها بالحصول على سيناء من جهة، وبالدعم الاقتصادي الأميركي من جهة ثانية.

ويعرض الكتاب بالتفصيل ماراثون التفاوض المصري - الإسرائيلي برعاية أميركية وانطلاقاً من رؤية كارتر بشأن كيان ما للفلسطينيين، متعاملاً بحذر شديد مع ذكر مصطلح دولة، لأنه كان يرى أساساً أن توجه الإدارة الأميركية في عهده هو نحو حل شامل يشمل سورية والأردن فضلاً عن الفلسطينيين. فقد حاول كارتر الإفلات من دعوة كيسنجر إلى مقاطعة منظمة التحرير وعدم الاعتراف بها، لكن ضغوط اللوبي الصهيوني وتعنّت إسرائيل منعاه من الانفتاح على المنظمة، فآثر سلوك دبلوماسية غير رسمية مع المنظمة سواء أكانت مباشرة أم عبر وسطاء عرب، وكان محور الجدل هو مطالبة منظمة التحرير بالاعتراف بالقرار 242، ونبذ ما سُمي الإرهاب في نظرهم.

خلال هذا النقاش كله في الشأن الفلسطيني كان هناك بحث عن بدائل من منظمة التحرير، فطُرح الخيار الأردني ومشروع بيرس - حسين، كما طُرح تشكيل وفد أردني فلسطيني مشترك ضمن مشروع ريغان، عدا محاولات استمالة قيادات محلية تتجاوز المنظمة، لكن هذه المحاولات كلها باءت بالفشل.

خلال هذه الفترة لم يكن النقاش بين المتفاوضين في كامب ديفيد مباشراً من دون ترتيبات مسبقة، بل إن الكاتب يبيّن في أكثر من محل، أن الأمور كانت تُطبخ أولاً في الحكومة الإسرائيلية، ثم تُبحث بين الإسرائيليين والإدارة الأميركية، ثم تقدَّم إلى الجانب المصري كمقترحات، الأمر الذي يكشف عمق التحالف الاستراتيجي الأميركي - الإسرائيلي ووحدة الهدف بينهما، وسط إدراك تام أن الحكم في مصر كان معنياً فقط بسيناء والدعم الاقتصادي.

ويلفت الكاتب إلى أن محاولات الاستثمار السياسي السريع للانتفاضة الفلسطينية الكبرى في سنة 1987، في ضوء متغيرات دولية وعربية وإقليمية، لم تكن في مصلحة الانتفاضة، إذ كان التوجه العربي هو الاستثمار السريع للانتفاضة، ملتقياً مع استعداد فلسطيني للتعامل مع تلك المتغيرات (بيان بسام أبو شريف)، الأمر الذي أدخل المنظمة في حالة جدل واسع أدى إلى القبول بالقرار 242 في البيان السياسي للمجلس الوطني في الجزائر، والذي، في إثره، وبعد خطاب ياسر عرفات في مقر الأمم المتحدة في جنيف ومؤتمره الصحافي الذي أعلن فيه نبذ الإرهاب وتقادم الميثاق الوطني، فتحت أميركا حواراً مباشراً مع المنظمة، لكنه راوح مكانه حتى كانت حرب الخليج وحصار العراق اللذان شكلا نقطة تحول من عالم ثنائي القطبية إلى عالم تسوده أميركا. وهذا التغير في الموازين الدولية دفع الولايات المتحدة إلى إعادة ترتيب أوراقها بهذا الشأن من خلال مؤتمر مدريد في سنة 1991.

لم تكن شروط المشاركة في مؤتمر مدريد مختلفة كثيراً، عدا إضافة رتوش على الحكم الذاتي الذي أرسى قواعده مشروع بيغن، بل إن كل ما جرى فيه هو اعتماد التدرج الذي اقترحه وزير الخارجية الأميركي السابق سايروس فانس، والذي ثبُت نجاحه في المفاوضات مع مصر، غير أن الشرط الإسرائيلي ببقاء المنظمة وحق تقرير المصير والاستيطان خارج التفاوض لم يُمسّ، كما أن المنظمة قبلت بمشاركة فلسطينية من الداخل وضمن وفد مشترك مع الأردن.

إلّا إن مفاوضات مدريد لم تصمد أمام التعنت الإسرائيلي، وخصوصاً في مجال الاستيطان ووقفه وقضايا الحل النهائي، الأمر الذي دفع إلى مفاوضات غير علنية استولدت اتفاق إعلان المبادىء المعروف بـ «اتفاق أوسلو».

يعتبر الكاتب أن اتفاق أوسلو فتح مجالاً عملياً أمام تمدد الاستيطان، وزيادة عدد المستوطنين، وتكريس حكم ذاتي للسكان من دون السيادة على الأرض، بل إن الإسرائيليين نجحوا في جعل مفاوضات المرحلة النهائية عقدة قطعت الطريق على الدولة، فهدف الإسرائيليين هو التفاوض إلى ما لا نهاية.

وفي رأي الكاتب، فإن أوسلو، كما كامب ديفيد، قطعا الطريق على إنشاء دولة فلسطينية، وأنه حتى لو كان هناك إمكان لتعامل إسرائيل في سبعينيات القرن الماضي مع قيام دولة فلسطينية، فإنه بعد التمدد الاستيطاني في الضفة الغربية خاصة، وتحديداً في القدس، فإن قطع الطريق على الدولة لم يعد مجرد موقف سياسي أو أيديولوجي لدى إسرائيل، وإنما أصبح واقعاً بفعل التمدد الاستيطاني، بل إن شعار دولة فلسطينية قابلة للحياة انتهى أيضاً.

لا يطرح الكاتب حلولاً في ضوء الواقع الحالي، لكنه يلمّح إلى الدولة الواحدة أحياناً وبشكل حذر جداً، فقراءته لمجريات قطع الطريق على تقرير المصير للفلسطينيين، تدفعه إلى مثل هذا الحذر، وإلى تجنّب سيناريوهات مقبلة.

ختاماً، وباستثناء السرد التاريخي الذي لخّص حراكاً سياسياً استمر نحو عقدين بين كامب ديفيد وأوسلو، فإن الكتاب يشكل إضاءة على آليات الدبلوماسية الأميركية في معالجة القضية الفلسطينية، والتي كانت تحرص على الانحياز إلى إسرائيل وإظهار هذا الانحياز، فالخلافات بين واشنطن وتل أبيب لم تكن قط جوهرية، ولم تكن قادرة على كسر التعنّت الإسرائيلي، وإنما كانت تجلب الضغط ومزيداً من الضغط من أجل تنازلات فلسطينية وعربية لمصلحة إسرائيل، فأميركا لم تكن وسيطاً نزيهاً، وجلّ ما في الأمر أنها كانت ترتب مصالحها ومصالح إسرائيل معاً في المنطقة.

Author biography: 

جبريل جهشان: باحث في مؤسسة بيسان.