"غزة تردّ بالكتابة: رواية فلسطين"
النص الكامل: 

عملية الرصاص المصبوب: مَن الذي خلق اليهود؟

قبل أكثر من خمسة أعوام، وخلال "عملية الرصاص المصبوب" (2008 – 2009)، وهي حرب إسرائيل العدوانية واسعة النطاق على غزة، والتي استمرت 23 يوماً سألتنا أنا وزوجتي، ابنتنا الصغيرة، شيماء، التي كان عمرها خمسة أعوام فقط، سؤلاً لا يزال يذهلني، وأصبح، في عدة مناسبات، سؤالاً يسكنني. ففي غمرة أصوات الانفجارات ورائحة البارود، جاء سؤالها، بصوتها الناعم والمرتجف، كصدمة لكلينا: "مَن الذي خلق اليهود؟" سألتْ، وهي تنظر في عينَيّ، ثم التفتت إلى أمها في انتظار إجابة. ولوهلة، لم يكن أيّ منا قادراً على الكلام، فضلاً عن إجابة سؤالها. وفي غمرة ذهولي، عرضت أن أروي لها قصة، وتبعتها قصص أُخرى.

إن لم أستطع أن أجيب عن سؤالها، فقد عرفت شيئاً واحداً، وهو لماذا كبرت شيماء بما يكفي، في أسابيع قليلة، لتسأل مثل هذا السؤال البليغ. لا بد من أنها فكرت في أن الله الرحيم المحب الذي تعلّمت عنه في الروضة، والذي يحمي عادة الطيبين في قصص أمها، لا يمكن أن يكون هو الله نفسه الذي خلق ماكينات القتل التي لم تجلب لنا، على امتداد أيام وليالٍ، إلّا الموت، والفوضى، والدمار، والدموع، والألم، والخوف، جعلتها هي وإخوتها الصغار يصحون في الليل ويبكون بشكل هستيري. إن نسختها من الله لا يمكن أن تكون هي نفسها نسخة خالق مَن تسببوا بتكسير نوافذنا، ومَن أطلقوا النار على والدها، قبل يومين، حين كنت أملأ خزانات المياه على سطح بيتنا خلال ساعتَين كان فيهما وقف لإطلاق النار.

لقد تسببت "عملية الرصاص المصبوب" الإسرائيلية باستشهاد 1400 فلسطيني وجرح الآلاف الذين كان معظمهم من الأطفال والنساء والمسنين. وأغلبية الجرحى الآن معاقون حتى آخر العمر، والشهداء، في معظمهم، خلّفوا وراءهم أطفالاً يتامى وزوجات أيامى إلى آخر العمر. قبل خمسة أعوام، دمّرت إسرائيل أكثر من 6000 وحدة سكنية، تاركة 20,000 فلسطيني بلا مأوى، معظمهم مهجّر قسرياً للمرة الرابعة أو الخامسة خلال حياته. لقد جاءت الحرب بعد حصار طويل لا تزال إسرائيل تفرضه على غزة، حصار ترك معظم مناحي الحياة مشلولاً. فقد استهدفت إسرائيل البُنية التحتية، والمدارس، والجامعات، والمصانع، والبيوت، والحقول، بل إن كل شخص كان هدفاً محتملاً، وكل بيت كان من الممكن تحويله إلى ركام في جزء من الثانية. لم يكن في غزة زمان صحيح ولا مكان صحيح، فغزة بأكملها كانت قلب الهدف للترسانة العسكرية الأكثر تطوراً. وكان من الواضح تماماً للغزيين آنذاك أن إسرائيل كانت تستهدف، وبشكل منهجي ومتعمد، الحياة والأمل، وأنها كانت ترغب في التأكد من أنه لم يعد لدينا ما نتعلق به بعد انتهاء العدوان، وأنه تم إسكاتنا إلى الأبد. 

رواية القصص

لقد كانت الأعوام الخمسة التالية لـ "عملية الرصاص المصبوب" هي أكثر الأعوام إنتاجية في حياتي. وكأكاديمي شاب يحمل درجة الماجستير من جامعة كلية لندن، ويدرِّس الأدب العالمي والكتابة الإبداعية في الجامعة الإسلامية في غزة، فإن عدة فرص سنحت لي كي أكون جزءاً من النضال من أجل الحقوق الوطنية الفلسطينية. وقد منحني عملي فرصة العمل مع ألمع الطلبة في فلسطين، والذين شارك العديد منهم في كتاب "غزة تردّ بالكتابة"، وهو مجموعة القصص القصيرة التي أمضيت أكثر من عام في تحريرها لأعرض المقاومة الإبداعية الفلسطينية للظلم ولعنصرية إسرائيل ووحشيتها. غير أن وصف الكيفية التي وصلتُ بها إلى هناك، يتطلب رواية قصة عن توصُّلي إلى فهم أهمية القصص.

أتذكر بوضوح كيف أمضيت 23 يوماً في التحضير للفصل الثاني، لأنني كنت على يقين من أنه سيكون ثمة حياة بعد العدوان. كنت أقرأ رواية "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو. وللمرة الأولى، أدركت كيف تم تقديم قصة فرايدي عبر سيّد عنصري استعماري عيّن نفسه بنفسه، مدّعياً ملكية أرض ليست له. لم يزعجني خطاب كروزو الاستعماري من قبل مثلما أزعجني حينها: "جزيرتي أصبحت آهلة الآن، وكنت أعتبر نفسي غنياً جداً بالرعايا... كان شعبي مطيعاً تماماً، وكنت سيّداً مطلقاً ومشرِّعاً، فجميعهم كانوا مدينين لي بحياتهم، وكانوا جاهزين للتضحية بحياتهم."[1] فكرت أنه لا بد من أن يكون ثمة قصة مختلفة يمكن لفرايدي أن يرويها، لو لم يتم إسكاته، وأنه ينبغي لنا، نحن الفلسطينيين، ألّا نكون "الرجل فرايدي" لأي كان، وأن نملك روايتنا الخاصة، لأن لا أحد سوانا يمكنه إظهار الألم العميم والمعاناة الباهظة التي فُرضت علينا. وإذا كان يجب مقاومة نظام الفصل العنصري، فإنه يتعين تحدي روايات إسرائيل وفضحها.

