مقابلة مع المناضلة روضة عودة (الجزء الثالث): فرخ البط عوّام
التاريخ: 
01/09/2021
ملف خاص: 

تستكمل روضة عودة المقابلة بالحديث عن أبنائها قائلة:

عندما حدثت مذبحة الأقصى في سنة 1990، كان ابني لؤي في الثانية عشرة من عمره. أوصله والده إلى المدرسة في حين لم أكن قد خرجت إلى العمل بعد، وإذ به يعود ويقول لي: "خذي الشنطة بدي أروح على الحرم بدهم يدخلو مستوطنين" (...) فقلت له: "يا جبان لو بدك تروح بترمي الشنطة وبتروح، بس أنت جاييني وتقول بدي أروح عشان أمسكك وأخاف عليك!! لا، بدك تروح". ذهب إلى الحرم ومرّ ذلك اليوم، ومن حينها زاد خوفي عليه. فقد بات يفعل كل ما يريد من دون أن يتحدث عن ذلك، ويغادر البيت من دون تبليغ.  في أحد الأيام اقتحمت قوات الاحتلال البيت ومرادها لؤي، لكنهم لم يجدوه، فطلبوا منا تبليغه بالحضور إلى مركز التحقيق، ولم يحدث ذلك، ومن يومها بات ابني مطارداً. بقي في رام الله مطارداً خمسة أعوام، نجا خلالها من عدة محاولات لتصفيته واغتياله. بقي اسمه على لائحة المطاردات، وفي سنة 2002 كان الاجتياح العدواني ولم نعد نسمع عنه شيئاً. تضاعف قلقي عليه لدرجة أنني كلما كنت أسمع عن شهيد سقط للتو، أو أشاهد في التلفاز صور شهيد، كنت أتصل بالدكتور مصطفى البرغوثي وأقول له: "في شهيد بالمستشفى روح شوفلي"، فيذهب ويؤكد لي أن الشهيد ليس ابني.  بعد تسعة أيام من الاجتياح اتصل لؤي وقال لي: "يما أشوفك في دار الأرملة"؛ "يا حبيبي وينك، شو صار فيك؟"

جلست وإياه وقلت له "يا لؤي قوم تحمم"، فأجابني: "لا خليهم لما يمسكوني يقرفوا من ريحتي بعدين بدي أدللك". فأعد لي فنجان قهوة ثم أعدّ بطاطا مقلية وأكلها، واتكأ عليّ وجلس يشاهد التلفاز. غفوت وهو إلى جانبي، وبعد منتصف الليل بثلاثين دقيقة سمعت صوتاً وضجيجاً، وجنود الاحتلال يصرخون "اطلعوا برّا وحطوا إيديكم على راسكم". لم ننصع لأوامرهم، بل أيقظت لؤي وقلت له "قوم يما إجا الجيش"، أكمل نومه، فأنصتتُ مرة أُخرى كي أتأكد ما إذا كان المقصود الحارة كلها أم نحن فقط. فبدأوا برشقنا بالحديد والحجارة. اصطف الجنود حول الدار المقامة على مساحة دونم وكان عددهم كبيراً، لكن لم تظهر أية ملامح لهم، ولم أرَ سوى عيونهم وضوء الليزر. أراد لؤي الهرب، فقلت له: "وين تهرب؟" ثم ازداد الضرب على الأبواب والجدران، فأدخلته إلى غرفة داخلية يحيط بها  ليوان ومطبخ، وغطّيته بجسمي وأنا أقول له: "ألا تسمع صوت الطيارة؟ هلأ بيقصفونا". بقينا على هذه الحال حتى السادسة صباحاً، والجنود يحاصرون البيت وينادون "إطلَعوا". ثم فُتح الباب، وإذ بسامي ابن اختي يبلّغني أن الجيش دخل. خرجت في اتجاههم، فسألني الكابتن "مين إنتِ؟"، قلت له: اسمي روضة عودة، أنتَ مين؟ فقال: مَن معك هنا؟ قلت له: ابني. ثم سأل: ما اسم ابنك؟ أجبته: لؤي؛ عندها طلب مني إحضار لؤي الذي خرج في اتجاههم، حمَيته بجسمي كي لا أدعه يخرج، وحشرته بين الباب وبيني. فواصل الكابتن كلامه: "أحضريه"، فصرخت به: أنا لا آتي به، تعالوا خذوه. حضر الكابتن وأخذ لؤي وبدأ بالتحقيق على الرصيف بمحاذاة البيت. وخلال ذلك كنت أُعدّ له أغراضه من حذاء وسترة، وكل مرة كنت أدنو منه لأسلمه غرضاً آخر، كنت أشعل له سيجارة. ثم نظرت إلى الخلف لأجد ابن أختي الثاني سفيان وشاباً آخر عيناه معصوبتان، واتضح لاحقاً أنه شادي الشرفا. أدخَلوا لؤي إلى السيارة، أحضرتُ له بلوزة، وبدلاً من أن يسلموه إياها عصبوا بها عينيه. سمحوا لي بأن أودعه، فقبّلته وانطلقوا به. وصار شادي يسأل أولاد أختي: "إيش جابكم؟" فقالوا له: "أجونا على الدار في عمارة "نسيبة" وحكوا لسامي إفتح الدار والبس هاي البلوزة ووقّف جنب الدار"، ثم هددوه بقولهم وأوامرهم: "إذا ما بتدخل البيت راح نحضر الجرافة ونهدمه على مَن فيه وأنت المسؤول". دخل سامي وسفيان وباتا رهينة عندهم، وأنا خفت على الدار لأنها ليست لنا. وبينما أنا خارجة من الدار قلت لسفيان "يا حبيبي سامحوني ولا تؤاخذونا، عشان أنا معي مفتاح جبت ابني وقعدنا فيها. لم أبُح لكم بذلك من قبل"، أما رده فكان: "إذا إنت معك مفتاح صارت الدار داركم!"

