رأي في الإضرابات الفلسطينية الحالية
التاريخ: 
11/11/2022
المؤلف: 

تشهد الحالة الفلسطينية في الآونة الأخيرة تكثيفاً لحالة الانتفاض ضد الاستعمار الصهيوني، مارس خلالها المقاومون الفلسطينيون عمليات نوعية ومثيرة، وهذا ولّد التفافاً جماهيرياً كبيراً لم تتمكن قوات الاستعمار الإسرائيلي من إنهائه وتدميره، ووضع السلطة في مأزق جعلها عاجزة عن احتواء حالة المقاومة وإنهائها، بل وجدت نفسها مجبرة على الدفاع عنها ومشاركة عائلات الشهداء العزاء، على الأقل على المستوى العلني، كزيارة بعض قيادات السلطة إلى بيوت عزاء الشهداء، مثلما فعل رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية.

يرافق عمليات المقاومة بعض الممارسات الشعبية والرسمية التي تعبّر عن الالتفاف حول فعل المقاومة واحتضانها ودعمها، مثل الإضرابات والاعتصامات والتظاهرات والمسيرات والحِداد ومحاولة احتضان المقاومين وإرباك الاستخبارات الإسرائيلية وتشويشها، بهدف عرقلة وصولها إلى المقاومين، مثلما فعل شباب مخيم شعفاط مؤخراً، عندما حلقوا رؤوسهم على الصفر؛ وتركز هذه المقالة على موضوع الإضراب لِما له من أثر في الالتفاف الجماهيري حول الفعل المقاوم ودوره في تعزيز قدرة المواطنين على الصمود والاستمرار في مواجهة الممارسات والسياسات الاستعمارية الإسرائيلية.

 

 

كتب صالح عبد الجواد مقالة قصيرة بعنوان "الإضراب في التجربة الفلسطينية المعاصرة"[1]، انتقد فيها الإضرابات الفلسطينية غير المدروسة، واستعرض فيها بشكل سريع الإضرابات الفلسطينية، السياسية والنقابية، منذ سنة 1936 حتى وقت كتابة الورقة في حدود سنة 2005، ويقول في نهاية المقال "نرجو أن يكون هذا المقال فاتحة نقاش عميق بشأن الإضراب، أيّ إضراب، أيّ منها، وفي أيّ الحالات، يمكن أن يكون سلاح احتجاج أو مقاومة، وأيّ منها يمكن أن يكون سلاح كسل وتدمير ذاتي." ويعتبر عبد الجواد أن عقلية "تأكيد البطولة" سيطرت على مؤرخينا، إذ يكون تناوُل الأحداث من زاوية واحدة، وهي البطولة، وأنهم استبعدوا المعلومات المتاحة التي تشير، من دون لُبس أو غموض، إلى وجود بُعد سلبي للإضراب، ويضيف عبد الجواد "أحد أسباب زلة المؤرخين الفلسطينيين نجم عن خلل في المفاهيم والمقاربات، فقد عالج المؤرخون الفلسطينيون الصراع، مُركّزين على بُعده السياسي من دون إعطاء البعدين الاقتصادي والاجتماعي ما يستحقانه، على الرغم من أنه يصبّ في نهاية المطاف في خانة السياسي. والمأساة أن هذه المقاربة كانت ولا تزال منحى القادة والسياسيين الفلسطينيين إلى يومنا هذا (بعكس القيادة الصهيونية التي لم تهمل البعدين الاجتماعي والاقتصادي لحساب السياسي) وهذا ما يفسر كثيراً قراراتنا السياسية الخاطئة"، ومن هذه النقطة، أحاول استكمال النقاش بشأن الإضرابات في الفترة الأخيرة نتيجة الممارسات والسياسات الاستعمارية الفاشية والتدميرية للمجتمع الفلسطيني.

شهدت منطقة جنين في الأعوام الثلاثة الأخيرة تكثيفاً لعمليات المقاومة العسكرية ضد الاستعمار الصهيوني، وأدى الفعل المقاوم على المستوى الفلسطيني إلى ارتفاع كبير في عدد الشهداء في المحافظة، وأصبحت عمليات اجتياح القوات الاستعمارية للمدينة شبه يومية، وفي الأشهر الأخيرة، وبصورة خاصة بعد استشهاد المقاوم إبراهيم النابلسي، تكثفت عمليات المقاومة في نابلس، وقامت إسرائيل بفرض إغلاق وحصار مُحكم على المدينة، بمنع الدخول والخروج منها، شُبّه بما تعرضت له المدينة في أثناء انتفاضة الأقصى. وقد أدت اجتياحات مدينة نابلس إلى ارتقاء العديد من الشهداء، سواء من المقاومين العسكريين أو غيرهم. وعلى الرغم من كل التضحيات الفلسطينية، فإن المقاومة الفلسطينية الناشئة خلقت التفافاً جماهيرياً كبيراً بسبب شعور الفلسطينيين بالعنفوان والكرامة، نتيجة للممارسات المقاومة، فكما يقول فانون في كتابه "معذبو الأرض": "إن المستعمَر ’الشيء‘ يصبح إنساناً بمقدار ما يحققه من عمل لتحرير ذاته"، وبالتالي، وضعت هذه المقاومة المسار الصحيح للفلسطينيين لاستعادة إنسانيتهم، ولكن كيف نعمل على زيادة وتوسيع فئات الاحتضان الفلسطيني للمقاومة، ودعم مصادر الصمود والاستدامة لها؟

