سقط القناع عن القناع: "إلى أمل في غزة"
نبذة مختصرة: 

تصف هذه المقالة قناع التخاذل العربي الرسمي حيال القضية الفلسطينية في لحظة سقوطه ليكشف عن قناع التآمر على غزة، جغرافيا الإبادة والحصار والجوع. وتُبرز المفارقة الجارحة المتمثلة في موقف دول الجوار والتطبيع العربي، والتي تُحكم الخناق على حدود فلسطين من ناحية، وتفتح أرضها وبحرها وسماءها لجسور إمداد "إسرائيل" بما تريد بعد أن أغلقت المقاومة الحوثية باب المندب، من ناحية أُخرى. وفي مقابل تواطؤ "إخوة يوسف" منذ النكبة حتى غزة، يقف أصحاب الضمائر الحية في العالم مع غزة وفلسطين، بلا مواربة، وبوصلتهم لا تشير إلّا إلى القدس.

النص الكامل: 

ماذا يمكن أن يكتب المرء بعد أربعة أشهر من الإبادة؟ وماذا يمكن أن يقال أو يُكتب؟ وما جدوى القول أو الكلمة إزاء المشاهد المروعة والشعور بالعجز واللاجدوى؟ ولمَن نكتب نحن أصلاً؟ لقراء يتفقون معنا في الرأي والموقف بصورة عامة، أم إننا نكتب رسائل لن تصل لأن المرسل إليه غير معني بفحواها؟ لعلنا نكتب لنوثق بشاعة هذه اللحظة. أعترف أنني ترددت في الكتابة، وفي خضم هذا كله وصلت رسالة من صديقة في غزة، كانت قد هُجّرت من الشمال إلى الوسط، ثم إلى رفح. كنت أحاول الاطمئنان عليها فوصلت رسالة كتبَتْ فيها: "يبدو أن تنين الحرب يزداد نهماً، تذكرتُ حزنك بأن كل لغات العالم لا تخيف هذا التنين، وحوش صمّاء ليس لها لغة غير القتل. لكن أنسنة مَن يعيش تحت احتلال وتجتمع قوى العالم على شيطنته هو أكثر ما نحتاج. لا تفقد الأمل!"

وشعرت بالخجل من ترف اليأس.

يموت الفلسطينيون في غزة جوعاً وعطشاً ومرضاً، ويضطرون إلى أكل العلف وهم يواجهون منذ أكثر من أربعة أشهر حصاراً قروسطياً يمنع عنهم الغذاء والماء والدواء وكل شيء. حصار وحشي لا يسمح إلّا بهبوط الموت المجاني والدمار الشامل على مدار الساعة. هجمات بربرية بأحدث الأسلحة الفتاكة التي توفرها بسخاء الولايات المتحدة، الراعي والشريك الأول، ومعها أخواتها من ضباع الديمقراطيات الليبرالية في "العالم المتحضر". وتستمر الإبادة على الرغم من التظاهرات العارمة الغاضبة والرافضة للوحشية الإسرائيلية، شرقاً وغرباً، وعلى الرغم من الهتافات والبيانات والمناشدات. يحدث هذا كله على مرأى من العالم في أكثر حرب وُثّقت تفصيلاتها في التاريخ الحديث، وأول الموثّقين هم البرابرة أنفسهم الذين يتفاخرون بتفجير البنايات وتحويل الأحياء إلى ركام.

وأنا أحاول كتابة هذا النص بثّت القناة الثالثة عشرة الإسرائيلية تحقيقاً مصوراً عن الدعم الذي تتلقاه إسرائيل من حلفائها لتلافي النقص والشح وتخفيف حدة أزمتها الاقتصادية التي سبّبها حصار الحوثيين الذين كانوا قد أعلنوا أنهم سيهاجمون السفن المتجهة عبر باب المندب إلى البحر الأحمر ثم إلى إسرائيل، إلى أن يُرفع الحصار عن غزة. وحلفاء إسرائيل هؤلاء ليسوا في أوروبا أو كندا أو الولايات المتحدة، بل هم أقرب كثيراً. يقول تحقيق القناة الإسرائيلية إن الجسر البري يبدأ من دبي حيث تفرّغ السفن حمولتها هناك، ثم تمرّ الحمولة بالأراضي السعودية، وبعدها بالأردنية، وبعد ذلك تصل إلى إسرائيل سالمة بعد مرورها بمعبر جسر الأردن. وأظهر التحقيق طوابير الشاحنات الطويلة. إنها "فزعة" هذه الأنظمة العربية التي تغيث العدو وتقدم له العون في محنته. هذه قيم الوفاء والأخوة والالتزام بالاتفاقيات "الأبراهيمية". إنهم إخوة يوسف.

هذا هو المشهد على حدود فلسطين الشرقية. أمّا على حدودها الغربية، فتذكر التقارير وتُظهر الصور 2000 شاحنة محمّلة بالمساعدات تنتظر أمام معبر رفح، على أرض جمهورية مصر العربية، قاب قوسين أو أدنى من مئات الآلاف من الفلسطينيين الموجودين على حافة الموت.

