الانتفاضة: الدوافع والتداعيات والآفاق
التاريخ: 
30/12/2015
المؤلف: 

منذ هزيمة حزيران/يونيو 1967 التي نجم عنها بالإضافة إلى احتلال سيناء والجولان، احتلال كامل أرض فلسطين التاريخية، شهد الصراع مع الاحتلال على هذه الأرض ثلاث انتفاضات، الأولى سنة 1987، والثانية سنة 2000، والثالثة هي الانتفاضة أو الموجة الجارية منذ مطلع تشرين الأول/أكتوبر من هذه السنة.

ولكل انتفاضة سماتها الخاصة التي تختلف عن الانتفاضات الأُخرى، فالانتفاضة الأولى اتسمت بالبعد الشعبي السلمي، وباستخدام الحجارة، وكانت لها منذ البداية قيادتان: واحدة تمثل منظمة التحرير والأُخرى تمثل حركة "حماس"، ورفعت شعار الاستقلال الوطني الذي كانت تهدف إلى تحقيقه. أمّا الانتفاضة الثانية فقد اتسمت بطغيان العنف، إذ نجحت إسرائيل في تحويلها من انتفاضة شعبية سلمية إلى مواجهة عسكرية، وتميزت بالعمليات الاستشهادية، وكان شعارها حماية الأقصى، ورفض الحلول الأميركية - الإسرائيلية التي طُرحت في مفاوضات كامب ديفيد في تموز/يوليو 2000، وتحقيق الدولة الفلسطينية.

وفيما يتعلق بالانتفاضة الجارية، فهي لا ترفع شعاراً، ولا تبغي هدفاً، ولا تخضع لقيادة سياسية، وتتجاوز أسباب اندلاعها المخاطر التي تهدد المسجد الأقصى إلى إعلان التمرد الشامل على كل ما يتصل بالشأن الفلسطيني والعربي والدولي، فضلاً عن الشأن الفلسطيني - الإسرائيلي.

وإذا كانت الانتفاضتان الأولى والثانية، قد اتسمتا بالشمول الجماهيري، فقد تميزت هذه الموجة الانتفاضية باستخدام السكاكين والدهس، وباندلاعها في المناطق المصنفة ج التي تديرها بالكامل قوات الاحتلال، وبطابعها الشبابي الواضح، في ظل سلطة وطنية وانقسام فاسطيني خطر.

ومثلما كان الحال في الانتفاضات السابقة، فإنه لا يمكن التكهن بالبعد الزمني للموجة الانتفاضية الجارية، لكنها في كل الأحوال ليست المعركة الأخيرة مع الاحتلال، وهي ليست معركة الاستقلال الوطني، إذ تبدو أنها إعلان صريح لفشل الخيارات السياسية، وللانتقال إلى مربع الاشتباك والصراع الشامل مع المخططات التوسعية والعنصرية الإرهابية الاحتلالية.

ثمة حكمة في كل مرة تخرج فيها الجماهير لمواجهة الاحتلال من خلال هبات أو انتفاضات شعبية؛ حكمة أو حِكَم تستخلص بشكل عفوي وبوعي شعبي أخطاء الانتفاضات السابقة، ومن الأمثلة على ذلك: أولاً، إن الشباب هم مَنْ يتقدم لمواجهة الاحتلال، الأمر الذي يؤشر إلى طبيعة معاناتهم، من الفقر إلى البطالة إلى التهميش السياسي، بالإضافة إلى الجرأة والإصرار والاحتجاج المضمر على السياسة الفلسطينية العامة وعلى الفصائل.

ثانياً، غياب سيطرة فصيل أو الفصائل على هذه الانتفاضة، الأمر الذي يوفر على المنتفضين الخلافات بين هذه الفصائل، ويضفي على الفعل طابعاً وطنياً يتجاوز أزمة الثقة في العلاقات الفلسطينية وما تجره من تجاوزات وصدامات وحملات إعلامية وسياسية متضاربة.

