Biden’s Perspective on America’s Global and Middle East Policy
Full text: 

منذ أن ظهرت الحاجة إلى إعطاء منطقة آسيا والمحيط الهادىء الأولوية في الاستراتيجيا الكبرى للولايات المتحدة، أصبح الاستنتاج المنطقي لمثل هذه الأولوية هو "فك الارتباط" عن الشرق الأوسط. لكن هناك مفارقة أساسية، فضلاً عن مغالطة منطقية أساسية في استراتيجيا فكّ الارتباط عن الشرق الأوسط، وتأتي تحت عنوان "منافسة القوى العظمى" مع الصين وروسيا. فإذا كانت الولايات المتحدة جادة في مواجهة النفوذ الروسي والصيني العالمي، فلماذا تنفصل عن منطقة ذات أهمية استراتيجية واقتصادية قصوى باتت موسكو وبكين تملآن الفراغ فيها؟

برز منذ سنة 2010 افتراض بأن مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تضاءلت، وبالتالي فإن المشاركة الأميركية يجب أن تنخفض أيضاً، وبناء عليه، بدأت إدارة أوباما الحديث بشكل علني عن الحاجة إلى "التمحور في آسيا" في سنة 2011.[1] واستمر هذا الاتجاه مع إدارة ترامب، وأصبح رسمياً وواضحاً في وثائق الرؤية الاستراتيجية، إذ أعلنت إدارة ترامب في استراتيجيتها للأمن القومي للبيت الأبيض لسنة 2017، واستراتيجيا الدفاع الوطني لسنة 2018 للبنتاغون، أن الولايات المتحدة منخرطة الآن في "منافسة كبيرة بين القوى العظمى مع روسيا والصين."[2] وهكذا، ولّت الأيام التي كانت فيها مكافحة الإرهاب والتمرد في منطقة الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا تحظى بالاهتمام كله على حساب غيرها من الشؤون. وبالتالي باتت الحاجة إلى فصل الجيش الأميركي عن المنطقة التي شارك فيها في "حروب لا نهاية لها"، منذ سنة 2001، واردة ضمنياً من خلال منطق إعطاء روسيا الأولوية، والصين بصورة خاصة.[3]

أمّا فيما يتعلق بإدارة بايدن، فإن جميع المؤشرات الاستراتيجية (مثل الدليل الاستراتيجي للأمن القومي الموقت الصادر عن البيت الأبيض) تشير إلى أن الشرق الأوسط، باستثناء الاتفاق النووي مع إيران، لا يبدو أنه يمثل أولوية.[4] وبالتالي، فإن النفوذ الأميركي بات في حالة هشّة في العديد من النقاط الرئيسية في منطقة أوراسيا، مثل باكستان وتركيا، حيث تمتلك الصين القدرة على إيذاء الولايات المتحدة رداً على الجهود المبذولة لبناء تحالف لاحتواء بكين.[5]

كما أنه ليس من قبيل المصادفة أن تقوم الصين بمثل هذه التحركات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، في الوقت الذي تكثف إدارة بايدن التحالفات الديمقراطية ضد الصين، مع الثلاثي الذي يتكون من الهند واليابان وأستراليا، فترد بكين على هذا الرباعي من خلال بناء شراكات جديدة خاصة بها، في جزء من العالم غير معروف بالحكم الديمقراطي الذي لا يزال مع ذلك يُعتبر مجال نفوذ أميركي رئيسياً.

في 28 آذار / مارس 2021، وقّعت الصين وإيران رسمياً اتفاقية "شراكة استراتيجية شاملة"، كانت في قيد الإعداد منذ سنة 2016. كما عززت الصين استثماراتها في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وتركيا ومصر والقرن الأفريقي.. إن إضفاء الطابع الرسمي على المحور الإيراني - الصيني - الباكستاني يرفع العلاقات الثنائية بين هذه الدول إلى مستوى استراتيجي جديد، ويأتي في وقت تحقق بكين اختراقات اقتصادية وعسكرية محتملة في الشرق الأوسط.

ومع أن العملية تعود إلى سنة 2016، إلّا إن توقيت الاتفاق الصيني الاستراتيجي مع إيران ليس منفصلاً عن تدهور دينامية العلاقات الصينية - الأميركية الذي ظهر مؤخراً في مدينة أنكوريج في إطار نقاش علني ساخن بين مسؤولين صينيين وأميركيين[6]. وللحقيقة، فإن زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي الرسمية الطويلة إلى الشرق الأوسط بعد فترة وجيزة من هذه المواجهة الحادة مع الولايات المتحدة، تحمل قيمة رمزية كبيرة لم تغب عن واشنطن.

