تاريخ فنّ بلا فنّ
نبذة مختصرة: 

تُعدّ الثقافة عنصراً مهماً من حضارة الأمم وتاريخها، وحقاً من الحقوق ضمنته شرعة حقوق الإنسان، ولهذا تعمد الدول إلى الحفاظ على المنتوج الفني كمنتوج ثقافي، وتحميه كحقّ من حقوق الملكية الفكرية.
تتناول هذه الدراسة إشكالية غياب أرشفة المنتوج الفني التشكيلي الفلسطيني، وضياع كثير من تلك المنتوجات الثقافية، لأسباب موضوعية وذاتية، وتبحث في أسباب غيابها، من خلال مراحل عاشتها التجربة الفلسطينية منذ النكبة حتى مرحلة السلطة الوطنية الفلسطينية.

النص الكامل: 

مقدمة

تُشكل مجمل الأعمال الفنية البصرية وعملية إنتاجها منذ النشوء المبكر للفن الفلسطيني في بداية القرن العشرين، وتبلوره كحركة تشكيلية في فلسطين والشتات في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، مرجعاً مهماً للفن البصري الفلسطيني. وفي ظل شحّ الأرشيفات الفلسطينية وتجزّئها وتبعثرها في العالم، يصبح هذا الإنتاج مصدراً مهماً للمعلومات عن تاريخ هذه الحركة، وإنتاجات أفرادها، وأساليب عملهم، والموضوعات التي تناولوها عبر مراحل متنوعة، ومواكبتهم للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والأنماط الفنية السائدة. إلّا إن فقدان الأعمال الفنية والمعارض على مر السنين، وهو ما كان للاحتلال الصهيوني لفلسطين، وللظروف التي فرضها على الأرض، وللأحداث السياسية المتعاقبة، أثر مهم في تشكله كظاهرة، أدى إلى ندرة المعلومات والوثائق والصور، فضلاً عن حالة الفوضى التي عمّت تنظيم المعارض، والتي استغلها بعض الانتهازيين ليمعن ويساهم في اختفاء كثير من الأعمال الفنية. وإذا أخذنا في الحسبان، نقصَ الجهود التوثيقية للإنتاج والعمل الفني، وتحديداً منذ بداية نمو الحركة الفنية التشكيلية وتطورها، ووجودَ عدة أعمال ضمن مقتنيات ومجموعات خاصة مغلقة يصعب الوصول إليها، يصبح من الضروري الاستناد إلى بدائل لدى تناول تاريخ الفن الفلسطيني.

سأتطرق في هذه الدراسة إلى ملامح هذا الفقدان كظاهرة، وذلك من خلال التركيز على المعارض الجماعية الضائعة، وسأتناول الفقدان على ثلاث مراحل زمنية: الأولى، من النكبة حتى النكسة؛ الثانية، مرحلة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية حتى توقيع اتفاق أوسلو؛ الثالثة تغطي تأسيس السلطة الفلسطينية حتى اليوم. وسأطرح أهمية إعادة تخيّل ما فُقد من أجل سدّ بعض الثغرات التي أحدثها هذا الفقدان. 

الفقدان كظاهرة

فُقد كثير من الأعمال الفنية خلال نكبة 1948 وهزيمة حزيران / يونيو 1967 وما تبعهما من احتلال لكامل الأراضي الفلسطينية، وتضييق من طرف الاحتلال الإسرائيلي على الفنانين ونشاطهم. وليس استدعاء الحاكم العسكري الإسرائيلي لبعض الفنانين في سنة 1979، والطلب بشكل مباشر منهم أن يرسموا فناً تجريدياً بدلاً من "فن تحريضي"،[1] إلّا محاولة مبكرة لاحتواء الحركة الفنية التشكيلية، وتجريدها من "دورها الوطني". لكن هذا الأمر لم يتوقف عند حدود فلسطين التاريخية، وإنما انتقل إلى خارجها، باجتياح بيروت الذي يرى فيه إدوارد سعيد أنه كان ذا هدف سياسي لم يسعَ لسحق الحركة الوطنية الفلسطينية في لبنان فحسب، بل استهدف أيضاً مؤسساتها تمهيداً لتدمير هذه المؤسسات في الضفة الغربية وقطاع غزة.[2] ويندرج النهب الإسرائيلي لأرشيف مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت في سنة 1982 ضمن هذا التوجه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قصف صالة الكرامة (افتُتحت في سنة 1980) في أثناء اجتياح بيروت، والتي ضمت أعمالاً فنية لفنانين من فلسطين والشتات، فضلاً عن فنانين أجانب متضامنين مع القضية الفلسطينية. إلّا إن فقدان الأعمال الفنية تحول إلى ظاهرة بوجود انتهازيين ومقتنصي فرص استغلوا الظروف الفلسطينية العامة. 

