نهاية عهد ترامب شهادة على زمن يتغير
نبذة مختصرة: 

يُعدّ دونالد ترامب الرئيس الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة، وهذا الجدل الذي دام 4 أعوام عجاف على مستوى علاقات واشنطن بالخارج، كما على المستوى الداخلي الذي حدث فيه انشقاق عامودي أظهرته نتائج الانتخابات، لن ينتهي بانتهاء عهد ترامب، وإنما سيكون هناك تداعيات مستقبلية كثيرة لن يكون من اليسير التكهن بنتائجها.

النص الكامل: 

أصبح دونالد ترامب من الماضي بعد معركة رئاسية لم تشهد الولايات المتحدة مثيلاً لها في تاريخها. فالمواجهة انتهت بانقلاب على جميع التوقعات، إلّا إنها ساهمت في إعادة إنتاج خطاب الكراهية، وأعطت الانقسامات العمودية زخماً سياسياً، وغذت مقولة "المؤامرة" واتهام طرف خفي بالتزوير والتلاعب بالبطاقات الانتخابية وغيرها من قراءات ألقت على النتائج ظلال الشك.

هذا كله لا يلغي أن ترامب أصبح من الزمن الماضي، لكن خطابه سيستمر في إنتاج أزمات متتالية سيكون لها تأثيرها السلبي في الحاضر وتوازنات الدولة ودور أجهزتها العتيقة في ضبط إيقاع التعايش بين الجماعات الأهلية. فالخطاب المتوتر في تعبيراته اللفظية كسر تلك القوالب الذهنية بشأن مبادىء المساواة والعدالة أو تلك الموجهة ضد نزعة التمييز العنصري والعرقي واللوني، وأظهر معالم الصورة الخفية على أرض الواقع.

بسبب هذا الخطاب التحريضي تغيرت آليات اللعبة، وانتقلت المعركة موقتاً من وراء الستار إلى المسرح المكشوف منذ اللحظة التي أُعلن فيها فوز ترامب بالرئاسة في الانتخابات السابقة. فمنذ أربعة أعوام بدأت الأسئلة القلقة بالانطلاق: كيف حدث الأمر؟ هل في المسألة خدعة؟ لماذا جرت الأمور نحو هذا المنحى؟

شكلت تلك الأسئلة وغيرها من تحفظات منذ سنة 2016 نقطة بداية للاعتراض على نتيجة لم يعد ممكناً تغييرها أو العودة عنها أو تصحيحها إلّا بعد أن تأخذ التجربة وقتها ويأتي بعدها الحساب العام.

أصبحت النتيجة مقدمة. فالموضوع الذي تم التوافق عليه بين الحزبَين الجمهوري والديمقراطي عبر عقود من الزمن، خرج عن سكّته، وبات بحاجة إلى إعادة نظر أو على الأقل إلى قراءة مختلفة لذاك السياق الدستوري والعرفي والتقليدي الذي كانت تحدث فيه الأمور ويتم التحكم في احتمالاته، في حال جاءت نتائجه خارج دائرة التوقعات.

هذا الأمر كان من الصعب السيطرة عليه في عهد ترامب. فالرجل كان مفاجأة ليس للحزب الديمقراطي فقط، بل أيضاً للحزب الجمهوري وتفرعاته التقليدية وشبكة علاقاته المتعايشة مع أجهزة الدولة الثابتة الجذور.

كان من الصعب أن يتأقلم الرئيس "الشعبوي" مع جذور الدولة العميقة تقليدياً وزمنياً، كما كان هناك استحالة أن تتعايش الأجهزة الراسخة مع أمزجة رئيس لا يولي أهمية لتلك الشكليات والاعتبارات المعنوية التي تأسست قنواتها من خلال الأعراف والتجربة.

منذ تلك اللحظة بدأت الأزمات. فهذا الرئيس غير المتجانس مع التقاليد الدستورية سيتحول إلى مشكلة في حال واصل خطابه الشعبوي / التحريضي، واستمر يستفز دوائر القرار ولا يحترم الأصول المتوافق عليها مهما تبلغ الاختلافات في الرأي.

كانت أجهزة الدولة "العميقة" في توتر دائم مع مزاجيات الرئيس الذي هبط على البيت الأبيض من خارج القنوات المرسومة لصناعة القرارات التي تشرف مصالح الدولة العليا على صوغها. فالرئيس في نهاية المطاف محكوم وليس حاكماً حتى لو كان الدستور يعطيه صلاحيات استثنائية لمدة ولايته.

