إشكالية تحديد الأسباب في التاريخ: الانتفاضة الأولى نموذجاً
التاريخ: 
10/12/2020
المؤلف: 

في مساء الثامن من كانون الأول / ديسمبر 1987، توقفت سيارة تقل عدداً من العمال الفلسطينيين من جباليا البلد في قطاع غزة قرب محطة وقود عند حاجز «إيرز» بانتظار التفتيش على الحاجز، بعد أن عادوا من عملهم في إسرائيل. وخلال فترة الانتظار هذه ما لبثت أن قامت شاحنة مسرعة يقودها إسرائيلي من أسدود بمداهمة السيارة ودهست عدداً من العمال الذين استشهد أربعة منهم وجُرح آخران. وفي اليوم التالي، في 9 كانون الأول / ديسمبر، وبعد تشييع الضحايا في جنازة حاشدة، انطلق المشيعون في تظاهرة كبيرة، وخصوصاً أنهم اعتبروا الدهس قتلاً عمداً لا حادث سير فقط. وقامت سلطات الاحتلال باستدعاء قوات إضافية بهدف السيطرة على هذا الحشد الكبير، ثم أعلنت منع التجول في جباليا ومناطق أُخرى من غزة. غير أن التظاهرات استمرت في اليوم التالي، في 10 كانون الأول / ديسمبر، وفي الضفة الغربية أيضاً، وشاركت فيها أعداد غير مسبوقة من الشباب والشابات والمدنيين باختلاف أعمارهم.

ولم يكن يعرف المتظاهرون أنهم على أبواب انتفاضة أو ثورة على الاحتلال، وفقط في اليوم الثالث تنبه الجميع إلى أن ما يحدث شيء مختلف عن التظاهرات السابقة. وربما تفاجأ المنتفضون أنفسهم بما جرى وما زال يجري، وتفاجأ الاحتلال أيضاً، وتفاجأت منظمة التحرير، وخشيت أن يكون الأمر من تدبير قيادات جديدة سرية حتى الآن، أو أن صراعاً ميدانياً كهذا سيُخرج قيادات جديدة، فهذا من طبيعة الأمور في مثل هذه الظروف. وخلال أسبوعين من الزمن، أصبح رائجاً أن يقال إن المنظمة تسعى جاهدة لإدارة الانتفاضة بجهاز الفاكس، إذ لم يكن يوجد بريد إلكتروني بعد في حينه.

وفي مصر، في 25 كانون الثاني / يناير 2011، لم يكن يعرف المتظاهرون أنهم على أبواب ثورة. فقد سبقت هذا اليوم تظاهرات عديدة، منها التظاهرات والإضرابات الشهيرة لعمال مصانع النسيج في مدينة المحلّة في سنتي2006 و2007، وفي 6 نيسان / أبريل 2008؛ التاريخ الذي أخذت مجموعة 6 أبريل الشبابية اسمها منه، وقد دعت هذه المجموعة مع مجموعات أُخرى، منها «كلنا خالد سعيد» وحركة كفاية بالإضافة إلى آخرين، إلى إضراب 25 كانون الثاني / يناير، ولم يكن هؤلاء يعرفون أنهم على أبواب ثورة. ففي اليوم الأول لم يشارك الإخوان المسلمون رسمياً خشية أن يتهموا بتدبير التظاهرات، إذ كان عدد من قادتهم في السجون، وفقط في اليوم الثالث فهموا أن ثمة حدثاً غير عادي، وأوعزوا إلى شبابهم بالمشاركة.

لا يحدث، ضرورة، أو حتى عادة، أن الثورات تحدث بتخطيط مسبق (إلاّ عند من يعتقد بنظرية المؤامرة)، وهذا ما هو مشترك بين الانتفاضة الأولى والثورة في مصر وتونس ودول عربية أُخرى؛ لم يخطط لها أحد. هنا تنتهي المقارنة، وتنتهي أوجه الشبه. في مصر، كان هناك إرهاصات واضحة منذ سنوات، وكان الوضع الداخلي شديد الاحتقان؛ اعتقالات عشوائية، وأشخاص يعتقلون ويعذبون في السجون، بعضهم حتى الموت، وأشخاص يعتقلون ثم يختفون، وعبّارات تغرق ويموت المئات ولا أحد يحاسب، وقطارات تصطدم ويموت العشرات ولا أحد يحاسب، وثروات البلد تنهب من أرض وغاز، وتعاقدات مربحة لإسرائيل ولا أحد يحاسب، وفقر كبير، وخمسة ملايين يعيشون في عشوائيات وفي المقابر في القاهرة وحدها. لقد كان من المستغرب أن طال حدوث الثورة.

