الانتفاضة الأولى ومنظمة التحرير والعلاقة بينهما
التاريخ: 
10/12/2020
المؤلف: 

مثلت الاتفاضة، من دون أدنى شك، ولادة جديدة للحركة الوطنية الفلسطينية. فقد كنّا أمام مشهد لشعب بأكمله، في مخيماته ومدنه وقراه، ينهض من بين الركام، ومن تحت الرماد كطائر العنقاء. بعد عشرين عاماً من احتلال 1967، وبعد أن ظن كثيرون أن هذا الشعب قد استكان لوعد منتَظَر بأن الخلاص والتحرير سوف يأتيانه يوماً من خارج الحدود كما جسدت هذا الوعد منظمة التحرير وبرنامجها في الكفاح المسلح، والذي خاضته مدعومة بوعد مماثل بالتحرير، وإذا بالانتفاضة تنفجر بهذا الشكل الذي فاجأ جميع العالم وأذهلهم بدون استثناء، بما في ذلك منظمة التحرير نفسها، كما دولة الاحتلال. ويعود سبب المفاجأة إلى أن مشهد الأرض المحتلة قبيل اندلاع الانتفاضة، لم يكن يوحي على السطح بأن انفجاراً قادماً كالبركان، وأن ما بدا من رماد على السطح إنما يخفي تحته نيراناً تشتعل، وأن ما كان يبدو من استكانة إلى وعد بالخلاص والتحرير يأتي من خارج الحدود سرعان ما أخذت تتبدد مع تلاحق التطورات والأحداث خارج تلك الحدود. فلا شك في أن توقيع اتفاق كامب ديفيد سنة 1979، وخروج مصر عملياً من معادلة الصراع العربي مع إسرائيل، شكلا طعنة كبرى للحركة الوطنية الفسطينية سرعان ما قادت إلى الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان وحصار بيروت، وما تلاه من خروج منظمة التحرير بعيداً إلى تونس، وبالتالي انتهاء الكفاح المسلح، ومن ثم ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا، وصولاً إلى مؤتمر القمة العربية في عمّان وتجاهله القضية الفلسطينية ليزيد الطين بلة.

كل هذه التطورات المتلاحقة تركت جرحاً عميقاً، أدخل إلى وعي ولاوعي الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال شعوراً بالانكشاف أمام الأخطار المحدقة بقضيته، كأن حاله أصبح يقول: ما حكّ جلدك غير ظفرك.

وقبل الدخول في تجليات علاقة الانتفاضة بمنظمة التحرير، خلال الانتفاضة الأولى وما تلاها، أرى من المفيد إعطاء لمحة عن روح التحدي التي حملتها الانتفاضة وانتزاعها زمام المبادرة في مواجهة الاحتلال، وذلك من خلال إطلاع القارئ على نص رسالة مفتوحة وجهتُها إلى الجنرال يتسحاق رابين وزير الجيش الإسرائيلي في حكومة شامير آنذاك، وتم نشرها بالكامل في صحيفة «جيروزالم بوست» باللغة الإنكليزية، بتاريخ 21 / 1 / 1988، أي بعد نحو ستة أسابيع من اندلاع الانتفاضة يوم 9 / 12 / 1987، ثم أعيد نشرها باللغة العربية في جريدة «القدس» يوم 31 / 1 / 1988.

فقد طالبت الرسالة رابين بالكف عن وصف الانتفاضة بأنها «اضطرابات»، أو «أعمال شغب عنف»، أو «أعمال شغب»، وأن يعترف بأنها انتفاضة شعب ضد الاحتلال، وأن عليه أن ينسى أن هناك تحريضاً ومحرضين، فالشعوب لا تحتاج إلى من يحرضها للانتفاضة على محتليها. فماذا تتوقعون من شعب محتل أن يفعل. هل تريدون من شعبنا أن يلقي الزهور والورود فوق روؤس جنودكم؟! سيد رابين: «إذا كنت تؤمن بأن العنف لن يجدي نفعاً فإن هذا المنطق لا بد وأن ينسحب عليكم أيضاً...» سيد رابين، «نحن الفلسطينيين، فقط الجهة التي يمكن أن تمنحكم الأمن والسلام. إذا كنتم حقاً تريدون السلام فإن ذلك لن يتحقق إلاّ بالتحدث معنا نحن الفلسطينيين ومن خلال ممثلنا الشرعي.. منظمة التحرير الفلسطينية. إن الأمن لن تحصلوا عليه بواسطة جيشكم مهما بلغ من قوة كما لن تستطيع أي دولة عربية ولا أي قوة كبرى بما فيها الولايات المتحدة أن توفر لكم هذا الأمن. فقط مفاوضات سلام حرة بينكم وبين ممثلينا الشرعيين....»