كانت مشكلة الرئيس مع أجهزة الدولة العتيقة أنه لا يعترف بالأعراف، ولا يكترث بالانفعالات والتداعيات وردات الفعل المضادة لتغريداته ورسائله ومواقفه وقراراته التي يطلقها يومياً عبر حسابه الخاص في "تويتر". لذلك كان من واجب مراكز القوى في الدولة أن تراقبه للتوضيح والاعتذار والتصويب والتصحيح وتدوير الزوايا وتبريد السخونة واحتواء الانفعالات وإعادة ترتيب الاتصالات لضبط الانعكاسات السلبية الناجمة عن قراءات خطأ لمواقف غير مفهومة كانت تصدر عفوياً عن صاحب السلطة في الغرفة البيضاوية.

هكذا يمكن وصف سياسة ترامب العشوائية منذ لحظة دخوله معترك الرئاسة في البيت الأبيض. فالرئيس الشعبوي متشنج في تعامله مع طاقمه الوزاري وسلسلة الموظفين والمستشارين، ولا يعتقد أن أحداً يمتلك الفضل في وصوله إلى المقعد الأول، ولا حتى حزبه الجمهوري الذي حاربه بداية، إلى أن رضح لإرادته وقَبِل به كأمر واقع لا غنى عنه في مواجهة خصمه الديمقراطي التقليدي.

تحت هذا السقف الملتبس في ضوابطه وحدوده كان ترامب يتعامل مع أقرب الناس إليه في اتخاذ القرارات والمواقف وترسيم السياسات الداخلية والخارجية. فهو الرئيس الذي يقرر ويتخذ الخطوات التي تتلاءم مع مزاجه "الأيديولوجي" المحكوم بتصرفات تنسجم مع تجربة صاحب شركات وأندية ومشاريع ومغامرات تجارية وسياحية ورياضية كانت ناجحة في معظم الأحيان والحالات بسبب تعاملها مع رجال المال والأعمال في أوروبا الشرقية ودول خليجية، لكنها لا تتوافق مع المصالح العليا لدولة كبرى.

كانت الإدارة في ولايته أشبه بالشركة المتعددة الرؤوس والأنشطة، ولا تهتم إلّا بنهاية جدول الحسابات ومدى انسجامها مع بورصة السوق ومستوى ارتفاع أرقامها وهبوطها. فالربح هو المقياس، ومنه يمكن قراءة سياق النجاح أو الفشل. وكي تكون المسألة سويةً في نهوضها، كان شغل الرئيس الشاغل هو مراجعة أرقام الحسابات ضمن معادلة الإنفاق أو الدفع.

فمَن يدفع هو الصديق، ومَن لا يدفع موضوع على لائحة الأخذ والرد بغضّ النظر عن مدى حاجة الولايات المتحدة إلى هذا الطرف أو ذاك. فالمهم عند الرئيس هو الدفع وعدم تكليف الخزانة الأميركية المفلسة مزيداً من الانفاق حتى لو كان الأمر يتعلق بالحلف الأطلسي (الناتو) الاستراتيجي، أو دول الاتحاد الأوروبي، أو منظمة الصحة العالمية.

المسألة إذاً "أميركا أولاً". وهذه "الأميركا" برأي ترامب دفعت كثيراً لحماية الأصدقاء في أوروبا والحلفاء في الخليج والأسواق في آسيا، وبات الآن على هؤلاء المشاركة في الدفع كي يخفّ الضغط على إنفاق الميزانية الفيدرالية. كذلك لا بد من إعادة النظر في منظومة الأولويات ودرجاتها كي يعود الدولاب إلى مربع الانطلاق وهو أن تكون مصلحة أميركا فوق كل مصلحة. ويقتضي هذا الأمر إعادة فرز شروط الولاء للوطن، الأمر الذي يعني ترتيب درجات المواطنة بين فرد أميركي منتج يدفع الضريبة، وفرد دخيل غير منتج يستفيد من فائض دافع الضرائب للخزينة.

وكي يأخذ كل فرد حقه، فإنه في رأيه لا بد من إعادة الفرز بين المواطنين، وبناء جدار الفصل (العزل) ضد المكسيك للتمييز بين الأميركي الأصيل والأميركي الدخيل.

