مشروع طريق "عابر إسرائيل" وإسقاطاته الاستراتيجية
كلمات مفتاحية: 
الاحتلال الإسرائيلي
الاستيطان
الاستراتيجية العسكرية
تهويد
مصادرة الأرض
التعويضات
نبذة مختصرة: 

يتناول المقال المشروع الذي وضعته الحكومة الإسرائيلية لشق طريق طوله نحو 300 كلم، يربط بين مدينة بئر السبع ومفترق الكابري القريب من الحدود مع لبنان. ويحاول المقال تحليل المضمون الحقيقي للمشروع وإسقاطاته وأبعاده في ساحة الصراع الفلسطيني/ العربي ـ الإسرائيلي، وفي مختلف مجالات التطور والصراع في إسرائيل.

النص الكامل: 

تبدأ الحكومة الإسرائيلية هذه السنة، أو مطلع السنة المقبلة (1994)، العمل لتنفيذ مشروع إقامة "طريق رقم 6"، أو "طريق عابر إسرائيل"، الذي يبلغ طوله نحو 300 كلم، ويربط بين مدينة بئر السبع في الجنوب ومفترق الكابري، قريباً من الحدود الشمالية مع لبنان. وتحديد موعد الشروع في التنفيذ مرتبط بإنهاء الإجراءات القانونية التشريعية، وسن قانون في هذا الشأن، وتوفير المناخ الملائم إسرائيلياً وعالمياً (مِنْطَقياً في الأساس) لمواجهة مصادر المعارضة وتخطيها.

والحديث لا يدور هنا بشأن مجرد تطوير البنية التحتية بحيث يشكل "طريق رقم 6" شرياناً قطرياً وقاعدة أساسية في إطار خطة عامة للتطور، بل إنه يدور بشأن خطة استراتيجية منهجية، لها مدلولاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالنسبة إلى مجرى الصراع والتطور في إسرائيل والمنطقة. فالمشروع، في مضمونه وأهدافه الرئيسية، يرتبط بالصراع عضوياً لتحديد طابع ومصير المخارج من القضايا الثلاث للأزمة المزمنة التي تواجهها إسرائيل: القضية الفلسطينية ومستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي والتطور في الشرق الأوسط؛ قضية المساواة القومية والمدنية للجماهير العربية الفلسطينية في إسرائيل؛ قضية التنمية الاقتصادية المفقودة وزيادة حدة التقاطب الاجتماعي، ومختلف القضايا الاجتماعية الملتهبة.

وسنحاول، في هذه المعالجة، تحليل المضمون الحقيقي لمشروع "عابر إسرائيل" وإسقاطاته وأبعاده في ساحة الصراع الفلسطيني/العربي - الإسرائيلي، وفي مختلف مجالات التطور والصراع في إسرائيل. 