كما شاهدت واشنطن أنه بعد 72 ساعة فقط من قمة ألاسكا في أنكوريج، استقبل وزير الخارجية الصيني نظيره الروسي لافروف في الصين حيث شجب كلاهما اعتماد الولايات المتحدة على "التحالفات العسكرية السياسية لحقبة الحرب الباردة." وأعلن لافروف أيضاً أن الصين وروسيا "دولتان ذات تفكير مماثل"، وأنهما تعزمان على توحيد الجهود لتفكيك قبضة الدولار الأميركي عن نظام المدفوعات الدولية الذي يعزز العقوبات الأميركية.[7] وكان من الصعب تجنّب الانطباع بأن جدول أعمال بايدن لبناء "تحالف الديمقراطيات" من أجل احتواء موسكو وبكين، يستجرّ رداً من الصين وروسيا على شكل "تحالف الأنظمة الاستبدادية" التي تريد أيضاً أن ترى إيران وباكستان وتركيا إلى جانبها.[8]

المنطق الأميركي لفكّ الارتباط

يبدأ وضع الاستراتيجيا بالافتراضات والتقييمات، واستراتيجيا الولايات المتحدة التي تريد إعطاء منطقة آسيا والمحيط الهادىء الأولوية ليست استثناء، بل إنها تعزز على الأقل ثلاثة مفاهيم بشأن تناقص المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، هي:

أولاً، الاعتقاد أن نفط الشرق الأوسط لم يعد يشكل نسبة كبيرة من استهلاك الطاقة الأميركية[9]. وبالتالي، فإن هناك تصوراً أميركياً للتقليل من الاعتماد على النفط الإقليمي، والذي تغذيه ثورة الطاقة المحلية.

وفي الواقع، فإن الولايات المتحدة لم تكن تعتمد قط بشكل مباشر على نفط الشرق الأوسط، بل إنها تقليدياً، تستورد كثيراً من النفط من المكسيك وكندا وفنزويلا، وبالتالي، لم تكن الحاجة إلى شراء نفط الشرق الأوسط هي السبب في أهمية هذه المنطقة. فضلاً عن ذلك، فإن عجرفة استقلال الطاقة الأميركية القائمة على ثورة النفط الصخري، تستند إلى أسس مالية هشة، بسبب طبيعته الباهظة الثمن،[10] واليوم، يؤدي انخفاض أسعار النفط إلى زيادة الضغط على شركات النفط الصخري المتعسرة والتي تحتاج إلى إنقاذ مالي.[11]

إن النهج العقلاني لمسألة الطاقة في الشرق الأوسط والسياسة الخارجية للولايات المتحدة، يجب أن يبدأ بالمبادىء الموضوعية للاقتصاد السياسي والاستراتيجيا الجيولوجية: النفط سلعة عالمية، وإنتاج النفط في الشرق الأوسط له التأثير الأكثر مباشرة في أسعار النفط العالمية، وبالتالي فإنه يؤدي دوراً حاسماً في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي العالمي. ونظراً إلى أن المنطقة لا تزال ذات أهمية قصوى في تحديد سعر النفط، فإن الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط يتجاوز بكثير حاجاتها إلى الطاقة، ذلك بأن ضمان استقرار إنتاج النفط وتجارته له تأثير مباشر في قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في تشكيل سوق النفط العالمية، وبالتالي دورها في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي العالمي. وحتى لو قلصت الولايات المتحدة اعتمادها على نفط الشرق الأوسط، فإن حلفاء واشنطن الأوروبيين والآسيويين لا يزالون بحاجة إلى الوصول، ومن دون انقطاع، إلى موارد الطاقة في المنطقة. كما أن وقوع اضطرابات في التجارة البحرية ومراكز شحن الحاويات الدولية في حوض بلاد الشام وقناة السويس، سيكون له آثار عالمية فورية وبعيدة المدى.

