غزة والنظام العربي الراهن
نبذة مختصرة: 

ليس من تعبير أفصح عن انحطاط النظام العربي الراهن ممّا قامت به الدول العربية، أو بالأحرى ممّا لم تقم به حتى الآن تضامناً مع شعب فلسطين، ومع أهل غزة بصورة خاصة، في محنتهم الجديدة التي تفوق كثيراً جميع ما ألمّ بهم في تاريخ الصراع العربي - الصهيوني. وانعدام التناسب بين حجم القتل والتدمير الجاريين، اللذين يندرجان في باب الإبادة الجماعية، أعلى مرتبات الجرائم ضد الإنسانية، وبين ردة الفعل العربية الباهتة للغاية، إنما هو واقع صارخ يضاهي صداه في الضمائر العربية صدى الصراخ الذي وصل ويصل إلى مسامعنا من داخل القطاع.

النص الكامل: 

ماذا كانت ردة الفعل العربية إزاء تلك الجريمة العظمى؟ استدعى الأردن والبحرين سفيرَيهما من دولة إسرائيل، من دون حتى إعلان تجميد علاقاتهما الدبلوماسية بها، فضلاً عن قطعها، وهو ما لم يتعدَّ طبعاً محاولة رفع العتب بحد أدنى؛ بيد أن مصر والمغرب لم تقوما حتى بهذا الحدّ الأدنى المتدني جداً. أمّا الإمارات فهي أقرب إلى إسرائيل منها إلى "حماس" في الحرب الدائرة، نظراً إلى كراهيتها المعروفة لجماعة "الإخوان المسلمين" التي تنحدر منها الحركة. والحصيلة أن ما فعلته الدول العربية حتى الآن يبقى دون ما فعلته أفريقيا الجنوبية بأشواط، بل دون ما قامت به بعض دول أميركا اللاتينية النائية عن مسرح الصراع. فقد سحبت أربع من تلك الدول سفراءها لدى إسرائيل، وهي: بوليفيا التي أعلنت فوق ذلك قطع علاقاتها بالدولة الصهيونية، وكولومبيا والتشيلي وهندوراس.

أمّا القمة العربية والإسلامية التي عُقدت في الرياض في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، فلم يصدر عنها قرار عملي غير إرسال وفد لزيارة عواصم الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي من أجل حثّها على المطالبة بوقف إطلاق النار. وهذا التحرك لم يتناسب قط مع خطورة ما كان يجري في غزة وإلحاحه، إذ أنجزت إسرائيل خلال بضعة أسابيع، قتلاً وتدميراً وتهجيراً، القسم الأكبر من الإبادة الجماعية التي شرعت في اقترافها في إثر عملية "طوفان الأقصى". فما هو سبب هذه البلادة العربية التي تكاد تساوي عدم الاكتراث؟ هل سببها أن الحكومات العربية عاجزة في وجه ما يجري بحيث ليس في وسعها أن تقوم بأكثر من إيماءات رمزية؟

الحقيقة أن الدول العربية، ونخصّ بالذكر هنا تلك المصدّرة للمحروقات، ليست اليوم في حال ضعف موضوعي، بل هي أقوى ممّا كانت عليه قبل نصف قرن عندما قررت مقاطعة الدول الداعمة لإسرائيل في إبّان "حرب أكتوبر" 1973. فآنذاك كان المصدّرون العرب مرتهنين تقنياً بالشركات الغربية، وكان الخليجيون بينهم، كما كانوا مرتهنين عسكرياً بحماية الدول الغربية في عالم كانت تسوده "الحرب الباردة" والمواجهة بين النظام الخليجي والأنظمة "التقدمية" العربية مسنودة من الاتحاد السوفياتي. أمّا اليوم فيحوز مصدّرو المحروقات العرب على درجة عليا من الاستقلالية التقنية والاقتصادية، وتربطهم جميعاً بالأقطاب الثلاثة للحرب الباردة الجديدة، أي الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا، علاقات ودّية ومتينة خالية من أي اعتبارات أيديولوجية.