حينها أدركت كثيراً من حكمة والدتي. فهي، ولأعوام طويلة، كانت تروي لي ولإخوتي العديد من القصص، وكثيراً ما نظرتُ إليها بوجه متجهم وهي تعيد روايتها مرة بعد أُخرى، متسائلاً: كم مرة ستروين هذه القصة ذاتها؟ ورداً على ذلك، بدأت أمي، التي أنجبت 14 منا، 8 أولاد و6 بنات، وأنا ثاني أكبرهم، بتجريب القصص، ليس فقط بإضافة تفصيلات جديدة ومثيرة، بل أيضاً بالتركيز والتحول في السرد مثلما ارتأت أنه ملائم لغاية في نفسها. وهكذا، أصبحت القصص أكثر جاذبية. ولا بد من أن أمي، عبر هذا الفعل النادر من التنازل، كانت قد أدركت أن أهداف رواية القصص لنا هي أكثر أهمية من مجرد إبقائنا هادئين، أو حتى تقويم سلوكياتنا السيئة، كأن تحملنا على تناول الخضروات لأن الولد الذي لم يأكل في القصة كان من السهل أن تختطفه ذبابة عملاقة (لا يمكنني إلّا أن أتذكر قصة أمي عن الولد الكسول الذي طلبت منه والدته أن يخرج ويتأكد ما إذا كانت السماء تمطر، وكيف أن الولد أجاب: "تمام، عندما تدخل القطة، سأتحسس شعرها وأرى ما إذا كان مبتلاً!").

أمي، التي كانت تقوم عادة بعدة مهمات في آنٍ واحد، كانت تفعل كل ما في وسعها عندما كانت تروي لنا إحدى القصص، فالقصة كانت تظهر على ملامح وجهها، وفي نبرة صوتها، ومن خلال إيماءاتها، الأمر الذي كان يضيف جدِّية إلى وجهها المشرق أصلاً. كانت أمي تؤمن بقصصها التي أضحت جزءاً من حياتنا، ولا تزال كذلك. غير أني لم أدرك إلّا في فترة متأخرة من العمر إيمان أمي الراسخ بقوة القصص، وفهمت أن هناك عدة طرق لرواية الأشياء ذاتها. ففي بعض الأحيان كانت أمي تطلب منا أن نروي قصصنا الخاصة، أو حتى أن نكرر إحدى قصصها. لقد منحت القصص أمي مزيداً من السلطة والقوة، ومن المؤكد أنها اعتقدت أن الأصوات الفردية خطرة للغاية. أمّا بالنسبة إلينا، نحن الذين كنا أطفالاً يعيشون في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فإن قصص أمي وقصص جدتي كانت عزاء لنا، وكانت رفيقة دربنا في عالم أعمى يسيطر عليه الجنود والبنادق والموت. وهؤلاء الجنود مسؤولون جزئياً عن الشخص الذي أصبحتُ عليه اليوم، وذلك على الرغم من أن قليلين كان في وسعهم التنبؤ بأن الشاب الأرعن الذي كان يلقي الحجارة خلال الانتفاضة الأولى سيكبر ليصير أكاديمياً في الجامعة.

وعلى الرغم من الهجمات، أو بالأحرى، ولمزيد من الدقة، بسببها، فإنني وجدت نفسي أروي لأطفالي الثلاثة، شيماء وعمر وأحمد، إمّا القصص نفسها التي كانت ترويها لي أمي، وإمّا قصصاً أُخرى تحمل أفكاراً مشابهة، جاعلاً أطفالي أبطالاً ومخلِّصين من حين إلى آخر. ولم يُفسد شيء تركيزي إلّا الأصوات المتقطعة للانفجارات "بوم! بوم!". هكذا قضيت معظم الوقت، أحاول التأكد من أنني في الغرفة الأقل احتمالاً للتعرض للضربة من الصواريخ الإسرائيلية الطائشة (!). ولم تكن القصص التي كنت أرويها لأطفالي وأطفال أخي الذين ازدحموا في المكان وساعدوا في جعل الغرفة الباردة أكثر دفئاً بأنفاسهم، مجرد متعة ترفيهية لتسرية الوقت، كما أنني لم أُعدّها بطريقة علمية، بل خرجتْ مني ببساطة، ذلك بأن القصص في فلسطين تخرج ببساطة. فأنت تقرر أن تروي قصصاً، فتظهر القصص ببساطة، وتبدأ الشخصيات بالتجمُّع، ثم، وبشكل يثير إعجاب الراوي، يتكشف كل شيء. فإذا كان البِرُّ يبدأ في البيت، فإن القصص تبدأ في البيت أيضاً. وقد تربيت، كفلسطيني، على القصص ورواية القصص، ومن الأنانية والخيانة أن تحتفظ بالقصة لنفسك، فالقصص وُجدت لتُروى، وتعاد روايتها مرة بعد أُخرى. وإذا سمحتُ لقصة بالتوقُّف، فسأكون خائناً لميراثي، ولأمي، ولجدتي، ولوطني. فالرواية، بالنسبة إليّ، هي أحد عناصر الصمود الفلسطيني، وهي تعلّم الحياة حتى لو عانى البطل أو استشهد في النهاية. وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن القصص تصقل المهارة اللازمة للحياة.

كانت قصصي الوسيلة والغاية في آنٍ معاً. فعندما كنت أروي القصص لأطفالي لتشتيت انتباههم وتهدئتهم وتثقيفهم، كنت لأول مرة أشعر بقرب شديد من أمي، وبما حدث لها ولأجدادي. لقد كانت القصص نافذتي إلى ماضي أمي، وإلى ماضيَّ أنا، إذ بدأت أعيش كل دقيقة قضتها والدتي في الملجأ الذي أعدّه جدّها قبل أن تجتاح إسرائيل غزة للمرة الأولى قبل عقود مضت. وحين كانت تحكي لي عن التجارب العديدة للاقتراب من الموت، والتي كان عليها وعلى عائلتها احتمالها، كان شعر رأسي يقف، ذلك بأن مجرد فكرة اقتراب أمي إلى هذا الحد من الموت، فقط لكونها هناك، لا يزال يذهلني. ففي أحد الأيام، قالت لنا أمي أنها كانت ذاهبة إلى المدرسة عندما انفجرت قذيفة على بعد أمتار قليلة منها، لكنها في اليوم التالي، استيقظت وذهبت إلى المدرسة كأن شيئاً لم يحدث في اليوم السابق، وكأنها، كذلك، كانت ترفض حكم القذائف (وبالنظر بأثر رجعي، أعتقد أن هذا هو السبب في أنني لم أتغيّب عن الصف طوال حياتي تقريباً). غير أن والدتي عاشت بعد اجتياح إسرائيل الوحشي، وعاشت معها قصصها. فخلال الهجوم، وكلما فجّرت إسرائيل مزيداً من القنابل، كنت أروي مزيداً من القصص، وأقرأ المزيد. كانت روايتي للقصص هي طريقتي في المقاومة، وكانت رواية القصص هي كل ما أستطيع فعله. وفي حينه، قررت إذا ما عشت أن أكرّس جزءاً كبيراً من حياتي لرواية قصص فلسطين، وتمكين الروايات الفلسطينية، وتعهُّد الأصوات الشابة. 

