معرض "غَ ت" لشذى الصفدي وأكرم الحلبي والتقاء جغرافيتين محتلتين
التاريخ: 
16/08/2022
المؤلف: 

"غ ت" عبارة تُطلق في الجولان على الغيوم البيضاء المحملة بالندى، والتي تسير بتملمُلٍ في الصباح الباكر. وعندما يغلف الـ "غ ت" الأماكن، تبقى معالمها مألوفة لدينا، لكننا نبذل جهداً في محاولة تمييز تفاصيلها، فنراها من منظور مختلف، ونتأملها أحياناً وكأننا نراها للوهلة الأولى.

ومعرض "غَ ت" في رام الله هو محاولة للفنانيْن شذى الصفدي وأكرم الحلبي لاكتشاف أماكنهما المألوفة، من خلال سرديات الذاكرة والأسطورة والممارسات الحياتية اليومية. يقدم الفنانان مشاهد بصرية وصوراً من الجولان السوري المحتل، تمت معالجتها وتحويرها وتحويلها، باستخدام مجموعة من التقنيات تدعونا إلى التأمل في المكان والحياة اليومية والنظر في التناقضات الكامنة والالتباسات المألوفة. يخطو الفنانان في هذا المعرض إلى الخلف قليلاً، وينظران ملياً في المشهد بالعلاقة مع السياق الأوسع، وذلك بوضع الماضي والحاضر والمستقبل في بوتقة واحدة.

 

صورة من افتتاح المعرض

 

تندر المعارض الثنائية لما تتطلبه من تجانُس ذهني خاصماً بين فنانين اثنين، عدا عن التناغم والانسجام في أساليبهما الفنية. وفي "غَ ت" يأتي الانسجام قوياً في الأفكار والمواضيع والنهج. فتلتقي أعمال الفيديو والأعمال التركيبية واللوحات، فتكمل بعضها بعضاً، بينما يأتي العمل الصوتي "النجم الأحمر" لأكرم الحلبي في قاعة العرض ليشكل خلفية صوتية للمتأمل في المشاهد البصرية، مضيفاً بعداً جديداً للسياق الذي انبثقت منه الأعمال. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن دراسة الصفدي والحلبي للفنون الجميلة في دمشق في الفترة ذاتها وتتلمُذهما على يد خيرة الفنانين السوريين المعروفين، ربما ساهم في الانسجام ووضوح الحوار ما بين أعمالهما. 

يقدم الفنانان تأليفاً مفاهيمياً مشتركاً، من خلال نسج علاقة بصرية ما بين الصورة واللون والشكل، باستخدام تقنيات يغلب عليها التجريد والألوان الثنائية (المونوكروم). وتتشابه الطبقات المتعددة التي تحملها سطوح الأعمال، بصرف النظر عن المواد المستخدمة، كما تغلف هالة شفافة كثيراً من الأعمال، وكأنها تنقل ذاكرة ضبابية، أو كأن الفنان يخلق فاصلاً رقيقاً متعمداً ما بين المشهد والمشاهد. 

 

صورة من المعرض

 

ما يستدعي الانتباه في المعرض هو ارتباط الأعمال الوثيق بالطبيعة. فتتجلى الطبيعة أولاً في اسم المعرض، ثم تظهر في أعمال الصفدي في سلسلة غيمة "نون قطنا" و"تدفق"، والذي يتناول فيهما ما يمكن تسميته انتفاضة خزانات المياه التي خاضها الجولانيون في الثمانينيات ضد إجراءات منع الاحتلال الإسرائيلي ذلك المجتمع الزراعي من جمع مياه المطر. كما تُستخدم بكثافة إحالات رمزية لمعتقدات تراثية ودينية وطبيعية، مثل الطير الكريم وسلسلة زهرة الجبل. ونجد في أعمال الحلبي الطبيعة تتخذ أشكالاً لحيوانات والنباتات في مشاهد تجسد الحياة المرتبطة بالزراعة والأرض، وبعضها يحمل الكثير من النقد الخفي. فنراها في تلال تحولت إلى سلاحف ثقيلة تزحف ما بين الجبل والبركة، وعلى هيئة مزارع يحمل ضمة من عيدان خشبية طويلة تخفي وجهه، وكأنه تحول إلى شجرة، أو إلى جزء من تضاريس الأرض، وكذلك في طيور النعام والعث وغيرها من الكائنات.