1 - نكبة فلسطين ونكبة الفن

من غير الممكن الوقوف على كامل حالات فقدان الأعمال الفنية التشكيلية الفلسطينية، ولا سيما الفردية منها، إلّا إننا نستطيع إعطاء بعض الأمثلة وتسليط الضوء على بعض الأحداث. فمن القليل الذي نعرفه عن ضياع الأعمال الفنية التي تعود إلى طلائع الفنانين في فترة النكبة مثلاً، والذي يحتاج إلى مزيد من البحث والتمحيص، أن داود زلاطيمو، عندما هُجّر من مدينة القدس في نكبة 1948، ترك لوحاته المستوحاة من الطبيعة والتاريخ العربي الإسلامي تزين صفوف مدرسة اللد التي كان يُعلّم فيها،[3] كما أن شريف الخضرا، خريج فن التصوير ومدرسة الصناعات الخزفية في القاهرة، فقد منزله ودكانه في صفد في تلك السنة، حين لجأ إلى السويداء في سورية، قبل أن يرحل إلى الكويت، من دون أن نعرف مصير أعماله. أمّا جورج فاخوري الذي عمل مدرساً للرسم في عكا، فهُجّر إلى بيروت وفقد جميع أعماله،[4] بينما ترك خيري بدران وداود الجاعوني مدينة المجدل التي كانا يعلّمان فيها الرسم والخط وأشغال النسيج والطباعة والزخرفة إلى الكويت في إثر النكبة،[5] ولا توجد معلومات عمّا تركاه خلفهما.

ودُمّر مرسم جمال بدران وأخيه عبد الرازق، والذي كان موجوداً في شارع ماميلا في القدس، وهُجّرا من المدينة في سنة 1948 إلى دمشق والكويت، وكذلك الأمر بالنسبة إلى توفيق جوهرية الذي امتلك هو الآخر مرسماً في القدس.[6] واضطرت زلفة السعدي إلى ترك بيتها في القدس في سنة 1948، عقب الهجمات الصهيونية المتواصلة، حاملة معها ما استطاعت من أعمالها الفنية، واستقرت في دمشق. وقد دفعت الهجمات ذاتها في القدس، محمد وفا الدجاني[7] الذي عمل مدرساً للرسم، إلى الانتقال إلى دمشق، ولا نعرف إن كان ترك أعمالاً خلفه، مع تخيلنا لصعوبة نقل الأعمال الفنية من مكان إلى آخر في فترة الحرب.

ولا تتوفر معلومات كثيرة عن فقدان الأعمال الفنية خلال هزيمة 67، وما نعرفه أنه بعد احتلال مدينة القدس في سنة 1967، تعرّض مرسم صوفي حلبي لاعتداء إسرائيلي وأصيب بقذيفة تسببت بدمار لكامل محتواه،[8] كما دمر جنود إسرائيليون لوحتين للفنان إسماعيل شموط هما: "النكبة" و"ربيع فلسطين"، وقد رسمهما في سنة 1960 بعد اقتحام مكتب جامعة الدول العربية في القدس لاعتقال مديره.[9] وعند احتلال خان يونس، صودرت من مدرسة حيفا الثانوية، سبعون لوحة زيتية للفنان بشير السنوار ومئات الاسكتشاتات، وكان بعضها جزءاً من معرض فردي عن النكبة نظّمته وزارة التعليم المصرية آنذاك.[10] 

2 - مرحلة منظمة التحرير الفلسطينية

أُسس قسم الثقافة الفنية في دائرة الإعلام والتوجيه القومي في منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت في سنة 1965، وتولى إدارته إسماعيل شموط وتمام الأكحل،[11] وكانت مهمته الأساسية تشكيل مظلة للفنانين الفلسطينيين في الشتات، وتنظيم المعارض في أنحاء متعددة من العالم. وقد عمل شموط أيضاً على تأسيس الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين، وترأسه فترة طويلة. وكانت رابطة الفنانين التشكيليين التي تأسست في أوائل السبعينيات في الضفة الغربية وقطاع غزة، على علاقة وطيدة بقسم الثقافة الفنية في المنظمة، وأدت دوراً كفرع للاتحاد في فلسطين المحتلة، كما أنها نظمت في فلسطين المحتلة أكثر من 200 معرض جماعي وفردي وثنائي، ومنها 150 معرضاً منذ نشأتها حتى نهاية الثمانينيات.[12] 

قيود على الحدود

فرضت إسرائيل قيوداً مشددة على الحدود ما بين فلسطين والعالم، ولم يكن ممكناً شحن أعمال فنية من وإلى فلسطين المحتلة "بشكل مهني" حتى ولادة السلطة الفلسطينية، وإنما كانت تُنقل باليد، وتُحمل داخل "رولات" من خلال الجسر إلى الأردن، ثم إلى سائر أنحاء العالم. ولم يكن من الممكن التيقن ما إذا كانت الأعمال ستعود مجدداً إلى فلسطين عند خروجها، وذلك اعتماداً على ظروف النقل، وعلى ما إن كان هناك مَن يستطيع إعادتها في حقيبته مجدداً. ففي سنة 1976 مثلاً، صادرت الأردن لوحتين للفنان كريم دبّاح كانتا في طريقهما للمشاركة في معرض في المركز الثقافي السوفياتي في عمّان، بسبب عبارة كُتبت على إحداهما، واعتُبرت مسيئة للنظام الأردني، وكانت لوحاته محمولة باليد مع مجموعة من لوحات المعرض الأُخرى.[13] وندر استخدام مطار اللد في ذلك الوقت لنقل الأعمال، وذلك خشية المصادرة الإسرائيلية للوحات ذات المحتوى السياسي غالباً. وفي أحيان قليلة، كانت اللوحات تُرسَل من خلال منظمين أو أصدقاء أجانب، لأنهم لا يخضعون للتدقيق نفسه الذي يخضع له الفلسطينيون. وقد أثّرت عملية نقل الأعمال الفنية بهذه الطريقة في طريقة الإنتاج الفني في فلسطين المحتلة، وصار الفنانون ينتجون أعمالاً صغيرة الحجم يسهل نقلها عبر حقائب السفر للمشاركة في معارض خارجية.[14]