شكّل هذا الخطاب الشعبوي نقطة تحوّل في السلوك اليومي للرئيس، الأمر الذي ساهم لاحقاً في تشكيل جبهة "أيديولوجية" مضادة له شرعت تتحالف ميدانياً للدفاع عن تقاليد أصبحت مع مرور الزمن من مبادىء الدولة ولا يمكن تغييرها، وذلك كي لا تتهاوى المؤسسات ويتساقط القانون ويتسابق المواطن للتسلح بذريعة الحماية أو الخوف من الآخر.

بهذا المعنى تعاملت مراكز القوى في الدولة – وشرائح من النخبة الأميركية – مع خطاب ترامب بكثير من الحذر بعد أن وصفته سابقاً بالمهرج الذي لا يفقه بالسياسة، بل يهدد المجتمع بالحرب الأهلية.

 الدولة العميقة وترامب

لكن هل فعلاً ما يتفوه به ترامب مجرد ترهات وبهلوانيات ونزوة فردية؟

إن ما يقوله الرئيس ليس تهريجاً، وإنما يعكس مشاعر فئات لا يستهان بها نسبياً، تعيش في الأرياف ووسط الجماعات الأهلية الأميركية. فالخطاب الشعبوي الذي يحتضن الكراهية يتضمن في خفاياه الباطنية إشارات تدل على احتمال وقوع فوضى أهلية بين المجموعات اللونية والعرقية والدينية التي تتشكل منها الولايات والمدن والأحياء والضواحي والأرياف. فالكلام العشوائي يرسم في النهاية خريطة طريق أهلية للتصادم بين الجماعات.

لذلك شكل خطاب ترامب الشعبوي قوة ضغط على النخبة الأميركية (الإعلام تحديداً)، وعلى أجهزة الدولة العميقة وشرائح متنوعة ومتلونة من الجماعات الأهلية. كما أصدر إشارات أقلقت الأصدقاء والحلفاء والجيران (المكسيك وكندا) والخصوم (إيران) والمنافسين (الصين)، ودفعت الكثر من القوى المتضامنة تقليدياً مع الولايات المتحدة (أوروبا الغربية) لإبداء عدم موافقتها على إجراءات ترامب ولغته الاستفزازية التي لا تحترم الآخر، ولا تقيم الاعتبار للمشاعر المضادة.

كان من الصعب تصحيح المعادلة ما دام ترامب المغرور المتشاوف في دائرة البيت الأبيض؛ فالرئيس من مقعده يتحكم في اللعبة على الرغم من خروجه الفوضوي عن قواعدها. ولأن اللعبة خطرة في نهاياتها، فإنه كان على أجهزة الدولة العميقة أن تتحمل الاهتزازات الناجمة عن الارتدادات الزلزالية التي نجحت في زعزعة استقرار العلاقات مع الأصدقاء والحلفاء من دون أن تؤدي إلى تغييرها. ولهذا السبب استطاعت أجهزة الدولة العميقة التكيف نسبياً مع "أمزجة" الرئيس من أجل إعادة توظيفها لتعزيز المصالح العليا، مثلما حدث حين تم ترتيب العلاقات مع الحلف الأطلسي (الناتو) والدول الخليجية وشبكة الأصدقاء بالضغط عليها، ورفع نسبة مشاركتها في الدفع، وتغذية ميزانية الدفاع أو شراء الأسلحة، أو تغطية نفقات القوات الأميركية المنتشرة أو المتموضعة في القواعد والمعسكرات.

ساهمت ضغوط الدولة العميقة وقدرات أجهزتها وإمكاناتها في تأسيس سياسة قادرة على التكيف مع اهتزازات أمزجة الرئيس وإعادة ترتيب سلم أولويات يتلاعب بالمتغيرات من جانب، ويؤكد الثوابت التي يأتي أمن "إسرائيل" في طليعتها، من جانب آخر.

