Innovations of Vegetable Vendors Hawking in Popular Markets
Date: 
September 08 2023

يرتبط الخطاب المحكي في البيئة الاجتماعية ارتباطاً وثيقاً بالمتغيرات الحياتية، وتنتج منه مجموعة من الظواهر السلوكية المحكية التي تستجيب للأحداث والمواقف والظروف والأفكار السائدة. وفي الإمكان ملاحظة هذه الظواهر في أماكن التفاعل العامة، سواء ضمن سياق المحادثات اليومية بين الناس، أو من خلال التفاعلات اليومية على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها.

وفي الأسواق، تبرز هذه الظواهر المحكية في كلام الباعة؛ ناهلين مما لديهم من ثقافة شعبية، بالإضافة إلى ما يكتسبونه من مهارات وخبرات في المناداة على بضائعهم، وما يرثونه من تجارب البائعين عبر أعوام طويلة في التعامل مع أصناف من السلع ينادى عليها بطريقة معينة في موسمها. ولأن الواقع الفلسطيني يختلف عن بقية مجتمعات العالم في كثير من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي نتجت من ذهنية شعب يصارع دائماً تحديات لا تنتهي، ويقف أمام فرص الموت بكثرة؛ فقد أنتج باعة الأسواق الشعبية، وخصوصاً باعة الخضار، ظواهر سلوكية كلامية مبدعة، تكتسب إبداعها واختلافها عن المألوف من الواقع الفلسطيني المختلف عن المألوف.

يُشار إلى أن الخطاب الكلامي عبارة عن مجموعة من القوالب الجاهزة، أو التي ما زالت في طور التجهيز والتناقل، تتحرك من جيل إلى آخر، وتنتقل بين الأفراد، ضمن سياقات وأحداث ومواقف مختلفة، تسهم كلها في إنتاج هذا القالب الخطابي، الذي يعبّر به الإنسان عن المعنى المقصود، على اختلاف مجالاته؛ فالخطاب ليس محصوراً في اللغة؛ قواعدها ومفرداتها، ولا المضمون، بل هو العملية الكلية للاتصال والتواصل، تشمل الصوت والصورة والحركة والإشارة والكلمة، وكل ما يمكن أن يتدخل في عملية إنشاء الكلام، ليس الكلام البسيط بالمعنى المبني على النطق بألفاظ على فوضويتها، بل الكلام بمعنى الناتج النهائي، بما يشمله من إيحاءات وإشارات ودلالات تصل إلى المتلقّي. وبالنظر إلى أصوات مناداة البائعين في سوق بيت لحم القديمة للخضار كنموذج، نجد أنهم يمارسون حالة من الأدب الإبداعي الشعبي، الذي يمكن إدراجه في إطار الأدب العفوي غير المنظم، المبني على الحاجة والفطرة والنزعة الجمعية، من خلال ما يبدعون فيه من مناداة ترتبط في كثير من الأحيان بظروف الحياة، والأحداث المحورية التي نمر فيها.

ومن المهم أن نولي أهمية كبيرة للصياغات والسياقات اللغوية الموروثة عبر الحياة الاجتماعية، والتي يصطلح المجتمع على توظيفاتها واستخداماتها ودلالاتها بشكل عفوي، وتنتقل عبر الزمن من جيل إلى جيل. وهو ما يمكن أن أطلق عليه مسمى "الاتفاق غير المقصود"، أو "المحاكاة الحتمية"؛ الذي به يتفق المجتمع على توظيف خطابات معينة في مواقف معينة تصير متناقلة بين أفراد المجتمع، ويمكن لها أن تعيش مدة زمنية طويلة، ولا يمنع ذلك إنتاج مزيد من الخطابات بالتزامن مع هذه القوالب أو بعدها، وقد يموت بعضها مع الزمن وينتهي توظيفه، وهذا التوظيف المتوارث اجتماعياً محلياً وعالمياً- جاء من محاكاة حتمية في العقل الباطن من دون وعي ظاهري بأن الإنسان يمارسها لهدف أو معنى محدد.