نظرة إلى المشروع المُعد

بدأ الحديث عن إقامة طريق قطري يربط الشمال بالجنوب وإعداد الخرائط اللازمة له في بداية السبعينات، في إبان حكم "المعراخ". وارتبطت الفكرة بموقع إسرائيل ودورها الجديدين بعد حرب 1967 واحتلالها مناطق عربية، وبعد هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام وجنوب شرق آسيا. فبعد احتلال المناطق الفلسطينية والسورية، بدأ الاحتلال الإسرائيلي يطور وسائله الكولونيالية من أجل إحداث وقائع جديدة، وفرض سياسة الأمر الواقع لضم هذه المناطق، أو لضم أجزاء منها. وبنى حكم "المعراخ" سياسته على أساس مشروع "الخيار الأردني"، أو ما يسمى "التنازل الإقليمي"، الذي يهدف إلى ضم أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 إلى إسرائيل، في مقابل ضم الأراضي الباقية إلى الأردن. وعقد رايات "السلام" الإسرائيلي - العربي. ولهذا، فإن 75% من المستوطنات الكولونيالية التي أُقيمت في عهد "المعراخ" كانت على الشريط الحدودي، "الخط الأخضر"، ولا تبعد أكثر من مسافة سفر "15 دقيقة تعن المدن الإسرائيلية" (نتانيا وكفار سابا وغيرهما). وكان الهدف من شق "طريق عابر إسرائيل" المساهمة في خلق واقع للدمج الفعلي لهذه المناطق المحتلة؛ إذ إن مسار هذا الطريق يدخل المناطق المحتلة ويقطعها، ويربط عضوياً بينها وبين باقي الأراضي المحتلة، ويؤلف حاجزاً "طبيعياً" في الخريطة الكولونيالية الجديدة. وللنجاح في إيجاد القاعدة المادية لعملية الدمج هذه، خططت إسرائيل لإنشاء "طريق رقم 6" بهدف إعادة تشكيل التوزع الجغرافي للقوى البشرية والاقتصادية. ففي إسرائيل، تتركز القاعدة الصناعية والاقتصادية الأساسية وأغلبية السكان في وسط البلد، في المنطقة المحاذية للشاطىء، حيث المدن الرئيسية حيفا ونتانيا وتل أبيب، وحيث البنية التحتية المتطورة. ويخطَّط في خريطة مشروع "عابر إسرائيل" لإقامة مدن كبيرة كمراكز صناعية وتجارية تخفف "الزحمة" عن وسط البلد، وتكون بمثابة أوالية ناجعة في خدمة المخطط الاستيطاني. وبنت الحكومة الآمال بأن تزداد بعد حرب سنة 1967 الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وتكون بمثابة وسيلة لإنجاح البرنامج الكولونيالي.

وهدفَ تنفيذ هذا المشروع أيضاً إلى تقوية مركز إسرائيل في إطار خدمة المخطط الاستراتيجي الأميركي، ولا سيما بعد أن أصبحت إسرائيل منذ بداية السبعينات الركيزة الأساسية في خدمة الاستراتيجية الأميركية الكونية، و"الذخر الاستراتيجي" في حماية المصالح الأميركية، والموقع المتقدم على جبهة "الحرب الباردة" لمواجهة الاتحاد السوفياتي وحركات التحرير الوطني العربية والعالمية. كما أن الطريق المبرمج وسيلة استراتيجية للتحرك العسكري السريع، الذي لا يربط بين شمال إسرائيل وجنوبها فحسب، بل يخدم أيضاً عملية الانتشار السريع والربط والاتصال بمصر والأردن وسوريا ولبنان.

لم يخرج المشروع إلى حيز التنفيذ في السبعينات والثمانينات لعدة أسباب، أهمها - في رأينا - فشل مشروع الهجرة اليهودية الواسعة إلى إسرائيل في حينه، والأزمة الاقتصادية في إسرائيل بعد حرب سنة 1973، والحسابات الأميركية الاستراتيجية في الشرق الأوسط في مرحلة المواجهة والحرب الباردة، وخصوصاً بعد قيام الثورة الإيرانية، وتوقيع اتفاق كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر السادات، بمباركة الولايات المتحدة وتحت مظلتها.

وفي سنة 1991 بدأت حكومة إسرائيل مجدداً الإعداد الجدي لبدء تنفيذ المشروع؛ إذ إن أوضاعاً وعوامل جديدة مساعدة توفرت لإخراج هذا المشروع إلى حيز التنفيذ. وأهم هذه الأوضاع والعوامل: انهيار الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وتفكّك الاتحاد السوفياتي، وتنظيم أكبر عملية تهجير إلى إسرائيل منذ الأعوام الأولى بعد النكبة (فمنذ أواسط سنة 1991 حتى نهاية سنة 1992، وصل إلى إسرائيل أكثر من 460 ألف مهاجر جديد). ويُضاف إلى ذلك حرب الخليج ونتائجها، وبدء عملية السلام في المنطقة بقيادة الولايات المتحدة/ وبدء جولات المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية - العربية.

