ماكدويل. "الانتفاضة الفلسطينية وما بعدها "(بالإنكليزية)
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

الانتفاضة الفلسطينية وما بعدها

Palestine and Israel: The Uprising and Beyond

By David McDowall.

London: I. B. Tauris & Co. Ltd., 1989.

 

من يقرأ هذا الكتاب بقصد التعرف إلى الانتفاضة الفلسطينية وما بعدها، سيصاب بخيبة أمل. ومع ذلك، فالكتاب يستحق الاهتمام سواء لما احتواه من معطيات وتحليل واستنتاجات، أو لما احتواه من مغالطات وسوء انتقاء وتسرع.

يبدو المؤلف، من الصفحة الأولى، متعاطفاً مع الشعب الفلسطيني. ويشكل هذا التعاطف منطلقاً ثابتاً ومتلازماً مع منطلق آخر لا يخفيه المؤلف، وهو ضيقه بمنظمة التحرير الفلسطينية بصورة عامة، وبقيادتها بصورة خاصة. ومن هذين المنطلقين يبدأ المؤلف انتقاء معطياته، وتحليلها وصولاً إلى ما افترضه، منذ البداية، من "استنتاجات".

يشدد المؤلف على تعارض يفترضه بين م. ت. ف. (الخارج كما يسميها) والشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع (الداخل كما يسميه). وفي هذا، فهو لا يشذ عن كثير من المؤلفين الغربيين الذين يشكل هذا التباعد الافتراضي بين الداخل (الشعب) والخارج (المنظمة)، بالنسبة إليهم، أساس فهم الحركة السياسية الفلسطينية وخصوصاً في طورها الحالي، أي منذ اندلاع الانتفاضة في كانون الأول/ ديسمبر 1987.

وبطبيعة الحال، فإن من حق المؤلف أن يفترض ما يشاء. ومن حقه أن يسعى لإثبات هذا الافتراض كيفما شاء ضمن حدود القواعد المنهجية المتعارف عليها. غير أن مادووال، في هذا الكتاب، لم يسع لإثبات افتراضه بل تعامل معه كمسلّمة لا تحتاج إلى تمحيص، وكقاعدة يبني عليها استنتاجات أخرى.

في تمهيد يسبق مقدمة الكتاب، يكرر المؤلف عدداً من الأخطاء الشائعة بين الصحافيين الأجانب الذين أكدوا طوال كانون الأول/ ديسمبر 1987، أن الانتفاضة قد "فاجأت" م. ت. ف. كما فاجأت إسرائيل والعالم الخارجي. وإذا كانت مثل هذا القول مقبولاً في بداية الانتفاضة، ومقرولاً أيضاً من مراسل صحافي يكتب تقريراً عاجلاً، فإنه غير مقبول من باحث زار الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعايش أهلها، أو من باحث تابع تطور الحركة السياسية الفلسطينية ليكتب عنها.

كيف تكون الانتفاضة مفاجأة؟ تكون حين يقتطف العبارة التالية المنسوبة إلى أحد نشيطي الانتفاضة: "إننا نؤيد م. ت. ف. لكن الانتفاضة انطلقت منا. وفي أية حال من هي م. ت. ف.؟ إنهم أبناء عمومتنا. ولا يمكن الفصل بيننا، بالضبط كما لا يمكن الفصل بين الروح والجسد." هذه العبارة، على علاتها، واضحة، لكنها تعني شيئاً آخر بالنسبة إلى المؤلف؛ "إذ إنها تشير إلى أن الناس في المناطق [المحتلة] لا يتبعون م. ت. ف. في الخارج، بل أنهم أنفسهم يقودون م. ت. ف." من يستطيع أن يحمّل تلك العبارة مثل هذا الاستنتاج، يستطيع بسهولة أكبر أن يقول ما يشاء.

وبما أن المؤلف متعاطف مع الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال، وبما أنه لا يحمل وداً للخارج، وبما أنه منبهر ببطولة الانتفاضة وشجاعة الأهل في الضفة والقطاع، فإنه يسمح لنفسه بالانجرار إلى لعبة المفاضلة بين المحطات المختلفة التي مرّت الحركة الوطنية الفلسطينية بها خلال نصف القرن الماضي (ص 14). وبجانب ما تمثله هذه المفاضلة من منهجية لا تاريخية، فإنها جهد عبثي لا جدوى منه يتناسى الإطار التاريخي لكل محطة نضالية، ويتناسى تأثير ما سبقها فيها وتأثيراتها في ما سيليها. وفوق ذلك، فإن المفاضلة بين محطات تاريخية، مثل انتفاضة سنة 1936 وقيام م. ت. ف. وانطلاقة الكفاح المسلح، وأخيراً الانتفاضة، هي عملية تتجاهل تأثير تراكم الخبرة النضالية لتبقى كل محطة معزولة، بل كظاهرة من دون مقدمات ومن دون نتائج. فما يربط انتفاضة سنة 1936، وما قبلها، بالانتفاضة الراهنة وما سيتولد عنها، هو بالضبط تلك التراكمات التي يتصدرها النزوح الفلسطيني، وانتظار تحرير فلسطين على أيدي الجيوش العربية، وقيام م. ت. ف.، وإحياء الهوية الفلسطينية، والعمل الدؤوب على إبراز الكيانية الفلسطينية المستقلة على الساحتين العربية والدولة. فكل هذه الأحداث مرتبط بعضها ببعض، وتشكل محطات بارزة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية التي تمر، الآن، بالانتفاضة.