"غزة تردّ بالكتابة"

في أعقاب العملية الإسرائيلية، وعندما نفضنا عن أنفسنا غبار الألم والأسى المباشر الذي جاء مع "الرصاص المصبوب"، عادت غزة إلى طبيعتها، لكن هذه المرة كان هناك أكوام من الجثث والمنازل والأيتام والركام والقصص التي برسم الرواية. عدت إلى صفوفي وطلابي في دائرة اللغة الإنجليزية في الجامعة الإسلامية في غزة، والتي تعرّض فيها مبنى المختبرات الأحدث والمجهز بشكل ممتاز، للقصف من طرف إسرائيل. كانت الندوب ماثلة في كل مكان، وكل شخص في غزة كان متسربلاً بالحداد على عزيز فقده. ولهذا، بدأت أدعو أصدقائي وطلابي كي يكتبوا عمّا عانوه، ليشهدوا على الألم الذي تسببت به العملية، وقلت لهم: "الكتابة هي شهادة، ذاكرة تعيش بعد أي تجربة إنسانية، وهي التزام بالتواصل مع أنفسنا ومع العالم. لقد عشنا لسبب؛ عشنا لنروي قصص الفقد والنجاة والأمل."

كانت الخطة أن نبدأ بكتابة تجارب شخصية، وكتابات إبداعية فعلية، ثم تحويل هذه الكتابات إلى قصص. وكانت كتابة القصص الإبداعية جديدة بالنسبة إلى العديد من طلابي، فضلاً عن كتابة القصص القصيرة، ولهذا عارض بعضهم ذلك في البداية، لكن حين آمنوا بأنفسهم وبموقعهم الخاص في التاريخ، وفهموا أن الرواية هي فعل إبداعي للمقاومة ضد الظلم، شرعوا في الكتابة، وأيقنوا أنهم ربما يصبحون في نهاية المطاف أصوات جيلهم. وهكذا، أخذت القصص والمقالات تتدفق. وإذا كانت الرواية مهمة بالنسبة إلينا كفلسطينيين، فإن كتابة هذه القصص هي أمر ذو أهمية قصوى. لقد كان الوقت ملائماً لكسر الحصار الفكري الذي فرضته إسرائيل منذ عقود، وكذلك لكسر القيود النفسية والتحدث إلى غير العرب باللغة والخطاب اللذين يفهمونهما.

بعد ثلاثة أعوام على "عملية الرصاص المصبوب"، كنت قد جمعت عشرات النصوص الإبداعية التي كتبها طلابي وأصدقائي، وشرعت في استخدام بعضها في دروسي في الكتابة الإبداعية والأدب كعيِّنات، كي أُري الطلاب أنهم أيضاً قادرون على الكتابة. وكلما جمعت مزيداً من القصص، زاد اعتقادي بضرورة نشرها في كتاب. وعندما تواصلت معي دار Just World Books، آنئذٍ، لتحرير كتاب من النصوص المنشورة في مدونتي الشخصية، اقترحتُ مجموعة قصص قصيرة بدلاً من ذلك. وعندما نشرتُ في فيسبوك وتويتر، استكتاباً لإرسال القصص من جامعات قطاع غزة، تلقيت العشرات من القصص الأُخرى التي أبهرتني في تنوعها ونضجها. ومع ذلك، فإن ما أردته كان 23 قصة لمواجهة 23 يوماً من الإرهاب في "عملية الرصاص المصبوب". أردت قصصاً تمثل الحياة في مواجهة الموت، والأمل في مواجهة اليأس، والإيثار في مواجهة الأنانية الفظيعة.

إن القصص الثلاث والعشرين المختارة لكتاب "غزة تردّ بالكتابة" تشهد على واحد من أكثر الاحتلالات الوحشية التي عرفها العالم، كما أنني رأيت فيها إمكاناً لجمع عدد من الأصوات الفلسطينية في كتاب واحد يسعى لتثقيف الفلسطينيين وجمهور أوسع، لأن هؤلاء الكتّاب الشباب يؤمنون بشكل راسخ بأن ثمة الكثير لمشاركته، وبأن من واجبنا الأخلاقي إطلاع العالم على مأساتنا ومعاناتنا كفلسطينيين نعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي. إن كتاب "غزة تردّ بالكتابة" لا يعطي الفلسطينيين صوتاً، فالفلسطينيون لديهم أصواتهم الخاصة، وإنما يعرض بعض هذه الأصوات الفلسطينية التي هي أفعال مقاومة وتحدٍّ تُبرز صمودنا، نحن الفلسطينيين، واستمرارية جلَد ثقافتنا وإبداعها في مواجهة العقبات المستمرة ومحاولات إسكاتنا.

إن أيّاً من النصوص المقدمة، أكان يتناول المأساة التي تحيط بضربات الصواريخ والغارات على المنازل، أو الإذلال اليومي الذي يتعرّض له اللاجئون الفلسطينيون، أو قصة الحب التي لا يمكن أن تتحقق بسبب العادات الاجتماعية، يعيد إلى الحياة القضايا الحقيقية التي يواجهها أهل غزة. ولهذا، يخيّم على الكتاب شعور بالحنين، إذ تكشف شخصيات القصص عن رغبات تتنوع من العادي إلى العميق، بما في ذلك الحنين الجارف إلى العودة إلى منازل العائلة وأملاكها التي طال التعلق بها بعد عقود من البعد عنها، علاوة على استكشاف الاختلافات الاجتماعية والفوارق الطبقية في غزة بحساسية. وبعض القصص يستعصي على الفهم على نحو خاص، لكنه مهم نظراً إلى وضوحه وصراحته في تصوير تجارب ضحايا الضربات العسكرية الإسرائيلية ومواجهة آثار العنف والاحتلال، ولا سيما تأثيرها في الشباب. وثمة أيضاً بعض قصص النقد الذاتي للتفصيلات التي تتطرق إلى قضايا مثل الانقسامات الداخلية أو التمييز، والقيادة الهرمة.