ويبقى لكل فنان أسلوبه الخاص في تناوُل موضوعاته، فتنفض شذى الصفدي الغبار عن ذاكرة الطفولة، وعن معتقدات متجذرة مرتبطة بالواقع المعاش ورمزية المكان، في محاولة لاستعادة قصص شخصية، من خلال التجريد والكولاج وطباعة السينوتايب والمجسمات التركيبية. ونرى أعمالها تكتنفها غشاوة الذاكرة ومساحة تتكشف فيها تناقضات المكان، والتباس العلاقة ما بين الأساطير والمعتقدات من جهة، والواقع من جهة أُخرى. وتقدم عملاً من ثلاثة أجزاء، تكتب فيه نصاً لقصة حب، باستخدام لغة البريل للمكفوفين، التي يمكن تحسُّسها باللمس فقط. وبعد أن تعالج السطح بالملح، تحجبه عن اللمس باستخدام سطح زجاجي، وتسمي السلسلة "استحالة". فلا يمكن للمبصر قراءة النص بالعين، ولا يمكن للكفيف تحسُّسه باللمس. تروي قصة الحب ذاتها في ثلاث لوحات منفصلة، قد ينتهي المطاف بكل منها في بقعة جغرافية مختلفة، تأكيداً لاستحالة تحقُّقها. 

 

شدى الصفدي، زهرة الجبل، 2022

 

يعتمد أكرم الحلبي في إنتاجه على صور فوتوغرافية من المكان للحياة اليومية، يعالجها باستخدام الألوان والخطوط والأحرف. ويختار رموزاً وتمثيلات ويولّف بينها، وينسج علاقة ما بين الصورة المركبة المعالجة التي تظهر كواقع تجريدي وما بين الحروف التي يحاول أن يصنع منها أصواتاً قوية مرتبطة بالمشهد، مثل أصوات أسلاك الكهرباء المعطوبة. يوظف الحلبي صوراً جاهزة لأشخاص أو حيوانات، ويُدخل عليها أشكالاً تجريدية، مستخدماً الألوان والأحبار، مشدداً على حركة عناصر معينة داخل اللوحة. فنجد أعماله تتحرك على الرغم من سكونها، وتُصدر أصواتاً صاخبة رغم صمتها، وكأنها تقدم مشهداً مجتزأً من فيلم أو واقع متخيل. ويتناول في عمله الصوتي "النجم الأحمر" (2010-2017) تفاصيل مملة لحياة تجري ببطء في الجولان، منها سيريالية، يكمن في عمقها نقداً للواقع الاجتماعي والسياسي. ففي كل بيت مكبّر صوت يستخدمه الناس في الحديث مع بعضهم بعضاً عبر حقول التفاح، بينما يستمتع حبيبان بجلسة رومانسية هادئة في حقل ألغام، وتدق امرأة "عروسة" لبنة بمسمار في الجدار، وغيرها من المشاهد التي تصلح لمسرحية أو فيلم سريالي. والنجم الأحمر في المعتقدات الجولانية هو أحد علامات يوم القيامة.

 

أكرم الحلبي، خط، 2022

 

"غ ت" هو التقاء مشهد فني في الجولان بحاضنته الفنية وجمهوره في فلسطين. وهو واحد من أبرز الأحداث الفنية التي نُظّمت في الأعوام القليلة الماضية، الآخذة بنسج رباط بين المشهدين الفنيين في فلسطين والجولان، تشبيك بين جغرافيتين محتلتين ربما يسير على مهل، ولكن بمتانة. 

*يستمر معرض "غ ت"، في غاليري زاوية في رام الله، حتى 31 آب/أغسطس الجاري.

عن المؤلف: 

رنا عناني: كاتبة وباحثة في الفنون البصرية والثقافة من رام الله ومحررة الموقع الإلكتروني في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.