في ظل ذلك أُعلن ثانية التخطيط للشروع في تنفيذ المشروع، وأعلنت الحكومة الإسرائيلية بدء التنفيذ رسمياً في تشرين الثاني/نوفمبر 1992، وأعلن وزيرا المال والإسكان الإسرائيليان إقامة شركة حكومية لإدارة "مشروع العصر" كما سمّته إحدى الصحف.(1)  وسُمّي المشروع "تما - 31"، وهو اختصار لعبارة "الخريطة الهيكلية القطرية - رقم 31". وأُطلق على خريطة "طريق رقم 6" اسم "خريطة استيعاب الهجرة".(2)   كما أعلن أن الهدف من مشروع "طريق عابر إسرائيل" هو "إعطاء الرد القطري لاستيعاب نحو مليون ونصف المليون مهاجر يهودي جديد إلى إسرائيل خلال الأعوام الخمسة - العشرة المقبلة."(3)

ووفقاً للمعطيات الرسمية التي نُشرت بشأن هذا "المشروع القومي"،(4)  تبلغ تكلفة المشروع الأولية 1,5 مليار دولار. وبحسب ما هو مخطط في الخريطة، يبلغ عرض "طريق رقم 6" 100 متر، ويضاف إليه 100 متر على كلٍ من الجانبين بفعل ارتدادات بناء، فيصبح العرض الإجمالي 300 متر. وعلاوة على الطريق، سيتم شق طريق آخر بعرض 50 متراً (طريق خدمات) مع ارتدادَيّ بناء بعرض 50 متراً من كل جانب. ووفقاً لتوقعات الاقتصادي الرئيسي في دائرة الأشغال العامة الرسمية، حاييم عيلام،(5)   فإنه سيتم من أجل شق الطريق مصادرة 7250 دونماً من الأرض على جانبي الطريق، بما في ذلك الطريق والمساحة اللازمة لخط الارتداد على الجانبين. والحديث يدور هنا بشأن مصادرة ما بين 250 و 270 دونماً لكل كيلومتر من طول الطريق.

من أهداف المشروع إعادة توزيع المراكز الاقتصادية - الديموغرافية؛ فبحسب المعلومات التي نقلتها إيلانه شوفال،(6)   فإن التقسيم الجديد الذي سيرافق مشروع "طريق عابر إسرائيل" يقصد تقسيم إسرائيل إلى أربعة أقسام رئيسية مركزية وإدارية وصناعية، وهي: حيفا في الشمال، وتل أبيب في المركز، والقدس ومنطقتها، وبئر السبع في النقب والجنوب. وترتبط هذه المناطق بعشرات الشوارع والطرق الفرعية التي تلتقي وتتفرع وتربط فيما بينها بواسطة العصب المركزي - "طريق رقم 6".

إن لهذا الطريق إسقاطاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتجسد في الأمور التالية:

أ) "طريق السلام" أم ماذا؟

في الوقت الذي تجري فيه مفاوضات السلام والحديث عن المساعي لإيجاد تسوية سلمية للصراع العربي - الإسرائيلي وحل القضية الفلسطينية، يكشف تنفيذ مشروع "طريق رقم 6" بعض ملامح المفهوم الإسرائيلي للسلام، وطابع وجوهر السلام الذي تريده إسرائيل وتخطط له.

فبحسب مسار "طريق عابر إسرائيل" في الخريطة، فإن الاحتلال الإسرائيلي يهدف إلى محو "الخط الأخضر" فعلاً لا رسمياً فقط، وذلك عن طريق ضم أجزاء من المناطق المحتلة، وخلق أوضاع جغرافية جديدة تحول دون استمرار تواصل السكان الفلسطينيين، ووضع خط سياسي جديد يتم بموجبه انتزاع الأراضي الفلسطينية وضمها إلى إسرائيل. وهذا يعني وضع الفلسطينيين تحت مطرقة "سياسة الأمر الواقع"، والتسليم بحقيقة تعديل الحدود مع دولة فلسطين المحتلة، وتوسيع "خصر" أراضي إسرائيل في الوسط.

ووفقاً للمعلومات التي أوردتها ميخال شفارتس من حركة "طريق الشرارة"،(7)   فإن مخطط "طريق رقم 6" يرمي إلى ما يلي: "إزاحة الخط الأخضر شرقاً وضم أراض من الضفة الغربية لإسرائيل في منطقة لواء طولكرم، من خلال رسم بياني يمثل خارطة المنطقة المشار إليها يتضمن (4) بدائل لمرور شارع رقم 6 أو عابر إسرائيل، اثنان منها داخل إسرائيل، والثالث على طول الخط الأخضر من خلال الاعتداء الجزئي على أراضي المناطق المحتلة. أما الرابع فيدخل إلى داخل المناطق المحتلة بعمق يصل إلى 3 كيلومترات ويقتطع قرابة ألف دونم بحيث يشل أراضي أربع قرى في فلسطين المحتلة هي شويكا وزيتا وعتيل وباقة الشرقية." وتشير هذه الحقائق إلى أن إسرائيل تحاول، تحت راية السلام المنشود، إضفاء الشرعية على سياسة التوسع الكولونيالي الصهيونية، على حساب العرب.