ثانياً، إن الافتراض الذي يعزز الحاجة إلى فكّ الارتباط، هو التصور أن إسرائيل آمنة ومتفوقة عسكرياً على أي خصم إقليمي. لقد أصبح السعي الأميركي لتحقيق سلام إسرائيلي - فلسطيني غير مجدٍ في سياق بات العالم العربي يتعامل فيه أيضاً مع الوضع الراهن. وفي هذا السياق، يمكن القول إن هذه الحجة اكتسبت صلاحية متزايدة في أعقاب اتفاقيات أبراهام التي مهدت الطريق لإقامة علاقات دبلوماسية وتجارية رسمية بين إسرائيل والإمارات والبحرين. والأمل الأميركي هو أن تتّبع المملكة العربية السعودية المسار نفسه على المدى القصير إلى المتوسط، وأن تعترف أغلبية المنطقة في نهاية المطاف بإسرائيل وتتعامل معها اقتصادياً. فهل يتعين على هذا النموذج الجديد أن يضفي الشرعية، ويبرر فكّ الارتباط الأميركي عن المنطقة؟

الإجابة المختصرة هي "لا"، لأنه بعد الصراع العربي - الإسرائيلي لا تزال المنطقة تشكل تهديدات للأمن القومي للولايات المتحدة، وكذلك لحلفاء الولايات المتحدة المهمّين الآخرين، بما في ذلك إسرائيل.

ثالثاً، إن أكبر مصدر للمخاطر في المنطقة يتعلق بإيران، ومن السذاجة الاعتقاد أن إسرائيل، صاحبة القوة العسكرية الكبيرة والدول العربية الخليجية، ستوقف التوترات الإقليمية من دون المخاطرة بالتصعيد الخطر مع إيران. فالقوة الاقتصادية الإيرانية في تراجع، وعندما انسحبت إدارة ترامب من جانب واحد من الاتفاقية النووية لسنة 2015، استخدمت سياسة "الضغط الأقصى"، والتي تتكون أساساً من عقوبات اقتصادية شديدة أثرت بشكل واضح في الاقتصاد الإيراني، وتسببت في العام الماضي، بانكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 10% تقريباً.[12]

وفي المقابل، فإن السماح لإيران بتحرير نفسها من قيود الاتفاق النووي، وتمكينها من تخصيب مزيد من اليورانيوم، يزيد فقط في احتمالات مهاجمة إسرائيل لإيران، الأمر الذي قد يدفع الولايات المتحدة نفسها إلى الحرب. وفضلاً عن سيناريو الحرب هذا، ثمة حقيقة أُخرى محتملة ومزعجة: إن فكّ الارتباط الأميركي، سيقود عاجلاً أم آجلاً، واحداً أو أكثر من جيران إيران إلى امتلاك أسلحة نووية، ليس فقط لتحقيق التوازن مع القدرات الإيرانية، بل أيضاً للاستعداد الكامل للنمو المتزايد لإمكان انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، ومثل هذا الانتشار النووي في الشرق الأوسط من شأنه أن يتحول إلى كابوس استراتيجي في وجه آمال الاستقرار الإقليمي والعالمي.

هذه العوامل كلها يجب أن يعززها قيام واشنطن بإعادة النظر في أهمية المنطقة. إنها تذكير مفيد بأن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط تتجاوز تدفق النفط وأمن إسرائيل ومكافحة الإرهاب واحتواء إيران، فالمنطقة تؤدي دوراً بالغ الأهمية في تحديد مكانة أميركا العالمية، ذلك بأن المكونات الأساسية للقيادة العالمية للولايات المتحدة، لا يستطيع أي طرف آخر أن يتصدرها، وهي: ضمان حرية الملاحة والتجارة؛ منع القوى المتنافسة من اكتساب نفوذ لا داعي له؛ حسم ديناميات التوازن الإقليمي الهشّ للقوى؛ إرساء السلام والأمن والازدهار ومحاربة العنف الجهادي المتطرف.

وفي نهاية المطاف، فإن الشرق الأوسط لا يزال مركزاً جيواستراتيجياً مهماً لمنافسة القوى العظمى وللاستقرار الاقتصادي العالمي، وإلّا لماذا تعمل روسيا والصين على تحقيق اختراقات استراتيجية في المنطقة على حساب التفوق الأميركي؟

إن موسكو وبكين تسارعان إلى ملء الفراغ الذي تُحْدِثه الولايات المتحدة، فكلما قل تأثير الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، زادت موسكو وبكين في توسيع نفوذهما، كما أن الديناميات نفسها لشرق أوسط ما بعد أميركا ستساعد اللاعبين الذين يتطلعون إلى الهيمنة الإقليمية مثل إيران وتركيا، والنتيجة النهائية ستكون درجة أعلى من الفوضى الإقليمية. وطبعاً، بالتوازي مع عدم الاستقرار المتزايد، سيكون هناك تحول في القوة لمصلحة القوى العالمية والإقليمية غير الليبرالية.