بعد خمسة أعوام من "الرصاص المصبوب"، تُذكّرنا هذه القصص بأن الألم ما زال مستمراً، وأن سكان غزة سيظلون يعانون ندوب الحرب إلى الأبد. ومع ذلك، سيبقى نداء العدالة مستمراً وبقوة، إذ يُصرّ هؤلاء الكتّاب الشباب على عدم السماح للعالم بنسيانهم، ونسيان أرضهم، وشعبهم، وقصتهم. 

 

غلاف كتاب "غزة تردّ بالكتابة: قصص قصيرة من كتّاب شباب في غزة، فلسطين" (٢٠١٤)

 

حنان حبشي

حنان حبشي هي واحدة من أهم قصص النجاح بالنسبة إليّ. فهذه الفتاة الهادئة التي نادراً ما تحدثت في الصف، والتي لم تكتب أي شيء بالإنجليزية من قبل، فضلاً عن كتابة القصة القصيرة، جاءت بقصة عظيمة مثل "الحاء للحياة". وقصة حنان هي قصتي المفضلة، وقد اخترت أن أبدأ الكتاب بها ليس لأنها ناضجة بشكل لافت فحسب، بل لأن حنان أيضاً، واحدة من الشابات الموهوبات اللواتي لا يحتجن إلّا إلى بعض الدعم والتدريب، وكتابتها قصتها ساعدتها على أن تصير أكثر نضجاً وثقة بنفسها.

تروي مساهمة حنان قصة فتاة متعلقة بوالدها بشكل كبير ومتأثرة بحقيقة أن جنوداً إسرائيليين مسلحين خطفوه بوحشية وهو على وشك إنهاء رواية قصتها المفضلة. وبالتالي، كان عليها أن تحتمل الحياة مع "ألم اليتم، وعذاب قصة غير مكتملة." لكنها لا تسمح لهذا كله بهزيمتها، فالصمود يترجَم بالأفعال والسعي لإنهاء المعاناة، بدلاً من مجرد الصبر على ما يفرضه الاحتلال واحتماله. وعلى غرار البطلة التي تسعى لاجتراح نهاية للقصة، فإنه يبدو أن حنان باتت تبحث لنفسها عن مكان لها ككاتبة شابة. ولذا، تصبح القصة رحلة من المبادرة، واكتشاف الذات، والنضج، لكل من الكاتبة والبطلة.

حين قرأتُ قصة حنان للمرة الأولى، شعرت بغضب شديد، إذ ما إن جذبتني القصة وشعرت بالتماهي مع الشخصية الرئيسية وصراعها، حتى كانت النهاية مفاجئة وعنيفة. لقد شعرت بالخذلان من طرف الكاتبة، لأنني أردت منها أن تكتب المزيد وتخوض المزيد، لكنني لم أدرك عمق حنان إلّا في وقت لاحق، وذلك خلال جولتنا لأربعة أسابيع في الولايات المتحدة. فالطريقة التي تنتهي بها القصة قبل أوانها، تعكس التجربة التي يجب أن تتحملها البطلة عندما يقوم الجنود الإسرائيليون باقتحام منزلها ويقطعون زمن قصة ما قبل النوم، القصة التي كانت الشخصيات والقراء، على حد سواء، يتوقعون نهايتها. فالقارىء، عبر ما تكشفه القصة، يعاني ما تعانيه الشخصية الخيالية [التي فيها]، وما يحتمله شعب فلسطين يومياً: فراق قسري وفي غير أوانه مع أحلامهم وأحبائهم. هنا، يصبح الألم الخيالي هو ألمنا، ويكون الإحباط من نصيب القراء. وكقراء، ليس في وسعنا إلّا أن نكون جزءاً من الرحلة لإنهاء الألم والعثور على نهايات للقصص التي قاطعتها قوات الاحتلال وقطعتها. 

يوسف الجمل

علاوة على استخدام الصفوف الدراسية لتشجيع الطلاب على الكتابة، كنت أدرك أن عليَّ البحث عن آخرين لديهم القدرة على الكتابة بشكل إبداعي، وأحد تلك الأصوات اللامعة هو يوسف الجمل. فيوسف الذي يكتب مقالات لعدة مواقع إلكترونية مرموقة مثل "الانتفاضة الإلكترونية" و"موندوايس"، لم يحاول كتابة القصة من قبل، لكنني رأيت إمكاناً لقصة قصيرة في إحدى مقالاته الشخصية جداً: "لماذا لديّ أخوان يُدعيان عمر؟"، والتي كتب فيها عن شقيقه عمر الذي استشهد قبل عشرة أعوام، عندما اقتحم جنود إسرائيليون مخيم النصيرات في منطقة وسط قطاع غزة، وكيف سمّى والداه ابنهما الأصغر الذي ولد بعد عامَين، باسم الابن الذي فقدوه. تواصلتُ مع يوسف وناقشنا طرق كتابة قصة قصيرة استناداً إلى تجربة عائلته الثاكلة، لأن "الذهاب إلى كتابة القصة يعني الانتشار عالمياً." بعد استشهاد عمر، اكتشفت عائلته من سجل مكالمات هاتفه المحمول أنه حاول الاتصال بهم قبل أن يُقتل، وكانت مهمة يوسف هي إعادة تتبّع وتخيُّل اللحظات التي سبقت استشهاد شقيقه، وما يكون قد مر في ذهنه وهو يتعرض للقتل على يد إسرائيل التي كانت تسرق الحياة من جسده الهش، وتحرمه الوداع الأخير لعائلته، والذي كان بحاجة إليه. كانت النتيجة قراءة ساحرة، وإعادة عيش للحظات الأخيرة من حياة شهيد وهي تتراءى أمامه والرصاص يئزُّ عبر جسده. وبالنسبة إلى يوسف، كانت كتابة القصة تعني تخليد شقيقه، وإدخاله إلى قلوب الناس ومنازلهم على امتداد العالم، فخلال جولة مع يوسف لترويج كتاب "غزة تردّ بالكتابة"، سمعته يقرأ قصة شقيقه لجماهير أميركية، ورأيت كيف أثّرت القصة في كثيرين حتى البكاء.

بينما كان عمر يلفظ أنفاسه الأخيرة، تومض حياته أمام عينيه، ومع كل رصاصة تصيب جسده، يتذكر حدثاً من حياته. نتتبّع، نحن القرّاء، أيام عمر الأولى حيث ولد وسُمّي، حتى إننا نتابع أول مواجهة مع الجنود الإسرائيليين، عندما كان عمر مجرد رضيع! كيف عرف عمر بهذه الحادثة؟ من خلال القصص التي رواها له والداه وأعادا روايتها. إن حياة الفلسطيني عادة ما تُبنى عبر القصص وحولها، ونحن نكبر لنعيش القصص من جديد. "عمر س" هي قصة عن كيفية تشكيل القصص لما نحن عليه، وهي كذلك قصة عن أهمية رواية القصص حتى عندما يكون الشخص في طريقه إلى الموت. لذا، لم يحتفظ يوسف بذكرى شقيقه فحسب، بل تمكّن أيضاً من إنقاذ قصص شقيقه التي أرادت إسرائيل اغتيالها مع اغتيال عمر. 