إن عدم توفر طريقة سهلة لعودة الأعمال إلى فلسطين، تسبّب بتشرد الأعمال الفنية، وبضرورة البحث الدائم عن مكان للاحتفاظ بها في الخارج، إلى حين توفر فرصة متاحة لعودتها، فضلاً عن أن تحمّس المنظمين لاستلام اللوحات سرعان ما كان يذوي عند انتهاء المعرض ومجيء دور إعادة اللوحات. وقد تطوع كثيرون للاحتفاظ بالأعمال بشكل شخصي، وخصوصاً أن منظمي المعارض في العالم كانوا في الغالب متضامنين وليسوا منظمي معارض محترفين، لكن وجود انتهازيين ومقتنصي فرص وأشخاص يدركون قيمة الأعمال من الناحية الفنية أو المادية، أدى إلى اختفاء كثير منها في هذه الظروف. وتتكرر القصص عن اختفاء الأعمال الفنية، بعد أن تركها الفنانون أو المنظمون في عهدة هذا الشخص أو ذاك أو غيرهما، والذين كانوا في وقت لاحق يتنصلون من الاعتراف بوجودها لديهم، أو تصبح محاولة التواصل مع أولئك الأشخاص أو المنظمين أمراً مستحيلاً.

فبعد انتهاء معرض لندن، وهو أول المعارض الخارجية الذي نظمته رابطة الفنانين الفلسطينيين، بالتعاون مع متضامنين في لندن في سنة 1976، وضم أكثر من 30 عملاً فنياً لأبرز الفنانين آنذاك، وُضعت اللوحات بشكل موقت في متجر متخصص ببيع الألبسة التراثية الفلسطينية هناك، لكن المتجر أُغلق بعد حين، ولم يتمكن أحد من الوصول إلى مالكيه، وبات مصير اللوحات مجهولاً.[15]

أمّا فيما يتعلق بمعرض "رسامو الأرض المحتلة" (أميركا، 1977)، وهو المعرض الخارجي الثاني الذي شارك فيه الفنانون الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، والذي ضم 50 عملاً فنياً بمشاركة 10 فنانين، ونُظم بالتعاون مع الجامعة العربية في ثماني ولايات أميركية، وبمشاركة 15 فناناً،[16] فإن الفنانين يجهلون أين انتهى مصير الأعمال المشاركة، علماً بأن انتقال الأعمال من مكان إلى آخر في أكثر من مناسبة ساهم في اختفائها.

وفي سنة 1988، ضاع معرض مكون من 30 عملاً فنياً نُظّم بالتعاون مع مجموعة من المتضامنين الإيطاليين يطلقون على أنفسهم اسم "كوفية"، ومع رابطة الفنانين التشكيليين. وبعد أن جال بين عدد من المدن الإيطالية، جرى الاحتفاظ باللوحات لدى أحد المتضامنين.[17] وفي سنة 1990، اختفى معرض آخر نظمته رابطة الفنانين التشكيليين بالتنسيق مع ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في إيطاليا آنذاك، وضم 30 عملاً عُرضت تحت عنوان 2×6، في كل من جنيف ومدينة ماغيون الإيطالية. وكان المعرض نتاج ورشتين فنيتين أقيمتا في رام الله وغزة، إلّا إن الأعمال لم تعد. 

الرمزية السياسية

في سبعينيات القرن الماضي، استخدم الفنانون الرمزية السياسية سبيلاً للمقاومة وحشد الجمهور، ولا سيما أن المشاعر الوطنية كانت في أوجها بعد أعوام قليلة تلت هزيمة 1967. فتعرضت اللوحات للمصادرة، ومُنعت الأعمال التي تضمنت أي رسم للعلم الفلسطيني أو استخدام لألوانه، أو أي رموز سياسية تدعو إلى المقاومة بشكل ضمني. وتعرضت المعارض للرقابة الإسرائيلية المشددة، وكانت تخضع لـ "زيارات" من الحاكم العسكري، وأُغلق بعضها. وقد صودرت أعمال للفنان محمد حمودة من معرض في مكتبة بلدية رام الله في سنة 1977،[18] وأعمال أُخرى للفنان نفسه من معرض افتتاحي لجاليري 79 في آب / أغسطس 1980، عُرف منها: "عرس في السجن"، و"سجين يمد يده للشمس بين القضبان"، علاوة على ملصقات عن يوم السجين لنبيل عناني، وعصام بدر، وكامل المغني.[19] وتعرّض جاليري 79 للاقتحام في 21 أيلول / سبتمبر 1980، ثم للإغلاق في أثناء افتتاح معرض شخصي لسليمان منصور، وفي ذلك المعرض صودرت لوحة صغيرة تمثل شخصية فدائي. كما جرت مصادرة خمسة أعمال أُخرى لهذا الفنان في أحيان متنوعة، ومنها لوحتان في معرض نُظّم ضمن مهرجان ليالي بيرزيت في جامعة بيرزيت في أوائل الثمانينيات، واقتحمته قوات الاحتلال الإسرائيلي.[20] وصودرت لوحة "الشهيد" للفنان بشير السنوار، ولوحة "دم وذهب أسود" للفنان إسماعيل شموط، من معرض في بلدية نابلس في سنة 1983.[21]

