هل انتقاد سياسات إسرائيل الاحتلالية هو شكل من أشكال معاداة السامية؟ أضواء على النقاش
Date:
13 juillet 2020
Auteur: 

في مواجهة تزايد تفهم عدالة القضية الفلسطينية على مستوى العالم، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة الأميركية وخصوصاً بين طلاب وطالبات جامعاتها، وتنامي التضامن العالمي مع نضال الشعب الفلسطيني، واتساع نشاط حركة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات"، لجأت الأوساط الصهيونية في السنوات الأخيرة إلى "سلاح" جديد، هو المماهاة ما بين "معاداة السامية" و "معاداة الصهيونية"، وذلك بغية منع أي انتقاد يوّجه إلى السياسات الاحتلالية التي ينتهجها حكام إسرائيل. 

وفي مقال له بعنوان" تقولون: "معادين للسامية"؟"، بتاريخ 29 كانون الثاني/يناير  2019 ، ارتأى الكاتب الكندي جان فرانسوا دوليز أنه في مواجهة اتساع حركة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات"، وجد الصهيونيون وأنصارهم في الغرب أن الوسيلة المثلى لمواجهة هذه الحركة هو اتهامها بـ "معاداة السامية" (1). وفي مقال آخر له بعنوان: "ابتزاز معاداة السامية"، بتاريخ 5 آذار/مارس 2019، أكد الكاتب نفسه أن "ملاحقة اليهود واضطهادهم، عبر التاريخ، في أوروبا لا يمنحهم الحق، فيما بعد، باقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، خصوصاً وأن هؤلاء الأخيرين لا يكرهون اليهود بوصفهم يهوداً، وإنما يكرهون أولئك الذين غزوا أراضيهم وصاروا يضطهدونهم"، معتبراً أن هذا الموقف "لا علاقة له بنزعة معادية لليهود تقليدية يتبناها يمين أوروبي وأميركي قديم ، وأن تعنت الطبقة السياسية في إسرائيل وقسم من الرأي العام الإسرائيلي إزاء حق تقرير المصير للفلسطينيين، وتطلعهم إلى إقامة "إسرائيل الكبرى التوراتية" هو الذي يساهم في خلق مشاعر العداء لسياسات إسرائيل في العالم" (2).

مثال على الحملة التي تستهدف منتقدي سياسات حكام إسرائيل

 وفي فرنسا، ومنذ  أن وجّه باسكال بونيفاس، مدير "معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية"، رسالة داخلية إلى قيادة الحزب الاشتراكي الفرنسي في سنة 2001 ، يدعوها فيها إلى تعديل موقفها إزاء الصراع العربي –الإسرائيلي، بحيث يكون "أكثر عدلاً نحو الفلسطينيين ويأخذ في الاعتبار مبادئ كونية تحب فرنسا أن تنادي بها في ظرروف أخرى"، صار بونيفاس يتعرض لحملة تتهمه بمعادة السامية تشنها وسائل إعلام عدة، ويتعرض المعهد الذي يديره لضغوطات كثيرة. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2017، توجه رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك مانويل فالس باستفسار إلى وزارتَي الخارجية والدفاع الفرنسيتين، اللتين تمولان هذا المعهد، لأن "ما يكتبه الجامعي باسكال بونيفاس منذ سنوات يطرح مشكلة". وكان رئيس "المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا"، روجيه كوكيرمان، قد طالب الوزارتين في سنة 2003 بوقف تقديم مساعدات لهذا المعهد. وفي ذلك العام، أصدر بونيفاس كتاباً مخصصاً لمعالجة هذه المسألة، بعنوان: "هل يُسمح بانتقاد إسرائيل؟"، بعد أن لاحظ أن "أي نقد يوجّه للسياسة الإسرائيلية ، وأي محاولة للتعامل مع النزاع في الشرق الأوسط وفقاً لمعايير كونية، وليس دينية، تتم مماهاته "مع الرغبة في تدمير إسرائيل ومع موقف مناهض للسامية"، معتبراً أن هذه الحملة تستهدف"منع أي نقد للسياسة الإسرائيلية ونزع الشرعية عن أي روح نقدية" إزاءها.