إن مثل هذا النهج يضع عملياً عراقيل جديدة في طريق الحل الواقعي العادل للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي.

إضافة إلى ذلك، فإن تنفيذ مشروع "طريق رقم 6" يهدف إلى خدمة خطة إقامة "سوق شرق أوسطية جديدة"، كان رئيس الحكومة السابق ووزير الخارجية في حكومة "العمل" شمعون بيرس، قد تحدث عنها، وذلك في حال نجاح عملية السلام الأميركية وبناء نظام الترتيبات الأمنية الجديدة، أو النظام الإقليمي الجديد، كما تتوخى الاستراتيجية الأميركية وتخطط له. ذلك بأنه في أوضاع السلام يُخطّط لتحويل هذا الطريق، والمرافق الاقتصادية، والمراكز التجارية على جانبيه، إلى قاعدة انطلاق للتغلغل والانتشار وللهيمنة الاقتصادية والتجارية الإسرائيلية - الأميركية (الاحتكارات المختلطة) على اقتصاد الدول العربية المجاورة وأسواقها.

فهذا الطريق معدٌّ ليكون شرياناً حيوياً يربط بين دمشق وبيروت والقاهرة عبر إسرائيل، وبين القاهرة وعمان عبر بئر السبع. هذا بالإضافة إلى خدمة الأهداف الاستراتيجية العسكرية والسياسية الأميركية - الإسرائيلية من خلال القيام (عبر هذا الطريق، وبسرعة) بمواجهة أية تغييرات سياسية ممكنة تهدد المصالح الأميركية في المنطقة، وتهز أركان الأنظمة المتحالفة والمتواطئة مع واشنطن.

ب) في خدمة مَنْ اقتصادياً واجتماعياً؟

تركز وسائل الدعاية الحكومية الإسرائيلية على الجانب الاقتصادي من مشروع "تما - 31"، وخصوصاً أن تنفيذه سيخفف زحمة المواصلات، وسيحل مشكلة المواصلات للأعوام الخمسين المقبلة. كما أنه سيؤدي إلى طفرة في مجال التنمية الاقتصادية، سيكون في وسعها استيعاب الهجرة الواسعة عن طريق توفير فرص عمل ومساكن تساعد في حل أزمتي البطالة والسكن.

لا شك في أن تنفيذ هذا المشروع سيؤدي إلى تحسين البنية التحتية وتطويرها، وإلى تعزيز قاعدة إسرائيل الاقتصادية، وفتح آفاق جديدة في مجال استيعاب الهجرة اليهودية الواسعة وتوفير فرص عمل لها. لكن النقاش في الشارع الإسرائيلي، ولا سيما الوسط اليهودي، لا يدور في شأن هذا الأمر أساساً، بل إنه يتمحور حول الترجمة العينية وتأثير هذا المشروع في مصير تطور الفئات المتعددة من الناس، ويدور بشأن موضوع الخسارة والربح وانعكاسات هذا المشروع على وضع الفئات المتعددة وتطورها من ناحيتين اقتصادية واجتماعية. فوفقاً لما نُشر بشأن "تما - 31" في الجريدة الرسمية بتاريخ 15/10/1992، فإن عدد المستوطنات اليهودية التي يمر المشروع بأراضيها يبلغ 136 مستوطنة زراعية،(8)  وشق الطريق سيؤدي إلى إهدار عشرات ألوف الدونمات الزراعية، وإلى ضرب وسيلة الإنتاج والمعيشة الأساسية لسكان هذه المستوطنات.