أخذوا لؤي وسجنوه. رأيناه مرة واحدة في معتقل المسكوبية، لم نستطع زيارته في السجن لأننا كنا، أنا ومحمد، أسرى سابقين والإجراء يحتاج إلى وقت طويل وتقادُم حتى نستطيع زيارته. الأسرى السابقون ممنوعون من الزيارة إلى حين الحصول على تصريح بذلك. كانت المحكمة مقيتة للغاية، وأجواؤها أجواء قهر وانتقام، والقاعة قذرة. عُقدت جلستان في معتقل عوفر شمالي القدس وجلستان في بيت إيل بمحاذاة رام الله، ومنها الى عوفر.

في أحد الأيام دخلت إلى قاعة المحكمة بعد دخول القضاة العسكريين، وبينما أنا أهمّ بالخروج من القاعة، وقف جندي عند البوابة، لم أتحدث إليه ولم يتحدث إليّ، ومن دون مقدمات بدأ يشتم ابني ببذيء الكلام. أغاظني لدرجة أنني شعرت بأن "رأسي يكاد ينفجر"، عدت على عجل لأقدم شكوى إلى القاضي وأشرح له ما حدث. فحضر جنود واستبدلوا ذلك الجندي، وذهبت في طريقي. ويا للمفارقة، كان ذلك في يوم عيد الأم، والأنكى أن المحكمة أصدرت قرارها في ذات اليوم بالحكم على لؤي بالسجن ثمانية وعشرين عاماً. وحين ذكروا الرقم "28 عاماً" شعرت بأنها الدهر كله، وبدأت أنشد في قاعة المحكمة: "أناديكم وأشدُّ على أياديكم وأبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم".

صرخت بي شرطية "ماذا بك؟" فقلت لها: "اخرسي مليون خرسة تفو عليكي" . تجمع الجنود فصرخت في وجوههم جميعاً وأنا أتحداهم.  لقد فوجئوا ولم تخرج منهم أية كلمة ولم تصدر عنهم أية ردة فعل. "انصدموا" كما قال لي لؤي لاحقاً. وأضاف أن الجنديين اللذين أخرجاني من القاعة فعلا ذلك وهما يبكيان. وشرح لي لؤي كيف كان صوتي وحالتي.  مرت خمسة أعوام ونحن محرومون من زيارته في السجن، ثم سمحوا لنا بالزيارة، وبدأ مشهد الإذلال. إحدى السجانات كانت "بترفعلي بلوزتي وبتحطها في صدري، دفعتها وبحكيلها ماذا تفعلين؟!!" صرختُ في وجهها!  فأجابتني "تفتيش". فواصلتُ كلامي: "أنا أعرف كل السجون، ما هكذا يكون التفتيش".