وفي مقابلة أجريت معه في 21 كانون الثاني/يناير 2018 بمناسبة صدور كتابه الجديد: "معاد للسامية"، رفض بونيفاس أن يُنظر إليه بوصفه مناصراً للفلسطينيين أو مناصراً للإسرائيليين، مؤكداً أنه مناصر للقانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وأنه يدعم "حل الدولتين" للشعبين، ويدعو فرنسا إلى الاعتراف بدولة فلسطين. وهو يرى أن الحملة التي تستهدفه ترمي إلى إسكاته، معتبراً أنها تعبّر عن "مكارثية جديدة" حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وتطال هذه الحملة كما يتابع عدة مثقفين فرنسيين بارزين، مثل بيرتران بادي، ودومينيك فيدال، وروني برومان، وشارل إدرلين، وحتى إدغار موران. وهو يقدّر أن مواقفه تنبع من خيارات سياسية وليس إثنية أو دينية؛ فالمسألة ليست بين اليهود والآخرين، وإنما بين اليهود، الذين يدعمون بصورة منتظمة السياسة الإسرائيلية، واليهود الذين يتبنون مبادئ كونية وينتقدون سياسات إسرائيل. وفي نظره، فإن معاداة السامية جنحة بينما معاداة الصهيونية رأي، وأن عدداً كبيراً من اليهود يعتبر نفسه معادياً للصهيونية لاعتبارات سياسية أو دينية، وأن هذا التماهي الحديث بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية لم يبرز سوى لمنع أي انتقاد يوجه للحكومة الإسرائيلية (3).

اندراج الصهيونية ضمن المشروع الاستعماري الأوروبي

في مقال له بعنوان: "معاداة الصهيونية، معاداة السامية، وإيديولوجية استعمارية"، نُشر بتاريخ 25 شباط /فبراير2019، يعتبر الصحافي والمؤرخ الفرنسي ومدير مجلة "أوريان 21" الإلكترونية، آلان غريش، أنه في النقاش الذي يدور في فرنسا حول معاداة السامية، يغيب غالباً بعدان: الأول، هو أنه "خلال النصف الأول من القرن العشرين، كانت أكثرية اليهود معادية للصهيونية (فهل كانوا معادين للسامية أيضاً؟)"، والثاني "أن السمة الرئيسية لهذه الحركة كانت الاندراج ضمن منطق غزو استعماري واستيطاني".

فالصهيونية لم تكن سوى أحد الردود الممكنة، الأقلوي، على "المسألة اليهودية". وخلال القرن التاسع عشر، وقبل الحرب العالمية الأولى، كان معظم يهود أوروبا الوسطى وروسيا يهاجرون إلى الغرب، وخصوصاً إلى الولايات المتحدة الأميركية،  بينما كان كثيرون آخرون يراهنون على الاندماج في مجتمعاتهم الأوروبية.  وكان انتساب اليهود  إلى الحركات الثورية، العابرة للقومية، وخصوصاً الاشتراكية والشيوعية، أحد الردود على التمييز الذي كانوا  يتعرضون له. أما المتدينون، فكانوا في معظمهم يرفضون الصهيونية، معتبرين أن الدولة اليهودية لا يمكن أن تقام إلا بعد ظهور المسيح. وجاء  قيام دولة إسرائيل ليكرس انتصار الحركة الصهيونية، وهو انتصار "كانت قد جعلته ممكناً معاداة السامية التي انتهجها هتلر والمذابح التي ارتكبتها النازية، وهذه الدولة ضمت نسبة متعاظمة من يهود العالم، لكنها بقيت أقل من 40 %".