ولهذا، انبرت المستوطنات المتضررة من المشروع لا لمقاومته، وإنما لتخفيف الأضرار والمطالبة بالتعويض والبدائل؛ فألفت في تشرين الثاني/نوفمبر 1992 "قوة ضغط" (لوبي) تمثل 75 مستوطنة للمطالبة بحقوقها. وتتلخص مشكلة هذه المستوطنات الزراعية اليهودية في أن الأرض التي تقوم عليها وتفلحها تعود ملكيتها إلى "دائرة أراضي الدولة" (منهال مكركعي يسرائيل). وبحسب الشروط المبرمة بين "إدارة أراضي الدولة" والمستوطنات، فإن حق التصرف في الأرض هو في نهاية المطاف من صلاحية الإدارة. كما أن تغيير موضوع النشاط الاقتصادي، من زراعة إلى صناعة أو غير ذلك، يتطلب موافقة "إدارة الأراضي". ولهذا، فإن الخطة الجديدة للإنعاش الاقتصادي من جراء إقامة "طريق رقم 6" لا تهدف إلى تحسين وضع هذه المستوطنات بتوفير بديل من الزراعة، مثل إقامة مرافق صناعية وتجارية وسياحية على جانبي الطريق؛ إذ تنوي الحكومة طرح الأراضي في المزاد العلني في بورصة الاستثمار الخاص، وإعطاء رجال أعمال - أجانب وإسرائيليين - امتياز بناء المرافق الصناعية والتجارية والسياحية وغيرها.(9)   ولهذا، طالب الذين حضروا الاجتماع التأسيسي لـِ "لجنة مستوطنات طريق6"(10)  الحكومة بـِ "منح الأولوية لأصحاب الأراضي المصادرة المتضررين وحق التصرف في منح خدمات في الشارع وللمسافرين عبره، وشق شوارع خدمة جانبية تسهّل الدخول إلى الشارع والخروج منه، ومشاركة ممثلي المتضررين في طواقم التخطيط." كما طالبوا بتقليل الضرر الناجم عن حرف الطريف عن مكانه، حتى لو كان ذلك على حساب مزيد من أراضي المناطق المحتلة. وقد عبّر عن ذلك رئيس جمعية "لجنة مستوطنات طريق 6" والناطق الرسمي باسمها، رافي عيشيت؛ إذ إنه أكد(11)  ما يلي:"نحن مقتنعون بأنه يوجد مكان لشق الطريق من أجل تخفيف العبء، لكن يجب حرفه قليلاً إلى الشرق، إلى خط الهضاب، وعندها لا تكون هناك حاجة إلى مصادرة أراض زراعية كثيرة في إسرائيل في مقابل أن يقطع الطريق أماكن أكثر خلف الخط الأخضر."

وتستغل الحكومة هذا الموقف، المشبع بروح الكولونيالية الصهيونية، لصرف أنظار سكان المستوطنات الزراعية اليهودية عن حقيقة أن المستفيد الأساسي من المشروع سيكون أصحاب رؤوس الأموال، من الإسرائيليين والأجانب، ولحصر الموضوع في حدود التعويضات من الأراضي المصادرة، لا في ما يترتب من وراء ذلك. ولذلك، يقول حاييم عيلام،(12)  في سياق الرد على مطاعن "لجنة المستوطنات"، إن التعويضات التي ستُدفع ستصل إلى 22,5 مليون دولار؛ وقد أجرى عيلام حساباته على أساس نموذج أعدته دائرته، وتبلغ بموجبه قيمة التعويض من دونم المراعي 500 دولار، وتبلغ قيم الأرض المفلوحة 3000 دولار، وقيمة الدونم الواحد من الأرض الزراعية المشجرة 5000 دولار. وتضيف المستشارة القضائية للدائرة، المحامية ساره غرينبرغ،(13)  وبهدف امتصاص النقمة، "أن لجنة خاصة من الدائرة، بمشاركة ممثلي القرى والوسط الزراعي، ستقرر سقف التعويض. ومن يجد نفسه مظلوماً يستطيع الاعتراض."