«يا سيد رابين، عندما أراد أصدقاؤكم الأميركان أن يحلوا مشكلتكم في فيتنام فمع مَنْ جلسوا؟ هل جلسوا وتفاوضوا مع الصينيين أو مع الأستراليين؟ فلماذا تتهربون من هذه الحقيقة البديهية؟ لماذا تريدون إعادة اكتشاف أن الأرض كروية؟!»

فماذا كانت تجليات وتعبيرات علاقة الانتفاضة بمنظمة التحرير؟

أعتقد بدءاً، أن القراءة الموضوعية لعلاقة الانتفاضة بقيادة منظمة التحرير لا يمكن تفادي وصفها بالعلاقة الملتبسة، كما يتضح من خلال تسلسل التجليات التالية، وخصوصاً إذا ما نظرنا إلى هذه التجليات من خلال منظورين: منظور سلوك الانتفاضة تجاه قيادة م.ت.ف. في تونس من جهة، ومنظور سلوك هذه القيادة تجاه الانتفاضة وتطوراتها من جهة أُخرى.

أولاً: استطاعت الانتفاضة منذ أيامها الأولى، أن تعيد الاعتبار إلى منظمة التحرير وقيادتها كممثلة وحيدة للشعب الفلسطيني، وقيادة شرعية لحركته الوطنية بعد أن جرى العمل على تهميشها بعد خروجها من لبنان إلى تونس، في إثر الاجتياح الإسرائيلي صيف سنة 1982. لقد كان شبان وشابات الانتفاضة في كل أرجاء الأرض المحتلة على استعداد لتلقّي الرصاص والموت من أجل أن يهتفوا لمنظمة التحرير!

ثانياً: لقد نقلت الانتفاضة مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهتها للاحتلال من الخارج والشتات، إلى حيث يجب أن يكون، إلى داخل الأرض المحتلة ذاتها، الأمر الذي كان من شأنه أن يخلق ثنائية تكاملية لا غنى عنها لأي حركة تحرر وطني لها ذراعان أو جناحان في داخل الوطن وخارجه، لكل منهما دوره وثقله وخصوصياته. فكما أنه لا يمكن قيادة نضال وطني عن بعد وعبر الفاكس، لا يجوز أيضاً ترك العمل القيادي تحت رحمة الاحتلال وتقييداته وبطشه. إن نُضج أي حركة تحرر وطني، يعتمد كثيراً على هذه الثنائية التكاملية من دون هواجس وخشية من أن إحدى القيادتين يمكن أن تكون بديلاً من الأُخرى. تاريخياً، يكاد المرء يستنتج أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تتقن تماماً صيغة الدور التكاملي لثنائية الداخل والخارج، فمن الواضح أن قيادة م.ت.ف. في الخارج كانت مسكونة بهاجس القيادة البديلة كما كان الحال أيام الهيئة العربية العليا بقيادة الحاج أمين الحسيني، وكان من شأن هذا الهاجس أن يلقي بظلاله السلبية على النضال الشعبي داخل الأرض المحتلة. هذا مع الإقرار بأنه كان هناك سعي إسرائيلي واستراتيجي حثيث نحو خلق قيادة بديلة أو منافسة لمنظمة التحرير. لكن هذا السعي الإسرائيلي، لا يجوز أن يتحول إلى هاجس متواصل يؤدي إلى التوجس من أي قيادات صاعدة في الداخل، بدلاً من بناء علاقة عضوية متبادلة تتكامل فيها الأدوار تكاملاً حقيقياً.

والمفارقة الكبرى هنا، أن هاجس القيادة البديلة، كان هاجساً مزدوجاً، إذ كان يتناول قيادات الداخل لفصائل م.ت.ف.، بالإضافة إلى هاجس قيادة بديلة من خارج م.ت.ف.، وخصوصاً بعد دخول حركة «حماس» حيّز الانتفاضة.