وتعرّض عدد من الفنانين الفلسطينيين للاعتقال والملاحقة بسبب نشاطهم الفني، فقد اعتُقل فتحي غبن من مخيم جباليا في آذار / مارس 1984، وحُكم عليه بالسجن بسبب لوحاته التي وُصفت بـ "المثيرة للشغب"، وبسبب استخدامه ألوانَ العلم الفلسطيني.[22] وفي آب / أغسطس 1989، اعتُقل عدنان الزبيدي وخالد الحوراني بسبب نشاطهما الفني، واتُّهما بأن أعمالهما تساهم في إشعال الانتفاضة،[23] كما اعتُقل سليمان منصور وعصام بدر، كل على حدة، لفترات وجيزة. وفي سنة 1989، اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي معرض "أسبوع فلسطين في جامعة الخليل"، وصادرت الأعمال الفنية المعروضة، ووصفتها بأنها أعمال تحريضية. ومن الأعمال التي صودرت في ذلك المعرض، أعمال لخالد حوراني، وعيسى اعبيدو، ونبيل عناني، وسليمان منصور، وطالب دويك.[24]

وشهدت غزة ظهور حركة الإخوان المسلمين في نهاية السبعينيات، مترافقة بمجموعة من التظاهرات والمسيرات في الأماكن العامة. ومن المعارض الجماعية التي فُقدت بالكامل لأسباب يمكن تلخيصها بسوء الحظ المرتبط بتلك الأحداث، معرض غزة (1979) الذي نُظم في جمعية الهلال الأحمر على هامش أسبوع الطفل الفلسطيني بمبادرة من حيدر عبد الشافي. فقد تعرّض المعرض (42 لوحة) للحرق بالكامل في إثر تظاهرة للإخوان المسلمين استهدفت جمعية الهلال الأحمر في غزة كونها جمعية يسارية، كما استهدفت أماكن أُخرى مثل فنادق وأماكن سياحية، وطال الحريق مكتبة الجمعية التي وُضعت فيها اللوحات استعداداً لافتتاح المعرض. ومن ضمن الأعمال التي حُرقت لوحة "لينا النابلسي" المعروفة للفنان سليمان منصور، والتي تحولت كسائر اللوحات إلى رماد.[25] 

التعاون ما بين الداخل والخارج

في فترة مبكرة في السبعينيات، نشأ تواصل ما بين رابطة الفنانين في الأراضي المحتلة، وقسم الثقافة الفنية في المنظمة، ومن هنا باتت تنظَّم معارض جماعية في العالم يشارك فيها فنانون من الأراضي المحتلة. وكان يتم اختيار لوحة من كل فنان لعرضها، من دون التركيز على ثيمات محددة للمعارض، مع أن المعارض كلها كانت ذات بعد سياسي.[26] وبعض الأعمال الفنية التي شاركت في هذه المعارض، لم يعد إلى الأرض المحتلة، ومن ضمنها تلك التي شاركت في معرض موسكو (1979) الذي جاء كبادرة تعاون ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وجمعية الصداقة الروسية - الفلسطينية، وضمت لوحات لمصطفى الحلاج، وكامل المغني، وإسماعيل شموط، وتمام الأكحل، وإبراهيم هزيمة، وسليمان منصور، ونبيل عناني، وشفيق رضوان.[27] وتكرر الأمر بعد أعوام عندما نظم قسم الثقافة الفنية في المنظمة، بالتعاون مع رابطة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، معرض التشكيليين الفلسطينيين في تونس (1990)، والذي افتتحه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وقد شارك فيه مجموعة من الفنانين الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون في دولة الإمارات، ومنهم: بشير السنوار، ونصر عبد العزيز، وصبحي مراد، وعبد الكريم السيد، وأحمد حيلوز. وبحسب مقابلة مع بشير السنوار، فإن أعماله الثلاثة "القربان"، و"في الميدان وحدك"، و"في انتظاركم"، لم تتم إعادتها،[28] كما صدف أن اندلعت حرب الخليج بعد تنظيم المعرض.

