الأمراض المعدية والحرب على غزة: القاتل الصامت الفتاك
سنة النشر: 
اللغة: 
عربي
عدد الصفحات: 
11

مقدمة

على مرأى ومسمع العالم كله، وأحياناً كثيرة بالصوت والصورة، وعبر مختلف وسائل التواصل، يتم استهداف قطاع غزة بحرب ضروس طالت البشر والشجر والحجر، وحتى الحيوانات لم تسلم منها. فمنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وآلة الدمار الحربية تفتك بكل مناطق القطاع، وبمختلف قطاعاته الحياتية، وبكل السبل البرية البحرية والجوية، ما أدى إلى نتائج كارثية من حيث عدد الوفيات. وحتى كتابة هذا المقال تم توثيق 30,320 شهيداً (وزارة الصحة الفلسطينية غزة، 2/03/2024)، كما أدت هذه الحرب إلى نزوح معظم السكان من بيوتهم إلى مناطق يعتقدون أنها آمنة، ليتكدسوا بأعداد هائلة في مناطق محصورة يطلق عليها مراكز لجوء تفوق الأعداد الموجودة فيها قدرتها الاستيعابية بعشرات المرات، إن لم يكن مئات المرات في كثير منها. وتتجلى صور النزوح بوضوح في محافظة رفح الواقعة في جنوب قطاع غزة، كآخر ملاذ آمن للنازحين، والتي يوجد فيها ما يقارب المليون ونصف مليون إنسان في مساحة لا تتعدى الـ 64 كيلومتراً مربعاً.[1]

ومع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة تم فرض حصار شديد طال كل مستلزمات الحياة والواردات على اختلاف أنواعها، وضمنها الغذاء والدواء والوقود والمستلزمات الطبية ومواد التنظيف والمواد المعقمة. كما تم وقف رفد القطاع بالمياه بشكل شبه تام، الأمر الذي انعكس سلباً على صحة الفرد وقدرته الجسمانية، وأدخل القطاع في مرحلة خطرة جداً، وفاقم المشكلة الصحية لدى السكان، ضمن سياسة العقاب الجماعي.[2]

وكنتيجة لما سبق طفت على السطح، وبشكل ملحوظ، المشكلات الصحية، ومنها تلك المتعلقة بالأمراض المعدية التي وجدت أرضاً خصبة لانتشارها الهائل بين السكان في القطاع.[3]

ولا بد من التذكير هنا بعلاقة الثالوث الوبائي (the epidemiological triad) اللازم لحدوث المرض الوبائي المعدي الذي يتضمن كل من المسبب (بكتيريا، وفيروس، أو فطريات)، والمستقبل (الشخص القابل لظهور المرض لديه)، والبيئة المحيطة. ومما ذُكر آنفاً، ليس من الصعب التكهن بأن هذه الأضلع الثلاثة للثالوث الوبائي موجودة وبشكل يسهّل ظهور المرض المعدي لدى السكان في القطاع.[4]

في المقابل، فإن انهيار النظام الصحي، وغياب نظام مكافحة العدوى، جعلا من المستحيل السيطرة على انتشار هذه الأمراض في هذه المرحلة، ما أدى إلى أن يصف الناطق باسم منظمة الصحة العالمية، كريستيان ليندميير، النظام الصحي في غزة بأنه أكثر عجزاً من أن يجثو على ركبتيه.

وبالتالي أصبحت لدينا كل العوامل المسهلة لحدوث المرض المعدي وتطوره وفقدان أي أسس للسيطرة على انتشاره، ومن هذه المعادلة سننطلق إلى فهم تأثير هذه الحرب في الأمراض المعدية في قطاع غزة.

الأمراض المعدية قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في قطاع غزة

يعتبر قطاع غزة من المناطق ذات الخصوصية بعلاقتها مع الأمراض المعدية، وتنبع هذه الخصوصية من عدة عوامل لها علاقة بشكل مباشر بالاحتلال الإسرائيلي؛ أول هذه العوامل الحصار الذي يخضع له قطاع غزة منذ أكثر من 16 عاماً، إذ يخضع القطاع لحصار بري وجوي وبحري يؤدي، في المحصلة، إلى تحديد المواد المسموح دخولها، على اختلاف أنواعها، وضمنها المواد الطبية، وتقييد حركة السكان والمرضى، ما أدى إلى خفض إمكانات المؤسسات الطبية والطواقم الطبية على حد سواء لمواجهة الأمراض المعدية.[5]