ويندرج في هذا الإطار النمط التقليدي من المناداة التي يعتمد عليها بائعو الخضار في سوق بيت لحم القديمة، في مناداتهم على سلع معينة مناداة اتفق عليها البائعون عبر الزمن، كأن ينادوا على بعض الخضار المعروفة بعبارات مثل: "أحمر وحلو يا بطيخ، ع السكين يا بطيخ"، و"ريحاوي يا موز"، و؛ "خليلي يا عنب حلاوة يا عنب"، وغيرها من العبارات التي يحفظها معظم أفراد المجتمع، حتى الأطفال يوظفونها أحياناً في ألعابهم، وهو ما يفسر كيفية انتقالها بهذا الشكل.

أما المناداة التي تتميز بالجانب الإبداعي أكثر من غيرها، والتي تنتج من جهد شخصي من البائع، وترتبط بالواقع ارتباطاً وثيقاً، مما لوحظ في سوق الخضروات القديمة في مدينة بيت لحم في أحداث عدة ترتبط بالمجتمع والسياسة والثقافة والرياضة؛ أهمها اقتحامات جيش الاحتلال الإسرائيلي التي اعتادتها المدينة، ومن أمثلتها ما سجلته في موسم بيع ثمرة "البوملي" في السوق، فوظفها عدد من البائعين في نداءاتهم، متأثرين ببعضهم، ولا نعرف مَن منهم كان رائد إطلاقها، حين نادوا: "بو بوبوووبوملييييي". بمد الواو في "بو" الثالثة، والياء في كلمة بوملي، واستوحوا المناداة من لفظة "بو" في اللغة العبرية "לבוא" وتعني "تعال".

ويقع الابتكار في هذه المناداة – على سبيل المثال لا الحصر- في أن البائع يدرك تماماً كيف يلفت انتباه المشتري، فيخاطبه بأكثر الأحداث ارتباطاً بالواقع الحالي وجدة، في نظره.

ومن الأمثلة كذلك، ما نادى به منادو الخضار في سوق بيت لحم القديمة، حين انتشر وباء كوفيد 19، كورونا، وقد كان لافتاً للانتباه أن البائعين الذين ابتدعوا المناداة الأولى هم أنفسهم مَن ابتدعوا الثانية، ولحقتهم بقية البائعين، ومن الأمثلة عليها: "هي البرتكان (البرتقال) فيتامين سي، الخمسة بعشرة أحسن من إبرة كورونا"، ومنها: "اللمون بثلاث الكيلو يلا عالليمون أجاكوا الموت اشتروا الليمون والحقوا حالكوا". في إشارة إلى الفواكه والخضار التي تساعد الإنسان في مواجهة الأنفلونزا وتزود الجسم بفيتامين سي، وهو ما يعكس الثقافة العامة للمجتمع في هذا الجانب. إلا أنه من غير الواقعي أو الناجح لنا أن ننظر في العبارة المكتوبة من دون تسليط الضوء على النبرة التي قيلت فيها، وحركات الجسد في أثناء الإلقاء، والتي تميزت بالنبرة العالية التحذيرية، أشبه ما يكون بمناداة صاحب رسالة يريد من المجتمع الانتباه إليها والالتزام بها. ففي المناداة الأولى، ركز المنادي على كلمة "البرتكان" و"كورونا"، وهما محور الحديث كله، أما في الثانية، فقد ركز على التفخيم والمد لكلمتيْ "الموت" و"الليمون" الثانية، كي يتم له ما أراد من المعنى والدلالة. وإن ذلك لا يكون اعتباطياً، وليس وليد الصدفة، إنما هذا وليد الوعي والانتباه إلى عملية الابتكار، وفهم من المتكلم ما يقدمه في فعل الكلام.