وأخيراً، يمكن التأكيد أن هذا المشروع لن يكون في وسعه حل القضايا الاقتصادية - الاجتماعية، ولا سيما قضية زيادة حدة التقاطب الاجتماعي والبطالة. فعلى الرغم من الحديث عن إمكانات استيعاب المهاجرين الجدد بتوفير العمل والسكن، فإن الآفاق للتطور والربح ستكون من نصيب فئة من المستثمرين في جوانب المشروع، في مقابل ضرب فرع الزراعة والمزارعين، ولن يتم توفير العمل لمواجهة البطالة. فعلى سبيل المثال، فإنه بحسب تقديرات مخطط برنامج "طريق عابر إسرائيل"، المهندس ليرمان،(14)  فإن "الخطة تفترض وجود بطالة في المدن اليهودية التي ستقام في الضواحي تصل إلى 28% في عام 1995." 

                                     الجماهير العربية -الضحية الأساسية

وفقاً لمخطط مشروع طريق عابر إسرائيل"، تواصل الحكومة الإسرائيلية سياستها المنهجية التمييزية القائمة على عرقلة التطور الطبيعي للجماهير العربية الفلسطينية في إسرائيل، وحرمانها من حقها في الاستفادة من إمكانات المشروع، ووضع علامات استفهام حول حق وجودها وتطورها في وطنها. ومن الناحية العملية، فإن المعطيات بشأن إنشاء "طريق رقم 6" وما يرتبط به من مشاريع اقتصادية وتجارية وسياحية، ومضادرة أراض، تشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية تواصل في تعاملها مع الجماهير العربية سياسة "الدمج من دون تطوير"؛ وهي سياسة تهدف إلى إبقاء العرب غرباء في وطنهم غير كاملي الحقوق، وقوة عمل، وسوقاً احتياطية هامشية في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي وفي مجال المشاركة الفعلية في إقرار وتنفيذ خطط التطور. كما أن معطيات وحقائق "خطة الخريطة الهيكلية القطرية" تنسف جميع ادعاءات الأوساط الرسمية، في السنة الأخيرة، بأنها تعترف بالظلم التمييزي ضد العرب، الذي أدى إلى إحداث هوّة واسعة في مجال التطور ومستوى المعيشة قياساً بالوسط اليهودي، وبأنها ستعمل على جَسْر هذه الهوة وتضييقها عن طريق الكثير من خطط التطوير وعن طريق العمل على اعتماد المساواة في مختلف مجالات الطور. وهذا ما تُجسِّده الحقائق التالية، المتعلقة بتنفيذ مشروع "طريق رقم 6" وأهدافه الحقيقية:

أولاً: نهب ومصادرة القسم الأكبر من أراضي العرب، الأمر الذي يؤدي إلى ضرب الزراعة العربية، ويزيد في حدة أزمة السكن، ويحول دون إمكانات تطوير مجمعات ومناطق تطوير صناعية في الوسط العربي، ويفاقم حدة الفوارق في مستوى المعيشة قياساً بالوسط اليهودي.

وقد يدعي البعض أن الحكومة ستصادر أراضي من اليهود والعرب؛ فلماذا الادعاء أن هناك تمييزاً منهجياً ذا مدلولات سياسية واقتصادية معادية للجماهير العربية في وطنها.