لم يكن من المتوقع حدوث الانتفاضة الفلسطينية الأولى. صحيح أن وجود الاحتلال شرط لوجود مقاومة، وقد لا يذكر البعض أن أعمال المقاومة المتنوعة لم تتوقف خلال الأعوام العشرين التي سبقت الانتفاضة. لكن الانتفاضة شكلت قفزة نوعية من حيث مشاركة الجمهور العام، ولم تكن متوقعة بخلاف الوضع في مصر، على الأقل بعد تونس، إذ كان العديد من المتابعين للشأن المصري يتساءلون عن متى، لا عن ماذا.

هنا تنتهي المقارنة مع مصر وتونس والانتفاضات العربية بصورة عامة، وهنا تنشأ إشكالية أو تساؤل يحتاج إلى إجابة: كيف نفسر حدوث الانتفاضة الأولى في وضع كانت فيه تقريباً نصف القوة العاملة الفلسطينية تعمل في إسرائيل، ومتوسط الدخل كان تقريباً كما هو الآن في سنة 2017 (مع الفرق في القيمة الشرائية ونسبة التضخم)، وكان في وسع الفلسطينيين من الضفة والقطاع التجوال في أرجاء فلسطين التاريخية من دون تصاريح أو إذن، من الجولان حتى رفح، وفي وسائط نقل فلسطينية، وكان الاحتلال يهنئ نفسه في إعلامه على أنه احتلال رحيم ليبرالي، وأن هذا الوضع يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؟

إذاً، ما هي الأسباب التي أدت إلى اندلاعها بعد عقدين من الزمن على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة؟

يوجد حقل دراسي قائم بذاته خاص بالثورات، يُعرف بالثورات المقارنة. وإذا نظرنا إلى إحدى هذه الدراسات، وهي دراسة قيمة تقع في أربعة مجلدات لعدد من دول أميركا اللاتينية وجنوب أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؛ تلك الدول التي حدثت فيها ثورات أو تغيير سياسي كبير، مثل الأرجنتين والبرازيل والمكسيك والبيرو واليونان وإسبانيا والبرتغال؛ إذا ما نظرنا إليها، نجد أوجه شبه عدة مع مصر وتونس بصورة خاصة، حتى لو وجدت دائماً خصوصيات خاصة بكل بلد بعينه. وعندما يقرأ المرء عمّا حدث بعد هذه الثورات أو الاضطرابات الداخلية التي أدت إلى تغيير سياسي، في نهاية المطاف أحياناً وبعد طول عناء، يرى تونس، وأحياناً يرى مصر، وأحيانا سورية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، حدث في كثير من هذه الدول التي اندلعت فيها ثورات أو صراع داخلي محتدم، أو حتى دموي أحياناً، أن العديدين –بفعل الاضطراب الداخلي وعدم الأمان الشخصي والعنف المتوحش أحياناً – انتابهم نوع من الحنين إلى ما قبل الثورة؛ الحنين إلى «الاستقرار»، حتى لو اتسم الوضع سابقاً باستقرار قسري، وسلطوي، وقهري، وإجباري. تذكرتُ سورية وأنا أقرأ؛ سورية القتل والدمار والهجرة والتهجير، لكن سورية، أيضاً، فيها حرب بالوكالة، والعامل الخارجي أيضاً حاضر في العديد من الثورات، كما هي الحال في الثورة المضادة الداخلية في مصر المتحالفة مع الثورة المضادة الخارجية.

لن تسعفنا كثيراً هذه الدراسات في معرفة أسباب اندلاع الانتفاضة، نظراً إلى أنها تُعنى بدول، الأمر الذي يعني أن هناك أدواراً للجيش، وأجهزة الأمن، والنخب الحاكمة، والنقابات القوية كما في تونس، والنخب الاقتصادية؛ أي أن العديد منها عناصر داخلية، داخل دول لديها سيادة أو قدر منها، وليست تحت احتلال خارجي كما هي الحال في فلسطين. فأوجه المقارنة مع الانتفاضة محدودة جداً.