أمّا العامل الثاني المهم الذي ألقى بظلاله السلبية في هذا السياق، هو جعل القطاع، وعلى مدى عقود، من أكثر بقاع الأرض ازدحاماً بالسكان، ووسط هذا الازدحام السكاني الشديد يوجد ثمانية مخيمات للاجئين تزيد من الازدحام وتركزه في هذه المخيمات بصورة واضحة، ما يفاقم التحديات الموجودة أصلاً. فمساحة قطاع غزة تبلغ 365 كيلومتراً مربعاً فقط، ويسكنه ما يقارب 2.3 مليون نسمة. (الجـهـاز الـمـركـزي لـلإحـصـاء الـفلسطيني، 2023)

ولا يقل العامل الثالث أهمية عن سابقيه، وهو يتمثل في تكرار الحروب وما يصاحبها من صعوبات وإنهاك للمنظومة الصحية، إذ يُعتبر القطاع منطقة غير مستقرة تتتابع عليها الحروب، وهي شهدت ستة اعتداءات (حروب) قبل حرب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الأخيرة.[6]

مؤشرات الأمراض المعدية في قطاع غزة قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023

على الرغم من التحديات الجمة التي صاحبت العوامل المذكورة في الفقرة السابقة خلال سنوات الحصار المطبق، فإن قطاع غزة ومنظومته الصحية امتلكا نقاط قوة ساهمت في السيطرة على انتشار العديد من الأمراض المعدية وتحديدها؛ إذ امتلك القطاع، كبقية أنحاء فلسطين، نظام تطعيم ممتازاً مع نسبة التزام تقارب الـ 99%، ما ساهم في المحافظة على وتيرة الأمراض المعدية التي تستجيب للطعوم في أدنى مستوياتها. وقد نجح البرنامج في التخلص من العديد من الأمراض، فمنذ عام 1988 تخلصت فلسطين من الأمراض التالية: شلل الأطفال، والتسمم الوليدي عام 1990، والتهاب الكبد الفيروسي ب، والكزاز، والسل، والسحايا، والعديد من الأمراض الرئوية، والتسممات، والحصبة الألمانية، والحصبة المسببة للتشوهات الخلقية وغيرها.[7]

وإلى جانب نظام وبرنامج التطعيم المميز في غزة، فإن نظام الرعاية الصحية الأولية وصل أيضاً إلى مستويات تمكّنه من متابعة المواليد والرضّع والحوامل والعناية بصحتهم، بالإضافة إلى نظام الرصد الوبائي للأمراض المعدية في عيادات الرعاية الصحية.

وبحسب تقرير وزارة الصحة الفلسطينية لعام 2022، فإنه لم يتم تسجيل أي حالة من الحالات المرضية المعدية التالية: شلل الأطفال، والكوليرا، والدفتيريا، والحصبة، وحمى النيل، والأمراض المعدية المنتقلة بالجنس، والسل، والتيفوئيد، والسالمونيلا، وداء المقوسات (توكسوبلازما).

في حين أشارت الإحصاءات إلى تسجيل 218 حالة التهاب سحايا بكتيري، منها 15 حالة ناتجة من بكتيريا المننجوكوكس، و10 حالات حمى مالطية، و513 حالة التهاب سحايا فيروسي، و20 حالة سعال ديكي، و151 حالة نكاف، و1032 حالة جدري، و525 حالة أسكاريس، و599 حالة جرب، و84 حالة التهاب كبد وبائي من نوع أ.[8]

وتُعتبر غزة رافداً لفلسطين ككل في البحث العلمي، وهناك الكثير من الأبحاث والأوراق العلمية المحكمة التي تسلط الضوء على الأمراض المعدية،[9] وخصوصاً الأمراض الناجمة عن الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية.[10]

إن عدم وجود نظام يدعم ترشيد استهلاك المضادات الحيوية على مختلف الأصعدة الصحية في القطاع (في عيادات الرعاية الصحية الأولية، وفي العيادات الخاصة، والمستشفيات، والصيدليات)، وأيضاً استخدام المضادات الحيوية من دون رقيب كعامل للنمو في تربية الثروة الحيوانية، من جهة، ونقص الإمكانات اللازمة لبناء برامج مكافحة العدوى في المستشفيات، من جهة أُخرى، أديا إلى ظهور أنواع من الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية وسهولة انتشارها بين المرضى، وخصوصاً مرضى الجروح والعمليات الجراحية والعناية المكثفة والإصابات. وبالتالي، تشكل الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية مشكلة تعصف بالقطاع، وتسبب الكثير من الالتهابات في الجروح وما بعد العمليات. وقد أظهرت دراسة أُجريت سنة 2021 وجود جراثيم مقاومة لكثير من المضادات الحيوية، بينها الكوليستين، الذي يعد آخر خط دفاع ضد هذا النوع من الجراثيم.[11]