ثالثاً، إن الانتفاضة الجارية بلا قيادة، وهو أمر يراه البعض على أنه نقيصة، لكني أرى في ذلك حكمة وطنية، ذلك بأن غياب العنوان الواضح يربك الاحتلال الإسرائيلي وكل مَنْ يرغب في التدخل من أجل السيطرة عليها، والعمل من أجل تهدئتها، فضلاً عن أن ذلك يطرح أمام الجميع رسالة احتجاج وتمرد شاملة تعبر عن واقع الشعب الفلسطيني. فغياب قيادة عامة لهذه الانتفاضة لا يعني غياب القيادات الميدانية وهذا الأهم.

رابعاً، إن اندلاع هذه الموجة الانتفاضية في مناطق ج التي تتجاوز مساحتها 60٪ من أراضي الضفة يعفي السلطة والقيادة الفلسطينية من ذرائع واتهامات إسرائيلية بأنها تقف وراءها، ويحصر الاتهامات والذرائع بأن الرئيس أبو مازن والسلطة يمارسان التحريض ضد الاحتلال، ويشجعان الشباب على المواصلة. وهذه المناطق هي التي تمارس عليها اسرائيل سياساتها الاستيطانية والتهويدية، طبعاً بما في ذلك القدس، الأمر الذي يسهل وصول الرسالة الانتفاضية إلى حيث يجب أن تصل.

لا أحد في هذا العالم يملك الحق في توجيه النقد والإدانة إلى الانتفاضة ضد الاستيطان والمستوطنين، وضد السياسات الاستيطانية باعتبارها سياسات خارجة على القانون الدولي وغير شرعية وتهدد رؤية الدولتين التي يتبناها المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية.

كما أن رسالة الانتفاضة بشأن القدس والمسجد الأقصى مقبولة ومفهومة أيضاً من المجتمع الدولي، ومن الدول العربية والإسلامية، لأنه ينطبق على القدس ما ينطبق على الأراضي المحتلة سنة 1967، والتي لا يجوز للاحتلال أن يغير طابعها ومعالمها، فضلاً عن أن القدس والأقصى عنوانان مهمان يستثيران مئات ملايين المسلمين في أنحاء العالم كافة.

ولا يعني الحديث عن هذه المميزات إعفاء الفصائل والجماهير والسلطة الوطنية من ضرورة توفير الحاضنة الشعبية للانتفاضة، وتأمين استمرارها وتصاعدها، ما دام المجتمع الدولي، وحتى العربي والإسلامي، لم يتقدم بمبادرات سياسية جدية وجديدة لتغيير مسار العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية وتصحيحها في اتجاه استئناف المفاوضات على أسس مختلفة تفتح الطريق أمام إمكان تحقيق السلام.

تضارب السياسات والمواقف الفلسطينية

من حيث الوقائع التي ينكرها البعض، ولا يعترف بها البعض الآخر في العلن، فقد اندلعت الانتفاضة في اليوم التالي لخطاب الرئيس الفلسطيني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبدا حينها أن الفعل الشعبي يستهدف إظهار الدعم والتأييد والترحيب الشعبي بما ورد في الخطاب، الأمر الذي يعني أن شباب حركة "فتح" هم مَنْ بادر إلى ذلك.

فقد وردت في خطاب الرئيس، الذي تضمن تشخيصاً دقيقاً للواقع وتحضيراً لجملة من المواقف الفلسطينية الجديدة، جملة مهمة كررها خلال كلمته الموجزة بعد أسبوعين على اندلاع هذه الموجة الانتفاضية، وهي أن المجتمع الدولي أمام فرصة، قد تكون الأخيرة، وعليه أن يستثمرها قبل فوات الأوان. ويقصد الرئيس أن هذه الفرصة متاحة للولايات المتحدة والرباعية الدولية والاتحاد الأوروبي للتقدم بمبادرات سياسية جادة ومختلفة لإنقاذ عملية السلام، وإلاّ فإن الأوضاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين تتجه بالضرورة نحو التدهور.

