الأسرى الفلسطينيون وحالة الطوارئ الإسرائيلية
نبذة مختصرة: 

تتناول هذه المقالة كيفية تسخير "حالة الطوارئ العامة" من أجل تمرير سياسات مبيّتة لتكريس وجود الأسرى داخل السجون الإسرائيلية من جهة، وضرب أواصر تنظيمهم السياسي داخل السجون من جهة أُخرى، وذلك عبر إلهائنا وتضليلنا بقضايا الإساءة الجسيمة فيما يتعلق بظروف اعتقالهم وسجنهم.

النص الكامل: 

في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، أعلن المجلس الإسرائيلي الوزاري المصغّر لقضايا الأمن القومي (الكابينت الأمني - السياسي) الحرب معطياً بذلك الضوء القانوني الأخضر للقيام بالعملية العسكرية الشرسة التي شنّها على قطاع غزة، وفقاً للبند 40 من "قانون أساس: الحكومة". وتبع هذا الإعلان قرارات وأنظمة وزارية متنوعة، وسنُّ عدة تشريعات في موضوعات منها: أمور الدفاع المدني؛ آلية احتجاز الغزّيين؛ قضايا الجنود والمدنيين. وظاهرياً، بدت هذه التشريعات والقرارات الجديدة كأنها وليدة حالة الطوارىء، وأنها سُنّت من أجل التعامل مع ما أسفرت عنه أحداث 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، غير أن معاينة التشريعات والممارسات التي نتجت منها في سياق الأسرى الفلسطينيين، على سبيل المثال، تُظهر أن ثمة تشريعات وممارسات مبيّتة جاءت حالة الطوارىء ليس فقط للتشريع في سنّها وشرعنتها، بل أيضاً لتمنع أي محاولة للتدخل وإشغال الرقابة القضائية عليها. 

توظيف حالة الطوارىء من أجل تكريس احتجاز الفلسطينيين

لقد كان القانون الأول الذي صادق عليه البرلمان الإسرائيلي في 18 تشرين الأول / أكتوبر 2023، في سياق قوانين حالة الطوارىء، هو القانون الذي سمح باحتجاز الأسرى المصنفين سجناء "أمنيين" بما لا يتلائم مع المعايير الأساسية للاحتجاز في السجون.[1] وجاء ذلك بذريعة احتمال اعتقال المئات من الأسرى وعدم جهوزية السجون لاحتجازهم وفقاً للمعايير الأساسية التي وضعتها المحكمة العليا في قرارات سابقة لها. ففي سنة 2017، أقرّت المحكمة العليا الإسرائيلية بلزوم توفير مساحة 3 أمتار لكل سجين كمرحلة أولى، وذلك كجزء لا يتجزأ من الحقّ في الحد الأدنى من العيش بكرامة في السجن.[2] وجاء في قرار المحكمة آنذاك أن هذا حق لكل سجين من دون أي علاقة بتصنيفه الداخلي في السجون، بمعنى أن تصنيف الأسير، "أمني" أو "جنائي"، لا ينتقص من حقه في الحصول على الحد الأدنى من الظروف المعيشية استناداً إلى حقه دستورياً في العيش بكرامة. أمّا الأمر الآخر الذي انتقصه قانون السجون الجديد فهو حق كل سجين في النوم على سرير. ففي سنة 2007، أقرّت المحكمة العليا الإسرائيلية بلزوم توفير سرير لكل سجين من دون علاقة لتصنيفه بالسجن.[3] وفيما بعد، تم تعديل قانون السجون في سنة 2012 بحيث أُدخل بند خاص يعترف بحقّ السجين في النوم على سرير.