وفي معرض آخر نُظم في الكويت في سنة 1986، تكرر أمر ضياع الأعمال الفنية على هامش يوم القدس الذي تولى تنظيمه بيت الشرق، بإشراف الراحل فيصل الحسيني، إذ لم تُعد اللوحات، بل إن سليمان منصور تفاجأ في وقت لاحق، بإحدى لوحاته المشاركة في المعرض تباع في أحد المزادات.[29] 

اجتياح بيروت وقصف دار الكرامة

لم يكن الفنانون الفلسطينيون في الشتات أوفر حظاً فيما يتعلق بفقدان الأعمال الفنية، فعلى سبيل المثال، فقد مصطفى الحلاج 2500 لوحة حفر في إثر الاجتياح الإسرائيلي لبيروت،[30] كما فقد توفيق عبد العال عدداً كبيراً من أعماله الفنية في منفاه في بيروت خلال عدة مراحل من حياته وبعد وفاته: الأولى، بعد إحراقه مجموعة منها غضباً بعد هزيمة 1967؛ الثانية، عقب الغارات الإسرائيلية على صالة الكرامة قرب جامعة بيروت العربية، خلال اجتياح 1982؛ الثالثة، في السنة نفسها في إبان مذبحة صبرا وشاتيلا، حين اقتحمت مجموعات تابعة للقوات اللبنانية وأنطوان لحد مستشفى عكا التابع للهلال الأحمر في 17 أيلول / سبتمبر، وارتكبت مجزرة فيه وأحرقته، وكان يقع مرسمه في الطبقة الأرضية من المستشفى. وبعد وفاته في سنة 2006، ضاعت مجموعة رابعة من أعماله، وفُقد أرشيفه كاملاً في غارة إسرائيلية طالت بيته في الضاحية الجنوبية لبيروت.[31] وفقد شفيق رضوان معرضاً من 40 عملاً شارك فيه في دمشق بتنظيم من اتحاد الفنانين الفلسطينيين في سورية في سنة 1974.[32] علاوة على ذلك كله، نهب جيش الاحتلال الإسرائيلي كل ما كان موجوداً في مكاتب منظمة التحرير في بيروت خلال الاجتياح في سنة 1982، بما في ذلك لوحة كبيرة لإسماعيل شموط تصور جمال عبد الناصر، وصناديق احتوت على مواد تراثية كانت من المقرر أن تُعرض في أحد المتاحف في العالم.[33]

وكان لتدمير الإسرائيليين صالة دار الكرامة في بيروت، والتابعة لقسم الثقافة الفنية في دائرة الإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية، أثر في فقدان مجموعة أُخرى من الأعمال الفنية، بما فيها أعمال كانت مشاركة في المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين، وكانت محفوظة في الصالة، علاوة على الأوراق المتعلقة بالمعرض، الأمر الذي أدى إلى ضياع المعرض وصعوبة معرفة لوجستياته وحصر أماكن وجود أجزاء منه كانت تُعرض في أماكن أُخرى من العالم. وكان المعرض نُظّم بمبادرة من ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، عز الدين القلق، بهدف أن يجوب العالم، وأن يكون نواة لمتحف فلسطيني دائم،[34] وقد ضم 194 لوحة تبرع بها 177 فناناً فلسطينياً وعالمياً، وافتُتح في جامعة بيروت العربية في سنة 1978. ويتم الحديث عن وجود مَن اغتنم فرصة الفوضى التي رافقت اجتياح بيروت وقصف صالة الكرامة، وانتقال المنظمة إلى تونس، فاختفت هذه الأعمال في ظل اجتماع تلك الظروف.

وفي تلك الغارة، فُقدت مجموعة من اللوحات لمعرض تضامني آخر يضم أعمال 10 فنانين من ألمانيا الشرقية واليابان، كانوا قد أقاموا في المخيمات الفلسطينية، ورسموا من وحي تجربتهم، كما فُقد معرض آخر شارك فيه عدد من الفنانين بينهم سليمان منصور، ونبيل عناني، وزهدي العدوي، وياسر دويك. وتشير تمام الأكحل إلى أن أكثر من عشرين لوحة أُنقذت من بين الركام، إلّا إن اللوحات اختفت بعد أن وُضعت موقتاً لدى مَن اعتُقد بأنه سيحتفظ بها إلى حين أن تهدأ الحرب.[35] 

3 - ما بعد تأسيس السلطة الفلسطينية

تميزت المرحلة التي تبعت سنة 1995، بولادة السلطة الفلسطينية بمختلف مؤسساتها، وتولّي وزارة الثقافة تنظيم المعارض المحلية والدولية، بحيث خبا في تلك الفترة بريق رابطة الفنانين التشكيليين نتيجة وقف التمويل، وعدم اهتمام الفنانين الشباب باستكمال مسيرة الرابطة. وفي المقابل، ظهرت المؤسسات الفنية والثقافية التي اعتمدت في تمويلها على الدول المانحة، فاكتسبت الأعمال الفنية منذ ذلك الحين قيمة مادية أكبر، ونشطت سوق للفن في ظل سياسة نيوليبرالية اتّبعتها السلطة الفلسطينية، فظهرت مجموعة من المقتنين الفلسطينيين والأجانب، وباتت فرص المشاركة في معارض في العالم تتسع بشكل أكبر أمام الفنانين الفلسطينيين. وفي تلك الفترة، تراجع ضياع الأعمال الفنية التي أصبحت قيمتها المادية معروفة للفنان وللمنظم، وساهم في ذلك تخفيف القيود على الحدود، وظهور شركات الشحن والنقل والتوصيل التي لم تكن موجودة من قبل، وصار ممكناً شحن الأعمال الفنية من وإلى فلسطين بسهولة نسبية.