إن هنالك فوارق حقيقية تشير إلى واقع التمييز والأبعاد المرتقبة. فملكية الأرض في المستوطنات اليهودية تعود إلى الدولة ("إدارة أراضي إسرائيل")، وتقدم الدولة البدائل لليهودي الذي تُصادر الأرض الموضوعة في تصرفه لاستغلالها؛ إذ تضع في تصرفه أراضي أُخرى، أو تعمل على تطوير مرافق اقتصادية أُخرى غير المرافق الزراعية، وتقدم له التسهيلات والامتيازات، من معونات حكومية وتخفيض في الضرائب وقروض ميسّرة وغير ذلك. أما ملكية الأرض في الوسط العربي فهي ملكية خاصة بموجب طابو. ومصادرة هذه الأرض تحرم العربي أحد مصادر رزقه الأساسية - الزراعة - من دون أن تقدم له، كما في الوسط اليهودي، أرضا في مقابل أرض، أو بديلاً اقتصادياً في مجال العمل والتطور. ففي الوقت الذي تتحدث معطيات مشروع "طريق رقم 6" عن تطوير وإقامة مدن جديدة ترتبط بها مرافق صناعية وتجارية وسياحية وغيرها، لاستيعاب وتطوير المهاجرين اليهود الجدد والوسط اليهودي، فإن العرب مستثنَوْن كلياً من خريطة التنمية والتطور، ولا تقدَّم لهم أية حلول بديلة لمشكلاتهم التي ستزداد سوءاً بعد المصادرة. فالمشروع يتحدث، على سبيل المثال، عن إقامة مركز صناعي في الجليل الغربي، وعن إنشاء مدينة يهودية جديدة شمالي الكابري. وإقامة مثل هذا المركز تتجاهل كلياً متطلبات الوسط العربي وجميع قرى الجليل الغربي العربية، إذ تحرمها تطوير مناطق صناعية كما تحرمها المركز الصناعي.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن ما بقي من أراض في حيازة العرب في إسرائيل لا يعدو 400 ألف دونم، بعد أن صادرت الأوساط الحاكمة أكثر من 600 ألف دونم في الفترة 1950-1991؛ إذا أخذنا ذلك في الاعتبار، فإنه تبرز المخاطر الجديدة من وراء مصادرة المشروع القطري الجديد لنحو 25% من الأراضي العربية الباقية. وتبرز هذه المخاطر في المجال الزراعي، حيث لا يجري الحديث - وفقاً للمشروع - عن تحسين وضع المزارعين العرب أو عن زيادة مخصصات المياه والمساعدات المالية لهم، وهو ما سيؤدي إلى زيادة مشكلات التطور. ويؤكد التقرير الذي قدمه رئيس مجلس جت المحلي، باسْم جت وباقة الغربية (المثلث)، في المؤتمر الصحافي الذي عقده لشرح أضرار "طريق رقم 6"،(15)   أن "شق شارع (6) والشارع الفرعي رقم (9) المرتبط به والذي يقع بين القريتين، جت وباقة، سيؤدي إلى مصادرة (2000) دونم من أخصب الأراضي الزراعية للقريتين التي تدر على الأهالي مردوداً يصل إلى (100) طن من المحاصيل في كل يوم. كما أنه سيدمر التخطيط المقترح لمجلس جت لإقامة منطقة صناعية محاذية للمنطقة الصناعية القائمة في باقة الغربية."

ووفقاً للمعطيات المتعلقة بالمشروع، الواردة في الخريطة الخاصة الموجودة لدى المجالس المحلية العربية، فإن الحكومة ستصادر من قرية جلجولية في المثلث نحو 500 دونم ومن قريتي أبو سنان وكفر ياسيف في الجليل 70 دونماً و 170 دونماً، ومن تمرة (الجليل) 3000 دونم، ومن الطيبة (المثلث) 5000 دونم، ومن الطيرة (المثلث) 1437 دونماً؛ وهذه الأراضي جميعها من أخصب الأراضي المزروعة والمشجرة (خضروات وزيتون وغير ذلك).

ثانياً: إن مشروع "طريق رقم 6" لن يشكل شرياناً قطرياً لحل مشكلات الزحمة في المواصلات فحسب، بل سيشكل أيضاً البنية التحتية فقامة مشروع الكواكب السبعة الاستيطاني - التهويدي، الذي يقضي بإقامة المدن والمستوطنات اليهودية على امتداد الخط الأخضر، وخصوصاً في منطقة المثلث. وقد شرح وزير الاستيطان الأسبق، الجنرال المتقاعد أريئيل شارون، الهدف من "مشروع الكواكب" بقوله إن المشروع يهدف إلى إقامة مستوطنات ومدن يهودية تستوعب عشرات الألوف من المهاجرين اليهود الجدد، وتكون بمثابة حواجز طبيعية تمنع تحوّل القرى العربية إلى مدن، وتعرقل الاتصال بين الفلسطينيين وإمكان التوسع والتطور الحضاري. وبحسب مشروع "طريق رقم 6" المعلن، فإنه يجري الإعداد لإقامة أربع مدن والكثير من المستوطنات في المثلث ووادي عاره، لاستيعاب عشرات الألوف من المهاجرين الجدد.