مؤشرات الأمراض المعدية في غزة خلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر 3202

بحسب ما ورد في تقرير منظمة الصحة العالمية لغاية 20/2/2024، فإن ما يقارب 1.7 مليون نسمة، أي 75% من مجموع السكان الكلي، قد نزحوا من مناطق سكناهم، وتحولوا إلى نازحين في مراكز محصورة ومحدودة وشديدة الازدحام، كالمدارس، وما تبقى من المستشفيات، والمخيمات التي أُنشئت بغرض إيواء النازحين. لكن في كثير من الأحيان تزيد هذه المراكز من معاناة هؤلاء النازحين، ذلك بأن المرافق الصحية لا تكفي للأعداد الهائلة الموجودة من النازحين، الذين يتناوبون بطوابير طويلة جداً على المراحيض والحمامات. كما تشهد هذه المراكز، بالإضافة إلى الازدحام الشديد وقلة المرافق الصحية الكافية، تكدس كميات كبيرة من القمامة والأوساخ التي لا يمكن العمل على إزالتها نتيجة الظروف الخطرة المصاحبة للحرب. كذلك فإن عدم توفر مواد التنظيف وقلة المياه أديا إلى انتشار الأوساخ وعدم النظافة بين النازحين. ولا ننسى أن قلة الطعام والشراب (في حال توفرا) تشكل العامل الأخطر لظهور المجاعة والجفاف، وما يصاحبهما من مشكلات صحية مترتبة على ذلك.

 وبحسب التقرير نفسه، فإن 29,195 قد قتلوا، وأُصيب 69,170، وهناك 7780 شخصاً في عداد المفقودين. وهذه الأرقام من الإصابات تشكل ضغطاً كبيراً وغير مسبوق على المنظومة الصحية المتهالكة أصلاً، إذ ثمة 12/36 مستشفى تعمل بشكل جزئي فقط.[12]

ومن العوامل الرئيسية التي أدت إلى تفاقم الوضع الوبائي وتدهوره خلال الحرب في قطاع غزة: نقص الغذاء والماء، وتلوث ما وجد منهما، وعدم القدرة على المحافظة على سلامتهما، ما أدى إلى ظهور حالات التسمم الغذائي المختلفة، والأمراض المعوية المصحوبة بالإسهال والتقيؤ الشديدين، وخصوصاً لدى الأطفال. وبحسب منظمة الصحة العالمية، في أحدث تقاريرها، سُجِّل 213,085 حالة إسهال، بينها 104,213 حالة عند الأطفال دون سن الخامسة.

وبسبب التزاحم الشديد، وعدم وجود أساسيات النظافة، وتلوث المياه، ظهرت الكثير من حالات اليرقان التي يشكل التهاب الكبد الوبائي أ معظمها، إذ أشار تقرير منظمة الصحة العالمية إلى تسجيل 8437 حالة يرقان أو اصفرار من دون وجود أدنى المقومات الطبية للتعامل مع هذه الحالات، الأمر الذي فاقم المشكلات الناجمة عنها، فظهرت حالات جفاف شديدة، وخصوصاً بين الأطفال.

كما لا يمكن تجاوز عامل الازدحام الشديد، وغياب أساسيات النظافة، من دون الحديث عن كونه السبب المباشر لانتشار الأمراض المعدية التي تنتقل عن طريق اللمس والرذاذ، مثل أمراض جهاز التنفس العلوي والسفلي، والتهابات الجلد باختلاف مسبباتها، والجرب، والقمل، والجدري. فقد تم تسجيل 330,192 حالة التهاب في الجهاز التنفسي و74,712 حالة التهاب جلدية، و69,962 حالة جرب وقمل، و6425 حالة جدري.