إلّا إن ظهور شركات الشحن لم يحل دون ضياع الأعمال الفنية، فاستمر مسلسل الفقدان، بسبب عدم الدراية والمعرفة في كيفية شحن الأعمال، وكيفية تسجيل خروجها، وأحياناً عدم توفّر ميزانية لإعادتها إلى فلسطين.

وساهمت سلسلة من المقابلات مع فنانين عاملين في وزارة الثقافة الفلسطينية – آنذاك - في توفير بعض المعلومات عن معارض جماعية نظمتها الوزارة في الفترة التي تلت توقيع اتفاق أوسلو حتى سنة 2006 وكان مصيرها الفقدان، علماً بأن هناك كثيراً من الأعمال التي ضاعت بشكل فردي ولم نأتِ على ذكرها. ومن المعارض الجماعية الضائعة معرض مدينة مارتيني في سويسرا الذي نُظّم في سنة 2005 تحت عنوان "فلسطين مفتاح الثقافة والسلام"، وشاركت فيه 40 لوحة فنية لفنانين من ضمنهم رائد عيسى، ومحمد الحواجري، ومحمد أبو سَل، وخالد الحوراني، وتيسير بركات... وغيرهم، فضلاً عن معرض شخصي للفنان حسني رضوان ضم 11 عملاً فنياً. ولم تُسجل اللوحات عند الإسرائيليين لدى خروجها، وهو ما أدى إلى صعوبة عودتها، فنُقلت اللوحات إلى غاليري فلسطيني في لندن عرض الاحتفاظ بها إلى حين توفر فرصة لإعادتها.[36]

وفي سنة 2009، نظمت وزارة الثقافة معرضاً آخر في بيروت في قاعة اليونسكو، على هامش احتفالات القدس عاصمة الثقافة العربية، وذلك بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية، وبمشاركة 5 فنانين. وضم المعرض 20 لوحة، لكن بعد انتهاء المعرض لم تعد اللوحات، علماً بأن من المشاركين فنانَين كانا يعملان في وزارة الثقافة الفلسطينية آنذاك وهما حسني رضوان ومحمد صالح خليل. وعلى الرغم من محاولتهما استعادة الأعمال، فإنهما لم يفلحا في ذلك لعدم توفر ميزانية إضافية من وزارة المالية الفلسطينية للشحن إلى فلسطين، ولا الترتيب اللازم لإعادتها. وفي السنة نفسها، شارك رضوان في معرض شخصي ضمن مهرجان القرين الثقافي في الكويت، والذي احتفى بالقدس، وضم هذا المعرض الذي كان بتنظيم من وزارة الثقافة الفلسطينية، 20 عملاً فنياً. ويروي رضوان في مقابلة معه، أنه بعد انتهاء المهرجان، شُحنت الأعمال من الكويت إلى عمّان عبر البريد الجوي، لكن بسبب عدم وجود أحد في استقبال الأعمال في المطار، حُجز عليها، ولم يتم إعلام وزارة الثقافة بالأمر، كما أن شركة الشحن رفضت أن تدفع رسوم الأرضية، فبيعت الأعمال جميعاً في مزاد علني في المطار.[37] وفقد نبيل عناني لوحتين في المعرض الذي نظمته وزارة الثقافة الفلسطينية في اليمن على هامش الاحتفال بالقدس عاصمة الثقافة العربية، وعلى الرغم من متابعته الشخصية الحثيثة للموضوع، فإن اللوحتين لم تعودا، وانقطع التواصل بتغير السفير الفلسطيني هناك.

وفي مقابلة مع الفنان محمد صالح خليل، أكد وجود الفوضى وعدم التنظيم الذي كان يعمّ نقل الأعمال الفنية، فعلى سبيل المثال، جرت المشاركة في بينالي الإسكندرية في سنة 2000 بأعمال لفنانين منهم نبيل عناني، وخالد الحوراني، ومحمد صالح خليل، لكن بعد المعرض، لم يتم التمكن من معرفة مصير اللوحات على الرغم من المحاولات الحثيثة. وبعد فترة يقول خليل: "جرى الاتصال بنا من مطار تل أبيب، لأن اللوحات كانت موجودة هناك، وطلبوا أن يذهب شخص لاستلامها. وطبعاً، دُفع مبلغ كبير شمل رسوم أرضية المطار لفترة طويلة من الزمن."[38]