كذلك أعلن الرئيس بالفم الملآن وبصوت جهوري أن الفلسطينيين لا يستطيعون الاستمرار فيما كان عليه الحال بينهم وبين إسرائيل التي تتنصل وتنتهك الالتزامات المترتبة عليها وفق اتفاق أوسلو والقرارات الدولية، وأن على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته، ذلك بأن الشعب الفلسطيني لا يقبل من هذا العالم تجاهل القضية الفلسطينية، الأمر الذي كان واضحاً في خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما قبل يوم واحد من خطاب الرئيس عباس.

وهذا يعني أن الرئيس ينظر إلى الانتفاضة على أن لها هدفاً تصحيحياً لتحسين مناخ وشروط وسياق المفاوضات التي لم يتخل عنها كخيار رئيسي للسياسة الفلسطينية.

أمّا الفصائل الأُخرى الأساسية، سواء أكانت خارج منظمة التحرير الفلسطينية أم داخلها، فكانت ترى في الانتفاضة، إعلاناً صريحاً لفشل خيار المفاوضات والبحث عن السلام، وأنها تشكل نهاية مرحلة من المراهنة الفاشلة على هذا الخيار، لكنها تفاوتت في نظرتها إلى أهدافها واتفقت على ضرورة استمرارها وتصعيدها بدون أن ترفق ذلك بنشاط واضح لتأمين الاستمرارية.

وبالنسبة إلى الجماهير الفلسطينية بصورة عامة، والتي يعبر عنها بعض النخب الثقافية والاجتماعية، فإنها تنظر إلى الانتفاضة على أنها صرخة قوية في وجه الانقسام والمنقسمين، وفي وجه التجاهل العربي والإسلامي والدولي للقضية الفلسطينية، وتعبير عن تفاقم معاناة الشعب الفلسطيني على مختلف المستويات.

في كل الأحوال، لم تؤد هذه الاختلافات في النظر إلى الانتفاضة وإلى كيفية التعامل معها إلى تغيير في طابع آليات فعل المنتفضين، وبدا أن الكل الفلسطيني، لسبب أو لآخر، منضبط لما يفرضه الميدان وللصياغة التي يقدمها الشباب.

لقد ظهر هذا الانضباط في سلوك الفصائل التي تدعو بعضها إلى استخدام السلاح، لكن أصحاب هذه الرؤية لم يبادروا على الرغم من أنهم قادرون على ممارسة الفعل العسكري، ذلك بأن إسرائيل هي مَنْ يرغب في عسكرة الانتفاضة، لكنها تنتظر أن يقدم الفلسطينيون الذريعة.

تداعيات وحصاد أولي

منذ الأيام الأولى لاندلاع الانتفاضة، استجابت لها الجماهير الفلسطينية في الأراضي المحتلة سنة 1948 والشباب الفلسطيني في قطاع غزة بأشكال متعددة. فخرجت القوى السياسية كلها في الأراضي المحتلة سنة 1948 في تظاهرات ومسيرات ومهرجانات، وانتقلت ظاهرة الطعن بالسكاكين والدهس إلى المدن الرئيسية في هذه المناطق. أمّا في قطاع غزة المحاصر تماماً، والبعيد عن أي احتكاك سواء مع مستوطنين، أو مع أجهزة الأمن والشرطة والجيش الإسرائيلي، فقد خرج الشباب إلى المناطق الحدودية في شرق القطاع وشماله، قبالة مواقع الجيش الإسرائيلي الذي استخدم الرصاص الحي، الأمر أدى إلى استشهاد نحو 30 شاباً وإصابة ما يزيد على 100.

إذا كانت الانتفاضة التي كثفت نشاطها في القدس والخليل، وفي منطقة بيت لحم ومحيطها، قد شكلت البؤرة الساخنة في معظم الوقت، فإن القلق الشديد يسود الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية إزاء مشاركة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سنة 1948، نظراً إلى تداعيات النشاطات الانتفاضية على المجتمع الإسرائيلي.

