الفارس. "السلاح والخبز: الإنفاق العسكري في الوطن العربي" (1970ـ1990) (بالعربية)
النص الكامل: 

السلاح والخبز: الإنفاق العسكري في الوطن العربي (1970 ـ 1990)

د. عبد القادر الفارس. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993.

 

إن قراءة هذا الكتاب قراءة متأنية تترك في نفوسنا سؤالاً محيّراً: "هل بالسلاح وحده يتم الانتصار والتحرير""، خصوصاً أن المؤلف يربط في عنوان الكتاب السلاح بالخبز. فمثلما "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" فإنه "ليس بالسلاح وحده يتم الانتصار". فالسلاح وحده، من دون فكر سياسي وهدف محدد، مجرد أكوام من الحديد يأكلها الصدأ.

إن الكيان الصهيوني يبني قوته العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية على أساس التغلب على قوة الأمة العربية كلها، لا على قوة الشعب الفلسطيني فحسب، وذلك أمر معروف ولا تخفيه الصهيونية نفسها. والكيان الصهيوني يبني قوة عسكرية لتفوق القوة العربية العسكرية مجتمعة، ويبني قوة نووية ليحارب العرب جميعاً وليس الشعب الفلسطيني أو دولة عربية محددة.

فهل هناك قوة عسكرية عربية مجتمعة؟!

يجيب المؤلف: "إن عنوان الدراسة (السلاح والخبز: الإنفاق العسكري في الوطن العربي) قد يوحي بأن هناك كياناً اسمه (الوطن العربي) وأن له إنفاقاً عسكرياً. إلا إن الحقيقة هي أن التجزئة كانت الطابع الغالب على البلدان العربية منذ مطلع هذا القرن. فكانت المصالح القطرية هي المحرك الأساسي للعديد من السياسات الاقتصادية والعسكرية، وغياب (التنسيق)، فضلاً عن التوحيد، لم يؤديا إلى هدر الموارد الاقتصادية فقط وإنما قادا إلى صياغة توجهات مستقلة من قبل البلدان العربية أدت، في بعض الأحيان، إلى أوجه من الصراع العسكرية بين هذه البلدان..." (ص 25).

أما غاية الكتاب فهي تسليط الضوء على ظاهرة تنامي الإنفاق العسكري العربي في عقدي السبعينات والثمانينات، إذ أنفقت البلدان العربية نحو ألف مليار دولار على المؤسسات العسكرية خلال هذين العقدين. ويمثل هذا الإنفاق أعلى المعدلات في العالم، ويعتبر الوطن العربي السوق الرئيسية لصادرات السلاح العالمية. وبرأي الكاتب، فإن هذه الظاهرة لم تلقَ عناية أو اهتماماً من الباحثين والمفكرين و"أن الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العربية تكاد تخلو من تحليل علمي لهذه الظاهرة ومسبباتها وآثارها. وفي بعض الأحيان لا تحوي تلك الدراسات سوى إشارات عابرة تزيد من غموض الموضوع ولا تساعد على جلائه" (ص 24). ومن هنا تنبع أهمية هذا الكتاب، إذ جاء مساهمة تسد الفراغ في المكتبة العربية بشأن هذا الموضوع، ومحاولة لتقديم فهم أفضل لهذه الظاهرة، وإثارة حوار جاد حولها.

أما أقسام الكتاب، الذي يقع في 429 صفحة، فهي ثلاثة: القسم الأول، يتناول الإطار النظري وبعض القضايا المنهجية الأساسية، خصوصاً ما يتعلق منها بمصادر الإحصاءات. ويحوي هذا القسم فصلين: الأول، يعرض لموقع الإنفاق العسكري في النظرية الاقتصادية، و"حقيقة الأمر توجد ضمن النظرية الاقتصادية مدارس عدة لكل واحدة منها نظرة مختلفة إلى موقع وآثار هذا الإنفاق" (ص 26). وقد ربط المؤلف الإنفاق العسكري بالتنمية، ورأى أن "الإنفاق العسكري يفرض تحدياً من نوع جديد. فهو أحد أوجه الإنفاق التي تنمو بمعدلات متسارعة، دون أن تعطي عائداً اقتصادياً ملموساً على شكل سلع وخدمات سوقية. ومن جانب آخر فإن غياب الأمن، الذي يترتب على تقليص الموارد المخصصة للمؤسسة العسكرية، قد يهدد أو يقضي على كل منجزات التنمية في حال وجود خطر خارجي..." (ص 37). أما الثاني، فقد تم تخصيصه لمناقشة مصادر الإحصاءات وأسباب الاختلاف بينها، ومزايا كل مصدر ومثالبه. "فالمشكلة هنا هي في وفرة البيانات وتعدد مصادرها، مما يثير إشكالات إحصائية وقياسية عديدة. فلو أخذنا، مثلاً، الإنفاق العسكري لأية دولة لوجدنا أنه لا يتوافر تقدير واحد حول حجم الإنفاق، بل تقديرات مختلفة للعام نفسه" (ص 53). ويعود ذلك إما إلى غياب الإحصاءات الرسمية الموثقة لأسباب أمنية، أو إلى تعدد الجهات والمؤسسات المعنية بالدراسات الاستراتيجية والعسكرية.