الكتابة لغير القراء العرب

العديد من الفلسطينيين، من الشباب والكبار، يكتبون القصة والشعر باللغة العربية، إلّا إن القصص الثلاث والعشرين في كتاب "غزة تردّ بالكتابة" كُتبت بالإنجليزية. وبالمقارنة، قليلون جداً هم الذين يكتبون باللغة الإنجليزية، ولهذا غالباً ما تأتي الرواية الفلسطينية باللغة الإنجليزية من غير الفلسطينيين. ولهذا، فإننا، نحن الفلسطينيين، بحاجة ماسة إلى أخذ المبادرة للتعبير عن أحلامنا وآلامنا وآرائنا ومخاوفنا باللغة الإنجليزية، فقد لمسنا التبعات غير المقبولة لترك روايتنا لوسائل الإعلام الغربية التي تسيء تمثيلنا بانتظام، والتي عادة ما تتبنّى الروايات والخطاب الإسرائيليين. كما رأينا كيف يفشل بعض الداعمين للقضية الفلسطينية في فهم عمق كارثتنا وجوهرها، مختزلين القضية الفلسطينية إلى أزمة إنسانية أكثر من كونها أزمة شعب مستعمَر من طرف إسرائيل، ومحروم من حقوقه الأساسية، وعرضة باستمرار للعنصرية والإذلال. ولذا، ففي "غزة تردّ بالكتابة"، كانت الأولويات هي الكتابة مباشرة لجمهور كبير، ونقل الكتاب خارج المقروئية العربية، واستخدام الإنجليزية كوسيط.

ولأن الأدب المترجم، على الرغم من أهميته، يفقد بالضرورة بعض معانيه خلال عملية الترجمة، فقد وجّهنا جهودنا نحو تحسين مهارات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية لدى الكتّاب، وجاء الكتاب مثلما تصورناه، لإعطاء الكتّاب الذين يكتبون بالإنجليزية، دفعة إلى الأمام على أمل أن يمكّنهم ذلك من كتابة المزيد وتدشين حوار دولي أوسع. وأنا على يقين من أن الضجة الإعلامية التي أثارها كتاب "غزة تردّ بالكتابة"، والجولة الترويجية في الولايات المتحدة، ستشجع العديد من الفلسطينيين على الكتابة باللغة الإنجليزية، من أجل فلسطين. وبعد أربعة أشهر فقط من نشر الكتاب، وُضعت خطة لترجمة "غزة تردّ بالكتابة" إلى اللغة العربية (تمت ترجمته فعلاً إلى اللغة الملاوية)، وكلّي أمل بأن يتبع هذا عدد متزايد من المشاريع التي تترجم الأدب الفلسطيني الناشىء إلى الإنجليزية وغيرها من اللغات. 

لماذا القصة؟

يقدّم هذا الكتاب فلسطين من خلال القصة، فالقصص تمنح أمثلة للتيارات الأساسية في صفوف الكتّاب الشباب، وتمنح نوافذ للإطلالة على الكيفية التي يترجمون بها، ويتجاوزون الإحصاءات والحقائق والأرقام. وبينما تنقل المقالات الإخبارية القصص اليومية، فإنها تميل إلى الاختفاء مع مرور الزمن، أمّا الأدب، فلديه القدرة على إعادة تشكيلنا، وجعلنا ننضج، وعلى الربط بين الناس على امتداد الزمان والمكان. وفي الآن نفسه، فإن هذه القصص القصيرة متجذرة في الواقع، ولعل الواقع الذي يختبره المدنيون في وقت الحرب يمكنه أن يكون أكثر رعباً ولاواقعية من الخيال نفسه. إن القصص تمكّننا من فهم ماضينا وربطه بحاضرنا، ويمكنها أن تكون الخيط الأساسي الذي يربطنا بماضينا، وأن تأخذ أيضاً شكل حلم برسم التحقق، ولهذا أضحى الفلسطينيون بصورة خاصة يقدّرون القصص، ويبحثون عنها. وفي حقيقة الأمر، فإن رواية القصص في حدّ ذاتها فكرة أساسية في بعض القصص الواردة في كتاب "غزة تردّ بالكتابة"، ذلك بأن الكتّاب يدركون جيداً أن القصص تستمر في إثرها التجربة الفردية. وعلاوة على ذلك، فإن الردّ بالكتابة هو فعل حياة، وأمل، ومقاومة، وهو يحقق التزاماً تجاه الإنسانية، ويزيد مستوى الوعي بين الناس على امتداد العالم، أولئك الناس الذين أعمتهم حملات التضليل والهسباراه الإسرائيلية التي تكلف ملايين الدولارات. 

فلسطين على مرمى قصة

لا تخلو في فلسطين أي جَمعة عائلية من قصص أيام الماضي الجميل عندما كانت فلسطين هي فلسطين التي لم تعرفها الأجيال الحالية على نحو مباشر. وبسبب رواية هذه القصص، باتت فلسطين تسكننا كلنا، ففلسطين تحتاج إلى أن تُحْيا: فلسطين حرة حيث يتعايش كل الناس بغضّ النظر عن اللون أو الدين أو العرق، فلسطين التي لا يعني فيها مصطلح "الاحتلال" الموت أو الدمار والألم والمعاناة والحرمان والعزلة والقيود التي زرعتها إسرائيل في هذه الكلمة. إن هذه الممارسات الإسرائيلية الرهيبة، وغيرها الكثير، هي التي يلتقطها الكتّاب الفلسطينيون الشباب بأشكال أدبية بحثاً عن فلسطينهم. فبينما تُصوَّر فلسطين أحياناً بشكل مجازي، يمكن أن تكون فلسطين واقعاً جميلاً: فلسطين على مرمى شهيد؛ فلسطين على مرمى دمعة؛ فلسطين على مرمى صاروخ؛ فلسطين على مرمى نشيج؛ فلسطين على مرمى قصة.