تزداد قوة إحساس القارىء، صفحة بعد صفحة، بأنه أمام تعليق سياسي متسرع لا أمام بحث يقوم على معطيات ملموسة ويقدم استنتاجات خضعت للتمحيص. فعلى سبيل المثال، يؤكد المؤلف في معرض تفسيره للانسحاب البريطاني من فلسطين، أن بريطانيا وجدت نفسها "غير قادرة على الوفاء بوعود قطعتها على نفسها قبل ثلاثين عاماً، فطلبت من الأمم المتحدة، باعتبارها وارث عصبة الأمم، أن تنهي الانتداب وأن تتخذ الإجراءات التي تراها ضرورية لتسوية المسألة الفلسطينية" (ص 26). وفي معرض حديثه عن الدعم الأميركي لإسرائيل، نجده يؤكد أن ذلك الموقف الدادعم نجم عن "قرار شخصي [كذا] من الرئيس ترومان بعد لقائه التاريخي مع حاييم وايزمن. ومع ذلك، ظلت السياسة الأميركية في المنطقة غير منحازة نسبياً حتى أوائل الستينات" (ص 44). وأخيراً يؤكد المؤلف، في معرض المقارنة بين دور الدولتين العظميين، "أن الولايات المتحدة لم تتمكن من كبح إسرائيل حتى وجدت ذلك ضرورياً [كما كان الحال] ضد سوريا في حزيران/ يونيو 1967، ومرة أخرى ضد لبنان سنة 1982. وقبل ذلك باثني عشر عاماً، أي سنة 1970، لم يتمكن الاتحاد السوفياتي من كبح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من استفزاز مواجهة مع الأردن" (ص 54 – 55).

سيجد القارىء أمثلة أخرى مشابهة تعكس أحكاماً مسبقة لا سند واقعياً لها، أو تعكس جهداً مبذولاً في تحميل المعطيات ما لا تحمله. غير أن أكثرها مدعاة إلى التأمل هو تلك التي يرددها المؤلف كلما تعرض للوضع الداخلي في الحركة السياسية الفلسطينية، إلى حد اتهام من يسميهم ممثلي يمين م. ت. ف. بـ"الموافقة على قيام المخابرات الأردنية بتفحص وغربلة المؤسسات والأشخاص" الذين يتقدمون إلى اللجنة الأردنية – الفلسطينية المشتركة بطلبات دعم الصمود (ص 110).

وبجانب أن مصدر هذا "الاستنتاج" هو صحيفة "جيروزالم بوست"، فإن المؤلف يؤكد بهذا القول عدم اطلاعه على طبيعة عمل اللجنة المذكورة وما شابه ذلك من صراع عمل الطرف الفلسطيني من خلاله (متمثلاً لفترة طويلة بالشهيد أبو جهاد) على فرض التزام نص وروح قرارات قمتي الرباط (1974) وبغداد (1980).

ومثال آخر هو ما يقتبسه عن مصدر مجهول أخبره أن "م. ت. ف. تسعى للسيطرة. وسيسحق عسكرها [أهل] الداخل. ولا مفر من الصراع بين الداخليين والخارجيين. لقد فشلت م. ت. ف. كقيادة لا كفكرة. [إلا أنها] ولسوء الحظ، ما زالت مهووسة بمسألة بقائها في قيد الحياة" (ص 122).

وقبل هذا القائل المجهول بقليل، نرى المؤلف يحتاج إلى أن ينسب إلى القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة (ق. و. م.) أقوالاً لم تصدر عنها، لكنها تخدم غرض تعزيز "استنتاجاته". وحول هذه الأقوال المنسوبة نجد الفقرة الغنية التالية، على سبيل المثال:

بعد الانتفاضة، لم تعد ق. و. م. تخاف من انتقاد م. ت. ف. علناً. فعندما تنازل حسين عن السيادة على الضفة الغربية في تموز/ يوليو 1988، حذرت ق. و. م. "م. ت. ف. خارج الأراضي المحتلة من السعي لملء الفراغ الذي خلّفه الأردن بتكرار أفعاله المستندة إلى مبدأ الاستزلام من خلال الفساد"... ولم تكن ق. و. م. لتوجه مثل هذا التحذير لو لم تكن تخشى السلوك الذي تسلكه م. ت. ف. في الخارج. وعندما التقى عرفات الملك حسين والرئيس مبارك في العقبة، في تشرين الأول/ أكتوبر 1988، وسط شائعات في شأن كونفدرالية فلسطينية – أردنية، سارعت ق. و. م. إلى إدانة الفكرة وإلى التعبير عن قلقها [بالقول]: "عندما أصبحت الحركة الوطنية الفلسطينية أكثر توحداً حول مقترحات سياسية واضحة وغير مشوّشة، فإن الشائعات [حول] مفاوضات كونفدرالية تثير القلق والارتباك" (ص 120).