يركز القسم الثاني على تقدير حجم الإنفاق العسكري وتطوره خلال العقدين الماضيين ومحددات نموه، وكذلك على موقع الإنفاق العسكري العربي في جملة الإنفاق العالمي وإنفاق العالم الثالث، ومقارنة الإنفاق الدفاعي العربي بمثيله في دول الجوار الجغرافي الرئيسية (إيران، تركيا، أثيوبيا، إسرائيل). ويحوي هذا القسم ثلاثة فصول. ويعرض الفصل الثالث لحجم الإنفاق العسكري العالمي وتطوره وأنماطه وموقع الإنفاق العسكري العربي منه. ويذكر أنه في "عام 1990 بلغ الإنفاق العسكري العالمي أكثر من ألف مليار دولار (1035 مليار دولار). وهو مبلغ يعادل أكثر من ربع الدخل القومي لجميع الدول النامية مجتمعة للعام ذاته (نحو 4,000 مليار دولار)..." (ص 75). ويحتوي الفصل الرابع عرضاً مبسطاً للإنفاق العسكري للبلدان العربية ودول الجوار الجغرافي، وكذلك عرضاً للعبء العسكري؛ أي قياس الإنفاق العسكري لكل دولة على الناتج المحلي الإجمالي وعلى الإنفاق العام. فالإنفاق العسكري العربي في العقدين الماضيين يمثل "حوالي نصف ما أنفقته الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو، وثلاثة أضعاف جملة الإنفاق العسكري للدول الرئيسية المجاورة للوطن العربي، بما فيها إسرائيل. كما يمثل تقريباً ضعف الإنفاق العسكري لكل من قارتي إفريقيا وأمريكا الجنوبية مجتمعتين" (ص 117). والحقيقة المرة التي تواجهنا هنا هي أن نحو نصف البلدان العربية، التي يشكل إنفاقها العسكري أكثر من 56 بالمئة من جملة الإنفاق العسكري العربي، هي بلدان لا يحيط بها سوى بلدان عربية أخرى. أما الفصل الخامس، فتضمن تحليلاً قياسياً لمحددات هذا الإنفاق، الداخلية منها والخارجية. كما يتضمن دراسة تفصيلية عن فرضيات سباق التسلح ومحاولة تطبيقها على المجموعات الإقليمية ضمن الوطن العربي. وهناك "ظاهرتان هامتان، تستلفتان انتباه الباحث، لأنماط الإنفاق العسكري العربي: الأولى هي التفاوت الكبير في حجم الإنفاق العسكري؛ والثانية الدور الذي يلعبه سباق التسلح، بين البلدان العربية، أو بينها وبين دول الجوار". ويرى المؤلف أن هذه الظاهرة من أكثر الظواهر خطراً لأنها ارتبطت بالثروة الهائلة المتولدة عن النفط، والصراع العربي ـ الإسرائيلي.

أما القسم الثالث من الكتاب، بفصوله الثلاثة، فهو محاولة لقياس الآثار الاقتصادية والاجتماعية للإنفاق العسكري ومحاولة تقديم منهج علمي لإجراء هذا القياس، "بعيداً عن الاعتبارات العاطفية أو الميول الأيديولوجية" (ص 26). ويركز الفصل السادس على آثار الإنفاق العسكري في المستوى الكلي، أي تأثيره في المتغيرات الاقتصادية الكلية، مثل الاستثمار والاستهلاك والادخار والتضخم والتوظيف. أما الآثار الاجتماعية للإنفاق العسكري، أو تكلفة الفرصة البديلة فقد جرت مناقشتها في الفصل السابع. وفي هذا المجال تم التركيز على ثلاث نواح مهمة، هي الإنفاق التعليمي، والإنفاق الصحي، والإنفاق الرأسمالي أو التنموي. وسلّط الفصل الثامن الضوء على حجم تجارة السلاح العالمية وتطورها وموقع الواردات العربية منها، والمضامين الاقتصادية والسياسية لهذه الواردات. كما تضمن هذا الفصل دراسة عن علاقة الواردات من المعدات بتفاقم المديونية العربية. ونصل أخيراً إلى "الخلاصة" التي يستنتجها المؤلف، ومفادها أن "معالجة مشكلة الإنفاق العسكري في الوطن العربي لا يمكن أن تتم إلا من خلال استراتيجيا قومية جماعية تحدد في ضوئها الأولويات والأعداء الذين ينبغي مواجهتهم" (ص 44).