بايدن والشرق الأوسط

أين يقع الشرق الأوسط في هذا السياق المستقطب للديمقراطية في مقابل الاستبداد الذي فرضته إدارة بايدن؟

لقد أصبحت مكانة الشرق الأوسط في خضمّ "منافسة القوى العظمى" الراسخة الآن بين روسيا والصين والولايات المتحدة، مطروحة بشكل متزايد. فما يبرز في نظر واشنطن يتلخص في التقارب الحتمي بين روسيا والصين، وهما القطبان المناهضان لأميركا، واللذان يتصديان لأجندة "تحالف الديمقراطيات" التي وضعها بايدن بهدف احتواء كل من موسكو وبيكين العازمتَين على استغلال وملء الفراغ في الشرق الأوسط الناتج من التصميم الأميركي على إعطاء الأولوية لدينامياتها المحلية بسبب الوباء والتدهور الاقتصادي. ومع ذلك، فمن السابق لأوانه القول ببساطة إن الولايات المتحدة تتنازل عن الشرق الأوسط للصين أو روسيا.

في النهاية، ربما يكون للصفقة الصينية - الإيرانية تأثير في استعداد بايدن لإعادة بلورة العلاقات مع المملكة العربية السعودية وتركيا وباكستان. فالمتشددون في طهران، تماماً مثل الأصوات المعادية لأميركا في أنقرة وإسلام أباد، يفضلون علاقات استراتيجية واقتصادية وعسكرية أقوى مع الصين وروسيا، وسيكون أساسياً بالنسبة إلى بايدن ألّا يدفع السعودية في الاتجاه نفسه، ذلك بأن النفوذ الصيني والروسي المتنامي في الشرق الأوسط يشكل تهديداً واضحاً لأولويات واشنطن المتلاشية في المنطقة.

إذا كانت واشنطن لا تزال تؤمن بنظام دولي قائم مبني على قواعد - وهو نظام ساعدت في بنائه كقوة مهيمنة ليبرالية - فسيتعين عليها توفير نوع من الاستقرار المهيمن. وحتى إذا كانت تتجه الآن نحو رؤية "توازن القوى" مع الصين وروسيا، فإنه لا يزال يتوجب عليها اعتبار الشرق الأوسط مجال نفوذها الخاص بدلاً من التخلي عنه للصين الصاعدة وروسيا المستعادة. وهذا النهج سيتطلب اعترافاً واضحاً بأن الضرورة الاستراتيجية لإنهاء "الحروب التي لا نهاية لها"، وفكّ ارتباط الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، هما شيئان مختلفان.

لقد سئم الأميركيون من الشرق الأوسط، لكن لا يزال هناك دعم شعبي للولايات المتحدة لتؤدي دوراً قيادياً في العالم؛ ففي سنة 2019، وعند السؤال عمّا إذا كان الأميركيون يدعمون قيام الولايات المتحدة بـ "دور نشط في الشؤون العالمية"، أجاب 69% بنعم، كما أجاب 59% بنعم عندما سُئلوا عمّا إذا كانوا يفضلون استخدام القوات الأميركية لـ "محاربة التطرف الإسلامي العنيف في العراق وسورية."[13] لذلك، يجب ألّا تتحول الحرب غير الحكيمة والسيئة التصميم ضد العراق إلى حجة للتقاعس الدائم وترك الشرق الأوسط لأمثال روسيا أو الصين أو إيران أو تركيا. فواشنطن لا يزال لديها مصلحة في مكافحة الإرهاب، ومقاومة الانتشار النووي، ودعم التدفق الحر للنفط، ومنع الصراع بين القوى الإقليمية، وتعزيز أمن الشركاء في الشرق الأوسط، في عالم يتسم بمنافسة القوى العظمى مع الصين، وإذا انسحبت من المنطقة، فإن ذلك بالتأكيد سيؤدي إلى ظهور قوة مهيمنة أُخرى معادية لمصالح الولايات المتحدة.