حرصت وزارة الثقافة على اقتناء أعمال فنية في بداية عملها في التسعينيات، فكانت تشتري لوحات من المعارض المحلية التي تنظمها، كما ورثت مجموعة من الأعمال لفنانين احتفظ بها قسم الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، ونُقل جزء منها من بيروت إلى تونس مع انتقال منظمة التحرير هناك. وكان من المفترض أن تعاد إلى أصحابها بعد انتهاء عمل المنظمة في تونس ونشوء السلطة الفلسطينية، غير أن الأعمال شُحنت إلى وزارة الثقافة، وأُضيفت إلى مجموعة الوزارة التي بلغت 50 عملاً فنياً، وبعضها كان معلقاً على الجدران في مكاتب الوزارة، ولم يكن مرقماً أو مصنفاً.[39] وفي سنة 2002، وبعد اقتحام الجيش الإسرائيلي لوزارة الثقافة بقليل، اختفت الأعمال من المخزن، علماً بأن الجيش الإسرائيلي لم يقم بنهبها في تلك الواقعة، إلّا إنه عاث فساداً في المبنى، ووُجد بعض اللوحات ملقى في الشارع، بينما عُلّق بعضها الآخر في مبنى رئاسة الحكومة في رام الله. وتضم المجموعة أعمالاً لكامل المغني، وطالب الدويك، وعوض أبو عرمانة، وسليمان منصور، ونبيل عناني، علاوة على جزء من الأرشيف الفلسطيني الذي أُرسل من تونس، وكان يحوي ملصقات فنية أصلية.[40]

وكان مركز الواسطي للفنون من المؤسسات التي نشطت في تنظيم المعارض الفنية في القدس التي يحظر على وزارة الثقافة العمل فيها، وقد أسس المركز أربعة من رواد الفن التشكيلي الفلسطيني هم سليمان منصور، ونبيل عناني، وفيرا تماري، وتيسير بركات، وتولى إدارة المركز سليمان منصور. وكان المركز في بداياته عنواناً للتواصل مع الفنانين التشكيليين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، إلّا إن بعض المعارض التي شارك مركز الواسطي في تنظيمها تعرّض للضياع، وكان أولها في سنة 1996 تحت عنوان "صورة ذاتية"، بالتعاون مع فرقة صابرين، والمركز الثقافي الفرنسي، واشتمل على مجموعة من الأعمال التي نُقلت لتُعرَض في باريس بعد انتهاء عرضها في القدس، غير أن المعرض لم ينظَّم في باريس، ولم تعد الأعمال المشاركة.

وتعرّض للضياع أيضاً قسم من معرض آخر شارك المركز في تنظيمه في سنة 1997 بمبادرة من بيت الشرق بإشراف فيصل الحسيني، وذلك ضمن أسبوع إنقاذ القدس في قطر. فقد تم إرسال 57 عملاً فنياً لـ 18 فناناً،[41] ضاع منها 13 عملاً فنياً، على الرغم من المراسلات المستمرة مع اللجنة القطرية الفلسطينية المنظمة للأسبوع في قطر، والموثقة في أرشيف مركز الواسطي. وكان المعرض يشمل، كذلك، مواد تراثية وصناعات حرفية، ومعرض صور لإسحق القواسمي، ومعرض أطفال لم يعد أي منها؛ أمّا معرض الكاريكاتير الذي شارك فيه أكثر من 50 عملاً لبهاء البخاري، وخليل أبو عرفة، فاختفى قبل عرضه.[42] وتوضح المراسلات أن الفنان المسؤول عن استلام الأعمال في قطر، لم يحصر الأعمال التي أُرسلت إلى التأطير من دون معرفة عددها، ومن دون أوراق.[43]

في سنة 2003، بمبادرة من بعض الفنانين، وبالاتفاق مع متحف الستيشن في هيوستن، جرى تنظيم معرض "صُنع في فلسطين" في الولايات المتحدة الأميركية، بمشاركة 23 فناناً. وقد انتقل المعرض من هيوستن إلى سان فرانسيسكو، ثم عُرض في نيويورك في سنة 2006، وكان من المقرر أن يجول في عدد من الولايات الأُخرى، إلّا إن ذلك لم يحدث، ولا يُعرف مصير الأعمال الفنية. 

كيف يمكن قراءة التاريخ المفقود

قد يكون من الصعب رواية تاريخ الفن بلا فن، في ظل تجزؤ الأرشيفات الفلسطينية وتبعثرها وفقدان كثير من الوثائق والصور المتعلقة والشهادات، لكن ربما يكون ممكناً إنتاج سردية متخيلة لتفصيلات هذا الغياب تساهم في سدّ الفجوة في تاريخ الفن الفلسطيني الضائع، وسنستخدم هنا على سبيل المثال، نصب الجندي المجهول من أجل إجراء مقاربة من حيث الفكرة، مع الأخذ في الحسبان فرق التشبيه. فالنصب الذي يراه الجميع من الخارج قلما يعرف أحد ما إذا كان يحتوي حقيقة على رفات جنود، وكم من جندي مدفون فيه فعلاً، إلّا إن الهدف من إقامة النصب، حتى لو كان فارغاً، هو تخليد ذكرى أولئك الذين قضوا في معركة معينة، ورواية قصتهم كي تصبح جزءاً من التاريخ الجمعي. وإذا نظرنا إلى ظاهرة فقدان الأعمال والمعارض الفنية، فهناك كثير من التفصيلات غير المتوفرة بعد مرور عشرات الأعوام. ومن أجل توثيقها في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وكي تأخذ المساحة المستحقة في تاريخ الفن البصري الفلسطيني، فإن الروايات بشأن هذا الفقدان، وتتبّعها، ومحاولة تخيل الأعمال والمعارض الضائعة، تصبح سجلاً أرشيفياً بديلاً، ومساهمة مهمة في سدّ ثغرات في تاريخ الفن التشكيلي الفلسطيني في فترات زمنية متنوعة.