بطبيعة الحال، لو كانت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة قد أصدرت مثل هذه الأقوال التي ينسبها المؤلف إليها، لكان الوضع فعلاً وضعاً خطراً ومقلقاً. غير أن التدقيق في المصدر الذي يشير المؤلف إليه ومراجعته يؤكدان أن تلك الأقوال المنسوبة إلى ق. و. م. ما هي إلا جزء من تعليق سياسي تضمنته افتتاحية إحدى النشرات الإعلامية التي تصدر باللغة الإنكليزية عن أوساط قريبة من أحد الفصائل الفلسطينية. ولم تدّع النشرة المذكورة، ولم نجد فيها ما يلمح من قريب أو بعيد، إلى أن تعليقها السياسي يعبّر عن موقف ذلك الفصيل، ناهيك بالادعاء أنه يمثل رأي ق. و. م.

في أية حال، فإن العدد المشار إليه من النشرة المذكورة (FACTS, No. 28, October 1988, 16-29) يتضمن أمرين تغافل المؤلف عنهما: أولهما التحذير من البيانات والتصريحات المزورة "التي تقوم أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بإصدارها وتوزيعها بهدف إرباك الناس وتضليلهم"، وثانيهما النداء رقم 28، نداء الاستقلال، الذي يؤكد "متانة ثقة شعبنا بقيادته...".

بصورة عامة، يتعامل المؤلف مع معطياته بخفة شديدة، ومع قارئه باستخفاف أشد؛ إذ لا يتوقع من قارئه أن يسعى للتحقق من مصادر الكتاب أو أن يمحص استنتاجاته. لكن هذا لا يكفي لتفسير قصور الكتاب. فمثل هذا التفسير قد نجده في الموقف المسبق لدى المؤلف من موضوعة الانفصام – التعارض بين الداخل والخارج، وبين ق. و. م. و م. ت. ف.

ولا تنحصر آثار تعسف الكاتب مع معطياته وسماحه المتكرر لخياله بالتدخل فيها في تقديمع لصورة الماضي والحاضر، بل تبرز أيضاً فيما يطرحه من آفاق التطور في المستقبل.

فبالنسبة إلى فلسطينيي الأراضي المحتلة نجد المؤلف متفقاً مع الرأي القائل إن الانتفاضة قد أنهت أسطورة "اندماج الأراضي المحتلة في إسرائيل" (وهي الأسطورة التي صاغها بنفنستي، وروجها آخرون). غير أن الآفاق التي يطرحها المؤلف تعتمد، فقط، على ما توفره الإسقاطات السكانية للمكتب المركزي للإحصاء في إسرائيل فيما عنى سكان الضفة والقطاع حتى سنة 2002. فعلى قاعدة هذه الإسقاطات يجد المؤلف أن من المنطقي التأكيد أن المطالبة بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين ستسبب مشكلات جمّة للدولة الفلسطينية، بافتراض أنها ستقوم سنة 2002 (ص 212 – 213). واستطراداً، فإن من المنطقي أيضاً أن يدعو إلى توطين اللاجئين أماكن إقامتهم الحالية، وخصوصاً أن عودة حتى أقلية منهم إلى الضفة والقطاع "ستدفع الجميع، السكان الأصليين واللاجئين المقيمين واللاجئين العائدين، إلى التنكر للتسوية السياسية التي تم التوصل إليها، إلى أن تتوفر شروط أفضل" (ص 213). أما بالنسبة إلى من يسميهم الفلسطينيين الإسرائيليين، فإن الآفاق تبدو أكثر كآبة: "استمرار العجز السياسي والضعف الاقتصادي، وارتفاع البطالة، وازدياد تدهور الأوضاع المعيشية غير الصحية، وانهيار النظام التعليمي" (ص 237).

المشكلة الأساسية التي قد يعانيها قارىء هذا الكتاب، هي افتراض تعاطف المؤلف مع الشعب الفلسطيني. ويبدو أن هذا التعاطف (مرة أخرى مع الداخل لا الخارج) هو نقطة الضعف الأساسية الي أفرزت كل الأخطاء التحليلية والاستنتاجية اللاحقة.