دخلتُ إلى حيث العائلات التي انتهت من مرحلة التفتيش، فقلت لهم: "كيف تسمحون لهم بهكذا تفتيش! أولادكم في السجن من أجل كرامتكم، وأنتم تهينون كرامتهم".  بعد ذلك حضر الجنود واستفسروا عن جلبة النقاش، فقمنا بتبليغ الأسرى بما حدث، فواجه لؤي الجنود بما حدث معي، ليتضح أن الجميع تعرّض للأسلوب المهين نفسه، ومن يومها تراجع السجن وبات التفتيش بجهاز (الماغنومتر) وليس باليدين.  حضرتُ للزيارة في المرة التالية، فبلّغتني الجندية: "أنتِ لا يوجد لك زيارة"، سألتها لماذا؟ أجابت: لأنكِ أسيرة سابقة، فأكدت لها أنني أحمل تصريحاً، لكن التصريح ملكهم. وهكذا حُرمت زيارة ابني خمسة أعوام.

كان لدينا أمل بالإفراج عن لؤي في صفقة بعد اختطاف الجندي جلعاد شاليط.  في أحد الأيام اتصل بي شخص من غزة وطلب تفاصيل ثبوتية عن لؤي، وأكد لي أن اسمه سيُدرَج في التبادل. في كل مرة جرى حديث عن التبادل كانوا يتصلون ويؤكدون أن اسم لؤي لا يزال ضمن القائمة. في يوم تنفيذ الصفقة كنتُ مضربة عن الطعام ومعتصمة في مقر الصليب الأحمر، وذلك إسناداً لإضراب الأسرى في تلك الأيام، وتزامناً مع إضراب للنواب لاسترجاع هوياتهم المقدسية. وبينما نحن على هذه الحال بلغنا التأكيد الرسمي بشأن الصفقة. كان ذلك يوم الثلاثاء، وأن التنفيذ يوم الأحد. يوم الأربعاء تلقيت خبراً بأن لؤي ضمن الصفقة، لكنه سيكون مُبعداً. لم أحدّث أحداً بذلك. الممرضة التي كانت تجري لي فحصاً للدم والضغط لاحظت أن ضغطي مرتفع جداً. استفسرت عما يحدث معي، فقلت لها: "أولادي منشفين دمي"، فبقيت صامتة بعدها.

في ساعات العصر اتصلت بزوجي محمد، وكان بصدد استصدار تصريح، ولم يستصدره.  بعد ذلك وردت قائمة الأسماء الرسمية للمفرَج عنهم في موقع مصلحة السجون، لكنها لم ترِد دفعة واحدة، بل انتظرنا على أحر من الجمر إلى أن ورد اسم لؤي. جهزنا أمورنا واستمرينا في التواجد في مقر الصليب الأحمر، وأكدت أنني لن أخرج حتى ينتهي الإضراب. حينها اتصلت بي خالدة جرار وبلّغتني أن الأسرى أنهوا الإضراب في اليوم السابق، قائلة: "قومي وروحي".  عدت الى البيت ودخلت لأستحم ثم خرجت قبل ذهاب الناس، ونزلت إلى إيلات، ومن هناك ذهبنا إلى مصر، ويوم التبادل كنت في الصليب الأحمر.

"بعدين حطوا لي النواب كنباية قدام التلفاز عشان إم لؤي كيف بدها تكون لما تشوف لؤي، وكان من حظي قبل ما يجي لؤي في شاب طالع من عائلة الشاويش من المحرَّرين روّح على القدس طلعوا يسلموا عليه في الخارج، أنا لحقتهم وبيحكيلي هلأ بيجي لؤي، وما وصلت وإلا لؤي مارق، شفته على التلفزيون، الحمدلله على سلامته، بعدين دخلت على غزة والتقيت فيه، أخذونا ناس ورحنا وكان في فندق الموفنبيك وهناك التقينا."