أحد أهم العوامل لاستدامة الحاضنة النضالية الفلسطينية هي مراعاة ظروف وحاجات مختلف فئات الشعب الفلسطيني، وعدم التضييق على حياة الناس وممارستهم لحياتهم ومصادر رزقهم، وهنا تكمن أهمية دراسة إعلان الإضرابات الفلسطينية وتوقيتها من خلال التعمق في أهدافها ونتائجها وتأثيرها، والسؤال الذي نبدأ به القضية هنا، إضراب مَن ضد مَن؟

الإضراب إجراء يتخذه الشخص أو المجموعة بالكفّ عن العمل لفترة محددة، جزئياً أو كلياً، من أجل مطالبة العمال أو الموظفين بقضايا معينة، ولكي يكون الإضراب ناجعاً ويحقق أهدافه، يجب أن يؤثر سلباً في الشخص أو المؤسسة التي يتم اتخاذ قرار الإضراب ضدها، سواء كان ضد مؤسسة، أو شخص، أو دولة؛ ولهذا تحاول المؤسسات احتواء الإضراب والدخول في مفاوضات للوصول إلى حلول لمعالجته، وهذا عادةً ما يحدث في النقابات والمؤسسات، وأحياناً في الدولة كمؤسسة، وفي الفترات التاريخية الفلسطينية المعاصرة، خاض الفلسطينيون إضرابات ضد سياسات الدول الاستعمارية المتعاقبة على فلسطين، وسعت هذه الدول لاحتواء الإضرابات بكل الطرق وإجبار الفلسطينيين على وقفها، فسعت بريطانيا بكل الطرق والوسائل لوقف إضراب 1936، وهذا ما سعت له إسرائيل في الانتفاضة الأولى (1987)، لكن المهم في هذه النقطة أن الاستعمار كان هو السلطة المسؤولة عن شؤون الفلسطينيين، وبالتالي الإضراب يضر بمصالحه، ولهذا عمل على وقفه بكل الطرق.

الإضراب العام في الحالة الفلسطينية الأخيرة جاء ليعبّر عن الغضب ضد السياسات والممارسات الإسرائيلية، والاحتفاء بالشهداء والحداد عليهم، وتعزيز التفاف الناس حول المقاومة وتعزيز الهوية الوطنية، وعلى الرغم من نجاعة هذا الأسلوب في حالات معينة، فإنه يعمل في حالات أُخرى بعكس الهدف منه، فتعميق الهوية والوعي الوطني وتعزيز التفاف الناس والاحتفاء بالشهداء يأتي من خلال مراعاة ظروف الناس الاجتماعية والسياسية وتمكين قدراتهم، وتعزيز صمودهم في مواجهة سياسات الاستعمار، وهو الهدف الذي دفع المقاوم إلى ممارسة مقاومته، أي توسيع حياة الناس، وليس تضييقها، فالهدف من المقاومة التحرير والحرية، وليس التضييق على حياة الناس، ولهذا يجب أن يُدرس خيار الإضراب جيداً قبل إقراره.

إذا أخذنا حالة مدينة جنين ونابلس، كونهما رأس الحربة في مقاومة المشروع الاستعماري حالياً، فنجد أن الوضع الاقتصادي للمدينتين زاد سوءاً، وهناك تقديرات يومية للخسائر الاقتصادية لمدينة نابلس نتيجة الحصار[2]، وبالتالي يأتي قرار الإضراب لـ "يصب الزيت على النار" ويزيد في الخسائر والتضييق على الناس في نابلس وجنين، فبدلاً من تمكين قدرات الناس الاقتصادية والاجتماعية، يعمل الإضراب على إضعافها، ومن أجل المحافظة على صمود الناس وتعزيز الالتفاف الشعبي حول المقاومة، وتعزيز قدرات الصمود الذي يُبقي روح المقاومة واحتضانها لدى الفلسطينيين، يجب مراعاة حاجات كل فئات المجتمع الفلسطيني، كالتجار والسائقين وأصحاب المؤسسات والشركات والعمال وغيرهم، وكما يقول زياد الرحباني "أنا مش كافر بس الجوع كافر"، فالظروف الصعبة والقاسية هي التي تدفع الناس إلى الانفكاك عن المقاومة والتذمر منها، وهو ما تسعى له إسرائيل دائماً من خلال معاقبة البيئة الحاضنة للمقاومة كما حدث في منع الفلسطينيين من داخل الخط الأخضر من التسوق من مدينة جنين، أو من خلال حصار مدينة نابلس، وهو ما لفت انتباه المقاومة في جنين، فأصدرت بياناً "لتنظيم الإضرابات التجارية والعامة"، بحيث تسعى لتخفيف الأثر السلبي للإضراب. (مرفق)