نعود إذاً إلى الأسباب، والإشكالية أو السؤال الذي أسأله مرة أُخرى: كيف نفسر حدوث الانتفاضة الأولى في وضع كانت فيه تقريباً نصف القوة العاملة الفلسطينية تعمل في إسرائيل، ومتوسط الدخل كان تقريباً كما هو الآن في سنة 2017، وكان في وسع الفلسطينيين من الضفة والقطاع التجوال في أرجاء فلسطين التاريخية من دون تصاريح أو إذن، من الجولان حتى رفح، وفي وسائط نقل فلسطينية، وكان الاحتلال يهنئ نفسه في وسائل إعلامه على أنه احتلال رحيم ليبرالي، وأن هذا الوضع يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؟

وأقول، ابتداءً، إن الاحتلال ليس سبباً كافياً وحده، مع أنه سبب ضروري، لحدوث أي عمل مقاوم، لأن السؤال هو: لماذا بعد عقدين من الزمن؟ والسبب ليس دهس العمال في غزة، لأن هذا الحدث مرادف لقيام بوعزيزي بإحراق نفسه؛ هو المناسبة، أو كما يقال، الشرارة أو الفتيل الذي أشعل برميل البارود الشهير. ماذا إذاً؟ قمت بالاطلاع على عدد من الكتابات عن الموضوع لعلها تلقي الضوء على هذا التساؤل، وإليكم عينة منها (أي أسباب اندلاع الانتفاضة):

– انتشار البطالة.

– القمع اليومي.

– إهانة الشعور القومي.

– تهويد القدس.

– سرقة المياه.

– نسف البيوت، والعقوبات الجماعية، وإقفال المؤسسات العلمية والنقابية.

– حرمان الشعب الفلسطيني من هويته الوطنية.

– اعتماد البيروقراطية البطيئة بهدف الإذلال.

– العامل الديموغرافي، ووجود جيل جديد ولد وعاش في ظل الاحتلال وقيوده.

وتورد الموسوعة الفلسطينية الأسباب التالية:

– مؤتمر القمة العربية في عمّان الذي عقد بين 8 و12 تشرين الثاني / نوفمبر 1987، الذي لم يبحث في إزالة الاحتلال، وتراجُع الاهتمام بالقضية عربياً.

– خروج مصر من ساحة الصراع، وتوقيع معاهدة صلح في كامب ديفيد (1978).

– ابتعاد قيادة المنظمة عن خط التماس مع الأرض المحتلة، والحاجة إلى نقل المعركة إلى الداخل.

– بناء المستوطنات ومحاصرة المدن الفلسطينية.

– استمرار الاحتلال من دون وجود بوادر أمل بنهايته.

الآن، ماذا الذي يمكن قوله إزاء مجموعة الأسباب هذه؟ حتى لو كان هناك بعض البنود التي يمكن إضافتها إلى هذه القائمة، فإنه يمكن إجمال ما يمكن قوله بعبارة قصيرة، هي: الاحتلال واستمراره. لكن هذا لا يفسر لماذا بعد عقدين من الزمن وليس قبل 15 عاماً مثلاً، ماذا جرى؟ بالإضافة إلى ذلك، هذا هو الوضع الآن تماماً بما في ذلك القمة العربية الأخيرة التي عقدت في البحر الميت في 29 آذار / مارس 2017، التي كررت الكلام المعهود نفسه من باب رفع العتب. وكل هذه الأسباب موجودة الآن، بما في ذلك تهويد القدس، واستمرار الاستيطان، وهدم البيوت، وانتشار البطالة، وسرقة المياه، إلى آخر القائمة.

أمّا إن قيل إن المقارنة هكذا بين الوضع الراهن والانتفاضة لا تستقيم لأن الوضع الآن يختلف بوجود عوامل أُخرى تعوق اندلاع انتفاضة ثالثة، وتدفع في اتجاه «استقرار» نسبي حتى بوجود العوامل السابقة، منها أن العديدين مرتهنون للبنوك بفعل قروض الاستهلاك المتوفرة بسهولة نسبية، ووجود مصالح متنوعة لها مصلحة بهذا «الاستقرار»، منها الاستثمارات الكبيرة والصغيرة والمساعي المستمرة إلى جلب مستثمرين جدد لخلق فرص عمل جديدة، إلى آخر قائمة المصالح المتعددة التي تزدهر في ظل «الاستقرار» تحت الاحتلال؛ فقد جرى على ما يظهر استبدال أو مقايضة المقاومة بالشقة والسيارة، وفتح الجسر 24 ساعة، وتحسين نسبي لظروف الحياة؛ أي عناصر من «السلام الاقتصادي» في مقابل درجة «معقولة» من الاستكانة للوضع الراهن.

لكن، هل نستنج أن غياب البنوك الفلسطينية والعربية في الانتفاضة الأولى، وعدم وجود قروض استهلاكية، وعدم فتح الجسر 24 ساعة، وعدم وجود «سلام اقتصادي»، شعاراً وتطبيقاً، هو العامل الأهم في اندلاع الانتفاضة؟ لا يبدو أن هذا الاستنتاج له معقولية.