وتعدُّ التهابات الجروح الناتجة من الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية، والتي يفاقمها الازدحام الشديد في المستشفيات، بالإضافة إلى انعدام وسائل منع انتشار العدوى، وتلوث الماء المستخدم في المستشفيات، وقلة توفر المضادات الحيوية اللازمة لعلاج هذا النوع من الجراثيم، سبباً في انتشار الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية، ما أدى إلى وفاة المرضى وفقدانهم للأطراف بعد التهاب جروحهم.[13]

كذلك أدى انقطاع التيار الكهربائي منذ بداية الحرب إلى اختلاط المياه العادمة بمياه الشرب بسبب توقف عمل المولدات والمضخات التي تعتمد في عملها على الكهرباء، ما تسبب بازدياد حالات التسمم المعوي وانتشارها، بالإضافة إلى انتشار اليرقان والتهاب الكبد الوبائي أ.

تعمل المجاعة وسوء التغذية على إضعاف جهاز المناعة لدى المرضى، وتزيد من خطورة الإصابة بالأمراض المعدية، وتقلل من إمكان مقاومة الجسم لهذه الأمراض.[14] وهي تفتك بجميع الفئات العمرية، وخصوصاً الأطفال الذين لا يقدرون على تحمل الجفاف ونقص السوائل والأملاح المصاحبة له، فإصابة العديد من أطفال غزة بالإسهال الحاد يستوجب تعويض أجسامهم ببدائل عن السوائل المفقودة، لكن عدم وجود الماء وتزايد المجاعة وانتشارها، أديا إلى بروز خطر حقيقي على حياة الأطفال في غزة الذين باتوا مهددين بالإصابة بالفشل الكلوي الذي قد يؤدي إلى الموت. وأيضاً يُعتبر كبار السن والمرضى وذوو المناعة المنخفضة، بالإضافة الى الحوامل، من الفئات الأكثر تضرراً من المجاعة والجفاف في غزة.

وبحسب تصريح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، بتاريخ 21/2/2024، فإن الوضع في قطاع غزة أصبح لا إنسانياً، إذ أعلن غزة منطقة موت.

الأثر المستقبلي للحرب على الأمراض المعدية في غزة

الآثار التدميرية للحرب لا تقتصر على آلة الحرب وحدها، وإنما تصاحبها عوامل تؤثر بشكل سلبي على حياة السكان في غزة، أبرزها الأمراض المعدية.

وتهدد التحديات المصاحبة لإعطاء المطاعيم للأطفال الناجمة عن الحصار المطبق والخانق من بداية الحرب، وعزل شمال القطاع ووسطه عن جنوبه، وصعوبة وصول المطاعيم إلى الأطفال في كثير من مناطق قطاع غزة، بظهور أمراض معدية خطرة كان قد تم في السابق السيطرة عليها، ومنها مرض شلل الأطفال، والتهاب السحايا، والحصبة، والجدري، والكزاز، الأمر الذي قد يتسبب بحدوث انتشار أو تفشٍّ وبائي واسع لهذه الأمراض.[15]

كما أن التهابات الجروح والحروق الناجمة عن الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية تؤثر بصورة كبيرة في حياة المصابين، فالحرب الحالية ليست الأولى على قطاع غزة، لكنها الأكثر دموية ووحشية، إذ طالت كل مناحي الحياة في جميع المناطق. ففي أيام مسيرات العودة في الفترة 2018-2019، والتي شهدت العديد من الإصابات والجروح، أوضحت إحدى الدراسات زيادة كبيرة في الالتهابات الناتجة من الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية تصل إلى 300% مقارنة بفترة ما قبل هذه المسيرات.[16] وهذا يدل على أن تأثير هذه الجراثيم في هذه الحرب سيستمر لفترة طويلة حتى بعد توقفها، وسيؤدي إلى فقدان الكثيرين لأطرافهم المصابة، وتعرض أجسامهم لتسمم الدم البكتيري الناتج من هذه الجراثيم، والذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى الوفاة.

وفي تقرير مهم جداً نشرته جامعة جونز هوبكنير ومدرسة لندن للصحة والطب الاستوائي بعنوان "الأزمة في غزة: توقعات الأثر الصحي المبنية على السيناريوهات - التقرير الأول"، تم استعراض ثلاثة سيناريوهات للحرب لدراسة تأثيرها في الصحة خلال الأشهر الستة القادمة، وهي: السيناريو الأول وهو وقف فوري ودائم لإطلاق النار، والسيناريو الثاني وهو استمرار الوضع الراهن (أي استمرار الظروف التي شهدناها من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حتى منتصف كانون الثاني/ يناير 2024)، والسيناريو الثالث وهو مزيد من تصعيد الصراع.[17]

تستند هذه التوقعات بشأن الأثر الصحي للحرب في غزة إلى مجموعة من البيانات المتاحة للجمهور من أزمات غزة الحالية والسابقة، وبيانات من أزمات مماثلة، وأبحاث منشورة راجعها النظراء عن تقديرات الوفيات الزائدة، وتأخذ في الاعتبار القيود والتحيزات لمصادر البيانات المختلفة. وعندما تكون البيانات محدودة أو غير متوفرة، تعتمد التوقعات على مشاورات مع الخبراء.