فالمتغير هو البدء بوضع جدول لانسحاب القوات من المنطقة وتعريض دول "الشرق الأوسط" لعواصف الفراغ واحتمال تصادم القوى في حال رفع الغطاء الأمني عن ساحاتها الساخنة، والثابت هو ضمان مصالح "إسرائيل" وحماية حدودها تحت سقف ما سُمي "صفقة القرن". فالحقوق الدولية بالنسبة إلى خطاب ترامب الشعبوي مجرد "صفقة" تجارية لا تأبه بالقرارات الأممية بقدر ما تتأرجح بحسب تقلبات المزاج الذهني للرئيس واستعداده الفطري لتقديم ما يلبي طموحات صديقه بنيامين نتنياهو، بغضّ النظر عمّا تقوله القوانين، أو تتقبله القوى المعنية مباشرة بالسلوك الفوقي (الاستعلائي) الذي يفرضه الأمر الواقع أو منطق القوة.

طبعاً تدرك أجهزة الدولة العميقة أن أمزجة الرئيس (نقل السفارة من تل أبيب، والاعتراف بالعاصمة القدس، أو بسيادة إسرائيل على جزء من الضفة الغربية وعلى الجولان السوري المحتل) لا قيمة قانونية دولية لها، غير أنه يمكن استخدامها للضغط والابتزاز والتخويف وانتزاع التنازلات وتدفيع الحليف نسبة من تكلفة الدفاع.

بهذا المعنى نجحت الأجهزة العميقة في توظيف مزاج خطاب الكراهية في "الخارج"، إلّا إنها تخوفت من انعكاساته السلبية في "الداخل" واحتمال تدهوره، ثم انزلاقه نحو الفوضى الأهلية.

بين كراهية "الخارج" وفوضى "الداخل" حاولت الأجهزة العميقة ترتيب تسوية موقتة تحدّ نسبياً من خلط أوراق التحالفات مع الأصدقاء، وتستعيد نسبياً دورها في ضبط إيقاع التدهور المحتمل بين المجموعات الأهلية التي تتعايش تقليدياً في "الوعاء" الأميركي وتحت مظلة دولة الرفاهية والقانون.

ضمن هذا الهامش تشكلت سياسة رسمية استفادت من نقاط ضعف الخطاب الشعبوي التي تمثلت في عدم وجود بدائل واضحة في تصريحات ترامب المتقلبة. فالرئيس يمتلك خطة "ألف" (خطوة أولى)، إلّا إنه لا تتوافر لديه خطة "باء" (خطوة ثانية) لاستكمال خطواته، مثلما حدث حين قرر الخروج من "الاتفاق النووي" مع إيران، أو حين عارض خطة أوباما الصحية (أوباماكير)، أو حين كسر دائرة الحرب الباردة مع كوريا الشمالية، أو حين أعطى "إسرائيل" كل ما تريده ضارباً عرض الحائط بمصالح الدول العربية وحقوق الشعب الفلسطيني.

ساهمت نقاط الضعف المتمثلة في عدم وضوح الخطة "باء" في خطوات ترامب، في تكتيف سياسة الرئيس والحدّ من انزلاقها نحو مواجهات محتملة دولياً وإقليمياً. وأعطى هذا الضعفُ الأجهزةَ فرصة لإعادة تأسيس خطاب مضاد يضبط التدهور ويمنع الاصطدام في فضاءات تتحكم في دوائرها الكبرى والصغرى مزاجية فوضوية تحتاج إلى نوع من الاستقرار كي يتم استثمارها بقصد هيكلة العلاقات مع الدول الصديقة والحليفة. فهذه الشبكة من الدول تخوفت من غياب المظلة الأميركية وانحسارها ثم تراجعها إلى مربع الدولة القومية، مثلما كانت حال الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى. لذلك لجأت الأجهزة العميقة إلى طمأنة الأصدقاء والحلفاء على التضامن والشراكة ضمن إجراءات حسابية ورقمية متنوعة.

هكذا، وبسبب عدم وجود خطة باء عند ترامب بديلة من سياسات الانسحاب من الخطة "ألف"، اتخذت الأجهزة العميقة موقع الانتظار وكسب الوقت وتوظيف المخاوف. ولذلك لجأت نحو الدفع في اتجاه بيع الأسلحة وتوفير ضمانات أمنية والتشجيع على اتخاذ خطوات الانفتاح والتطبيع مع "إسرائيل" وتقبّل موضوع ترسيم الحدود البحرية مع لبنان وتوزيع الحصص بصفتها مقدمات لا بد منها لإنجاح مشروع هندسة مواقع الدول ودورها في صوغ خريطة منطقة "الشرق الأوسط" بقصد الحدّ من تمدد الصين وروسيا وطموحهما إلى تعبئة الفراغ في حال قررت إدارة واشنطن الانسحاب العسكري من دائرتَي الخليج والمشرق العربي.