ثالثاً: دشنت الانتفاضة نمطاً متقدماً وفعالاً من المقاومة الشعبية، أكد أهمية تعدد أشكال المقاومة وعدم اختزالها بنمط واحد. فعندما ضاقت السبل بنمط الكفاح المسلح اندفع الشعب الفلسطيني بانتفاضة أدت دوراً متميزاً في مواجهة الاحتلال، ورفع كلفته على مختلف الأصعدة. وأحد أهم خصائص هذا الشكل من المقاومة انخراط أوسع فئات الشعب الفلسطيني، الأمر الذي أتاح لها إطلاق طاقاتها الكامنة في اتباع أساليب مبدعة في العصيان وتحدي الاحتلال وقض مضاجعه.

رابعاً: استطاعت الانتفاضة تقديم شكل جديد من العمل الوحدوي داخل إطار م.ت.ف.، يستند إلى صيغة الجبهة الوطنية العريضة، بديلاً من صيغة الكوتا أو المحاصصة الفصائلية التي كانت ولا تزال سائدة في جسم م.ت.ف. وقد تجسدت هذه الصيغة في أثناء الانتفاضة في القيادة الوطنية الموحدة.

خامساً: عززت الانتفاضة مكانة المرأة وحضورها المركزي في طول مشهد الانتفاضة وعرضه وعلى الصعد كافة. وشكل دور المرأة في الانتفاضة زجاً بمخزون استراتيجي لا يجوز تجاهله أو التقليل من شأنه.

سادساً: تمكنت الانتفاضة من إحداث اختراق مهم في مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي، فكان لديها نظرة استراتيجية ثاقبة ومبكرة لأهمية مخاطبة هذا الرأي العام أسوة بتجارب حركات التحرير الأُخرى، فكانت مخاطبتها له نابعة أساساً من الإحساس بموقع القوة وانكسار حاجز الخوف، ومن الشعور بالتفوق الأخلاقي من جهة، وفي الوقت ذاته منسجمة مع رسالة شعب ما عاد يطيق الاحتلال، ويتوق إلى الحرية والعدالة والاستقلال. فجاء خطاب الانتفاضة، تحدياً للاحتلال، نقياً من أي تطبيع أو استجداء في مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي، وليس من موقع ضعف يتجاوز العلاقة الحقيقية بين المحتل والواقع تحت الاحتلال.

سابعاً: قامت الانتفاضة بمخاطبة العالم خطاباً متقدماً حمل روح انتفاضة شعب بأكمله ضد المحتل.،وتمكنت من حشد تضامن غير مسبوق من جانب الرأي العام العربي والعالمي.

ثامناً: لم تقتصر الانتفاضة على فعاليات على الأرض لمواجهة الاحتلال والعصيان المدني، بل كانت واعية لأهمية أن تتسلح ببرنامج سياسي، فقامت بحثّ القيادة في تونس على ضرورة التقدم ببرنامج سياسي يعبر عن رسالة الانتفاضة ويحملها، الأمر الذي مكن منظمة التحرير من أخذ زمام المبادرة عندما أطلقت في الجزائر مبادرة السلام الفلسطينية المستندة إلى وثيقة إعلان الاستقلال.

تاسعاً: وليس آخراً، أظهرت الانتفاضة ضرورة وإمكان أن تصبح المقاومة نمط حياة لشعب تحت الاحتلال. فقد أثبت الشعب أنه قادر بصورة مذهلة على تنظيم شؤون مجتمعه، وتقاسم الأدوار والأعباء بروح من التلاحم والتكافل وإنكار الذات، بصورة تتوارى معها بالتدريج نزعات الفئوية الفصائلية والجهوية والعشائرية والعائلية.