لقد ابتكر الفلسطينيون، عبر تاريخهم، ممارسات إبداعية للالتفاف حول المقاومة وتعزيز صمود الناس واستمرار مقاومتهم، وفي الفترة الحالية، مثلاً في أثناء الحصار الاقتصادي لمدينة جنين، جاءت دعوات من مختلف أماكن الضفة الغربية للذهاب إلى جنين والتسوق منها، فمثل هذه الممارسة يعمل على مقاومة السياسة الاستعمارية في محاربة اقتصاد حاضنة المقاومة، وهذا يعمل على احتضان المقاومة من كافة فئات المجتمع، عبر تنشيط الحركة الاجتماعية والاقتصادية التي يستفيد منها المجتمع في جنين، وبالتالي عمليات ردة الفعل الإسرائيلية على المقاومة الفلسطينية لم تخلق عبئاً على المجتمع، وهذا ما يجب التفكير فيه والانتباه له في العمل المقاوم.

الجانب الآخر هو الاحتفاء بالشهيد والجريح، بهدف تقديرهما وتعزيز الهوية والوعي الوطني من خلال الحالة التي يولدونها والنماذج التي يشكلونها في الوعي الفلسطيني، فالإضراب يخلق شللاً في حركة الناس، ويبقيهم في بيوتهم، الأمر الذي يعمل على تشجيع الكسل وعدم العمل، فبدلاً من الدعوة إلى الإضراب، يمكن عمل حلقات شعبية في الشوارع لتعزيز الهوية الوطنية، أو وضع مكبرات الصوت في مراكز المدن، تشحن المجتمع وتعزز الحالة النضالية والمقاومة والوطنية لدى الناس، ويمكن توجيه دعوات إلى مهرجانات أو مسيرات لساعات محددة، بحيث لا تعمل على زيادة العبء على الناس. ويمكن استثمار الحالة في المدارس، حيث أغلبية الطلبة تعطل الدراسة في الإضراب من دون معرفة أسبابه، وبالتالي يشكل الإضراب لدى الطلبة حالة فرح بغيابهم عن المدرسة، فبدلاً من إغلاق المدارس، يمكن تحويل كل الحصص المدرسية، أو جزء منها للحديث عن الوطن والشهيد، وكيف ولماذا استشهد، وبالتالي تغرس القيم الوطنية التي تعمل على تعزيز الوعي والهوية الوطنية بين الطلبة.

إن الإضراب بالطريقة الحالية يعمل على خلخلة الهوية الوطنية والانفكاك عن الفعل المقاوم، نتيجة بعض الممارسات غير المدروسة التي تتخذها القيادات الفلسطينية، وهذا ما نراه من خلال مهاجمة المحال التجارية وتكسير محتوياتها، وما يصاحب ذلك من "طوش" بين الناس. إن مراعاة حاجات جميع الفئات الاجتماعية والاقتصادية، والتي تعمل في النهاية على تعزيز السياسي وتمكينه من خلال تعزيز النسيج الوطني والاجتماعي والاقتصادي، عبر تعزيز قدرات الناس ومراعاة حاجاتهم، فالذي يوقف النشاط الفلسطيني، سواء الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، يجب أن يكون فقط الاستعمار، ويجب على الفلسطينيين مقاومة هذه السياسية لإبقاء النشاط والعمل مستمرين من أجل صمود واستمرار العمل المقاوم الذي يؤدي إلى التحرير.

 

[1] صالح عبد الجواد، "الإضرابات في التجربة الفلسطينية المعاصرة " (البيرة: مركز دراسات التراث والمجتمع الفلسطيني، 2006).

[2] اقتصاد نابلس في دائرة الحصار (wafa.ps).

عن المؤلف: 

أحمد حنيطي: كاتب وباحث، حائز على درجة ماجستير في علم الاجتماع من جامعة بيرزيت.