وفي مضارب إخوة يوسف، في "عواصم الثقافة العربية الجديدة"، تقام المهرجانات السينمائية والأدبية والحفلات الغنائية والمسابقات كأن شيئاً لم يكن، ويتقاطر مثقفون وكتّاب وفنانون ومطربون. فالطرب والبذخ وإعلاء القيم الاستهلاكية "انتصار" للعالم الجديد (وهو القديم بكل بشاعاته، لكن بحلّة برّاقة) واحتفاء به. وطبعاً، يعاقَب بالحرمان من جنان الثقافة الجديدة والانفتاح، كل مَن يلمّح إلى فلسطين، أو يغامر بتعبير خجول عن تضامن ما مع إخوته.

لم تكن النكبة حدثاً منفصلاً، وإنما هي بُنية تستمر تبعاتها وتتفاقم. والخيانة العربية التي مهّدت للنكبة وواكبتها وعمّقتها، لم تكن هي الأُخرى حدثاً منفصلاً، وإنما بُنية تستمر وتتغوّل. إنه مشهد مستمر منذ سنة 1948. وحين يسقط قناع، فإنه يكشف عن قناع آخر تحته، غير أن المشكلة ليست في الأقنعة فحسب، بل في الوجوه والأجسام السياسية الفاسدة أيضاً.

في عاصمة الولايات المتحدة، الإمبراطورية التي "تفزع" لإسرائيل وتمدّها بالأسلحة وتحميها بالفيتو، مشى إلى السفارة الإسرائيلية آرون بوشنيل، وهو شاب أميركي في الخامسة والعشرين من عمره، ينتسب إلى سلاح الجو الأميركي.

وهناك صوّر بوشنيل نفسه وهو يقول: "لن أتواطأ مع الإبادة بعد الآن. أنا على وشك القيام بفعل احتجاجي متطرف. لكنه ليس فعلاً متطرفاً البتّة مقارنة بما يتعرض له الفلسطينيون على أيدي المستعمرين. وهو ما قررت الطبقة الحاكمة في بلدنا أنه أمر عادي."

ثم وقف أمام بوابة السفارة الخارجية وأضرم النار في جسده. وكانت آخر كلماته التي هتف بها وهو يحترق: "فلسطين حرّة"، ثم مات بعد ذلك بساعات في المستشفى. لم يكن بوشنيل عربياً ولا مسلماً، وإنما كان أناركياً، وكان قد كتب لرفاقه قبلها بأيام ليعلمهم أنه على وشك القيام بفعل احتجاجي متطرف. وهنا، يلتحق بوشنيل بالناشطة الأميركية راشيل كوري (1979 - 2003) العضوة في حركة "التضامن مع فلسطين"، والتي قتلتها جرافة إسرائيلية في رفح حين كانت تحاول حماية البيوت الفلسطينية من التجريف والتهديم. ضحّى بوشنيل بحياته وجسده ليكون موته صرخة مدوية ورسالة واضحة.

كانت فلسطين في زمن ما قضية كونية تجاوزت الحدود والأطر القومية والعرقية، لأنها قضية عدالة وتحرر ونضال ضد استعمار واحتلال عسكري وحشي، وقضية أرض سُلبت، وبشر هُجّروا ولهم الحقّ في العودة إلى وطنهم. والثمن الذي يدفعه الفلسطينيون باهظ، وتضحياتهم وبطولاتهم أسطورية. غير أن فلسطين اليوم تعود لتكون قضية مركزية للأحرار ومناصري العدالة والتحرر في العالم بأكمله، لأنها تجسّد، في مآلاتها ومأساتها، فصلاً من تاريخ الحداثة الاستعمارية التي تهيكل العالم ببربريتها وتراتبياتها العنصرية. فها هي تُظهر جرائم الصهيونية ووحشيتها وكل مَن يساندها قولاً وفعلاً على الملأ، وتُسقط الأقنعة واحداً تلو الآخر في كل مكان، لتُظهر، مرة أُخرى بما لا يقبل الشك، أن عالمنا هذا، الذي تسمح نخبه وطبقاته الحاكمة بالإبادة، وتدعمها مادياً ومعنوياً، وتتسامح مع المجرمين الصهيونيين وتدعمهم، هو عالم فاسد في نخاعه، وأنه لا بد من تحريره وتغييره وإعادة تركيب منظوماته. وليست مبالغة أن نقول إن تحرير هذا العالم يرتبط بتحرير فلسطين وإنهاء الاستعمار الصهيوني، وبإسقاط الأنظمة والنخب التي تتواطأ مع إسرائيل وتشترك في جرائم الإبادة. ومثلما يقول الشاعر العراقي مظفر النواب: "بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة / حطّموها على قحف أصحابها / اعتمدوا القلب فالقلب يعرف / مهما الرياح الدنيئة / سيئة جارفة."

* العنوان من قصيدة "مديح الظل العالي" لـمحمود درويش.

السيرة الشخصية: 

سنان أنطون: شاعر وروائي وأكاديمي من العراق.