أعود إلى نقطة البداية، إلى عنوان هذه المداخلة «إشكالية تحديد الأسباب في التاريخ».

تثير الانتفاضة الأولى، وبصورة خاصة، مقارنة بالانتفاضة الثانية، أو حتى بالانتفاضات والثورات العربية التي كانت لها إرهاصات واضحة كما أشرت سابقاً، بخلاف الانتفاضة الأولى، مجموعة من الأسئلة المعرفية أو الإبستيمولوجية من النوع الذي، عادة، يختلف بشأنه المؤرخون. وهذه الأسئلة هي من نوعين: الأول، ما هي أسباب اندلاع الانتفاضة الأولى؟ والنوع الثاني: أي من هذه الأسباب هو الأهم؟ أو إن جاز التعبير، ما هو الوزن النسبي لكل سبب على حدة إن تعددت هذه الأسباب؟ في العادة، توجد صعوبة بالغة في الإجابة، أو تحديداً في الاتفاق على إجابة النوع الثاني من الأسئلة، إمّا بفعل عوامل فكرية أو أيديولوجية تتعلق بمداخل التحليل، وإمّا بسبب افتراض ضمني ومعياري من قبل الكاتب؛ إن وضعاً ما مستمراً مثل الاحتلال ليس سبباً، بمعنى أن تعريف كلمة «سبب» هو أنه العنصر المتغير في هذا الوضع، أو عدم الاتفاق بين المؤرخين لأسباب أُخرى، منها انحيازات شخصية، أو الخلفية العامة الفكرية للمؤرخ، أو الكاتب، وأي تيار ينتمي إليه من مدارس التفسير. هذا النوع الثاني من الأسباب، الذي يعطي وزناً أو أهمية أكبر من أسباب أُخرى، هو الذي يدور حوله الخلاف الأكبر بين المؤرخين لأن فيه حكماً نوعياً على «أهمية» السبب الذي قد يختلف من مؤرخ إلى آخر للأسباب المشار إليها.

إزاء هذا، أريد أن أقترح، كفرضية للنقاش وللمتابعة، أن ما هو متغير في حالة الانتفاضة، مقارنة، مثلاً، بالوضع الراهن، هو خروج منظمة التحرير من لبنان، وتوقف الكفاح المسلح من الأرض اللبنانية. لكن ما هو أهم، وأكرر، ما هو أهم، هو بقاء المنظمة خارج أرض الوطن، تحرض وتدعم المقاومة في الداخل ما أمكنها ذلك، بخلاف الوضع الراهن كون المنظمة تحت الاحتلال وبرنامجها الذي انتخب الرئيس أبو مازن على أساسه، هو برنامج المفاوضات، وليس برنامج المقاومة. ويوجد فرق كبير بين الحالتين، بين وجود المنظمة في الخارج من دون أن تكون طرفاً في مسار سياسي، لها مصلحة في إبقاء الوضع في الداخل «مشتعلاً» ما أمكن ذلك، حتى هي بدورها تبقى لاعباً سياسياً على الرغم من وجودها في «المنفى» في تونس، وأن تكون مقيدة باتفاق أوسلو وبآلية واحدة لإنهاء الاحتلال، وهي المفاوضات من دون أي نوع من أنواع المقاومة الفعالة. وكون هذا البرنامج قد أُفشل من قبل إسرائيل لا يعني ضرورة أننا على أبواب انتفاضة جديدة، لكن أعمال المقاومة الفردية التي انتشرت خلال الأعوام الثلاثة الماضية هي تعبير عن هذا الفشل.

أمّا إذا كانت أعمال المقاومة الفردية هذه أيضاً إرهاصات لما قد يأتي في المستقبل، فهذا أمر مفتوح للتقدير ولدرجات متعددة من الاحتمال، ولا يمكن الجزم فيه بدرجة كبيرة من الثقة. ولو كانت المنظمة قد بقيت في الخارج، لكان الاحتمال اندلاع انتفاضة ثالثة أكبر بكثير، أو لكانت قد اندلعت فعلاً، ولما كنا نتحدث الآن عن هذا الموضوع.

عن المؤلف: 

جورج جقمان: أستاذ في برنامجي الماجستير في الديمقراطية وحقوق الإنسان والدراسات العربية المعاصرة، بالإضافة إلى دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت. شغل سابقاً منصبي عميد كلية الآداب وعميد مؤسس لكلية الدراسات العليا في الجامعة نفسها. وهو محرر وكاتب ومحلل سياسي في دوريات ووسائل إعلام فلسطينية وعربية ودولية.