فضلاً عن ذلك، فإن سوق المحروقات مائلة إلى الهبوط، فالأسعار عادت بسرعة إلى ما كانت عليه قبل تفاقم أزمة أوكرانيا. وبينما أبدت المملكة السعودية منذ أواخر سنة 2022 استعداداً للعمل على رفع الأسعار من خلال تقليص إنتاجها بالاتفاق مع روسيا على الرغم من احتجاج واشنطن الشديد وامتعاض سائر الدول الغربية، فإنها لم تُبدِ حتى الآن أي استعداد لإشهار "سلاح النفط" إزاء حرب الإبادة والتهجير الصهيونية الجارية في غزة، وذلك على الرغم من أن مثل هذا الموقف من شأنه أن يلبّي رغبتها في رفع الأسعار من دون أن تخشى خسارة قسم من السوق لمصلحة روسيا التي تواجه العقوبات الغربية. بل إن حرب روسيا على أوكرانيا، والتي تحرص الدول الغربية على منع موسكو من تحقيق النصر فيها، توفّر فرصة تاريخية تضاعف من نجاعة سلاح النفط، إذ تخشى الدول الأوروبية من ارتفاع أسعار المحروقات بسبب أوضاعها الاقتصادية الحرجة، مثلما تخشى من أن يساهم هذا الارتفاع في تيسير الحرب التي تخوضها روسيا من خلال زيادة عائداتها من النفط والغاز.

ويجدر بالتالي التساؤل عمّا إذا كان الموقف العربي الراهن من حرب الإبادة الصهيونية الجارية في غزة مرتبطاً بكونها أول حرب تخوضها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني بمشاركة الولايات المتحدة الأميركية وتأييدها غير المشروط. وطبعاً، سبق أن مدّت أميركا حليفتها إسرائيل بجسر جوي من التسليح في سنة 1973، لكن ذلك كان لمساعدة هذه الأخيرة على صدّ الهجوم العربي عليها والحؤول دون انهزامها، مترافقاً بالضغط على الحكومة الصهيونية بعد حين كي توقف الحرب، عندما كاد "العبور" يتحول إلى "نكسة" عربية جديدة أسوأ من الأولى (يجب ألّا تُنسينا الأسطورة التي حاكها نظام أنور السادات، وفحواها أن حرب "العبور" شهدت في الحقيقة عبورَين لقناة السويس: أولهما عبور الجيش المصري إلى سيناء، وثانيهما عبور الجيش الصهيوني اللاحق في الاتجاه المعاكس وصولاً إلى مسافة 100 كيلومتر فقط من القاهرة).

كما لم تؤيد الولايات المتحدة رسمياً الاجتياح الصهيوني للبنان في سنة 1982، ولا العدوان اللاحق في سنة 2006. أمّا هذه المرة، فقد دعمت واشنطن العدوان وما زالت تدعمه وتصرّ على مشروعيته بحجة "حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس"، وهي ما تتذرّع به في رفضها الدعوة إلى وقف إطلاق النار، مع مساهمتها في العدوان بصورة مباشرة ومنذ لحظته الأولى. والحال أن إسرائيل ما كانت لتستطيع خوض حرب الإبادة الجماعية التي خاضتها حتى الآن لولا الجسر الجوي الأميركي الذي مدّها بما يلزم من العتاد الفتاك، بما فيه القنابل من العيار الثقيل جداً، والتي تسببت بقسم كبير من القتل والتدمير. وهذا فضلاً عن تدخّل الأساطيل الأميركية لتوفير الغطاء لإسرائيل كي تستطيع أن تقتل وتفتك وتدمّر بلا خوف من مباغتة خارجية.

إذاً، إن خاصية الحرب الراهنة بصفتها أول حرب إسرائيلية - أميركية مشتركة تقدّم لنا مفتاحاً لفهم الموقف العربي الذي وصفنا. فالمواجهة بين محور الممانعة وأميركا في العراق وسورية ولبنان واليمن وفلسطين، من جهة، والنظام الخليجي المتحالف مع مصر والأردن والمدعوم من إسرائيل ومن الولايات المتحدة، من الجهة المقابلة، تلك المواجهة باتت تطغى منذ أعوام على المنطقة بأسرها. وقد نظرت الدول العربية المنتمية إلى ما يمكن أن نسمّيه المحور "العربي السنّي" - الأميركي إلى هجوم "حماس" (السنّية) على أنه يهدف إلى إحراجها والحؤول دون مواصلة مسار "التطبيع" القائم بينها وبين الدولة الصهيونية برعاية أميركية.