لؤي يعيش حالياً خارج البلاد، متزوج ولديه ابنة اسمها "لفتا" تيمناً باسم القرية المهجّرة، وابنه اسمه محمد العربي، مع أن البعض نصحه بألا يسميه بهذا الاسم لأنهم يعتبرونه هنا في أوروبا اسماً إرهابياً، فتحداهم وسمّاه محمد العربي.

بعد أن تحدثت عن ابني لؤي، أريد أن أتحدث عن ابني أُبَيْ.  كان عمره سبعة عشر عاماً، وفي الطريق إلى المدرسة نصب له جنود الاحتلال كميناً على صورة حاجز فجائي، فأنزلوه من السيارة التي كان يستقلها واعتقلوه. اتصل بي صديقه ووالده اللذان كانا معه في السيارة. وأكد لي والد صديق أُبَيْ أن الجنود اعتقلوه ويحتجزونه في الشارع بالقرب من فندق الريجنسي. وطلب أن نذهب أنا وزوجي محمد إلى هناك لمتابعة أمر اعتقاله بصفتنا والديه. ذهبنا على عجل إلى المكان ولم تفلح جهودنا في ثنيهم عن اعتقاله. عدنا إلى البيت، وإذ بالشرطة تتصل، الأمر الذي أثار حنقي وغضبي، وتلقائياً قلت للشرطي: "إلهي يشرط قلبك!" فقال: "أريد فقط أن أخبرك بأن أُبَيْ موقوف عندنا، فواصلت تأنيبي للشرطي بقولي: "توقف المي بزرابيبك"، فقال لي: "سأقول لأُبَيْ إنني اتصلت بأمك لأخبرها فصارت تبهدلني." أخبرني أُبَيْ لاحقاً أنه ردّ على الشرطي بالقول: "أنت تعتقل ابنها، لن تقول لك شكراً على اعتقالي."

 كان التحقيق مع أُبَيْ مطوّلاً، وتخلّله الكثير من العنف. على الرغم من ذلك، ومن صغر سنّه، إلا إنهم لم يحصلوا منه على أي اعتراف، وهذا ما أغاظهم. قال لهم أُبَيْ: لماذا السجن "ما عندي إشي ولا ملف"، فردّ المحقق: "لكن عندنا الكثير عنك لتدخل إلى السجن"، فأجاب أُبَيْ: "إذا كان لدي حرية اختيار فأنا أحب أن أكون مع أخي لؤي، في سجن قريب من سكني، لأن أمي مريضة وتعاني من السرطان." فقال المحقق: "أنت بتحب أمك كثير ونحن أيضاً... لهذا السبب راح نغلّبها تركض من الشمال للجنوب." وهكذا أدخلوا أُبَيْ إلى سجن الشارون، بينما كان لؤي في سجن عسقلان. ولثلاثة أعوام كنت أزورهما مداورة، أسبوع هنا وأسبوع هناك. بعدها جمعوهما في سجن واحد، وفي المقابل، وللتنغيص، بتنا أنا ومحمد ممنوعيْن من الزيارة. وحين أُطلق سراح أُبَيْ كان قد مضى ثلاثة أعوام من دون أن أراه، على الرغم من الالتماسات التي قدّمها أُبَيْ ولؤي إلى محكمة الاحتلال لإتاحة المجال لنا لزيارتهما. كانت المحاكم صوَرية لدرجة أن القاضية قالت للؤي في إحدى الجلسات: "على الرغم من أن أمك وأباك متقدمان في السن ويمكن أن يموتا في أية لحظة، لكن لن أعطيهما تصريحاً للزيارة."

قبل الإفراج عن لؤي بفترة وجيزة حصلنا على تصاريح للزيارة. أعتقد أننا حصلنا على التصريح بعد إعداد تقرير متلفز شاركت فيه وسُئلت عن حالي وعن الزيارات إلى السجن،  فقلت لهم إنني لا أزور ولدي، ثم سألوني ماذا أود أن أقول لابني الأسير، فكان ردي إنني لن أتحدث عن حبي له ولا عن شوقي، لكنني أريد أن أؤكد له أنه كلما تُرفَض الزيارة، كلما يزداد فخري بك لأنك لم تخضع لهم. وبعد بثّ التقرير بأسبوعين بلّغوني قرار إصدار تصريح للزيارة.