إن جو بايدن "ترميمي" (restorationist)، على عكس بيرني ساندرز أو إليزابيث وارين اللذين يُعتبران "دعاة تجديد" (renovationist) لمصلحة نوع من الانعزالية الجديدة. فهو يريد إعادة إشراك العالم مع القيادة الأميركية في ظل نزعته العالمية والتعددية[14]. ومع أن الديمقراطيين يكنّون لترامب كراهية عميقة، إلّا إن رأيهم كان أن السماء لم تسقط عندما ردت إدارة ترامب على استخدام بشار الأسد للأسلحة الكيماوية، وكذلك عندما قتلت القوات الأميركية أعداداً كبيرة من المرتزقة الروس في سورية، أو عندما قتلت الولايات المتحدة اللواء الإيراني قاسم سليماني. لقد اختلف الديمقراطيون مع كثير ممّا فعله ترامب في مجال السياسة الخارجية، لكنهم لاحظوا أيضاً أن الجبروت العسكري والاقتصادي الأميركي، بالتوازي مع العقوبات، يمكن استخدامهما بصورة فاعلة ضد الصين وإيران، من أجل تعزيز الردع والأولوية الأميركية.

هذا هو السبب الذي يرجِّح أن تتّبع إدارة بايدن سياسة متوازنة يمكن تلخيصها بأنها احتواء دبلوماسي وعسكري لإيران، وإعادة تقييم للموقف مع الخليج بشأن اليمن، والمشاركة البنّاءة مع الحلفاء مثل إسرائيل ومصر والأردن. وهذا الاتجاه هو ما تشير إليه جميع العلامات في الأشهر الستة الأولى من عمر الإدارة: عودة إلى الدبلوماسية النووية مع إيران؛ تراجع في العلاقات مع محمد بن سلمان، ومراجعة مبيعات الأسلحة لكل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة؛ دفع جديد إلى حل سلمي في اليمن؛ عودة البعض إلى المشاركة الدبلوماسية بشأن الصراع العربي - الإسرائيلي بعد جولة جديدة من الصراع في أيار / مايو 2021.

خاتمة

إن النمط الذي سيميز عقيدة بايدن المحتملة هو نمط سيوازن بين استراتيجيا "أميركا أولاً" في حقبة ترامب، مع جرعة قوية من مشاركة متعددة الأطراف مع الحلفاء الديمقراطيين لاحتواء الصين وروسيا.

فبايدن يريد إثبات أنه يتميز ليس فقط من ترامب، بل من أوباما أيضاً، لكن هذا الأمر الأخير أصعب كثيراً، لأن بايدن أحاط نفسه بمستشاري عهد أوباما، بينما إثبات التمايز من ترامب هو الأسهل، لأن الأمر ببساطة لم يتطلب سوى عودة سريعة إلى اتفاق باريس للمناخ التابع للأمم المتحدة وبعض التطمينات لحلفاء الناتو. ويُعتبر الاختلاف عن أوباما أصعب لأنه يتعلق بأخذ التهديدات الصينية والروسية والإيرانية بجدية أكبر، كما يتطلب التقليل من الحديث عن المشاركة، ومزيداً من التركيز على المنافسة والاحتواء والردع.

تُعدّ الصين إلى حد بعيد أكبر تهديد لبايدن الذي تعتمد استراتيجيته على القوة في الداخل لمزيد من المنافسة الفاعلة. إن إعطاء الصين الأولوية يعني أيضاً استمالة روسيا من أجل تجنّب تحالف عسكري صيني – روسي، ولهذا السبب تراجع بايدن عن المواجهة مع بوتين بشأن أوكرانيا، مختاراً بدلاً من ذلك، فرض عقوبات محدودة رداً على التجسس الإلكتروني الروسي والتدخل في الانتخابات في الولايات المتحدة.

إن إعطاء الصين الأولوية يعني أيضاً تقليص الخسائر في أفغانستان وباكستان من خلال احتضان الهند ودياً بشكل أكثر، كما أن تحسين الشراكات الأمنية مع اليابان والهند سيكون المفتاح لاستراتيجيا بايدن لاحتواء الصين. وأخيراً، الخبر السيىء للشرق الأوسط هو أن إعطاء الصين الأولوية يعني أيضاً تخفيف الاهتمام بالعالم العربي.

التحدي الذي يواجه بايدن في الشرق الأوسط له شقّان: أولاً، إن الخروج السريع يتطلب اتفاقاً نووياً سريعاً مع إيران سيفشل في معالجة برنامج طهران للصواريخ الباليستية، وفي زعزعة القوى الحليفة لها، وهو ما تراهن على حدوثه فعلاً، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ولهذا فإنهما تعملان على اتصالات خلفية مع النظام الإيراني لتجنّب تصعيد التوترات الإقليمية والثنائية. أمّا إسرائيل فهي أكثر عدوانية بمحاولاتها الوقحة لعرقلة الدبلوماسية النووية بجهود ميدانية وسيبرانية.