ويتابع غريش  أن  الصهيونية "ليست الملازمة الإجبارية، والحتمية، لاستمرار وجود هوية يهودية، بل هي خيار من الخيارات"، كما لاحظ مكسيم رودنسون. وهذا الخيار "يمكن انتقاده، ليس فقط كما يجري انتقاد أي إيديولوجية قومية، ولكن أيضاً لأن نتيجته –قيام دولة إسرائيل- لم يكن ممكناً إلا عبر حرمان الفلسطينيين من أراضيهم"، إذ اندرجت الصهيونية– وهو ما كان من الشروط الكبرى لنجاحها- "ضمن المغامرة الاستعمارية، وهذا كان وسيبقى خطأها الرئيسي". فهي، ارتبطت في فلسطين بالحركة الاستعمارية على مستويين:  "من خلال موقفها من السكان "الأصلانيين"، ومن خلال تبعيتها للدولة الاستعمارية، بريطانيا، أقله حتى سنة 1939". ويعود غريش إلى الماضي مستشهداً  بكتابات بعض رموز صهيونية، فيذكر أن تيودور هرتزل كتب إلى سيسيل رودس، أحد الغزاة البريطانيين لأفريقيا: "إن برنامجي هو برنامج استعماري". أما زيف جابوتنسكي، زعيم الحركة الصهيونية التحريفية، فقد عبر عن سعادته "لأن اليهود، والشكر لله، ليس لهم ما يجمعهم  مع ما يُطلق عليه اسم "الشرق". ونحن سنساعد الذين يعانون من الجهل، والذين يرتبطون  بتقاليد وأعراف روحية شرقية قديمة، وسنذهب إلى فلسطين من أجل "صالحنا" القومي في المقام الأول،  ومن ثم من أجل انتزاع، بصورة منتظمة، أي أثر لـ "الروحية الشرقية"". بينما مردخاي بن هيلل ها كوهين، وهو أحد اليهود الذين أقاموا في القدس، فقد كتب: "نحن هنا في فلسطين السكان الأكثر تمدناً، ولا أحد هنا يستطيع منافستنا على الصعيد الثقافي. فمعظم السكان الأصليين هم من الفلاحين والبدو الذين يجهلون كل شيء عن الثقافة الأوروبية، وما زال يلزمهم وقت قبل أن يتعلموا العيش من دون نهب، وسرقات، وأعمال إجرامية أخرى". في حين أن موشيه كتساب، الذي كان يشغل منصب رئيس  إسرائيل [قبل أن يحاكم ويسجن بتهمة الاغتصاب]، فقد أعلن في أيار/مايو 2001: "يوجد فارق كبير بيننا وبين أعدائنا، ليس فقط فيما يتعلق بالقدرات، وإنما أيضاً على الصعدين الأخلاقي والثقافي، وعلى صعيد الاعتقاد  بالطابع المقدس للحياة، وعلى صعيد الوعي...إنهم جيراننا هنا، ولكن لدينا الاعتقاد بأنه على مسافات مئات الأمتار يقطن  أناس ليسوا من قارتنا، ومن عالمنا، وإنما ينتمون إلى كوكب آخر".

ويخلص غريش إلى أن قيام إسرائيل على أساس ظلم الشعب الفلسطيني لم يمنع تحولها إلى دولة معترف بها من المجتمع الدولي؛ وبالتالي، فإن تفكير البعض بـ "طرد" الإسرائيليين هو "غير واقعي ولا يمكن الدفاع عنه من الناحية الأخلاقية والسياسية، إذ لا يمكن معالجة ظلم باللجوء إلى ارتكاب ظلم آخر؛ واليوم يعيش في فلسطين شعبان، يمكننا ان نحلم بأن يعيشا في دولة واحدة، وهو حلم لن يكون في إمكان جيلنا رؤيته يتحقق" (4).