ثالثاً: بموجب مشروع "طريق رقم 6" يُحرم العرب حق التصرف في المناطق المحاذية للطريق، مثل إقامة المطاعم والمرافق الاقتصادية والسياحية وغيرها.

وعلى الرغم من هذه المخاطر الجدية، فإنه ليس في استطاعة الجماهير العربية إلغاء تنفيذ المشروع أو وقفه. ولهذا، فإن الجهود المبذولة الآن من قِبل المؤسسات القطرية للجماهير العربية، مثل اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية، ولجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية، واللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية، وغيرها، تتوجه إلى تقليص الأضرار المرتقبة.

وتعمل هذه الجهات على تجنيد الجماهير العربية وقواها، والتنسيق مع "لجنة المستوطنات"، المتضررة من "الطريق رقم 6" للكفاح المشترك اليهودي - العربي، ولا سيما فيما يتعلق بالقضايا المشتركة، مثل تقليص حجم الأراضي المعدّة للمصادرة، وتغيير مسار الطريق لتخفيف الأضرار في مجال الزراعة، وفي مجال التعويضات أيضاً، والاستفادة من مشاريع الطريق للتعويض على المتضررين وإيجاد بدائل للنشاط الاقتصادي والمعيشي.

إن مطالب الجماهير العربية ومؤسساتها تتلخص فيما يلي:(16) 

  • المطالبة بتقديم تعويضات إلى المواطنين العرب في مقابل أراضيهم، على قاعدة أرض في مقابل أرض؛
  • إيجاد بديل للمتضررين، وذلك بالسماح لهم بإقامة مطاعم ومرافق سياسية في المناطق المحاذية للطريق؛
  • إقامة مناطق صناعية لتوفير فرض عمل لأولئك الذين يقطع "طريق رقم 6" مصدر رزقهم، وللأجيال المقبلة؛
  • الإقلال من عرض ارتدادات البناء؛
  • حمل السلطات على التفكير الجدي في أن تخصص للعرب من أراضي الدولة أراضي بديلة من الأراضي المصادرة، وذلك من أجل إقامة المشاريع والمرافق والأحياء السكنية؛
  • المطالبة بالحق في الحصول على نصيب من الأسهم، والاستفادة من المنشآت الصناعية والتجارية المقامة على جانبي الطريق وعلى الأراضي المصادرة؛
  • توفير الأوضاع والآليات اللازمة لمواجهة الأضرار الناجمة عن تلويث البيئة جراء شق الطريق وتنفيذ المشاريع المرتبطة به. 

خلاصة

إن بعض المعطيات الواردة بشأن مشروع "طريق رقم 6"، وإسقاطاته المرتقبة، يشير إلى أنه يجري في إسرائيل إعداد جدي للغاية من أجل إعادة بناء الموقف الإسرائيلي، في ظل المتغيرات الجارية دولياً ومِنْطَقياً، بصورة تتلاءم مع الخطة الاستراتيجية لإقامة نظام إقليمي جديد يضمن لإسرائيل دوراً أساسياً للحفاظ على موقعها ذخراً استراتيجياً لواشنطن.

نيسان/أبريل 1993

 

المصادر:

(1) "هآرتس"، 9/11/1992.

(2) "عال همشمار"، الملحق، 12/3/1993.

(3) المصدر نفسه.

(4) "هآرتس"، 9/11/1992؛ "عال همشمار"، الملحق، 12/3/1993.

(5) أنظر: "هآرتس"، 9/11/1992.

(6) "حوتيم"، 12/3/1993.

(7) أنظر: "الاتحاد"، 18/3/1993.

(8) المصدر نفسه، 11/12/1992.

(9) أنظر: "هآرتس"، 9/11/1992.

(10) المصدر نفسه.

(11) "حوتيم"، 12/3/1993.

(12) "هآرتس"، 9/11/1992.

(13) المصدر نفسه.

(14) أنظر: "الاتحاد"، 11/12/1992.

(15) "الاتحاد"، 8/3/1993.

(16) أنظر: "الاتحاد"، 11/12/1992.

السيرة الشخصية: 

أحمد سعد: مدير معهد إميل توما للأبحاث الاجتماعية والسياسية.