سارع وزير الأمن القومي بن غفير إلى إعلان حالة طوارىء مدنية كي يستطيع تمرير قانون موقّت (مدة تنفيذه حالياً ثلاثة أشهر) يسمح باحتجاز الأسرى المصنفين "أمنيين" في غرف ذات كثافة عالية لا تتلاءم وشرط الـ 3 أمتار للأسير، ويُعفي مدير السجن من توفير الأَسرّة مستبدلاً إياها بفرشة سميكة. وقد يبدو لأول وهلة أن الحديث يدور عن حاجة ملحّة لم يكن ثمة خيار إلّا اللجوء إليها، غير أن المعطيات كشفت أن الأمر ليس أكثر من ذريعة استطاع بن غفير بواسطتها تحقيق ما كان يصبو إليه دائماً في سياق الأسرى الفلسطينيين، وذلك بتكريس احتجازهم في ظروف لاإنسانية، وعدم السماح لهم بالتمتع بأي حق بشكل متساوٍ مع السجناء الآخرين. فقبيل اندلاع الحرب بشهر ونيّف، أُقرّ قانون آخر متعلق بالسجون هدفه خلق آلية للحفاظ على كثافة السجون بما يتلاءم مع قرار المحكمة العليا الذي ألزم "سلطة مصلحة السجون" بتوفير حد أدنى من المساحة المعيشية لكل سجين. وينصّ القانون الذي دخل في حيز التنفيذ في 1 أيلول / سبتمبر 2023، على أنه في حال اتضح أن كثافة السجون تتعدى الحد الأقصى، فإنه يجوز تسريح السجناء المحكومين بأقل من 3 أعوام قبيل انتهاء موعد حكمهم ببضعة أسابيع قد تصل إلى 21 أسبوعاً، وذلك لتمكين "مصلحة السجون" من توفير المساحة التي أقرّتها المحكمة العليا لكل سجين. غير أن القانون يمنح إمكان التسريح المبكر لكل سجين عدا المصنفين "سجناء أمنيين"، وهو التجديد الأهم في هذا القانون.[4] ومع أن هدف القانون المعلن هو التخفيف من حالة الاكتظاظ في السجون، إلّا إن مَن سيستفيد منه عملياً، ويحظى بتخفيف مدة حكمه، هم فقط "السجناء الجنائيون"، إذ إن كل "أسير أمني" ملزوم بقضاء فترة حكمه كاملة. وهذا الأمر يعني أن الأسير الفلسطيني يُحصى ضمن معايير الكثافة في السجون، لكنه يُحرم من التمتع بتسريح مبكر بسبب هذه الكثافة خلافاً لـ "السجين الجنائي" الذي يُحصى ضمن معايير الكثافة في السجن ويحظى بتسريح مبكر بسببها. ولاقى هذا القانون نقداً شديد اللهجة من رئيس الاستخبارات رونين بار،[5] ليس حباً في الأسرى الفلسطينيين وحقّهم في المساواة، بل جرّاء تخوّفه من أن عدم التسريح المبكر لـ "أسرى أمنيين" محكومين لفترات قصيرة سيزيد من كثافة السجون بالشكل الذي ربما يأتي على حساب أماكن يجب توفيرها من أجل احتجاز فلسطينيين آخرين "أكثر خطورة ومطلوبين لسلطات الاحتلال."