توظيف معاداة السامية في خدمة المشروع الصهيوني

يرى بروس كاتز وهو الرئيس المشارك لمنظمة "فلسطينيون ويهود متحدون" في مقال له بعنوان: "المفهوم الخاطئ لمعاداة السامية"، بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2019، ان الزعماء الصهيونيين أدركوا منذ مطلع القرن العشرين أن معاداة السامية يمكن أن تخدم مشروعهم الكولونيالي، وكان مؤسس الحركة تيودور هرتزل واضحاً جداً في هذا الصدد. ففي كتاباته الأولى، أعلن أن الحكومات المتأثرة بظاهرة معاداة السامية ستكون "مهتمة جداً بمساعدتنا على الحصول على السيادة التي نتطلع إليها". وخلص في يومياته إلى أن "المعادين للسامية سيصبحون أصدقاءنا الأكثر موثوقية، وستصبح الدول المعادية للسامية حليفاتنا". ويتابع كاتز أن اللورد آرثر جورج بلفور كان، عندما أصدر التصريح الذي ارتبط باسمه في سنة 1917، واحداً من هؤلاء المعادين للسامية "الأكثر موثوقية"؛ فهو اشتهر بعدائه لليهود، ولعب دوراً بارزاً في سنة 1905، في إقرار قانون يمنع اليهود الذين كانوا يتعرضون للملاحقات والمذابح في روسيا من الهجرة إلى بريطانيا. ويضيف كاتز أن موقف هرتزل هذا لم يُعبّر عن استراتيجية على المدى القصير، وإنما عن استراتيجية على المدى البعيد لا تزال الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تتبعانها حتى اليوم، وهو ما نلمسه في العلاقات التي تنسجها حكومة أقصى اليمن الإسرائيلي، برئاسة بنيامين نتنياهو، مع الحكومات والمجموعات الأوروبية "النيو فاشية"، إلى حد "أن الحاخام بنشاس غولدشميدت رئيس مؤتمر حاخاميي أوروبا دعا الحكومة الإسرائيلية إلى وقف التزامها مع أحزاب أقصى اليمين في اوروبا، وحذر المسؤولين الإسرائيليين من أن التقارب مع المجموعات القومية في أوروبا يهدد الجاليات اليهودية المحلية" (5).

معاداة الصهيونية لا تتماهى مع معاداة السامية

يرى المؤرخ والصحافي الفرنسي دومينيك فيدال، أن المساواة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية "هي غريبة، لأنها تخلط ما بين جنحة هي العنصرية المناهضة لليهود، التي يدينها القانون مثل أي شكل من أشكال العنصرية، وبين رأي يخالف ما يقال عن عدم إمكانية إندماج اليهود في مجتمعاتهم وحاجتهم بالتالي إلى دولة حيث يوجدون جميعهم، كما يخالف سياسة هذه الدولة". فمعادة السامية هي ظاهرة "عرفها تاريخ أوروبا أكثر من تاريخ العالم العربي، وجرى التعبير عنها من خلال أشكال التمييز إزاء اليهود، وطردهم وارتكاب مذابح بحقهم، وهي مذابح بلغت ذروتها من خلال المحرقة النازية، التي استهدفت بصورة رئيسية اليهود، إذ تم القضاء على نصف يهود أوروبا، لكنها استهدفت كذلك الغجر، والسلاف، والمرضى العقليين". وهي ظاهرة راحت تتراجع –كما يتابع- بعد الحرب العالمية الثانية، وصارت اليوم تمثل "إيديولوجية هامشية، بينما هناك ما يشبه الإجماع على تبني ظاهرة "الخوف من المسلمين"". بيد أن بعض المثقفين يتحدث عن معاداة سامية "مقنعة خلف الانتقادات الموجهة إلى إسرائيل وإلى الصهيونية" ويحملها إلى "النزعة الإسلامية الراديكالية وايديولوجيات العالم الثالث وأقصى اليسار".