بعد عرض أهم ما جاء في الكتاب، لا بد من وقفة سريعة عند بعض الموضوعات المهمة التي مرّت: أول هذه الموضوعات هي قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي. ومع أن هذه القضية كانت عاملاً من عوامل سباق التسلح في الوطن العربي، إلا إنها ليست العامل المهم لدى الجميع. واللافت أن الدول العربية التي تتخذ من هذا الصراع عاملاً في التسلح هي البلدان الأقل إنفاقاً عسكرياً مقارنة بالإنفاق العسكري العربي. وثاني هذه الموضوعات هو أن المؤلف يعتبر موارد النفط العالية عاملاً في تضخم نفقات التسلح. لكن الوضع في منطقة الخليج اليوم يظهر أنه على الرغم من تناقص القيمة الشرائية للدولار النفطي، وتعثر مسيرة التوظيفات المالية النفطية، فإن طلبات مشتريات الأسلحة وعروضها تتزايد ولا تنقص. وثالث الموضوعات هو الربط بين الأمن والتنمية. إن هذه العلاقة هي علاقة جدلية، فكما أن لا تنمية من دون أمن، فلا يمكن أن نتحدث أيضاً عن أمن بلا تنمية. وهكذا يجب أن نفهم المعادلة، لا أن تكون قراءتها من جانب واحد فقط، كما قرأها المؤلف (ص 37). إن الأمن، بمفهومه الحديث، يعتمد بصورة رئيسية على القدرة الصناعية والتطور التقني. فالتنمية الحقيقية هي التي تجعل تصنيع السلاح المتطور الحديث ممكناً، وهي توفر الموارد المالية والاقتصادية اللازمة للحروب الحديثة. وتشكل القوة الاقتصادية والصناعية العمود الفقري الذي تستند إليه الجيوش الحديثة في الحرب. فالأمن الحقيقي لا يكون مضموناً إلا عندما ينتج السلاح محلياً، فلا يكون الحصول عليه معتمداً على تقلبات السياسة الدولية وضغوط الدول المنتجة، ولا يكون ثمنه أيديولوجيات ومواقف تشكل تحدياً لفكرنا ومبادئنا. خصوصاً أن السلاح الذي يُسمح ببيعه من العرب يخضع للمواقف الإسرائيلية المسبقة ويشترط فيه ألاّ يتفوق على الأسلحة الإسرائيلية. وقصة بيع طائرات (أواكس) إلى السعودية ما زالت ماثلة أمامنا. رابعاً أثبتت التجارب أن كل هذه الأسلحة والتوازنات لم ولن تفعل شيئاً ما لم تتوافر الإرادة. فالحجر في يد طفل فلسطيني في الأرض المحتلة أثبت أنه أكثر تأثيراً في تحريك الأمور من الخطط والتقانة التي نختبئ وراءها، والتي تكبّل حركتنا وتكلّس هممنا. وأكثر من ذلك أن العدو الصهيوني في هذه الأيام يلجأ إلى نوع جديد من السلاح، هو سلاح السلام، وهذا سلاح تكلفته رخيصة، والظاهر أنه يعد بنتائج مضمونة أكثر. فالذي لم تقدر إسرائيل على كسبه بالحروب التقليدية تحاول كسبه بالسلاح الجديد: السلام. ولكنه هل يتحقق السلام فعلاً؟ وهل تكون حرب إسرائيل ضد لبنان في العام 1982 فعلاً آخر الحروب؟ ودائماً يأتي الجواب من العنصرية الصهيونية بـ "لا"، ولنا من التاريخ عبرة.

وأخيراً نقول أنه على الرغم من أن الكتاب هو كتاب متخصص وموجه مباشرة إلى الاقتصاديين المتخصصين، وهو عبارة عن دراسة في الاقتصاد السياسي، فلا بد لكل مهتم بالوضع الاقتصادي العربي، والصراع العربي ـ الصهيوني من قراءته واقتنائه.

السيرة الشخصية: 

أحمد مفلح: باحث فلسطيني.