ورداً على استياء الجهات الأمنية من هذا القانون، دأب الوزير بن غفير على القول: "إن الأسرى الفلسطينيين سيكون لهم دائماً مكان في السجون."[6] واستمراراً لسياسة الوزير بن غفير في تكريس احتجاز الأسرى الفلسطينيين، وتحسباً من أن ازدياد عدد "السجناء الأمنيين" الفلسطينيين في الفترة الراهنة سيضعه في أزمة تضطره إلى شمل الفلسطيني ضمن آلية التسريح المبكر نظراً إلى ازياد الكثافة في السجون، قام الوزير باستغلال حالة الطوارىء كذريعة لتمرير قانون جديد يسمح باحتجاز الأسير الفلسطيني بما يتنافى مع شروط المحكمة العليا كي لا يضطر إلى أن يعترف بالأزمة التي أحدثها قانونه الذي سبق اندلاع الحرب. فازدياد عدد المحتجزين الفلسطينيين في إبان أوقات الطوارىء هو أمر متوقع في ظل اجتياح بري لغزة، ولهذا كي يصبح في الإمكان احتجاز الفلسطينيين الجدد، وجب فتح المجال لتفريغ السجون من آخرين، بمَن فيهم الفلسطينيون، غير أن هذا بات أمراً مستحيلاً. لذا، وكي لا يضطر بن غفير إلى تعديل قانونه السابق، وفتح إمكان التسريح المبكر للفلسطينيين أيضاً، لأنها أحد الحلول العملية والمنطقية للتعامل مع أزمة الاعتقالات الجديدة، فإنه استغل الفترة الراهنة ليمأسس مجدداً سياسته السابقة بتكريس اعتقال الأسرى في ظروف مهينة، ومنع اللجوء إلى أي حلول أقل مساساً بكرامتهم.

وفي هذا السياق، رفضت المحكمة العليا في 23 تشرين الأول / أكتوبر 2023 التماساً قدّمته جمعيات حقوق إنسان ضد القانون الجديد تبنّت فيه المحكمة موقف النيابة العامة بأن هذا القانون موقّت مدته ثلاثة أشهر، وبأن مقياس المساس بحقوق الإنسان في أوقات الطوارىء يختلف عن المقياس في أوقات السلم. وبذلك، تكون المحكمة أعطت أول ضوء أخضر للوزير بن غفير لاستهداف الأسرى الفلسطينيين وتكريس احتجازهم في ظروف مهينة مستغلاً ذريعة الطوارىء، متجاهلة هي أيضاً الخلفية الحقيقية لهذا القانون، والتي تجب قراءته وفقاً لها وليس بمعزل عنها. ولم تعقد المحكمة العليا أي جلسة لسماع الطرفين، وإنما قامت بتغريم مؤسسات حقوق الإنسان بشكل استثنائي بـ 2000 شيكل.[7] 

توظيف حالة الطوارىء لتحقيق أهداف مبيّتة ضد الأسرى الفلسطينيين

مع إعلان حالة الطوارىء، أمرت مفوضة "مصلحة السجون الإسرائيلية"، كيتي بيري، بتقليص النشاطات في السجون كلها حتى الحدّ الأدنى، وبما يتلاءم مع القانون. ونصّ قرار بيري على أن التعليمات العينية ستصدر تبعاً للتطورات بحسب ما يتطلبه الأمر من تغييرات من أجل المحافظة على أمن السجون وأمان السجناء. وتُرجمت هذه التعليمات العامة على أرض الواقع بممارسات قمعية ووحشية ضد الأسرى الفلسطينيين بوسائل لم نشهد لها مثيلاً في العقدين الأخيرين. ففي البداية، ادّعت "مصلحة السجون" أن حالة الطوارىء المعلنة أثّرت في الظروف المعيشية لكل سجين، بمَن فيهم "السجين الجنائي" الذي حُرم من الزيارات العائلية، وجُمّدت مشاركته في الدورات التعليمية والتأهيلية داخل السجون، ووُضعت إعاقات على علاجات طبية معينة تحتمل التأجيل.. غير أن نظرة معمّقة إلى الواقع الجديد في السجون الإسرائيلية تشير إلى مستويين من التضييقات: المستوى الأول، وهو عام، شمل تضييق الخناق على جميع السجناء والأسرى بما يتعلق بالعلاقة مع العالم الخارجي، وتحديداً الحرمان من الزيارات العائلية وخروج "السجناء الجنائيين" في إجازات شهرية. وكتعويض عن هذه التضييقات، قامت "مصلحة السجون" بعرض بدائل تلطّف من وطأة التضييقات على "الأسرى الجنائيين" مثل زيادة المبلغ المادي الذي يمكن للعائلة إيداعه في حساب "السجين الجنائي" الخاص (أو ما يسمى "الكنتينة")، وزيادة المحادثات العائلية عبر تطبيق "زووم". وفي الوقت نفسه، رأينا مستوى آخر من التضييقات على الأسرى الفلسطينيين المصنفين "أمنياً" لم يتم تفصيله بالكامل كتابياً، مع أن وصف هذه الممارسات التي كثيراً ما توعّد بها وزير الأمن القومي ضد الأسرى الفلسطينيين، ولم يستطع تحقيقها جرّاء معارضة الكثيرين، تجعلنا ندرك مدى وحشيتها وقسوتها. وها هو اليوم يقوم باستغلال حالة الطوارىء لتمريرها من دون أدنى مساءلة من سلطات تنفيذ القانون.