لكن للأسف، فإن قسماً (لا بأس به) من هذه التجليات والتعبيرات الإيجابية للانتفاضة، لم يصمد طويلاً، أو لم يتم البناء عليه وتطويره. ويعود ذلك إمّا لأسباب ذاتية تتعلق بالانتفاضة وقواها، وخصوصاً مع الاعتقالات المتلاحقة لكوادر الصفوف الأولى من القيادة الوطنية الموحدة، وإمّا لأسباب تتعلق بمنظمة التحرير ونمط عملها وبيروقراطيتها وحرصها على الهيمنة المباشرة على كل مفاصل وتفصيلات الانتفاضة، ولا سيما مع هاجس الخوف من القيادة البديلة، كما ذكرت آنفاً، وإمّا لأسباب تتعلق ببنية المجتمع الفلسطيني وقدراته على الصمود في وجه سياسات الخنق الاقتصادي التي لم يسبق لها مثيل، بالإضافة إلى حملات التنكيل، وجميع أشكال القبضة الجديدة، وإمّا لأسباب خارجية تتعلق أساساً بسياسات وإجراءات بطش جيش الاحتلال وتنكيله بالانتفاضة وقياداتها، وبالمجتمع الفلسطيني ككل.

وأستطيع كإنسان عاش تجربة الانتفاضة الأولى من داخلها أن أضع الملاحظات والاستخلاصات التالية في ضوء التجليات المذكورة لعلاقة الانتفاضة بمنظمة التحرير:

1– عانت الانتفاضة، بالتدريج، من التدخل المباشر من جانب قيادة الخارج في تفصيلات نشاطاتها اليومية، وما يصدر عنها من بيانات ومواقف، ولم تكتف القيادة بإعطاء التوجهات العامة. ولعل أخطر هذه التدخلات ما تعلق منها بالموقف من اجتياح صدام حسين للكويت في 2 / 8 / 1990، إذ كانت القيادة في تونس ترفض وتصرّ على حذف أي إدانة لهذا الاجتياح في بيانات الانتفاضة، الأمر الذي أوقع هذه الأخيرة في مأزق أخلاقي وسياسي ووطني، فكيف لانتفاضة ضد احتلال أن تسمح لنفسها بتأييد احتلال شعب شقيق آخر أو الصمت إزاء هذا الأمر!

2– عانت الانتفاضة، بالتدريج، من تراجع المبادرات الإبداعية في نشاطاتها، وطغيان شكل الإضراب التجاري، الأمر الذي أنهك المجتمع الفلسطيني، وخصوصاً بسبب عدم ضبط إيقاع الانتفاضة ونشاطاتها وفق قدرة المجتمع على التحمل والصمود لفترة طويلة.

3– مشكلة تدفق الأموال من الخارج بدون آليات ضبط، أو تحديد أولويات واضحة لصرفها بعيداً عن العقلية الزبائنية التي كثيراً ما أدت إلى الفساد والإفساد، وإلى تسلل نزعة المقابل المادي لكل تضحية، بدلاً من الانخراط العفوي الطوعي الأصيل الذي جسد روح الانتفاضة لدى انطلاقتها.

4– بروز مجموعات مسلحة تعمل بدون ضبط لنشاطها، من حيث ممارساتها وضرورة تكاملها مع الإيقاع الرئيسي الشعبي للانتفاضة، من دون إدراك قيادة م.ت.ف. لأهمية الحفاظ على الطابع الشعبي للانتفاضة، وضبط أي فعل أو مجموعة مسلحة ضمن السياق الرئيسي الشعبي، الأمر الذي أدى إلى نمو ظاهرة الفلتان الأمني التي عانى جراءها المجتمع الفلسطيني طويلاً فيما بعد.

5– وبعد مؤتمر مدريد في تشرين الأول / أكتوبر 1991، ثم مفاوضات واشنطن، تكرر العجز القيادي عن امتلاك القدرة على ضبط إيقاع الفعل الانتفاضي، مع الفعل السياسي والتفاوضي، بما يخدم الاستراتيجيا الفلسطينية العليا. ومع أن تجارب العديد من حركات التحرير كانت غنية بدروس ضبط إيقاع المفاوضات وتعليقها أو الانسحاب منها، مع إيقاع المقاومة على الأرض ومتطلباتها، واعتبار أن الأصل هو المقاومة على الأرض، وأن قوة الموقف على طاولة المفاوضات إنما تأتي من قوة المقاومة على الأرض، إلاّ إن القرار بوقف الانتفاضة جاء مبكراً وغير مشروط قبل توقيع اتفاق أوسلو رسمياً، كمن يلقي السلاح قبل استكمال التفاوض وقبل اختبار نيات العدو.