وبينما يساجل كتاب "غزة تردّ بالكتابة" الروايات السلبية التي تروجها إسرائيل عن فلسطين، فإن ذلك ليس السبب الوحيد لوجوده. فالكتابة هي فعل ليس فقط للحفاظ على التاريخ والتجربة الإنسانية، بل للحفاظ أيضاً على المقاومة ضد الغزاة والمستعمرين. ومع أننا لا نكتب فقط لأن هناك احتلالاً وظلماً، إلّا إننا نكتب الأدب الذي نكتبه بسبب وجود الاحتلال. وعلى غرار أي شعب آخر عاش تحت احتلال وحشي، فإننا نحن كفلسطينيين نؤمن بالمقولة البليغة لتشينوا أتشيبي: 

ثم كبرتُ، وبدأت أقرأ عن مغامرات لم أكن أعرف أنني من المفترض أن أكون فيها إلى جانب أولئك المتوحشين الذين واجههم الرجل الأبيض الطيب. لقد انحزت بشكل فطري إلى البيض. كانوا جيدين! كانوا ممتازين. كانوا أذكياء. الآخرون لم يكونوا كذلك... كانوا أغبياء وقبيحين. على هذا النحو تعرفتُ إلى خطر ألّا يكون لديك قصصك الخاصة. هناك نجد هذا المثل العظيم: "إلى أن يكون لدى الأسود مؤرخوهم الخاصون بهم، سيظل تاريخ الصيد يمجّد الصياد." لم أفهم ذلك إلّا بعد وقت طويل. وبمجرد أن أدركتُ ذلك، كان عليَّ أن أكون كاتباً. كان عليَّ أن أكون ذلك المؤرخ. إنه ليس عمل رجل واحد، إنه ليس عمل شخص واحد، وإنما هو شيء علينا أن نفعله، كي تعكس قصة الصيد كذلك ألمها، وتعبها، وحتى شجاعتها.[2] 

نعلم أننا ننتمي إلى هنا، إلى فلسطين، ونكتب لا لنستجدي حقوقنا وحياة أفضل، بل لنفي بالتزاماتنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين، وتجاه الأجيال المقبلة. وقد خيض الصراع في فلسطين بعدة طرق من أجل الأرض والحقوق بشكل مجازي ولفظي، حتى إن استعمار فلسطين جاء على شكل قصيدة وقصة قبل أن يصير واقعاً. ولذا، فلتتجسّد فلسطين الحرة أولاً في شكل قصة أو قصيدة. إن كتاب "غزة تردّ بالكتابة" هو سلاح لتبديد الروايات الإسرائيلية عن أرض بلا شعب، وعن شعب بلا جذور، وشعب لم يكن موجوداً قط ولن يكون. ومن خلال هذه الكتابة، نحن لا نؤكد وجودنا فحسب، بل نتصور مستقبلنا أيضاً. 

فلسطين الافتراضية

في كتاب "غزة تردّ بالكتابة"، تتنوع القصص بين النصوص المشوّقة والنصوص الطويلة والمركّبة، ومن القصص الرمزية إلى قصص ما قبل النوم. فهذه المجموعة تتجاوز السمة الأدبية البحتة، وتسعى لتوحيد فلسطين كلها في رواية واحدة: فبينما تعاني غزة جرّاء حصار إسرائيل وهجماتها المتوالية، تعاني الضفة الغربية والقدس بسبب جدار إسرائيل والحواجز العسكرية، ويعاني فلسطينيو 1948 الفصل العنصري الإسرائيلي، بما في ذلك القوانين الخمسون التي تميز ضد المجنّسين غير اليهود، ويعاني الموجودون في الشتات عدم القدرة على حجز تذكرة والعودة ببساطة إلى الوطن. وحتى داخل الأراضي المحتلة (التي لا تزال تشمل غزة)، يتم تقييد الحركة بشدة: فمعظم كتّاب غزة في هذا الكتاب، إن لم يكن كلهم، لم تتح لهم زيارة أجزاء أُخرى من فلسطين، وشبكة الإنترنت هي المكان الذي يلتقي فيه الكتّاب، بمساعدة مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع دعم فلسطين مثل "الانتفاضة الإلكترونية" و"موندوايس" وغيرها الكثير، حيث يتمكنون من التفاعل مع الفلسطينيين من الشتات والضفة الغربية والقدس وأراضي 1948. ويَجمع كتّاب وناشطون فلسطينيون جغرافيات أرض فلسطين المذرّرة لبناء كيان قوي تُواصل إسرائيل، بدعم من القوى الغربية، محاولة تذريره ومحوه، فنرى المساهمون [في "غزة تردّ بالكتابة] يكتبون رافضين الفهم الشائع بأن غزة هي كيان منفصل عن الأشياء التي لم يختبروها بأنفسهم، كالجدار والحواجز العسكرية والمستعمرات. "غزة تردّ بالكتابة" هو كتاب عن خلق المكان، وتكوين روابط مع الفلسطينيين الذين لا يمكننا الالتقاء بهم تحت ظروف الفصل العنصري والاستعمار.

إن رواية قصة، بالنسبة إلى الفلسطينيين، تعني التذكر ومساعدة الآخرين على ذلك، ولهذا يركز العديد من القصص في "غزة تردّ بالكتابة"، إن لم يكن كلها، على التفصيلات الدقيقة في محاولة لنقش الفظائع أو لحظات الأمل النادرة التي تتضمنها القصص في ذاكرة الكتّاب وذاكرة الآخرين. ولأن الذكريات تشكل جزءاً كبيراً من عالمنا، فإن رواية هذه الذكريات على هيئة قصص هي فعل مقاومة ضد الاحتلال الذي يبذل جهوداً حثيثة لاجتثاث الروابط بين فلسطين والفلسطينيين وتدميرها. وهذه القصص تشجّع على التذكر وتدين النسيان، بل حتى عندما تكون شخصية ما على حافة الموت، فإن رغبتها النهائية هي "رواية [الـ]قصة"، مثلما قال هاملت.

إن رواية القصة نفسها تصبح فعل حياة، كما أن بعض القصص (مثل "الكناري" و"أمنية في الأرق") يطارد حتى جنود الاحتلال الإسرائيليين في ذاكراتهم الخاصة أو ضمائرهم، معلناً أنه لن يكون هناك راحة للمحتلين، وأننا سنفسد عليهم أيضاً، لحظاتهم الأكثر حميمية. ففي قصة "البيت" يلج السارد ذهن شخصية الفلسطيني أبو سالم ليخبرنا أنه "أقام الخيمة بعد وقت قصير من انتقاله إلى المنزل خشية أن ينسى الأيام التي قضتها عائلته في خيمة في مخيم قلنديا للاجئين. كان يعتقد أن النسيان فضيحة، مثل الاستسلام للعدو وأنت تمتلك وفرة من ذخيرة." 