وهنا يشير الباحث، بوضوح، إلى أهمية دراسة النص، صوتياً وسياقياً وسيكولوجياً، من خلال ما يصاحب الجمل والعبارات والناتج الكلامي "الحكاية" من رموز وإشارات جسدية ونبر أو تنغيم صوتي يسهم في بناء المعنى وتشكيله، والتأثير في مستوى الرسالة، وطريقة تفاعُل المتلقّي مع المضمون، والهيئة التي يؤخذ عليها الخطاب، لكن إهمال التركيز عليها في الدراسات اللسانية الاجتماعية سابقاً قد يعود إلى كوننا مررنا بحقبة من التنظير الخطابي لم تكن قد توسعت بعد في هذا الاتجاه، إذ كان البحث والدرس مقتصريْن على الأكثر في تحليل الكلام المجرد في الخطاب المكتوب في أغلبه، ميول لا بأس به في اتجاه المنطوق، إلا إن المكتوب، في ظل التركيز على المواد المكتوبة والمطبوعة، حاز القسم الأكبر من الاهتمام.

ولنؤكد ذلك، نقدم مثالاً إضافياً لهذه الظاهرة، حين أصدرت الحكومة الفلسطينية قراراً بالبدء بتطبيق قانون الضمان الاجتماعي، وقد جاءت ردة الفعل نحوه بالرفض الجماهيري، ومواجهته بالتظاهرات، فكان حديث الساعة حينها، فنادى أحد الباعة في سنة 2017: اشترييييي يا حبيبي اشتريييي، اشترييي قبل ما يجي الظماااان ونشحد!" بأسلوب موسيقي، بمد الياء في الفعل "اشتري" والألف في "الظمان"، أي الضمان الاجتماعي، وفي هذه المناداة وعيد وتهديد بأن الناس ستفلس؛ فاشتروا قبل أن ينفد مالكم ويذهب إلى الحكومة. وعلى الرغم من بساطة منتج الكلام، اجتماعياً وثقافياً، إلا أنه عبّر عن ثقافة شعبوية مبدعة في الاتصال والتواصل مع الجمهور، بكسب انتباهه ودعوته، رغماً عنه، إلى الاستهلاك، كأنه إن لم يشترِ الآن، سيضيع ماله من دون مقابل.

ومن الشواهد الأُخرى المسجلة في إبداع البائعين في المناداة على بضائعهم، ما سجله الباحث في سياق انتخابات المجلس البلدي في مدينة بيت لحم سنة 2022، حين نادت إحدى البائعات – التي اعتادت افتراش الدرج- وبيع الخس والميرمية والخضار البلدية التي تشتهر بها مدينة الخضر خصوصاً: "هي الميرمية للممغوص من البلدية". وكانت المواصفات الصوتية لتلك المناداة تقليدية عادية، من دون محاولة منها لصناعة أي نغمات تحقق دلالات محددة، إلا إن شخصيتها المطابقة للمرأة الفلسطينية الجدة، كانت ذا أثر في المشاة على الدرج، صعوداً ونزولاً.

ويُشار في هذا الموضع إلى أن ارتباط المناداة بالواقع، وطبيعة المضمون الذي أرادت المنادية أن تصل به إلى المتلقّي، قد وصلا بدلالتهما عن طريق الكاريزما الشخصية للفاعل، أي بالاعتماد على الهيئة والنظر إليها، وهو ما يؤكد ارتباط النص في سياق ما، بالجانب الشكلي لمرسل النص، وما يحمله هذا الشكل من تراكمات في الذهنية التي تتلقاه.

هذا توصيف بسيط لظاهرة لا يمكن لعلم اللغة الاجتماعي أن يغض الطرف عنها؛ ففيها استنتاجات مهمة للسلوك اللغوي الاجتماعي وعلاقته بالثقافة المجتمعية، وأحداث الواقع على اختلاف تفاصيله ومجالاته، وهي ظاهرة خاضعة للدراسة في سوق بيت لحم القديمة للخضار واللحوم منذ أكثر من عامين، وسيكون لها، في حال نشرها – استنتاجات مهمة في مجال العلاقة بين السلوك اللغوي الإنساني في الكلام، وما يحمله من أفكار وثقافات وحالات نفسية.

Read more