وهنا، لا بدّ من التذكير بأن استهداف وزير الأمن القومي للأسرى الفلسطينيين بدأ قبل توليه منصب وزير الأمن القومي الذي هو مسؤول أيضاً عن "مصلحة السجون" إلى جانب مسؤوليته عن جهاز الشرطة، وبرز هذا الاستهداف تحديداً في زياراته المستفزة للأسرى المضربين عن الطعام واعتداءاته على المتضامنين معهم. وإذا راجعنا الخطوط العریضة والاتفاقیات الائتلافیة للحكومة الإسرائیلیة الحالية (السابعة والثلاثین)،[8] فإننا نستدل منها على اشتراط بن غفير وأتباعه من حزب "عوتسماه يهوديت" تمرير قوانين تستهدف تحديداً الأسرى الفلسطينيين، وفي مقدمها القانون الذي يتيح إعدام الأسرى، وسحب الجنسية والطرد القسري في حالة أسرى الداخل الفلسطيني والقدس الشرقية.[9] وقد أُدرجت الإساءة إلى ظروف الاحتجاز ضمن الاتفاقية مع حزب "عوتسماه يهوديت" في البنود 129 – 130، لكن من دون ذكر التفصيلات العينية لهذه الإساءة. وكان الوزير بن غفير صرّح عدة مرات عبر الإعلام العبري قبيل حرب تشرين الأول / أكتوبر 2023، أنه ينوي تضييق الخناق على الأسرى، ليس فقط فيما يتعلق بالظروف المعيشية، بل أيضاً تنظيمياً داخل السجون عبر تفكيك التنظيمات، وإلغاء مكانة الشاويش أو المتحدث باسم الأسرى، وغربلتهم ومنعهم من ممارسة أي نشاط داخلي خاص بهم، بما في ذلك طَهْيهم الطعام لأنفسهم. وجاء آخر تصريح له في هذا السياق في أيلول / سبتمبر الماضي 2023، أي قبل أقل من شهر من اندلاع الحرب.[10] وسبقت محاولات الوزير الحالي بن غفير محاولات للوزير الأسبق غلعاد أردان الذي أقام لجنة خاصة أوصت بتفكيك التركيبة التنظيمية للحركة الأسيرة، وجميع ملامح تنظيمهم الداخلي واستقلاليتهم في إدارة أمورهم، الأمر الذي عارضته الاستخبارات آنذاك.[11] وبعد تولّي بن غفير المنصب، قام بزيارات تفقّدية للسجون الأمنية تعمّد في بدايتها وضع علم دولة إسرائيل في كل قسم، وهو أحد المظاهر التي بتنا نراها اليوم بكثافة، وخصوصاً في حقّ المعتقلين الذين يُلصق بهم علم دولة إسرائيل عنوة بهدف الاستفزاز والتحقير.[12]

وقبيل اندلاع الحرب الأخيرة بفترة وجيزة، جاء في الإعلام الإسرائيلي أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ورئيس الاستخبارات الحالي أهارون هاليفا، عارضا مطلب الوزير بن غفير تقليص وتيرة زيارات الأسرى الفلسطينيين، وحرمان الأسرى المنتمين تنظيمياً إلى تنظيم يُعرّف بأنه "إرهابي"، من الزيارات، ورجاه إرجاء العمل على الموضوع إلى وقت لاحق.

ومع إعلان حالة الطوارىء الأخيرة، بدأنا نسمع عن ممارسات قمعية ضد الأسرى لا تمتّ بأي صلة إلى حالة الطوارىء، أو إلى الحاجة ربما إلى التضييق في أمور معينة مثل الزيارات العائلية لوقت محدد مثلما حدث مع الجنائيين. واتخذت التضييقات شكلين: الأول، أعلنته رسمياً مصلحة السجون التي غلّفته بمرجعية قانونية حاولت من خلالها تفسيره وشرعنته؛ الثاني، تميّز بممارسات يومية قمعية ومهينة لم تُدرج في البيانات التي عمّمتها "مصلحة السجون". وتكفي التسجيلات التي سُرّبت في الإعلام الإسرائيلي لتكون البرهان على ذلك، فضلاً عن شهادات الأسرى أمام المحامين الذين استطاعوا الدخول لزيارتهم بعدما منعتهم "مصلحة السجون" لأسابيع من القيام بذلك.

أمّا بالنسبة إلى الأمور التي أُعلنت رسمياً، فإن مصلحة السجون عمّمت في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بياناً للإعلام جاء فيه أنها قامت بالتضييق على الأسرى فيما يتعلق بالظروف المعيشية لأسباب ميدانية من أجل الحفاظ على أمن السجون وسلامة أفراد "مصلحة السجون"، فضلاً عن إجهاض أي محاولات للأسرى بإرسال توجيهات إلى مَن هم خارج السجن، ويقصد بذلك هنا طبعاً أسرى "حركة المقاومة الإسلامية / حماس"، والتخوف من تواصلهم مع عناصر "حماس" خارج السجون. وبين الأمور التي اعترفت "مصلحة السجون" بالقيام بها منع الأسرى من شراء حاجاتهم من متجر السجن الداخلي (الكنتينة)، وتقليص النشاطات داخل الأقسام، وإبطال مكانة المتحدث باسم الأسرى، وقطع الكهرباء عن الغرف، ومصادرة أجهزة التلفاز والمذياع، وقطع إمكانات التواصل بين الأسرى خلال وجودهم خارج الغرف (أي منعهم من التحدث بعضهم مع بعض). وهنا، يكفي ذكر هذه الأمور للدلالة على أن التدابير التي اتخذتها "مصلحة السجون" تتعدى هدف منع التواصل مع العالم الخارجي في الوقت الراهن، بل تشمل أيضاً عقوبات انتقامية لا علاقة لها بالعالم الخارجي، مثل إخراج أجهزة الكهرباء كـ "القمقم" الكهربائي الذي يُستخدم لتسخين الماء، ومنع اقتناء الحاجات الأساسية. وما ورد على لسان "مصلحة السجون كان غيضاً من فيض، فشهادات الأسرى الذين التقوا محاميهم، وأولئك الذين أُفرج عنهم في هذه الفترة بعد أن أنهوا فترة حكمهم، وصفت حالة يُرثى لها داخل السجون ويُستدل عليها بأمرين: إساءة المعاملة لأهداف انتقامية لا غير، واستغلال وضع الفوضى لضرب الحركة الأسيرة تنظيمياً بالشكل الذي ربما ينفي أي احتمال لإعادة بنائها نظراً إلى التعبئة الجماهيرية والعداء المستفحل في المجتمع الإسرائيلي ضد كل ما هو فلسطيني عامة، وكل أسير فلسطيني خاصة.

وعلى مستوى الممارسات القمعية، وصف الأسرى لمحاميهم في السجون كلاً من هذه الأمور: التعنيف الممنهج؛ الإهانات المستمرة؛ إسماع النشيد الوطني الإسرائيلي في أقسام الأسرى؛ تقليل كميات المياه للشرب؛ الحرمان من الاغتسال لأيام متواصلة؛ قطع الكهرباء خلال النهار (بحجة منع استخدام الكهرباء لشحن الأجهزة الخليوية المهربة) ؛ مصادرة جميع الأجهزة الكهربائية؛ منع العلاجات الطبية؛ تقليص ساعات الخروج من الغرف؛ الحرمان من اقتناء حاجات ومعدّات أساسية؛ تقليل كميات الطعام جداً. علاوة على ذلك، أُلزم الأسرى بإلغاء مكانة الناطق بلسان كل قسم (الدوبير)،[13] والذي شكّل على مدار عقود الوسيط المعتمد بين الأسرى وإدارة السجن. وبالتالي، لم يعد للأسرى حتى آلية "عادية" لمخاطبة إدارة السجن جماعياً، والتوصل إلى حلول على مستوى جماعي لصدّ الهجمة الجماعية ضدهم. كما أن الأسرى لم يعتادوا مخاطبة إدارة السجن من دون وساطة الناطق باسمهم، ذلك بأن أي مخاطبة فردية من طرف الأسير هذا أو ذاك قد تسبب له الحرج أمام رفاقه لأنه سيُسمح له فقط بمعالجة قضيته الخاصة، وممنوع عليه التحدث باسم الجميع.

ولذا، فمن الواضح أن موضوع تفكيك التنظيمات، وإلغاء منصب "الشاويش" أو الناطق بلسان الأسرى "الدوبير"، وغربلة السجون، لا تمتّ بأي صلة إلى موضوع حجب الأسرى عن العالم الخارجي لمنع تواصلهم المفترض مع جهات خارجية لها علاقة بالمواجهة العسكرية مع إسرائيل. فحتى لو تغاضينا قليلاً عن كون موضوع العلاقة مع العالم الخارجي هو ذريعة فقط (علماً بأن السجون تحوي آلاف الأسرى الذين لا علاقة لهم بالمواجهات العسكرية من حيث انتماءاتهم التنظيمية ونوعية أحكامهم)، ولو افترضنا وجود علاقة مثلاً بين مصادرة التلفاز والتواصل مع العالم الخارجي، فما الحاجة إلى إبطال التنظيمات داخل السجون، أو مكانة الناطق الرسمي لكل قسم؟ وما علاقة هذه الأمور بالتخوفات التي تحدثت عنها مصلحة السجون في بياناتها؟ من الواضح أنه جرى استغلال حالة الغليان العامة في المجتمع الإسرائيلي، وحالة الاحتقان الكبيرة، من أجل تمرير مخططات للوزير بن غفير التي كانت في السابق تلقى معارضة من الجهات الأمنية بصورة خاصة. فلو أن بن غفير قرر في أثناء أيام عادية، ضرب الحركة الأسيرة (أو ما تبقّى من مظاهرها) من ناحية تنظيمية، ومن دون أن يكون الأمر مقروناً بإساءات وانتهاكات فظيعة على مستوى الظروف المعيشية، لما قُيّض له النجاح، إمّا لمعارضة الاستخبارات وجهات سياسية (مثلما حدث قبيل إعلان الحرب)، وإمّا تحسّباً لتصعيد كبير في السجون لا تُحمد عقباه. ولذا، فإن حالة الطوارىء وفّرت له فرصة ذهبية للإساءة إلى الأسرى على مستوى الظروف المعيشية من دون التخوف من أي مساءلة جماهيرية أو حتى قانونية، الأمر الذي مكّنه أيضاً من تمرير مخططه الأكبر بتفكيك الأسرى تنظيمياً من دون معارضة الأجهزة التي منعته من تنفيذ مخططاته حتى اليوم. ويبدو أن حجم الإساءة الكبير على مستوى الظروف المعيشية لم يترك مجالاً حتى أمام الأسرى للتفرغ لمواجهة مخطط تفكيكهم تنظيمياً نظراً إلى إقرار الهجمة الشرسة عليهم بهدف شرذمتهم تنظيمياً.

وما يبعث على القلق اليوم ليس فقط استباحة المساس بأسرى عزّل داخل السجون وتحقيرهم، بل تماهي سلطات تنفيذ القانون مع هذه الممارسات وتدعيمها قانونياً أيضاً. فردّ النيابة العامة للالتماس الذي قدّمته مؤسسات حقوق الإنسان ضد الممارسات القمعية داخل السجون،[14] شكّل تماهياً كلياً مع الممارسات التي وصفها الالتماس. ففي أحسن الأحوال، فُنّدت الحقائق والتوصيفات التي جاءت في الالتماس بشأن حجم الانتهاكات كي لا يتم التعامل معها قانونياً في المحكمة، وفي أسوأ الأحوال، قامت النيابة العامة بدعم "مصلحة السجون" قانونياً في جميع الممارسات التي نُفّذت، بما يشمل قطع الكهرباء عن الأسرى، الأمر الذي لم نشهد له مثيلاً من قبل. وقد رفضت المحكمة العليا الالتماس من دون عقد جلسة متبنّية ادعاءات النيابة الإجرائية والجوهرية كافة. وأشارت المحكمة إلى أنها لا تكتفي بتوصيف الظروف المعيشية بناء على إفادات المحامين المشفوعة بالقسم، بل يجب الإفصاح عن اسم الأسير المتضرر، ضاربة بعرض الحائط ادعاء الملتمسين أن الأسرى يخشون التنكيل بهم إذا ما عُرفت هوياتهم كمشتكين. أمّا من الناحية الجوهرية، فقد عللت المحكمة قرارها بأن التقرير السرّي الذي عُرض أمامها من استخبارات السجون فيه ما يكفي ليقنعها بلزوم فرض التضييقات على الأسرى. وأوصت النيابة بتنفيذ وعودها بتسهيل دخول المحامين وتوفير العلاج الطبي، لكن من دون أن تصدر أي أمر قضائي مباشر.

أكتب هذه السطور وما زال الاحتقان داخل السجون عالياً، والمعلومات التي ترشح من زيارات المحامين قليلة نظراً إلى وتيرة الزيارة القليلة، وانهماك المحامين بقضايا تمثيلية في المحاكم أكثر من القضايا الحقوقية. ولا شك في أن وضع الأسرى في السجون بعد هذه الحرب لن يكون كوضعهم قبلها. فإمّا أن ينجح بن غفير في مأسسة مكانة قانونية شفافة لهؤلاء الأسرى تجعلهم أفراداً بلا حقوق، وإمّا يُفتح أمام الأسرى مجال للتفكير مجدداً في إعادة بناء الحركة الأسيرة بشكل مختلف يواجه التحديات الجديدة من جهة، ويحافظ على تميّزهم في السياق السياسي من ناحية أُخرى.

ومثلما كانت الحال عليه خلال أزمات سابقة شهدتها السجون، فإن الحديث عن صفقة تبادل للأسرى يؤثّر بشكل مباشر في قرارهم بكيفية التصدي للممارسات القمعية. ففي فترات سابقة آثر الأسرى التروي في ردات أفعالهم الجماعية، والمحافظة على هدوء نسبي ورباطة جأش إلى حين اتّضاح الصورة واستنفاد الخطوات اللازمة من أجل إنجاح عملية التبادل. وفي ظل الحديث عن إمكان تبييض السجون فإن أمل التحرر القريب مثلما حدث مع النساء الأسيرات والأطفال، هو ما يطمئن الأسرى بأن لحظة الحرية اقتربت. وخلافاً للفترات السابقة التي كانت تعلو فيها الأصوات الإسرائيلية المعارضة لفكرة إطلاق سراح أي أسير فلسطيني، وخصوصاً بعد صفقة "وفاء الأحرار" في سنة 2011، فإننا نرى اليوم أن الشارع الإسرائيلي منهمك بقضية أسراه المحتجزين، وبالرغبة في استعادتهم سريعاً مهما يكلّف الأمر. ومن ناحية أُخرى نعي أن إطلاق سراح النساء والأطفال الذين لم يُدَن أي منهم بالقتل، خفّف من حدّة ردة فعل الشارع الإسرائيلي، الأمر الذي قد لا نراه في مراحل متقدمة من الصفقة حين توضع على طاولة المفاوضات أسماء قياديين من حركة "حماس" وغيرها، كعباس السيد وإبراهيم حامد ومروان البرغوثي وأحمد سعدات.

 

المصادر:

[1] قانون تعديل قانون السجون (رقم 64 – أمر ساعة موقّت – سيوف حديدية) (وضع طوارىء بالسجون)، 2023.

[2] قرار محكمة عليا 14 / 1892، جمعية حقوق المواطن ضد وزير الأمن الداخلي (صدر في 13 / 6 / 2017). قرار المحكمة ألزم بتوفير مساحة 3 أمتار لكل سجين كمرحلة أولى، وتوفير 4 أمتار للجميع كمرحلة ثانية. وقد وفّرت مصلحة السجون مساحة الـ 3 أمتار، وأُعطيت مهلة لتوفير 4 أمتار حتى سنة 2027.

[3] قرار محكمة عليا 4 / 4634، أطباء لحقوق الإنسان ضد وزير الأمن الداخلي (صدر في 12 / 2 / 2007).

[4] يُذكر أن "المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل / عدالة"، قدّم التماساً ضد هذا القانون، وما زال الالتماس عالقاً في المحكمة العليا في قيد البحث: التماس 23 / 6540، فلان ضد وزير الأمن القومي (في قيد البحث).

[5] أمير إتنجر، "تحذير من رئيس الشاباك: اكتظاظ السجون، يصعّب اعتقال المطلوبين"، صحيفة "يسرائيل هيوم" (بالعبرية)، 29 / 8 / 2023.

[6] المصدر نفسه.

[7] قرار محكمة عليا 23 / 7753، جمعية حقوق المواطن ضد وزير الأمن الداخلي (صدر في 30 / 10 / 2023).

[8] أُبرمت الاتفاقية مع حزب عوتسماه يهوديت في 28 / 12 / 2022. انظر النص الكامل للاتفاقية (بالعبرية).

[9] انظر تفصيلات اتفاقية الائتلاف الحكومي وتداعياتها على الفلسطينيين عامة، في: "ورقة موقف: الخطوط العریضة والاتفاقیات الائتلافیة للحكومة الإسرائیلیة السابعة والثلاثین: خارطة الطریق لتعمیق نظام التفوق الیھودي"، "المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل / عدالة"، كانون الثاني / يناير 2023.

[10] "معضلة السجناء: بن غفير والسجناء الأمنيون والشاباك في طريق تصادمي"، "شومرين" (بالعبرية).

[11] بالنسبة إلى موضوع لجنة أردان، انظر: المصدر نفسه.

[12] لرؤية بعض مشاهد الاستفزازات والتحقير في حقّ الفلسطينيين، انظر موقع "الجزيرة".

[13] "دوبير" هي كلمة عبرية يستخدمها الأسرى للدلالة على الناطق بلسانهم في القسم المعتقلين فيه.

[14] التماس 23 / 7753، جمعية حقوق المواطن ضد وزير الأمن القومي (صدر في 23 / 11 / 2023).

السيرة الشخصية: 

عبير بكر: محامية وحقوقية فلسطينية ناشطة في مجال حقوق الإنسان.