التحدي الثاني لفكّ الارتباط الأميركي وعدم إعطاء الشرق الأوسط الأولوية، هو النفوذ الصيني المتزايد، إذ سيتم ملء الفراغ من طرف بكين المتعطشة إلى الطاقة، والتي هي على استعداد لتوفير المال لإيران والمعدات العسكرية للخليج. ولذلك، فإن هذا هو السبب في أن قضية بيع الأسلحة للسعودية والإمارات هي اختبار أساسي لأميركا. وإذا أخذ بايدن النفوذ الصيني في الشرق الأوسط على محمل الجد، فسيتعين عليه التصرف بطريقة براغماتية للغاية مع المملكة العربية السعودية. باختصار، سيستمر بايدن في الاهتمام بشكل رئيسي بالشرق الأوسط في سياق احتواء إيران وعدم السماح للصين وروسيا بملء الفراغ في منافسة القوى العظمى.

 

* مقالة خاصة بالمجلة بعنوان: «Biden’s Perspective on America’s Global and Middle East Policy».

ترجمة: هلا قمبريس.

 

المصادر:

[1] Kenneth G. Lieberthal, “The American Pivot to Asia”, “Brookings”, December 21, 2011.

[2]National Security Strategy of the United States of America”, December 2017.

[3] Bruce Riedel, “30 Years after Our (Endless Wars) in the Middle East Began, Still no End in Sight”, “Brookings”, July 27, 2020.

[4] White house, “Interim National Security Strategic Guidance”, March 2021.

[5] أشاد المحللون الصينيون باجتماع 13 كانون الثاني / يناير بين وزيرَي الخارجية الباكستاني والتركي معتبرين إياه بداية تفاهم إقليمي، مضيفين: "ليس أمام إيران خيار سوى إيجاد طريقة للانضمام إلى المعسكر التركي - الباكستاني." وتوقّع محللون عسكريون صينيون، في تعليقات علنية، عقد اتفاق تحت التأثير الصيني بين تركيا وإيران وباكستان، ويضم أكثر من 300 مليون نسمة (تعداد السكان في تلك الدول)، ويتضمن معظم القوى العاملة المؤهلة تقنياً في العالم الإسلامي. انظر:

Spengler (David P. Goldman), “China Shows it Too Can Play Rough in the Middle East”, Asia Times, March 27, 2021.

[6] عاتب وزير الخارجية وانغ زملاءه الأميركيين في أنكوريج على الاستخدام التعسفي للقوة الأميركية في الوقت الذي يعظون باستمرار بنظام دولي قائم على القواعد، وقال: "نحن لا نؤمن بالغزو من خلال استخدام القوة، أو بإسقاط أنظمة أُخرى بشتى الوسائل، أو بذبح شعوب دول أُخرى لأنها تتسبب بالاضطراب وعدم الاستقرار في هذا العالم، ففي نهاية المطاف، لن تخدم هذه الشعوب الولايات المتحدة جيداً." انظر:

Abigail Williams and Dartunorro Clark, “Top U.S., China Diplomats have Public Spat as Alaska Summit Opens”, “NBC News”, March 19, 2021.

[7] Gerry Shih, “Faced with Sanctions and Condemnation from the West, China Becomes Bedfellows with Russia”, The Washington Post, March 29, 2021.

[8] Steven Lee Myers, “An Alliance of Autocracies? China Wants to Lead a New World Order”, The New York Times, March 29, 2021.

[9]Robert Rapier, “How Much Oil do we Import From The Middle East?”, “Forbes”, January 7, 2020.

[10] Matt Mushalik, “US Crude Oil Imports and Exports Update April 2018 Data”, “Crude Oil Peak”, July 11, 2018.

[11] Pippa Stevens, “Shale Industry will be Rocked by $300 Billion in Losses and a Wave of Bankruptcies, Deloitte Says”, “CNBC”, June 22, 2020.

[12] انظر موقع صندوق النقد الدولي، عن الوضع في إيران (International Monitory Fund, Islamic Republic of Iran)، في الرابط الإلكتروني.  

[13] Kevin Baron, “Do Americans Really Want to End (Forever Wars?) Survey Says…”, “Defense One”, September 10, 2019.

[14] Thomas Write, “The Quiet Reformation of Biden’s Foreign Policy”, The Atlantic, March 19, 2020.

Author biography: 

عمر تاشبينار: مدير مشروع تركيا في معهد بروكينجز، وأستاذ استراتيجيات الأمن القومي في كلية الحرب الأميركية، وأستاذ مساعد في دائرة الدراسات الأوروبية في جامعة جونز هوبكينجز.