الكتّاب

كتّاب "غزة تردّ بالكتابة" كلهم شباب، وبعضهم كان في السابعة عشرة فقط عندما كتب نصوصه. وحالياً، يقود الشباب الفلسطينيون الحملات محلياً ودولياً لخلق وعي بالآلام والمعاناة التي يتسبب بها الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين. الشباب هم رماة الحجارة، وهم مَن يحملون المهدَّات لتحطيم أجزاء من الجدار، وهم مَن يديرون عدداً لا يُحصى من صفحات فيسبوك وحسابات تويتر ومدونات فلسطين، وهم مقاتلو الحرية، وهم المصوّرون، وهم مَن يقودون حملات مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS). وليس ذلك فقط، فالشباب لديهم آراء ورؤى جديرة بالاستماع إليها، لكن للأسف، تم إلى حد كبير تهميشهم في النقاشات الرئيسية من طرف القيادة الفلسطينية، وهذا الكتاب يأتي ليمنحهم المكانة المرموقة التي يستحقونها في النضال من أجل فلسطين حرة ومجتمع أفضل.

إن اثني عشر من الكتّاب الخمسة عشر هم من النساء، غير أن هذا لا يعني أنه جرى إدراج الشابات على حساب الشباب، ففي الحقيقة هناك كثير من الشابات الكاتبات على أرض الواقع في غزة، واللواتي يستخدمن وسائل التواصل الاجتماعي ويكتبن، وخصوصاً باللغة الإنجليزية، أكثر من أقرانهن الذكور. ولعل هذا يُظهر مدى أهمية النساء الفلسطينيات الشابات في الأعوام الأخيرة، إذ إنهن تمكنّ من استخدام جميع الأدوات المتاحة لهن لأخذ المبادرة في الحفاظ على الهوية الفلسطينية، ومقاومة الاحتلال، وبناء مجتمع فلسطيني أكثر انفتاحاً وتتساوى فيه النساء والرجال، ذلك بأن الأدوار التي أدتها النساء الفلسطينيات في المعركة من أجل فلسطين حرة لا يمكن إنكارها. وهذه الموجة الشابة من كاتبات القصة القصيرة تواصل النضال وتثوِّره في آن معاً. إن النساء المصوَّرات في القصص قويات ومستقلات ومثقفات وسبّاقات. ففي قصص مثل "الحاء للحياة" لـحنان حبشي، و"ألم الأسنان في غزة" لـسميحة علوان، و"الضياع في لحظة" لإلهام حِلِّس، لم يعد دور النساء مقتصراً على إنجاب الفدائيين، بل صرن هنّ الفدائيات.

كتاب "غزة تردّ بالكتابة" لا يتعهّد المواهب المتفتحة للكتّاب الشباب فحسب، بل إنه مثلما تفعل حركة المقاطعة القوية (BDS)، ينشر الوعي ويعزز حقوق الفلسطينيين ويحميها أيضاً. واستناداً إلى أبو سالم في قصة "البيت"، "يتعين على [الإسرائيليين] أن يشعروا بأننا أقرب إليهم من حبل الوريد. أريد من الإسرائيليين أن يبدأوا بطرح الأسئلة." فمثلما مكّنت حركة المقاطعة (BDS) الفلسطينيين، ومارست ضغطاً على إسرائيل بسبب انتهاكاتها حقوق الإنسان، فإن نشر كتاب قصص قصيرة للكتّاب الفلسطينيين الشباب من شأنه تمكينهم ونقل أصواتهم إلى جميع أنحاء العالم. كما أن كتابنا يُظهر مثالاً آخر للكيفية التي تقيّد إسرائيل من خلالها وتمنع حركة الطلاب والكتّاب والكتب. لقد منعت إسرائيل سارة علي، المساهِمة في كتاب "غزة تردّ بالكتابة"، من الانضمام إلى جولة الكتاب الترويجية في الولايات المتحدة على الرغم من حصولها على تأشيرة أميركية. وقبل بضعة أسابيع فقط، قامت السلطات الإسرائيلية في مطار بن - غوريون بمصادرة وإتلاف 20 نسخة من كتاب "غزة تردّ بالكتابة" كان من المفترض أن تذهب إلى غزة مع مجموعة أميركية. 

بعد خمسة أعوام...

كتاب "غزة تردّ بالكتابة" يثبت أن الوطن يتحول أحياناً إلى قصة، ونحن نحب القصة لأنها عن وطننا، ونحب وطننا أكثر بسبب القصة. والآن، بعد خمسة أعوام، تواصل إسرائيل سياستها اللاإنسانية ضد الفلسطينيين، وفي كل مرة تصعِّد فيها العنف، أو تنتهك فيها الحكومة الإسرائيلية هدنة، أو تغتال شخصاً، أو تعوق إشارة البث التلفزيوني بواسطة المسيّرات، أو ترسل طائرات إف - 16 لتتسبب بانفجارات صوتية عادية، أرى السؤال نفسه في عينَي ابنتي شيماء. لقد مضت خمسة أعوام منذ "عملية الرصاص المصبوب"، ولم تمنحني إسرائيل أدنى فرصة لأوضح أن لدينا جميعاً الله نفسه، أو لرؤية نهاية لهذا العنف المجنون والشر الذي يتسبب به الإنسان بيننا، والذي سيتوقف عندما تنهي إسرائيل احتلالها ووحشيتها ضد غير اليهود.