لهذا، التزمت الحكومات العربية المنتمية إلى المحور المذكور الحذر في ردة فعلها على عملية "طوفان الأقصى" وعلى الحرب الصهيونية التي تلتها على الفور، إذ ما كانت تريد المساهمة في خلق حالة قد تمكّن "حماس" من إعلان "النصر" من خلال توقف العدوان قبل أن ينجز مبتغاه، مثلما تمكّن "حزب الله" اللبناني من إعلان "النصر" بعد توقف العدوان على لبنان في سنة 2006 من دون تحقيق غرضه الرئيسي في سحق قوة الحزب العسكرية. وهذا ما كان يمكن أن يحدث لو شهرت الدول العربية سلاح النفط، وهو سلاح كان يمكن، بمجرد التهديد باستخدامه، أن يشكّل ضغطاً عظيماً على الدول الغربية كي ترغم إسرائيل على الاكتفاء بردّ محدود.

من جهة أُخرى، لا تستطيع الحكومات العربية تأييد الحملة الصهيونية على قطاع غزة، لأن هذه الحملة، وبشكل واضح جداً، حملةٌ تطال الشعب الفلسطيني بهمجيتها المفرطة، وبالتالي لا بدّ للدول العربية من إبداء بعض الحرص والأسف على "أرواح المدنيين". أمّا نتيجة هذه المعضلة، فهي أن الدول العربية المشاركة في المحور الموصوف أعلاه التقت مع مساعي واشنطن من أجل الخروج من الحرب بالعودة إلى مشروع أوسلو الذي ينسجم مع نهج "التطبيع" العام، بل إن أحد مقاصده الرئيسية كان في الأساس تعزيز ذلك النهج وتوسيع نطاقه. كما تتوخى الدول العربية المذكورة ترويض ما يتبقّى من "حماس" بدمج الحركة في مؤسسات "السلطة الوطنية" وليدة مشروع أوسلو، بحيث تفكّ الحركة من جديد عن المحور الإيراني مثلما جرى قبل أعوام، عندما تضامنت "حماس" مع أشقائها في جماعة "الإخوان المسلمين" السورية في مواجهة نظام آل الأسد في إثر الانتفاضة السورية والحرب الأهلية التي تلتها، والتي تدخلت إيران فيها من أجل إنقاذ النظام.

أمّا طهران فالتزمت إزاء حرب الإبادة الصهيونية موقفاً شديد الاعتدال من وجهة النظر العملية، مكتفية بتحرّك قوى الممانعة في حدود مضبوطة على غرار تبادل القصف بين "حزب الله" وإسرائيل بكثافة منخفضة، وبالاقتصار على المنطقة الحدودية. وكذلك جاءت دعوة طهران إلى إعلان المقاطعة النفطية خافتة تماماً على الرغم من أنها موقف رخيص، ذلك بأن إيران ليست مصدّرة للدول الغربية بسبب الحظر المفروض عليها، وبالتالي فإنها لا تحتاج إلى اتخاذ إجراءات عملية في هذا الصدد. بل من اللافت للانتباه أن القوى العراقية الموالية لطهران، والتي لها اليد العليا في مجريات الأمور في بلدها، لم تمارس ضغطاً فعلياً على حكومة بغداد لإشهار سلاح النفط، علماً بأن مثل هذا الموقف كان في إمكانه أن يشكل إحراجاً كبيراً للمنظومة العربية الخليجية. وهكذا، فإن موقف طهران، وإن كان أفضل بالتأكيد من موقف المحور "العربي السنّي" - الأميركي، إنما يندرج هو أيضاً في محاولة رفع العتب عن إيران، وإلقاء اللوم الخاص بنكبة فلسطين الجديدة على الدول العربية المناوئة. بيد أن طهران محقّة في لوم هذه الدول التي تتحمّل بالتأكيد المسؤولية الكبرى عن فسح المجال أمام حرب الإبادة الصهيونية الجارية بمشاركة أميركية تحت أنظارها وأنظار العالم أجمع، بسبب إحجامها عن استخدام سلاح النفط، بل حتى التهديد باستخدامه.

السيرة الشخصية: 

جلبير أشقر: كاتب وأستاذ في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن.