"رجل يشبهني": الراوي والرواية والموقف
نبذة مختصرة: 

تُبحر هذه الشهادة التي يَنطلق كاتبها من آخر منتج أدبي لالياس خوري "رجل يشبهني" في ثلاثية "أولاد الغيتو"، في بحر واسع من المنتج الأدبي الكثيف لخوري، والذي يسير في خط واحد يرسمه موقف إلياس خوري الإنساني والأخلاقي إزاء القضية الفلسطينية.

النص الكامل: 

عندما شرعتُ في الكتابة بقصد التعليق على رواية "رجل يشبهني" للروائي اللبناني إلياس خوري، وجدتني أمام عدة أسئلة عن إلياس - الرواية - الموقف. ولهذا عدتُ إلى العديد من كتبه ودراساته ومقالاته المنشورة في أكثر من مكان، لكني لم أجد فوارق بينها، بمعنى أن جميع ما ينشره إلياس خوري ويتحدث به، يشكل سلسلة متماسكة ومتكاملة من الصعب فصل بعضها عن بعض. فاللغة بصفتها الحامل لهذه السلسلة، تشكل جوهراً ثقافياً لدى خوري، كونها وعاء الفكر "الإلياسي" الذي يتشكل من الرؤية الواقعية إلى الأمور؛ فمع أن اللغة لديه تبدو محض أدبية، إلّا إنها تقرأ التاريخ والحاضر بعين مجردة فاحصة، وبالتالي قادرة على فهم اللحظات التالية، واستشراف الغد وبعده.

كما أن الحكاية الشخصية لإلياس خوري، تبدأ لديّ من سؤال غريب: "ماذا لو لم يتعرف إلياس خوري إلى فلسطين، ماذا كان سيكتب؟" أؤمن بأن الإبداع يولد مع المبدع، وبأن حياته تقوده بالتدريج وطبيعياً نحو مسار محدد تتشكل فيه شروط الإبداع والظروف الحياتية والتاريخية، وربما في لحظة ما يعي المبدعُ ذاتَه في هذه الحياة، فيدرك ما عليه فعله. وفي حالة إلياس خوري الذي ولد في سنة النكبة (1948)، تبدو الأمور أسهل، فهذا الطفل اللبناني الذي أنجبته الحياة في منطقة الأشرفية، قادته الحياة نحو المخيمات، ليتعرف هناك إلى فلسطين الشعب والقضية، وليستمر في هذا السياق من الحياة والعالم، كي يقدم مقولته المنتبهة للتفصيلات العميقة التي تعيد إلى الأصول في فهم هذا الصراع القائم منذ نحو مئة عام. 

المقاومة تتجسد بعدة أشكال

نص إلياس خوري ليس نصاً مقاوماً، بحسب التعابير المعلبة الجاهزة للاستخدام في أي لحظة وفي أي مقام، من قبيل "الثقافة مقاومة" أو "المقاومة بالثقافة"، بل إن نصه يتضمن رؤيا بشأن الفعل المقاوم، ودفعاً به، وتحشيداً من أجله، وتفعيلاً للقوة التي تختزنها اللغة كأداة تعبير، ليكون النص جزءاً من مراكمة الفعل المقاوم بكل ما للكمة من معنى دقيق ومؤثر.

نقرأ عن المقاومة في كتابات خوري المتعددة الأشكال والأنواع، الأدبية والصحافية والدراسية منها. فهو يكتب مثلاً: "يُسجَّل للثقافة الفلسطينية أنها نجحت في ترميم ذاكرة النكبة، وكسرت الصمت الذي فرضه الجلاد على الضحية"، مضيفاً: "أمواج المقاومة تأتي من بحر عميق اسمه الحرية. وأمام الأعماق التي تتوالد فيها الأمواج، وتتوالى فيها صرخات الدفاع عن الحقّ، واجتراح معجزة تحويل الموت إلى شكل من أشكال الحياة، يصبح كاسر الأمواج مستحيلاً، لأن الأمواج قادرة على تفتيته."[1]

وكان خوري قبل أربعين عاماً تقريباً، كتب في مدخل كتابه "زمن الاحتلال" ما يلي: "زمن الاحتلال، هو زمن المقاومة أيضاً، والمقاومة التي ولدت في بيروت، أيلول 82، كانت تعبيراً عن استمرار إرادة الحياة. فرغم الاحتلال والمذابح، والمدن المهدمة، والمقابر الجماعية، والهيمنة، وحفلة التهريج التي أرادت تحويل لبنان إلى مستعمرة إسرائيلية، استطعنا أن نواجه التيار الجارف، وأن نسبح ضده، ونغير الكثير من المجاري."[2]

هذه الكتابة، كانت نظرة إلى الحياة في ذاك الزمن العربي - وربما الزمن العربي اللاحق – وهي نظرة فلسطينية لبنانية عربية وأُممية، إلى حالة الثورة والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي أحدث النكبة والهزيمة في فلسطين، وامتد ليجتاح ويحتل عاصمة عربية أُخرى هي بيروت. كانت الثورة الفلسطينية حاضرة بأحلامها ومقاتليها، قبل الخروج الكبير نحو البحر، ولاحقاً نحو "العودة" إلى الضفة وغزة بفعل "أوسلو". كانت المقاومة آنذاك، هي المعيار، مثلما هي اليوم، بتعبيراتها القديمة والجديدة، وآفاقها الراهنة التي لم تختلف كثيراً عن الماضي، إلّا إنها اليوم، تتخذ قراراتها على أسس ما بعد التجريب الذي أخذ المفاوضات وسيلة للوصول إلى شيء. غير أنها وفعلاً، لم تصل إلى شيء، فعادت المقاومة لتخرج عن تجاذبات سياسية بين القوى والتيارات الفلسطينية، أخّرت النتائج، وتحاول اليوم الابتعاد عن تجاذبات شبيهة يمكن أن تكبحها، أو تؤطرها في قوالب عافها الزمن.

إلياس خوري، وعلى غرار كتّاب آخرين كانت فلسطين همّهم الأول وما زالت، ظل مصراً على فكرة أن المقاومة ليست مجردة، وإنما مشبّعة بأبعاد سياسية وإنسانية وثقافية واجتماعية؛ فمثلما كانت محصَّنة بالمجتمع، كانت محصِّنة له، وبالتالي فإنها الجواب الأبرز عن سؤال شعب يسأل نفسه: مَن نحن؟ يقول إلياس في كتابه المذكور سابقاً: "المسألة المركزية البديهية، هي أن مقاومة الاحتلال هي الشرط الأولي للوجود، وكل كلام آخر مدمر. وهذه المقاومة هي التي تعيد ترتيب جميع الأولويات على الساحة الوطنية."[3] 

إلياس - البطل

لا يخرج خوري من نفسه، فـ "بطل" وأبطال رواياته يرتدون ثوب خوري وبالعكس، ليتمكنوا معاً من تقديم جميع تلك المقولات التي ترد في النصوص، بصفتها أدباً، وتأريخاً، وسياسة. ويمكن لمس هذا الأمر في أكثر من عمل أدبي له، في "الجبل الصغير"، وفي ثلاثية "أولاد الغيتو"، وغيرهما.

انطلاقاً ممّا سبق، فإن أدب إلياس خوري هو "بيان من أجل فلسطين" يمكن أن يجد فيه القارئ متعته، كما يمكن أن يجد فيه القارئ السياسي دروساً تدفعه إلى أن يعيد النظر إلى مفهومه عن الصراع، وتقدم له النقد اللازم الذي لم يضعه موضع التجربة بعد. هذا الحديث الناقد يمكن العثور عليه بسهولة في أكثر من مكان في رواية "رجل يشبهني"، وفي روايات أُخرى، وهو نقد لم يحدث على مستوى القوى الفلسطينية التي كانت مدماكاً رئيسياً في صنع الماضي الفلسطيني، خلال الثورة الفلسطينية في مراحلها المتعددة. ولعل استخدام بعض الفصائل لـ "مصطلح النقد الذاتي" بأشكال متنوعة، ضيّع الموضوع أكثر، فلم نصل إلّا لماماً إلى إجابات عن أسئلة: أين نجحت هذه الفصائل وأين أخفقت؟ أين عليها أن تراجع نفسها كي تطور من أدائها؟ وما هي الأدوات التي يتعين عليها استخدامها لتبلغ الغاية التي تريدها؟ والسؤال الأهم هو: "لماذا لم ننتصر؟" فهذا من شأنه لو دُوّن وتم الانتباه إليه بعناية، أن يجيب بشكل ما عن أسئلة الحاضر في السياق الفلسطيني الحالي، غير أن خوري، ولأنه واقعي في نظرته إلى الأمور، يمكّننا من أن نجد مثل هذه الإجابات في النص الروائي لديه، ولا سيما في "رجل يشبهني" و"باب الشمس".[4] تلك الإجابات والمواقف والمراجعات النقدية للتجربة، تشكل غنى ليس للنص الأدبي فقط، بل للملهاة الفلسطينية ككل، فلو لم يكتب إلياس خوري ما كتبه، لكان من الممكن أن نظن أن كل شيء على ما يرام، ولكان ممكناً أن يكتب أحدهم في المستقبل أن استمرار الهزيمة هو شيء من القدر فقط.

يبدو مفهوماً من خلال متابعة صحيحة ودقيقة لمختلف كتابات الكاتب، أنه لم يتغير فيها جميعاً. فإلياس خوري في العقود السابقة، هو ذاته في الراهن، مع الأخذ في الاعتبار التطور التعبيري، وهذا طبيعي مع تقدم تجربته السياسية والثقافية والوجودية، وهو تطور طرأ في التعبير الثقافي لديه في أكثر من مقالة أو نتيجة توصّل إليها، ويمكن لمسه فيما يكتبه أسبوعياً في صحيفة "القدس العربي"، أو في المقدمات أو المقالات لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية"، أو في الندوات والمحاضرات التي يقدمها في بيروت وفي مدن أُخرى من العالم. غير أن هذا التطور في الخطاب لم يتعارض مع الجوهر التعبيري لديه، فظل هو ذاته محللاً بارعاً، مفككاً للشكل والمضمون السياسي الفلسطيني والإسرائيلي، ودوماً منطلقه المقاومة، والعودة إليها كشرط "أولي للوجود". 

الذاكرة الجمعية، حاضراً

إن عمل إلياس خوري على الذاكرة الفلسطينية الجمعية هو سعي لحماية الحاضر، ومنحه مناعة ضد تعويم الماضي على الراهن. فخوري يتعامل مع ذاكرته تعاملَ الأب مع ابنه أو حفيده، مستخدماً النظرة الأشد وعياً ونضجاً وإيحاء؛ يقول: "الحاضر لا يستطيع أن يكون استمراراً للماضي. استعادة ماضٍ ذهبي ليست سوى الوهم الذي يحجب الحاضر، ويدمر العقل باسم الخرافة، وفلسطين في نكبتها اليوم ليست فلسطين 1948، لكن إسرائيل تصرّ على التكرار. فالذي يتصرف كأنه الماضي الذي عاد إلى الحياة، لا يقرأ الحاضر إلّا بصفته إشارات قيامية مجبولة بالخرافة."[5] ويقول: "المكان الذي تختلط فيه الذاكرة بالحاضر بشكل دائم هو فلسطين."[6]

كتابات خوري ومقولاته تفتح أفقاً للتاريخ، فهو كاتب يطلّ على الذاكرة - ذاكرته، ويستخدم التاريخ مجالاً للتأمل، كي يقدم رؤيا إلى الحاضر - المستقبل، بفاعلية وتكامل مع العناصر مجتمعة (الأرض؛ الشعب؛ الاحتلال).

إن تأريخ الحاضر لا يشكل جزءاً من حياة الفلسطينيين الطبيعية فحسب، بل من مجتمعات أهل المنطقة المحيطة بفلسطين أيضاً، فنراهم يتأثرون بالتفصيلات التي تحدث، ويؤثرون في الواقع الجغرافي والسياسي الداخلي في بلادهم، وبالتالي، يشكلون من أنفسهم وثيقة لفلسطين. ولذلك يُعدّ توثيق الحرب الأهلية اللبنانية جزءاً من تأريخ القضية الفلسطينية، ليس فقط بسبب المشاركة الفلسطينية في جانب منها، بل لأن الحدث في لبنان الموجود أبداً في شمال فلسطين الموجودة أبداً في جنوبه، يؤثر في المحيط بأكمله. وهذا ما عناه خوري بكتابة الحاضر حين كتب "الجبل الصغير" في سنة 1977، أي في معمعان الحرب، فالمطّلع على الرواية سيدرك أنها كانت أدباً وتأريخاً وبناء يُبنى عليه، وتفسيراً لما قاله في هذا السياق: "عليك أن تسمّي الأشياء كما هي عليه في الحقيقة."[7]

إن إلياس خوري، بمكانه ومكانته، وبأفكاره التي يصرّح بها، وبما يواجهه من أصوات باتت اليوم تتبع التفصيلات من دون النظر إلى سياقاتها ووضعها في مواضعها الدقيقة لمواجهة الاحتلال، إنما يمثل الصوت العربي الفلسطيني، حكايتنا الفلسطينية العربية. ولعل سياق إلياس خوري في أساليب مقاومته يحتاج إلى النظر والانتباه، فالرجل المعروف بأنه روائي أولاً، كان مقاتلاً حمل السلاح في زمن كان السلاح هو المعيار الأول، وكان في الوقت ذاته يكتب أدباً ونقداً ودراسات وأبحاثاً، وبالتالي ليس ممكناً فصل أي مكون من هذه المكونات بعضها عن بعض في قراءة إلياس خوري؛ وفي حال حدث مثل هذه المحاولة، فإن ذلك يعني أن الحديث الذي سيجري لن يكون عن إلياس خوري تماماً، بل عن شخص يشبهه نسبياً. 

الرجل يشبهه..

حياة إلياس خوري ليست حياة أبطال رواياته، بل إنه من خلال هؤلاء الأبطال الذين شكّلهم من معطيات الحياة، يقول سيرتَه الشخصية كمؤثر ومتأثر، وسِيَر الشخصيات المتنوعة التي مرت بتاريخ الصراع في فلسطين ولبنان والمنطقة ككل. ومع ذلك، فإن خوري يرسم شخصياته ويحركها ويُنطقها بمنطق الرؤيا التي يريد تقديمها، وذلك على غرار أي روائي، لكن هناك فارقاً جوهرياً في نص خوري، هو أن روايته، ولا سيما "الثلاثية"، تقدم مقولات وفقرات بأكملها، يمكن سحبها من النص لوضعها في كتاب تأملي في التجربة الفلسطينية. وربما تكون هذه ميزة إضافية إلى أدبه، لكن بالنظر إلى مقالاته ودراساته، فإن من الممكن أيضاً أخذ بعض المقولات وبعض الفقرات، ووضعها في نص أدبي كما هي، ليس لغوياً فقط، بل سياقياً أيضاً.

حياة إلياس خوري ليست حياة بطل الرواية، وإنما البطل هو الذي يقول سيرة إلياس، ويرسم حكايته الروائية. فالكاتب لا يقترب من حياة البطل مثلما يريد هذا الأخير، وإنما يتركه حراً كما يريد، وهو لا يتركه يموت مثلما يريد، لكنه يجعله يبحث عن الحياة وسردها، وعن الإجابات الكثيرة العالقة في ذهنيهما.

ومن هنا، يمكن النظر إلى الشخصية التي خلقها إلياس روائياً، فهو موجود في سياقات فلسطينية وعربية متقاطعة في الحالة الفلسطينية، وفعل خوري الروائي مع تلك الشخصية، أنه ألبس اللحم والعظم أدباً وليس العكس، فهذه الشخصيات عاشت وتعيش فلسطين بأحداث متتالية وموازية، وهي شاهدة على الماضي والحاضر والمستقبل.

فلو لم تكن حياة آدم قاسية مليئة بالتساؤلات عن الحياة وجوهرها، لما كانت بتلك الأهمية بالنسبة إلى الكاتب - المكتوب، ولو لم تكن كذلك، لكان البحث عن شخصية أُخرى أهون؛ ولعل آدم الذي خلقه ولم يخلقه إلياس، غيّر في شخصيته قليلاً لئلا يشبه أحداً غيره، إلّا إنه في آخر المطاف، يقول الأشياء التي تقال عن فلسطين، بمنطق، وكذا في بعض الموضوعات الأُخرى التي يتفق ويختلف عليها الناس، كالحب مثلاً.

ولعل الشبه، بمعناه الفعلي في الرواية، وبمعناه الدلالي بين الكاتب والشخصيات، هو مفتاح مجازي للأسئلة التي أوردها خوري: "أسأل نفسي كيف أستطيع أن أتابع كتابة هذه الدفاتر التي لن أتوقف عن التكرار بأنها ليست كتاباً، ولا رواية، بل هي شكل من أشكال العطش؟" (ص 16) صحيح، وربما هذا العطش الذي يُروى منذ أعوام بمزيد من الكتابة والفعل المستمر للمقولة العالقة والمعلَّق عليها، هو فهم جديد لتاريخ الجلاد والضحية - المهزوم والمنتصر.

وبما أن الرواية تفصح عن نفسها من خلال عنوانها، فإن هذا يعني على الأقل، أن هناك ما يشبه السيرة لشخص اسمه إلياس خوري، ولأشخاص آخرين فيها، يلبسون ويخلعون إلياس، مثلما يلبسهم هو ويخلعهم؛ ومن شدة التلاقي، أكاد أرى خوري يجلس مع شخصياته لإجراء حوار جاد لحسم العلاقة بين الجميع، والنقاش في مصائرهم. ولعل الأعقل فيهم هو خوري، إذ يرصد من خلالهم مستقبله ومستقبلهم ومستقبل فلسطين، فالسِّيَر مجتمعة ومنفردة، تروي سيرة حياة بلاد وشعوب تداخلت بفعل التاريخ، ولم تخرج من تفاعلها لا بالموت ولا بالدم ولا حتى بالمحاولات الكثيرة للحياة التي انتهت غالبا باليأس منها. 

مَن أنت؟

هذا السؤال الاستفهامي الوجودي، يبدو بسيطاً وسهلاً، لكن مع التقدم بصفحات الرواية، يبدو معقداً. فالإجابات التي يمكن للقارىء التقاطها، تُقدَّم كأنها خلاصات، بينما هي في واقعها، تجربة تمتد في حياة خوري منذ اللحظة التي قرر أن يكون في صفوف الثورة الفلسطينية، ولاحقاً في مؤسسات الثورة مثل مركز الأبحاث الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. فبعد خروج المنظمة والفدائيين من بيروت، بقي خوري مرتبطاً بعلاقة عضوية بفلسطين وبإخوانه ورفاقه في الثورة ممّن حمل السلاح أو القلم معهم، وأصدر في تسعينيات القرن الماضي روايته الأشهر "باب الشمس" (1998)، وما زال مستمراً في كتاباته ونضاله من أجل القضية الفلسطينية، أدبياً وبحثياً وسياسياً، مع عدم إغفال دوره ونضاله في بلده الأم لبنان، ورأيه في القضايا العربية المتشابكة والمترابطة في الغالب.

تبدو حياة خوري في الروايات وفي الواقع متماثلة كثيراً، واستشرافية، ولا سيما في تحقق مقولته عن تحول "الأدب إلى واقع"،[8] وذلك حين قام شباب فلسطيني ببناء قرية "باب الشمس" في سنة 2013 في أرض قرب القدس، تأثراً برواية خوري الشهيرة.

إن أعمال إلياس خوري الروائية، ليست خيالاً صرفاً، ولا واقعاً محضاً، بل إنها ذلك المزيج الساحر من الفدائي الذي كانه، والذي سمع عنه ولم يقابله، أو قابله فيما بعد، ثم كتب حكايته - حكايتهم، ومن الشخصيات الكثيرة التي كانت تحيط بالبطل، والتي في وسعها أن تكمل قصته - قصتهم - قصة فلسطين، بحيث يصبح الخيال خيالاً في عين الروائي - النقدي، وواقعاً في عين القارىء، وفدائياً في وعي الفدائيين. 

من أين أتتنا إسرائيل؟!

يقول خوري: "لماذا سقطت على أرضنا نوبة الجنون التي اسمها إسرائيل؟"(ص 23)، وهنا تتتالى الأسئلة والإجابات التي تبدو كأنها مطالعة للتاريخ بمفردات الماضي وحاضره، فلا تقتصر على المعتاد، عن معنى إسرائيل، ومعنى فلسطين، بل تذهب إلى تفسير الصراع بشكل مطلق، وما يتضمنه من أرض وإنسان وتأريخ. يقول: "قالوا إنها أرض الميعاد. شو يعني ميعاد؟ مَن وعد مَن؟ ومَن جعل من فلسطين أرض لقاء موعود؟"(ص 23)؛ أسئلة كثيرة طُرحت وتُطرح يومياً، بشأن الصراع على ما احتُل في سنة 1948، وكيف عُبّدت له الطريق من خلال الانتداب والاحتلال: الأول انتداب من بريطانيا وجيشها، والثاني احتلال من عصابات أتت من دول الاستعمار، معززة بشعور التفوق والفوقية على أصحاب الأرض، لتستعمرهم وأرضهم في فلسطين.

تتوالى الأسئلة في الصفحة ذاتها (ص 23) فتدفع إلى التفكير في معنى المقدس في فلسطين: "هل ضرب الله موعداً لليهود على جثثنا؟ ولماذا لم ينزل من عليائه وينقذهم من أفران الوحش النازي الذي كان يريد إبادتهم؟ لعبة القداسة والميعاد كلها لا معنى لها، فحكاية الفلسطينيين مثل جميع الحكايات لا بداية لها." ويكمل: "فحين تكون الأرض مقدسة، تصير جزءاً من عالم آخر، ولا يعود واقعها مهماً، ويصير سكانها ضيوفاً على الأبدية، أي يصبحون لا شيء. هذه لعنة فلسطين" (ص 24). يصف خوري الأمر باللعنة، وربما هو التعبير الدقيق عمّا يحدث للفلسطينيين، كبشر ولدوا في أرض بعضها مقدس لملايين في العالم يؤمنون بالغيب، وبقصص إمّا أبطالها من فلسطين، وإمّا نزلوا في رحلتهم في فلسطين، فحلّت قصص الجميع في فلسطين، وصارت هذه الأرض هي الحكاية التي كتبتها السماء، وأرباب السماء على الأرض يريدون أخذ حقّ السماء من أهل الأرض، هؤلاء الذين ربط خوري وجودهم بأرضهم المقدسة قائلاً: "الأرض المقدسة لا تستطيع أن تكون وطناً، وشعبها يصير مجرد هامش في سفر الأبدية التي لا زمن لها، وتصير البلاد ملعباً لصراع الآلهة الذي لا يرحم" (ص 24). في هذه العبارة ما يجعل التفكير يتوقف عن طرح الشعارات الكثيرة في فهم وجود الشعب الفلسطيني بتجرد عن أمور أُخرى كالسماء والمقدّس، فالشعب الفلسطيني يناضل من أجل وطنه بكل ما فيه من حياة ووجود وتاريخ، وليس من أجل المقدسات فقط التي تعني العالم كله تقريباً؛ فالمسجد الأقصى يخص كل مسلم، وكنيستا المهد والقيامة تخصان كل مسيحي في العالم، ولذا فإن حصر الحكاية بأماكن محددة يحدّ من التفكير في سائر البلد. وللطرافة، فإن الصهيونية التي كان بعض روادها الأوائل من العلمانيين، اتخذت من الدين مطية لتغطية مشروعها الاستعماري، ليعود بعض البشر اليوم إلى أن يقعوا في الفخ، ويحيلوا الصراع إلى مقولات وأفكار ترتبط في السماء، ليصبح الحل في آخر المطاف محالاً إلى السماء، بينما المشروع الصهيوني يتمدد على الأرض بلا توقف. ولعل من حسن الحظ أن هذا المشروع بعد أن انتشى بما حققه، بدأ يقع في خديعته الدينية، فمنذ عدة أعوام باتت أحزاب دينية صغيرة تتحكم في حكم إسرائيل، بفرض شروطها على الحكومات المتعاقبة، حتى وصلت اليوم إلى تشكيل الحكومة الأكثر يمينية وفاشية، ومع ذلك، لم يكن اليسار الصهيوني أحسن حالاً، لكنه كان ملتزماً بوعي المؤسسين. وفي المقابل كانت الثقافة والفكر الفلسطينيان يعيان إسرائيل جيداً ويفكران فيها بشكل عميق، بينما اليوم، تتعقد العلاقة مع الصهيونية ونتاجها "إسرائيل" بسبب الفهم الضيق لهذه الأخيرة، وأحياناً بعدم الاعتراف بقيمة الفهم العميق، واعتبار أن المقاومة العسكرية وحدها قادرة على إنجاز المهمة. ففي ستينيات وسبعينيات وحتى أواسط ثمانينيات القرن الماضي، كان الإنتاج المعرفي المتعلق بالصراع يشمل الجوانب المتعددة له، ولا سيما من مختلف مؤسسات الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن إصدارات مؤسسة الدراسات الفلسطينية. أمّا اليوم، فإن الإنتاجات هي من مؤسسة الدراسات الفلسطينية وبعض المراكز الأُخرى، في حين أن الفصائل لم تعد تنتج فكراً أو سياسة، وإنما انخرطت في عمل "الدولة" بين الرفض والتأييد والتنديد، من دون القدرة على التأثير والحشد دعماً لقرارات الرفض أو التأييد أو التنديد.

ويبدو أن جلّ الإنتاج من طرف الفصائل العاملة في الساحة الفلسطينية، ولا سيما الإسلامية منها، إنما يذهب نحو تعميق الفهم الديني للصراع، وهو ما يسعى له الاحتلال، ويراه جيداً لحسم الصراع. يقول خوري: "المقدسات كلها اجتمعت من أجل إلغاء الفلسطينيين أو تحويلهم إلى هامش في نص مقدس مكتوب بدمائهم" (ص 25). ومن شأن ذلك أن يؤدي بنا كشعب ووجود إلى "النكبة المستمرة" المصطلح الذي أنتجه خوري واستعاده في روايته، على اعتبار أن حاضر فلسطين، وما يحدث فيها يومياً يؤكد هذا. يقول خوري: "إن النكبة ليست بداية التاريخ ولن تكون نهايته، إنها جزء من تاريخ الغزوات والدم الذي حوّل فلسطين إلى أرض صراع مفتوح على جنون العنصرية التي تختبىء خلف ادعاءات البحث عن الأبدية" (ص 26)، ويضيف بمراجعة مبطنة لمقولة البحث عن الأبدية، وبمساهمة جديدة لفهم آليات الصراع: "أريد أن أقول إن هذه القصة المغمسة بالدم والألم والأسى، لا تساوي الحبر الذي كُتبت به آلاف الصفحات عنها، وبجميع اللغات، وهي بالتأكيد لا تعادل الدم الذي سقى أرضها" (ص 26).

إن الاقتباس الأخير، ومساهمات عدة لخوري نشرها في أكثر من مكان، يؤكدان أن الرجل يؤمن بأن مفهوم الانتصار موجود، ويحتاج إلى فعل، وما تأييده لـ "عرين الأسود" في الضفة الغربية، سوى هذا التأكيد، وما تعليقاته على العنصرية وواقع إسرائيل من الداخل سوى تأكيد آخر. ففي هذه التأكيدات قراءة متأنية لإسرائيل من الداخل، مرتاحة من المقولات الجاهزة والمعلبة عن الصراع، ومتخلصة من الفهم العالمي للصراع، بل إنها تقدم إضافات إلى هذا الفهم. فالقائل والكاتب اسم عالمي تؤخذ أفكاره على محمل الجد والانتباه، فهو واحد من أسماء قليلة في العالم تمكنت من تعريف العالم من جديد إلى فلسطين، وجعله يعيد النظر في كل ما تقدمه الصهيونية من كذب وتشويه.

ولعل في مطالعاته الأدبية - الوجودية، واحدة من أهم المقولات في هذا الصراع المستمر مع إسرائيل، فهو يقول: "إن إسرائيل لن تصير بلداً طبيعياً إلّا إذا هُزمت مرة واحدة على الأقل" (ص 27). وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال عن النصر والهزيمة، فكم مرة انهزم الجلاد (إسرائيل ومَن معها)، وكم مرة انتصرت الضحية (فلسطينيون وعرب)؟ وستفتح الإجابة نقاشاً معقداً وعدمياً، وستتعامل مع احتمالين: إسرائيل هُزمت أكثر من مرة، وقد تكون هذه الإجابة صحيحة، والفلسطينيون والعرب انتصروا، وهذه قد تكون صحيحة، وثمة إجابة ثالثة هي أن هؤلاء الأخيرين صمدوا. وفي الإجابة الأولى، تلك "الهزائم" الكثيرة بسبب "الانتصارات" الكثيرة، لم تجعل إسرائيل دولة مهزومة، فالهزيمة حين تتحقق تغيّر مجرى تاريخ المتحاربين، وتجبر المهزوم على تقديم التنازلات، أو التحول في السلوك، وهنا أيضاً يحدد خوري ما يجب فعله في هذا الجانب، إذ يقول: "يجب أن نعيد النظر في الهزيمة كي نستطيع أن نبني من خلال المقاومة أفقاً وطنياً جديداً"،[9] وفي حالة إسرائيل، تغيير سلوكها الاحتلالي الاستعلائي، وإعادة تكوين وعيها لذاتها، بأنها دولة طبيعية يمكن أن تُهزم وأن تخسر وألّا تكون متعالية. لم يحدث هذا الأمر قط، ويبدو أن ذلك من الصعب أن يحدث، لعدة أسباب منها أن إسرائيل ككيان موجود ترى نفسها متفوقة على المنطقة كلها، بمَن فيها الشعوب، ولا سيما أنها تقع في محيط لا يريد أن يعترف بالهزيمة مرة على الأقل. لذا، فإن الجميع يحتاج بشكل أو بآخر إلى إعادة تكوين للوعي وللفهم الحقيقي للذات والمحيط، أي التفكير بواقعية أكثر. فإذا كان هذا المحيط، في كل مواجهة مع إسرائيل قد انتصر، فلماذا لم تُهزم إسرائيل؟ يبدو أن مشكلة فلسطين الكبرى تكمن في أن أطراف قصتها لم تُهزم بعد! أو لم تعترف بالهزيمة على الأقل. صحيح أن إسرائيل هُزمت وانسحبت من أراضٍ عربية كانت تحتلها، إلّا إن فعل الانتصار في المقابل، لم يُستكمل استثماره أيضاً في المعركة المستمرة بأشكال متنوعة منها العسكري. إن ذهنية "النصر" المتشكلة لدى أطراف الصراع، كان هدفها دفع الشعوب إلى الإيمان بإمكان النصر، غير أن هذه الفاعلية تآكلت مع الوقت مع انتشار الخراب وتفشّيه في المنطقة ككل، سواء بالحروب الداخلية التي نشأت، أو بالأنظمة الحاكمة، أو بالتطبيع مع إسرائيل. لكن مؤخراً، وبعد خروج التظاهرات في إسرائيل، رفضاً للتعديلات القضائية التي كان ينوي اليمين الديني تمريرها في الكنيست، يمكن القول إن إسرائيل بدأت تدخل نادي الدول الطبيعية. فعلى سبيل المثال تمكنت من أن تنجو من حرب أهلية نبّه منها أكثر من مسؤول إسرائيلي كبير، إلّا إن الأطراف المواجهة للاحتلال تعاملت مع هذه الوقائع بشعاراتية مقيتة، مثلما حدث في أكثر من منبر إعلامي وبحثي، وهذا أمر لن يخرجنا من دائرة الهزيمة المستمرة، لأن الحق وحده ليس كافياً لإثبات الحقيقة، ولا لاستعادته.

ما تريده إسرائيل هو حسم الصراع من خلال تأريخها للأرض والصراع مع أهلها. ولعل "الذهنية" التي تعلن الانتصارات المتكررة، والهزائم المتكررة لإسرائيل، هي ذاتها التي تعوق كتابة وتوثيق الحاضر بواقعيته، بل إنها ترفض ذلك من أصله إن لم يكن على هواها، وتُلبس كل فعل من هذا القبيل، أسباب "الهزيمة". إن "الصمود هو أول خطوة نحو النصر" قالها خوري يوماً، وقالها بعده كثر، مع ما استتبع ذلك من اختلاف بشأنها أو اتفاق عليها. لكن وهنا بيت القصيد، أن نصمد، يعني أننا نقاوم، وبالعكس، وهذه المعادلة التي أضحت تُترجَم على الأرض، باتت من أدوات الفهم لراهننا مع إسرائيل، كما أنها أداة لفهم إسرائيل للصراع معنا، فهي تعي أنها لم تُهزم بعد، لكنها في الطريق، هذا إذا أنجزنا تعبيد هذه الطريق.

في ختام هذه المطالعة السريعة، سأورد اقتباسَين لخوري كانا منارتي على الطريق لهذه الكتابة: ففي الأولى كنت بين هؤلاء الآلاف الذين يطمحون إلى أن يكونوا جزءاً من أفق المقاومة، وفي الثانية أنا ابن المصادفة كآدم دنون؛ وهذان الاقتباسان هما: "الكتابة تعبّر عن الأشياء في حركتها وفي تغيراتها. [....] فإنها تطمح أن تكون جزءاً من صوت آلافِ الذين صنعوا بنضالهم وعذابهم وموتهم، أفق المقاومة"؛[10] أمّا الاقتباس الثاني فهو: "يجب أن أصدق ادعاء هذا الرجل بأنه أنا. آدم بن حسن دنون اختار المنفى لأسباب لا تُحصى، لكنني أشك في كلامه. يستطيع أن يقول ما يريد، مستعيراً أصوات الآخرين، ومردداً حكاية علاقة المنفى بغربته في بلاده" (ص 11).

كلنا كذلك، كلنا آدم دنون، وسنصير أبطال واقعنا حين نكتشف أن طريقنا الذي نغيره أكثر من مرة في حياتنا، هو نفسه الطريق الذي ما زلنا نتّبعه، بل نسترشد به لنتفقد إن كنا ضللنا. وحين نصل ننتبه إلى أننا لم نصل بعد، فالطريق لا يزال محتاجاً إلى فهم للواقع، وأمل بالتغيير.

 

* أرقام الصفحات الواردة ضمن المتن هي من رواية: إلياس خوري، "رجل يشبهني" (بيروت: دار الآداب، 2022).

 

[1] انظر: الياس خوري، "ذاكرتان"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 133 (شتاء 2023)، ص 6.

[2] الياس خوري، "زمن الاحتلال" (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1985)، ص 5.

[3] المصدر نفسه، ص 101.

[4] الياس خوري، "باب الشمس" (بيروت: دار الآداب، 1998).

[5] الياس خوري، "ذاكرة الحاضر"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 132 (خريف 2022)، ص 5.

[6] المصدر نفسه، ص 6.

[7] مقابلة بالإنجليزية مع إلياس خوري بعنوان: "أن أكتب الحاضر: إلياس خوري عن الفن القصصي"، ترجمة إبراهيم الطراونة وجابر جابر، موقع "حبر"، 4 تموز / يوليو 2017، في الرابط الإلكتروني.

[8] عبارة قالها خوري في برنامج "عصير الكتب" في تلفزيون "العربي"، في الرابط الإلكتروني.

[9] خوري، "زمن الاحتلال"، مصدر سبق ذكره، ص 147.

[10] المصدر نفسه، ص 6.

السيرة الشخصية: 

أيهم السهلي: صحافي فلسطيني مقيم في بيروت.