 جسر العبور

في هذا الفضاء المضطرب يمكن القول إن المنطقة العربية تمر الآن في مرحلة انتقالية تفصل بين حقبة الالتزام بالمبادىء والحقوق، وبين حقبة مفاهيم مبهمة تحاول أن تتعايش مع منطق "الصفقة" ومعانيها السياسية. وهذه المرحلة العربية الانتقالية ليست مفصولة عن المرحلة الدولية الانتقالية التي قد تشهد صعود دول وتراجع أُخرى، ونمو قوى إقليمية طموحة وانكماش دول إقليمية، وامتناع محاور من المغامرة وربما انغلاقها إلى دائرة صغيرة يمكن الدفاع عنها من دون وقوع خسائر لا تستطيع تحمّل أعباء نتائجها.

ظاهرة ترامب لم تتشكل عن عَبَث، فهي نتاج تحولات تاريخية ارتسمت معالمها الاقتصادية منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتكرست خريطتها السياسية في انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي في مطلع التسعينيات. وخطاب ترامب "الانعزالي" المتمثل في تعارض الشعار بين أميركا أولاً (الانسحاب) وبين أميركا ستعود عظمى مجدداً (الاندفاع)، هو أفضل ما يعكس فوضى المرحلة الانتقالية ومزاجية "تويتر" وتعامله الكلامي اليومي مع جمهور انتخابي حائر بين خسائر "الانسحاب" وفوائد "الاندفاع". فأميركا التي أدركنا قوتها في النصف الأول من القرن العشرين هي غير أميركا في نموذجها المرتبك في النصف الثاني، وهي ليست أيضاً مثلما يُتوقع أن تكون في الربع الأول من القرن الجاري.

لم تعد الولايات المتحدة مثلما كانت حالها سابقاً، فهي تمر في مرحلة ضياع بين الانسحاب (أميركا أولاً) والاندفاع (أميركا ستعود عظمى). فالضياع يعطي فكرة عن ذاك الانقسام الجاري بين رئيس هائج يقود الدولة عشوائياً برسائل "تويتر" القصيرة والمتسرعة، وبين أجهزة متجذرة في تقليديتها بدأت تدرك أن دورها العالمي شرع يتقلص لمصلحة نمو قوى إقليمية تمتلك أدوات تأثير في محيطها الجغرافي.

هذا التحول البنيوي في هياكل الدولة الأميركية شهد إرهاصاته الواضحة في ولاية ترامب التي أرسلت إشارات فضفاضة عن تلك المرحلة الانتقالية وما تعكسه من اضطرابات تجمع بين قوة تتراجع وضعف يتقدم.

كانت ولاية ترامب (أربعة أعوام) كافية لتوضيح ملابسات تلك الفترة الانتقالية. فأميركا التي نعرفها لن تعود مثلما كانت، وهي حتى لو كانت قوية لن تكون عظمى كحالها في السابق. وهذا الأمر لم يلتقط ترامب إشاراته، كما لم يدركه كثير من الدول العربية التي تدفع ثمن التخويف والابتزاز ولا تزال تراهن على قوة أخذت تتلاشى بفعل انقلابات الزمن.

لقد تغير العالم، وأميركا هي جزء منه حتى لو كانت الأقوى قياساً بغيرها من الدول. لائحة الدول الكبرى تتبدل بالأسماء والعناوين في كل حقبة معينة، إلّا إن القانون (الصعود والهبوط) لا يتغير في حركته الزمنية ولحظاته المتعاقبة.

المكان مثلما يقول إيمانويل كانط في كتابه "نقد العقل المحض" هو "وحده متعين بشكل دائم"، بينما الزمان "يجري بلا توقف"، والزمان "ليس" هو نفسه الذي يتغير بل شيء ما في الزمان"، والأزمنة "المختلفة ليست سوى أجزاء من الزمان الواحد"، وبالتالي فإن "التغيرات ليست ممكنة إلّا في الزمان" لأن "أجزاء الزمان هي دائماً متعاقبة."

السيرة الشخصية: 

وليد نويهض: صحافي وكاتب لبناني في الشؤون الدولية.