6– إن انطلاق حركة «حماس» وتبنيها برنامجاً موازياً لبرنامج القيادة الموحدة للانتفاضة وبرنامج الإجماع الوطني لمنظمة التحرير، أحدث شرخاً، في الوقت الذي كانت الانتفاضة، كحالة اشتباك محتدم، أحوج ما تكون إلى الوحدة الوطنية بصيغة نموذج الجبهة الوطنية العريضة. ولم تتمكن الحركة الوطنية الفلسطينية منذ ذلك الحين وحتى الآن من بلورة صيغة لشراكة وطنية حقيقية بين جميع أطرافها كمتطلب أساسي لا يمكن تجاوزه لتمكين الشعب الفلسطيني من التصدي لمشروع استعماري استيطاني متوحش بمستوى المشروع الصهيوني.

7– تفاقم هاجس القيادة البديلة فأصبح هاجسين؛ قيادات الفصائل الوطنية في م.ت.ف. في الداخل من جهة، وحركة «حماس» من جهة أُخرى، الأمر الذي كان له أثر لا يستهان به فيما يتعلق بالانزلاق نحو مسار أوسلو بكل نتائجه وتداعياته الكارثية. وطبعاً كان للإسرائيليين والأميركيين والعديد من الأنظمة العربية، بالإضافة إلى العديد من القيادات والقوى الفلسطينية وغيرهم، دور في استغلال هذه الهواجس بوسائل شتى، والمبالغة في خطر القيادة البديلة.

8– ثم كان مشهد الختام للانتفاضة وخذلانها بالتخلي عن جنودها وأبطالها في الحركة الأسيرة بعدم إعطاء الأولوية لإطلاق سراح الأسرى قبل الإقدام على توقيع اتفاق أوسلو في سابقة تترك فيها حركة تحرر وطني جنودها على أرض المعركة، وتتخلى عنهم من دون أن تصرّ على أن يكون إطلاق سراحهم على رأس أولويات أي اتفاق، أسوة بحركات التحرر الوطني الأُخرى، وخصوصاً أن إطلاق سراح جميع المعتقلين كان أمراً متاحاً في ضوء حاجة إسرائيل وكل الأطراف العربية والدولية المعنية الماسة إلى إنجاز اتفاق أوسلو.

ولا يمكن استكمال فهم تجليات علاقة قيادة م.ت.ف. بالانتفاضة وشعبها، من دون الإشارة إلى سلوك قيادة م.ت.ف. بعد عودتها إلى أرض الوطن مع القسم الأكبر من هياكلها المدنية والأمنية. فقد شكلت هذه الهياكل عماد الجهاز الإداري للسلطة الوطنية الوليدة دونما اعتبار لأهمية إعطاء الأولوية لمعيار الكفاءة. بل من الواضح أن الاعتبار الطاغي كان اعتبار الولاء، ونزعة الزبائنية، كأنها توزيع لغنائم انتصار خادع لم تطلّ بشائره بعد، وخصوصاً في ضوء اتفاق يثير عميق التساؤلات أكثر مما يقدم إجابات.

وهكذا، أضاعت القيادة فرصة نادرة لبناء إدارة عصرية وحديثة. يضاف إلى ذلك، أن القيادة القادمة إلى الداخل تصرفت بهاجس فجّ، من نزعة السيطرة حتى لو باللجوء إلى اللعب على الاعتبارات الجهوية والعائلية والعشائرية، كأنها كانت تقلد بذلك الحكام الخارجيين.

ختاماً، وفي ضوء كل ما سبق من تجليات العلاقة الملتبسة بين الانتفاضة وقيادة م.ت.ف.، إذا كان هناك من وصف يلخص المآل الذي آلت إليه الانتفاضة، فإنني لا أجد أدق من وصفها بالانتفاضة المغدورة.

عن المؤلف: 

ممدوح العكر: طبيب وجراح الكلى والمسالك البولية، حاصل على زمالة كلية الجراحين الملكية – إدنبرة، وهو مفوض في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، ونائب رئيس مجلس أمناء جامعة بيرزيت. كما كان عضو الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد (تشرين الأول / أكتوبر 1991) وفي المفاوضات الثنائية في واشنطن (1991–1993) إلى ما قبل توقيع اتفاقات أوسلو.