وإذ يؤكد فيدال أن النضال ضد العنصرية ومعاداة السامية "يظل  ضرورياً لمواجهة كل أشكال الكراهية لليهود"، يقدّر، بخصوص الصهيونية، أنه حتى الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من وقوع فلسطين تحت سيطرة بريطانيا التي تبنت مشروع إقامة "الوطن القومي اليهودي"، لم يجد خلفاء هرتزل "صدى واسعاً بين اليهود، بل كانت الحركات السياسية اليسارية اليهودية بمعظمها تعارض طموحهم السياسي،  كما كان المتدينون الأرثوذكس يعارضونها بشدة لأنه لم يكن في وسعهم تصور قيام دولة يهودية قبل وصول المسيح؛ وفقط حركة "مزراحي" الدينية وحدها هي التي  لم تجد تناقضاً بين الإيمان الديني ورؤية هرتزل، وكان ينبغي انتظار حلول سنة 1949 حتى يقوم عدد أكبر من المتدينين بالتوصل إلى مساومة مع الدولة اليهودية الفتية".  ويتابع أن الأكثرية الساحقة من اليهود الذين غادروا أوروبا الوسطى والشرقية "توجهوا نحو أوروبا الغربية وخصوصاً نحو الولايات المتحدة الأميركية، أي نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون ما بين 1881 و 1924، عند صدور قانون يحد من الهجرة إلى الولايات المتحدة. وفي المقابل، وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية لم يكن في فلسطين الانتدابية سوى 460000 يهودي، أي ما نسبته  9 ، 2 % من عدد اليهود في العالم، وذلك على الرغم من أن صعود النازية تسبب في تسريع حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، إذ وصل إليها ما بين 1932 و 1939 247000 بمعدل 30000 كل سنة، أو أربع مرات أكثر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية". ولم يكن الخيار الصهيوني هو "الدافع الرئيسي لتلك الهجرة بقدر ما كان الهروب من الملاحقات، وهو ما سهّله التوصل إلى الاتفاقية التي عقدتها المنظمة الصهيونية العالمية مع الحكومة النازية في 25 آب/أغسطس 1933، والتي سمحت لليهود الذين يهاجرون إلى فلسطين بأن يستعيدوا هناك قسماً من  ممتلكاتهم على شكل منتجات مصدرة من ألمانيا، الأمر الذي مكّن عشرات الآلاف من اليهود الألمان من إنقاذ حياتهم، علماً بأن هذه الاتفاقية كلفت حاييم أرلوسوروف، الذي فاوض عليها باسم المنظمة الصهيونية، حياته، إذ تم اغتياله على شواطئ تل أبيب في سنة 1933 ".  

بيد أن المحرقة النازية –كما يضيف فيدال- "قلبت الأمور رأساً على عقب، إذ هي أودت بحياة نحو ستة ملايين يهودي، وحالت دون عودة مئات الآلاف الآخرين إلى مواطنهم. فواشنطن رفضت منحهم سمات دخول إلى  أراضيها،  وتوجه عدد كبير منهم إلى فلسطين، ثم إلى إسرائيل، حيث وقعت الحرب وتم طرد 800000 عربي فلسطيني. وبعد سبعين عاماً، وعدة موجات من الهجرة التي شهدتها بعد تأسيسها، لا تضم إسرائيل اليوم سوى ستة ملايين ونصف مليون يهودي، الأمر الذي يعني أن أكثرية يهود العالم، الذين يبلغ عددهم 16 مليوناً، يعيشون خارجها. كما لا يجب تجاهل حقيقة أن مئات الآلاف من الإسرائيليين تركوا إسرائيل، إذ يقطن في برلين وجدها أكثر من 10000 إسرائيلي".

فهل ينبغي النظر إلى أولئك اليهود "الذين قاوموا، من جيل إلى آخر، صفارات الصهيونية بوصفهم معادين للسامية؟ أو ببساطة اعتبارهم مواطنين يفضلون مواصلة حياتهم في وطنهم القديم أو الذي استوطنوا فيه خارج إسرائيل؟"؛ ويخلص فيدال إلى أن مناورة حكام إسرائيل وأنصارهم تتمثل "في تجريم أي انتقاد لسياساتهم لأنهم يعرفون انهم معزولون. والدليل هو الاعتراف المتزايد بدولة فلسطين في الأمم المتحدة وهيئاتها، والتأييد المتزايد لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه. وهذه العزلة التي تعاني منها إسرائيل لا يبدو انه ستضعف، خصوصاً وان قوى اليمين القومي المتطرف الحاكم في تل أبيب، تنوي، مستفيدة من دعم إدارة ترامب، الانتقال من الاحتلال إلى الضم، والقضاء على "حل الدولتين" لصالح دولة واحدة ستكون دولة أبرتهاديد" (6) .  