بعد خمسة أعوام، أخذني كتاب "غزة تردّ بالكتابة" وعدداً من المساهمين الفلسطينيين فيه إلى الولايات المتحدة حيث التقيت بناشطين فلسطينيين، وآخرين مؤيدين للقضية الفلسطينية، وبعضهم كانوا يهوداً. واستمرت الجولة التي رعتها بشكل مشترك دار نشر الكتاب Just World Books وAmerican Friends Service Committee، من 27 آذار / مارس إلى 24 نيسان / أبريل 2014، وكان الهدف منها ترويج أصوات الفلسطينيين الشباب وتمكين الرواية الفلسطينية. ومع أن سارة علي لم تسمح لها الحكومة الإسرائيلية بالانضمام إلينا من غزة، إلّا إنني تجوّلت مع يوسف الجمل وروان ياغي اللذين يسعيان مثلي حالياً للتعليم خارج غزة. وخلال جولتنا، تحدثنا في أكثر من 10 مدن أميركية في 7 ولايات، والتقينا بفلسطينيين يعيشون في الشتات، وكثيرون منهم ولدوا ونشأوا في أميركا. كما التقينا بمئات من الناشطين الأميركيين المؤيدين للفلسطينيين، والأهم من ذلك، أننا التقينا بناشطين يهود معادين للصهيونية ويعملون من أجل العدالة في فلسطين. التقينا بشباب واعدين جداً من منظمة أميركية - أفريقية في شيكاغو، حدّثونا عن وحشية الشرطة الأميركية ضد الأميركيين من ذوي البشرة الملونة، والجدار غير المرئي للعنصرية، والذي لا يزال عليهم التعامل معه. وقد جاء مئات الأشخاص من مختلف الأوساط الاجتماعية للاستماع إلى الأصوات الشابة من فلسطين، في الكنائس، والكُنس، ومتاجر الكتب، والبيوت. تحدثنا عن السياسة والأدب والحياة والطعام والماء والمقاومة والمستقبل والعنصرية والنسوية والعدالة، وكانت الجولة دليلاً على أن القصة هي أمر عالمي، وأن الأدب يكسر الحواجز ويعيدنا جميعاً إلى إنسانيتنا التي هي، بكلمات إدوارد سعيد، "المقاومة الوحيدة، وأذهب إلى القول حتى إنها المقاومة الأخيرة للممارسات غير الإنسانية والمظالم التي تشوه التاريخ الإنساني."[3]

بفضل رحلاتنا، أستطيع الآن أن أخبر ابنتي شيماء أننا لم نتعرض للاحتلال والقمع فحسب، بل فُرضت علينا أيضاً العزلة والفصل، وسأخبرها أنه أريد لنا الاعتقاد أن المعركة هي بين اليهود والفلسطينيين المسيحيين والمسلمين. سأخبرها أن إسرائيل تقيم جدراناً وحواجز للحفاظ على هذا الادعاء المفتعل ولإبقائنا معزولين. وسأخبرها أنني خلال جولتي عرفت أن اليهود، أيضاً، يمكن أن يكونوا ضحايا، وأن اليهودية اختطفتها الصهيونية. سأخبر شيماء أننا كفلسطينيين لا يزال علينا أن نكبر، وأن نواصل اكتساب وجهات نظر إضافية لأن النضال من أجل فلسطين هو نضال عالمي، ويجب أن يُخاض على مستوى عالمي علاوة على المستوى الوطني. وفي كتاب "النضال من أجل العدالة في فلسطين"، يلخص علي أبو نعمة هذا الفهم بقوله: "إن النضال من أجل حقوق الإنسان الفلسطينية يجب أن يكون مرتبطاً بشكل وثيق بالنضال من أجل حقوق الإنسان في الولايات المتحدة وحول العالم."[4]

 

من اليمين: يوسف الجمل، علي أبو نعمة، رفعت العرعير. فيلادلفيا، ٢٩ آذار/مارس ٢٠١٤ 

 

الآن عندما أروي لابنتي القصص، يكون في ذهني عادةً المضيفون اليهود الكرماء في أتلانتا، والذين كانت ابنتهم اللطيفة فيولا ذات الخمسة أعوام، تسألني دائماً عن الخدع البصرية. لم أُعطِ فيولا إجابة عن سؤالها قط، لأن تفكيري، في كل مرة تسأل فيها، يذهب إلى شيماء، وأتمنى لو أنها ومئات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين لم يُحرموا حقهم في العيش بحياة كريمة من طرف إسرائيل. وفي بعض الأحيان أفكر أنه يوماً ما يمكن أن تطاوعنا قلوبنا على أن نغفر للقادة الإسرائيليين (عندما، وبين أشياء أُخرى، ينتهي الاحتلال، ويُلغى الفصل العنصري، ويسود العدل، وتُضمن الحقوق المتساوية للجميع، ويعود اللاجئون، وتُدفع التعويضات)، لكنني لا أعتقد أننا سنسامحهم أبداً على عدم تمكين أطفالنا من عيش حياة طبيعية، بحيث يسألون عن الخدع البصرية بدلاً من السؤال عمّن قُتل، ولماذا، وعمّا إذا كان ذلك الصوت قنبلة إسرائيلية أم صاروخ مقاومة. أريد لأطفالي أن يخططوا لمستقبلهم، بدلاً من القلق بشأنه، وأن يرسموا شواطىء أو حقول سماوات زرقاء وشمساً في الزاوية، لا بوارج، وأعمدة دخان، وطائرات حربية، وبنادق. آمل أن تساعد قصص "غزة تردّ بالكتابة" في جمع ابنتي شيماء وفيولا معاً، وأن تمنحهما بعض العزاء والسلوان لمواصلة النضال كي تصبح فلسطين حرة. إلى حين ذلك، سأواصل رواية القصص لها. 

إذا كان لا بدّ أن أموت

إذا كان لا بدّ أن أموت، فلا بد أن تعيشي

لتروي حكايتي، ولتبيعي أشيائي

ولتشتري قطعة قماش، وبعض الخيوط

(ولتكن بيضاء بذيل طويل)

كي يبصر طفل، في مكان ما في غزة

وهو يحدّق في السماء،

جاعلاً إيّاها تخجل من نظرته،

منتظراً أباه الذي رحل فجأة -

دون أن يودّع أحداً

ولا حتى لحمه

أو ذاته -

يبصر الطائرة الورقية،

طائرتي الورقية التي صنعتِها أنتِ،

تطير في الأعالي،

ويظنّ للحظة أن ثمة ملاكاً

يسترجع الحبَّ.

إذا كان لا بد أن أموت،

فليأتِ موتي بالأمل،

وليصبح حكاية.

 

* نُشرت هذه المقالة بالإنجليزية:

Refaat Al-Areer, “Gaza Writes Back: Narrating Palestine”, Biography, volume 37, no. 2 (Spring 2014), pp. 524-537.

ويروي الكاتب فيها قصة تحريره للكتاب الصادر في السنة نفسها، وبالعنوان نفسه:

Refaat Al-Areer (ed.), Gaza Writes Back: Short Stories from Young Writers in Gaza, Palestine (Charlottesville: Just World Books, 2014).

ترجمة: عبد الرحيم الشيخ.

 

المصادر:

 

[1]Daniel Defoe, Robinson Crusoe (Oxford: Oxford University Press, 2009), p. 203.

[2]Chinua Achebe, “The Art of Fiction 139”, interview with Jerome Brooks. Paris Review, vol. 36, no. 133 (Winter 1994). p. 144.

[3]Edward Said, “A Window on the World”. The Guardian, 1 August 2003, p. 3.

[4]Ali Abunimah, The Battle for Justice in Palestine (Chicago: Haymarket Books, 2014).