وقد أظهرت هذه التوقعات ارتفاعاً كبيراً في الوفيات الزائدة أو الإضافية في مختلف السيناريوهات، سواء مع تفشي الأوبئة أو بدونها. بالنسبة إلى الوفيات الزائدة في حالة عدم تفشي الأوبئة، فإن عدد الوفيات الزائدة في السيناريو الأول، أي سيناريو الوقف الفوري لإطلاق النار، هو 6550 حالة وفاة زائدة، أمّا في سيناريو الوضع الراهن فسيكون هناك 58,260 حالة وفاة زائدة، وفي سيناريو التصعيد سيكون هناك 74,290 حالة وفاة زائدة. أمّا في حالة تفشي الأوبئة، فإن عدد الوفيات الزائدة في سيناريو الوقف الفوري لإطلاق النار هو 11,850 حالة وفاة زائدة، وفي سيناريو الوضع الراهن سيكون هناك 66,720 حالة وفاة زائدة، وفي سيناريو التصعيد سيكون هناك 85,750 حالة وفاة زائدة. وفي ظل سيناريو وقف إطلاق النار، تشير التوقعات إلى أن الأمراض المعدية ستكون السبب الرئيسي للوفيات الزائدة، وستكون الإصابات الناجمة عن القصف وإطلاق النار وتليها الأمراض المعدية هي الأسباب الرئيسية للوفيات الزائدة في كل من سيناريو استمرار الوضع الراهن وسيناريو تصعيد الصراع.

وحتى في أفضل سيناريو لوقف إطلاق النار، سيستمر حدوث الآلاف من الوفيات الزائدة، ويرجع ذلك أساساً إلى الوقت الذي سيستغرقه تحسين ظروف المياه والصرف الصحي والمأوى، والحد من سوء التغذية، واستعادة خدمات الرعاية الصحية العاملة.

خلاصة وتوصيات بشأن أولويات الأمراض المعدية في غزة

كما سبق أن ذكرنا، فإن استمرار هذه الحرب سيؤدي إلى تدمير كل مناحي الحياة، وقتل الإنسانية في غزة، إمّا بالقتل المباشر عن طريق النيران ذات المصادر المتعددة، وإمّا عن طريق عوامل ونتائج تصاحب هذا الدمار، وأهمها الأمراض المعدية التي تفتك بسكان القطاع، والتي لن يتوقف تأثيرها في مرحلة آنية، وإنما سيستمر حتى بعد توقف الحرب لفترة من الزمن.

وللتخفيف من الآثار السلبية المؤكدة، والسيطرة على الأمراض المعدية في غزة بمختلف أنواعها، لا بد من العمل الفوري على:

أولاً: وقف الحرب وبشكل كامل وسريع، لأن استمرارها هو استمرار للمعاناة، وفقدان لمقومات الحياة، وبالتالي تلاشي فرص تجنيب السكان انتشاراً وبائياً فتاكاً للأمراض المعدية.

ثانياً: إدخال المساعدات الضرورية بحيث يمكن للفرد أن يجد طعامه وشرابه ومسكنه لإيواء نفسه وعائلته كي يصبح قادراً على مجابهه الأمراض المعدية التي قد تصيبه.

ثالثاً: البدء بالعمل على كسر حلقة انتقال العدوى، وما يتطلبه هذا العمل من مواد تنظيف وتعقيم، وغسل للأيدي والجروح، وأدوات الوقاية الشخصية اللازمة لمنع انتقال الجراثيم، وقبل هذا كله توفير أماكن نظيفة للمرضى، إذ تم تدمير عدد كبير من المستشفيات وهي بحاجة الى إعادة تأهيل. وقد يكون إنشاء مستشفيات ميدانية إضافية أحد الحلول السريعة لإنقاذ الموقف.

رابعاً: توفير الأدوية اللازمة والمحاليل الطبية لمعالجة مشكلات الجفاف، وخصوصاً لدى الأطفال الذين تظهر عليهم مضاعفات الجفاف بسرعه كبيرة.