وقد عبّر رئيس جهاز الشاباك هاليفي عن هذا القلق الشديد بالإشارة إلى أن إسرائيل دأبت على شن حروبها خارج فلسطين، وحرصت على حماية وضمان أمن وسلامة الجبهة الداخلية، ولم تخسر خلال تلك الحروب سوى مواطن واحد، على حد تعبير هاليفي.

وأشار هاليفي إلى أن الحرب في الجبهة الداخلية هي أخطر وأصعب الحروب، وهو محق في ذلك، لأن مثل هذه "الحرب" في حال اندلاعها، وهناك ما يكفي من الأسباب لذلك، ستحول الجيش الإسرائيلي إلى شرطة، وتحيد ترسانته العسكرية، فضلاً عن أنها ستؤدي إلى تهديد الأمن الشخصي والاجتماعي والاقتصادي للمواطن الإسرائيلي، وقد تدفعه إلى التفكير في الهجرة.

بيد أن نشاط الانتفاضة في الأراضي المحتلة سنة 1948 تراجع، بإرادة ذاتية وحسابات خاطئة، على الرغم من تصاعد النزعة العنصرية لدى منظومة الحكم في إسرائيل، والتي كان آخرها حظر نشاط الحركة الإسلامية الشمالية بقيادة الشيخ رائد صلاح. فالتهديد الذي استظهرته الانتفاضة أصاب المستوطنين في الضفة والقدس بالذعر، وأرغم الجيش الإسرائيلي على اتخاذ إجراءات أمنية لحماية كل مستوطن وكل سيارة للمستوطنين، الأمر الذي أدى إلى تظهير أزمة وخطر الاستيطان على كل الحلول الممكنة لتحقيق السلام، وساهم في إلحاق ضرر كبير بسمعة إسرائيل ومكانتها في العالم.

إن من شأن استمرار الانتفاضة وانتقال مفاعيلها إلى الجماهير الفلسطينية في الأراضي المحتلة سنة 1948، أن يوسع الهوة بين المجتمع الإسرائيلي والمجتمع الاستيطاني، باعتبار أن الأخير هو السبب الرئيسي لمعاناة المواطن داخل إسرائيل.

على المستوى السياسي، حاولت الرباعية الدولية التحرك خلال الأسبوعين الأولين لكن إسرائيل رفضت، ثم لم يأت وفدها إلى المنطقة لاحقاً بأي جديد. وخلال هذه الفترة، عززت أوروبا إجراءاتها لمقاطعة بضائع المستوطنات، في حين صدرت عن الإدارة الأميركية جملة من التصريحات بحق إسرائيل، إلاّ إنها تفتقر إلى الممارسة الفاعلة، ومن غير المنتظر أن تؤدي إلى تحول في سياسة الولايات المتحدة عن دورها التاريخي في دعم وحماية وضمان تفوق إسرائيل.

عملياً، يهيئ استمرار الانتفاضة، حتى لو افتقد المجتمع الدولي إلى حافز التحرك الفعال لإنقاذ عملية السلام، الأوضاع أمام القيادة الفلسطينية للإقدام من أجل تفعيل قرارات المجلس المركزي التي اتخذها في آذار/مارس من العام الجاري، والتي من شأنها أن تحدث تغييراً كبيراً في الخيارات والاستراتيجيات وفي طبيعة العلاقة مع الاحتلال.

الآفاق

تتنوع أشكال المعاناة بين التجمعات الفلسطينية الثلاثة على أرض فلسطين، لكن المعاناة الأبرز تكمن في السياسة الإسرائيلية الاستيطانية والتوسعية، وتقويض حل الدولتين، ورفض خيار الدولة الواحدة لشعبين، بينما تتزايد النزعات العنصرية التي ستحول إسرائيل إلى دولة يهودية عنصرية، وهو ما حذر منه وزير الخارجية الأميركية جون كيري، الأمر الذي يعني أن الأوضاع تتجه نحو فتح الصراع على اتساعه وشموليته، ويستوجب من الفلسطينيين إعادة النظر في خياراتهم واستراتيجياتهم ومشروعهم الوطني.

عن المؤلف: 

طلال عوكل: كاتب ومحلل فلسطيني.