كانت خمسة أعوام صعبة للغاية، اجتمعت فيها المشقات. وعلى مدار أشهر كثيرة لم تُتَح لنا زيارة لؤي ولا أُبَيْ، كنت أقلق على ولديّ الأسيرين. كان ابني الصغير عُدَي في الثانية عشرة من عمره، وهو ما تطلب مني الاعتناء به وتنشئته في ظروف طوارىء.

قبل كل يوم زيارة كنا نتصل بالسجن ونطلب تسجيل زيارتنا، وفي حال صودِق عليها، كنا نسلّم هوياتنا بعد سفر ساعتين ونصف تقريباً، يسبقه تجهيز أنفسنا، فيبدأ نهارنا الطويل قبل الفجر وينتهي مساء. في السجن كنا نسلّم بطاقات الهوية وننتظر، وقد يتراوح الانتظار بين نصف ساعة وعدة ساعات. بعد الإفراج عن لؤي وإرساله إلى المنفى في صفقة تبادُل وفاء الأحرار بقي لدينا أُبَيْ أسيراً، فأمضى 26 شهراً في السجن إلى أن بلغ سن الثامنة عشرة. وحين بلوغه السن القانونية استأنفت نيابة الاحتلال وحكموه بالسجن أربعة أعوام. وبعد الإفراج عنه التحق بجامعة بيرزيت، وحصل على البكالوريوس، بينما تنقّل لؤي في منفاه والتحق بجامعة بلجيكية ليحصل على الماجستير بعد حصوله على البكالوريوس من جامعة القدس المفتوحة وهو في السجن. نشأ أولادنا في بيت حاضن، لكن في بيئة صعبة للغاية، فما أكثر المرات التي أفاقوا من نومهم في ساعات الفجر على أصوات المداهمات والتفتيشات والاعتقالات، وكانوا شهوداً على الخراب في البيت بعد التفتيشات واعتقال زوجي محمد. وكم مرة أفاقوا من نومهم ووجدوا العسكري أو رجل الاستخبارات فوق رؤوسهم.

في أحد الاقتحامات الليلية ناديت أولادي كي يستفيقوا من النوم ويشاهدوا كيف يعتقل الاحتلال والدهم من البيت، وإذ بضابط الشاباك يقول لي وبكل صفاقة وسادية: "حرام تصحّيهم، اتركيهم نائمين"، فقلت له: "مش حرام. خلّيهم يشوفوكم ويحفظوا وجوهكم"، فأجابني: "لا يا أختي ليش يحفظوا وجوهنا؟ خليهم يحفظوا وجه جورج حبش"، فقلت له: "جورج حبش في قلوبهم بس بدّي يحفظوا وجهك لأنه كريه."

هكذا كانت طفولتهم، وكانوا يشهدون مداهمة جنود الاحتلال للمنزل ثلاث أو أربع مرات في السنة لاعتقال والدهم في كل مناسبة.  كبر الأولاد وبدأت الانتفاضة الأولى. أتذكر أنني كنت في محاضرة في أيسلندا، وسأل الحضور الأيسلنديين ابني قُصي الذي كان يرافقني كيف تعرّف إلى الاحتلال، فأجابهم:  لما بدأت الانتفاضة الأولى كان عمري سبعة أعوام،  كنت في طريقي إلى  المدرسة، وأضع سواراً على يدي مجدولاً بخيطان بألوان العلم. أوقفني الجنود وسألوني ما هذا؟  فشرحت لهم أنه سوار.  فقالوا لي وهم يصرخون: ممنوع!  لازم تنزعها. لم أقبل. فأحرقوها وهي على يدي.

هذه هي الحياة والمعاناة التي عشناها أنا ومحمد بعد أن التقينا بالفكر والنضال واخترنا الطريق الصعب، فتزوجنا وأنجبنا أربعة أولاد، لكننا عشنا بكرامتنا.

(يتبع...)

أجرى المقابلة، الأسير المحرر بلال عودة

عن المؤلف: 

روضة عودة: أسيرة سابقة، من سكان القدس ومن مواليد العام ١٩٤٨. وهي مناضلة فلسطينية من رائدات الحركة الطلابية في الستينات ومن رائدات العمل النسوي الفلسطيني وحركات التغيير الاجتماعي ورمز من رموز القدس، ولها دور كبير في العمل العربي والدولي.

انظر