خامساً: البدء بتطبيق نظام تطعيم فوري لإلحاق من فاتتهم تطعيمات كانت مقررة لهم، ولاستمرار جدول التطعيم للأطفال بشكل يمنع حدوث الأوبئة، ويقي من الأمراض الشديدة الانتشار.

سادساً: الاستمرار في تقييم الحاجات المتغيرة والمتعلقة بالوضع الوبائي، وتفشي الأمراض المعدية، واستخدام جميع المعلومات المتوفرة والنمذجة الوبائية لاتخاذ القرارات والتدخلات المتعلقة بمكافحة الأمراض المعدية ومنع انتشار الأوبئة، وذلك عن طريق تشكيل فرق صحية متخصصة عاملة على الأرض تتوزع في بؤر ومراكز صحية لجمع المعلومات الوبائية، والمعلومات اللازمة، وتقصي الخرائط الوبائية، ومن ثم ترفد بها لجنة مركزية تركز المعلومات وتحللها وتوزع القرارات بناء على المعطيات المسجلة.

 

[1] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

[2] "الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي"، أخبار الأمم المتحدة.

[3]WHO: Infectious Diseases Spreading in Gaza”, IMEMC News.

[4] T. J. John and R. Z. Kompithra, “Eco-epidemiology triad to explain infectious diseases”, Indian J Med Res, vol. 158, pp. 107 – 112 (Aug. 2023).

[5] أمل مختار ونوران مدحت، "حصار غزة والتداعيات الإنسانية: جريمة حرب مكتملة الأركان"، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 16/10/2023.

[6] "أبرز حروب إسرائيل على قطاع غزة"، "الجزيرة نت"، 11/10/2023.

[7] "الصحة: فلسطين تخلصت من أمراض خطيرة بفضل برنامج التطعيم الوطني" "أمد للإعلام"، 30/4/2021.

[8]مركز المعلومات الصحية الفلسطيني-وحدة السياسات الصحية والتخطيط، التقرير الصحي السنوي فلسطين 2022.

[9] K. Moussally, G. Abu-Sittah, F. G. Gomez, A. A. Fayad and A.Farra, “Antimicrobial resistance in the ongoing Gaza war: a silent threat”, The Lancet, vol. 402 (2023).

[10] A. M. Taha, H. Mahmoud, S. A. Nada ans S. Abuzerr, “Controlling the alarming rise in infectious diseases among children younger than 5 years in Gaza during the war”, The Lancet (30L1L2024).

[11] M. Qadi, S. Alhato, R. Khayyat and A. A. Elmanama, “Colistin Resistance among Enterobacteriaceae Isolated from Clinical Samples in Gaza Strip”, Canadian Journal of Infectious Diseases and Medical Microbiology, vol. 2021 (20/4/2021).

[12] Richard Peeperkorn, Ayadil Saparbekov and Bisma Akbar, “Gaza Strip Overview”,WHO 2024

[13] R. Kanapathipillai, N. Malou, K. Baldwin, P. Marty, C. Rodaix, C. Mills, et al., “Antibiotic resistance in Palestine: an emerging part of a larger crisis”, The BMJ (2018).

[14] U. E. Schaible and S. H. E Kaufmann, “Malnutrition and Infection: Complex Mechanisms and Global Impacts”, PLOS Medicine (2007).

[15] C. Nnadi, A. Etsano, B. Uba, C. Ohuabunwo, M. Melton, G. Wa Nganda, et al., “Approaches to Vaccination Among Populations in Areas of Conflict”, The Journal of Infectious Diseases, Vol. 216 (July 2017).

[16] A. K. Abu Qamar, T. M. Habboub and A. A. Elmanama, “Antimicrobial resistance of bacteria isolated at the European Gaza Hospital before and after the Great March of Return protests: a retrospective study”, The Lancet, vol. 339 (June 2022).

[17] Zeina Jamaluddine, Zhixi Chen, Hanan Abukmail, Sarah Aly, Shatha Elnakib, Gregory Barnsley et al, “Crisis in Gaza: Scenario-based health impact projections”, Report One, London, Baltimore: London School of Hygiene and Tropical Medicine, Johns Hopkins University, 7 February to 6 August 2024.

1
عن المؤلف: 

علي السباتين: أستاذ مساعد في كلية الصحة العامة جامعه القدس، أخصائي الامراض المعدية والسارية، رئيس وحدة الامراض المعدية والسارية في مستشفى المطلع، وعضو اللجنة الوبائية الوطنية الفلسطينية.