وفي مقال بعنوان: "كيف تتلاعب إسرائيل بالنضال ضد معاداة السامية"، بتاريخ 19 شباط/فبراير 2019، كتب دومينيك فيدال نفسه وبرتران هيلبرون أن ما يهم حكومة إسرائيل، والكثير من داعميها، "ليس المعركة المبررة ضد معاداة السامية، كما يثبت ذلك تناغم بنيامين نتنياهو مع قوى اليمين المتطرف في أوروبا، وإنما ما يهمها، في المقام الأول، هو إفساد هذه المعركة للحط من قيمة التضامن مع الفلسطينيين، كما يثبت ذلك النقاش حول تعريف معاداة السامية". فالتحالف الذي ينسجه بنيامين نتنياهو "مع الشعبويين والفاشيين الجدد، وخصوصاً في أوروبا، يخلق صدمة"، إذ كيف يمكن "قبول واقع أن رئيس وزراء الدولة التي تشير غالباً إلى المحرقة كي تبرر سياساتها يتناغم مع زعماء يشيدون بالمتعاونين مع النازية، مثل فيكتور أوربان في هنغاريا، أو ينتمون بكلمات بالكاد مخفية للفاشية، مثل ماتيو سالفيني في إيطاليا".

ويتابعان أنه  في سنة 2015، وغداة عدوان قاتل على قطاع غزة أدانه المجتمع الدولي على نطاق واسع، شن اللوبي المؤيد لإسرائيل هجوماً، كان قد أجهض قي سنوات 2000، يرمي إلى طرح تعريف لمعاداة السامية يتضمن أي انتقاد يوجّه لسياسات إسرائيل. وفي سنة 2016، تبنى "التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة"، وهو منظمة دولية تأسست سنة 1998 وتضم 31 دولة، تعريفاً ينص على أن معاداة السامية "هي تصور ما لليهود يمكن التعبير عنه بكراهية اليهود؛ وتظاهرات معاداة السامية، المادية والمعنوية، يمكن أن تستهدف مؤسسات الجالية اليهودية أو الأماكن الدينية". وفي البيان الصحفي الصادر عن هذا الاتحاد في أيار 2016 ، تم تعداد عدد من الأمثلة التي تخدم معظمها وظيفة مماهاة  نقد إسرائيل بمعاداة السامية. وكانت بريطانيا من بين الدول التي تبنت هذا التعريف في أواخر سنة 2016، وجرت "الحملة الشائنة التي نظمها اللوبي المؤيد لإسرائيل ضد جريمي كوربن في هذا النطاق؛ فأمام الاتهامات التي لا اساس لها التي وجت إليه بمعادة السامية، نجح الضغط الذي مورس على اللجنة التنفيذية لحزب العمال في دفعها إلى تبني تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة"، الذي تبنته حتى اليوم الدول التالية: بريطانيا، النمسا، ألمانيا، بلغاريا، سلوفاكيا، إيطاليا، رومانيا، ومقدونيا.

كما شنت، في هذا النطاق،  كما يضيف فيدال وهيلبرون، حملة لتجريم "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات"، علماً بأنه   في فرنسا "ليس هناك أي قانون يمنع مقاطعة دولة تنتهك القانون الدولي والحقوق الإنسانية في آن معاً، وإلا لكان مقاطعو نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا قد لوحقوا، وهو ما لا يحدث في زمنه". ومع ذلك، فقد تمت محاكمة القائمين على عدد ضئيل من حملات المقاطعة. وفي هذه الحملات ضد حركة المقاطعة "فإن المناورة ترمي إلى إسكات أي نقد يوجه إلى السياسة الإسرائيلية، علماً بأن القانون الأساسي الذي أقره الكنيست في 19 تموز/يوليو 2018 حول القومية قد أضفى طابعاً رسمياً على سياسة الأبرتهايد، إذ هو، بدلاً من تعريف إسرائيل بحسب قانون سنة 1992، بوصفها "دولة يهودية وديمقراطية"، عرّفها بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي"، وأضاف أن "ممارسة حق تقرير  المصير القومي في دولة إسرائيل يخص الشعب اليهودي وحده".

ويشير الكاتبان الفرنسيان إلى  أن  عملية  الهروب إلى الأمام، التي يقوم بها حكام إسرائيل، توسع الهوة بين إسرائيل والرأي العام العالمي، وهو  ما  يبرز في نتائج التحقيقات التي جرت مؤخراً في فرنسا. فبحسب استطلاع أجراه "المعهد الفرنسي لدراسة الرأي العام والتسويق"،  فإن 57 % من الذين عبروا عن آرائهم ذكروا أن لديهم "صورة سيئة عن إسرائيل"، (من بينهم  68 % من الشباب ما دون 35 عاماً من العمر)، و 69%  أن لديهم "صورة سيئة عن الصهيونية" (من بينهم 74 % من الشباب ما دون 35 عاماً)،  و 71 %  يعتقدون "أن إسرائيل تتحمل مسؤولية ثقيلة عن غياب المفاوضات مع الفلسطينيين". فهل يمكن "أن يقال عن كل هؤلاء إنهم معادون للسامية؟"، لا سيما وأن تحقيقاً آخر  أجراه معهد "إبسوس" بيّن  "أن الاشخاص الأكثر انتقاداً لسياسات إسرائيل هم أيضاً الأكثر تضامناً مع اليهود في مواجهة معاداة السامية". ويخلصان إلى أن توظيف النضال ضد معاداة السامية "بما يخدم تأمين الحصانة لدولة تنتهك في كل يوم القانون الدولي هو مسألة خطيرة جداً يمكنها أن تدمر ديمقراطيتنا [الفرنسية]" (7).

وختاماً، فإن إسرائيل، منذ قيامها، لم تجذب معظم يهود العالم، الذين فضلوا البقاء مواطنين في دولهم، ومن بينهم نجد كثيرين يعارضون السياسات الإسرائيلية إزاء الشعب الفلسطيني، كما نجد مثل هؤلاء المعارضين داخل إسرائيل نفسها. وعليه، وكما يقول الكاتب بيير برييه، فإن انتقاد هذه السياسات لا يعني انتقاداً لـ "اليهود"، وإنما يعني انتقاد حكام إسرائيل، لأن إسرائيل هي دولة، لها حكومتها، وبالتالي يمكن تفحص سياساتها ونقاشها وانتقادها مثل سياسات أي دولة أخرى، وأي حكومة في العالم.

 

الهوامش               

 1-https://www.pressegauche.org/Antisemitisme-vous-dites

2-https://www.pressegauche.org/Le-chantage-a-l-antisemitis

3-https://www.20minutes.fr/high-tech/2205691-20180121-pascal-boniface-neo-maccarthysme-autour-conflit-israelo-palestinienht ; https://www.saphirnews.com/Antisemite-Pascal-Boniface-Non-et-critiquer-Israel-n-est-pas-un-delit_a24855.html

4-https://www.pressegauche.org/Antisionisme-antisemitisme-et-ideologie-coloniale  

5-https://www.pressegauche.org/Colloque-CISO-sur-la-Palestine-conference-sur-la-fausse-notion-de-l

6-https://www.pressegauche.org/Antisionisme-antisemitisme-un-amalgame-funeste

7-https://www.pressegauche.org/Comment-Israel-manipule-la-lutte-contre-l-antisemitisme

8-https://orientxxi.info/va-comprendre/critiquer-israel-est-ce-de-l-antisemitisme,1471