إن إعادة تخيل وإنتاج سردية الفقدان لن تعيد الأعمال الفنية، مع أنها قد تساهم في إعادة ظهورها، مثلما حدث مع جزء من الأعمال المشاركة في "المتحف العالمي من أجل فلسطين"، والتي وُجدت في متحف في إيران بعد عدة أعوام من ضياعها.[44] كذلك الأمر بالنسبة إلى الأعمال الفنية المشاركة في معرض إيطاليا (1988)، والتي ظهرت بعد نشر التقرير الذي كتبتُه عن الأعمال الفنية المفقودة ونُشر في الموقع الإلكتروني للمتحف الفلسطيني، والذي جاء فيه أن ثمة 17 معرضاً ضائعاً منذ بداية السبعينيات.[45] وكذلك الأمر بالنسبة إلى لوحة جمل المحامل (النسخة الأولى في سنة 1973) التي كانت مجهولة المكان، ثم ظهرت فجأة لدى مقتنٍ بريطاني بعد إعلان بيع نسخة أحدث منها في مزاد في سنة 2015، خلافاً للاعتقاد السائد أنها دُمرت في قصف في ليبيا استُهدف فيه بيت معمر القذافي في سنة 1986.[46]

وعند الحديث مع الفنانين الذين ضاعت أعمالهم أو شهدوا ضياع معارض فردية أو جماعية، يظهر كثير من القصص والأسماء والروايات لأحداث ربما تدل على ماهية الأعمال الفنية الضائعة، أو إلى أين آلت، لكنها كذلك تفتح أبواباً جديدة على التاريخ، وتعطي فرصة لاستعادة السياق الذي يحيط بهذه القصص. والمثير للاهتمام، هنا، هو محاولة تتبّع الروايات وتخيل مختلف الظروف التي عمل من خلالها الفنانون في ذلك الوقت، وكيف نُقلت هذه الأعمال وعُرضت واختفت، أو عادت إلى الظهور، وهذه القصص تساهم، بشكل أو بآخر، في توسيع دائرة فهمنا وتخيلنا للأحداث.

إن بناء صورة متخيلة للأعمال والمعارض المفقودة والأحداث المتعلقة بالذاكرة، سواء من خلال الكتابة البحثية، أو الروائية، أو صناعة الأفلام، أو إعادة إنتاج الأعمال عبر مشاريع فنية متنوعة، أمر لم يتم التطرق إليه كثيراً حتى الآن، وإن كان هناك مادة غنية وبعض البدايات. ونذكر هنا البحث الذي أجرته كل من رشا السلطي وكريستين خوري عن المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين (1978)، والذي توّجتاه بمعرض أرشيفي بحثي عُرض في بيروت وبرلين وبرشلونة وسانتياغو تحت عنوان "ذكرٌ قَلِق"، وأعاد تصور المعرض الضائع وبعض الأعمال التي عُرضت فيه، وخصوصاً أعمال الفنان الفرنسي كلود لازار الذي وُجد أرشيف كامل له متعلق بالمعرض خلال عملية البحث.

وقد حظيت لوحة "جمل المحامل" للفنان سليمان منصور، على أكثر التمثيلات والسرد التخيلي في أعمال عدد من الفنانين أمثال خليل رباح، وخالد الحوراني، وغيرهما، وكذلك الأمر بالنسبة إلى لوحة "لينا النابلسي" التي أعاد منصور توظيفها في لوحة جديدة، مثلما وظفها خالد الحوراني في إحدى لوحاته. إلّا إن هذه الأعمال كان من الصعب أن تُمحى من الذاكرة البصرية الجمعية الفلسطينية بسبب طباعتها على بوسترات في فترة السبعينيات وانتشارها الكبير فلسطينياً. لكن ماذا عن الأعمال الفنية الأُخرى والمعارض الكثيرة التي فُقدت، بما فيها ما فُقد في سنة 1948، وما صودر من أعمال؟ إن إنتاج سردية متخيلة من شأنه أن يؤدي دوراً كسجل في الذاكرة يوثق الحدث، وينقل الأعمال والمعارض من مجرد كونها "جندياً مجهولاً" غير معروف لكثيرين، إلى "نصب جندي مجهول" يمثل الذاكرة البصرية الجمعية، ويعيد الفن الضائع إلى تاريخ الفن، في ظل سطوة الغياب. 

الخاتمة

يتضح من تتبّع فقدان الأعمال والمعارض الفنية أن عدة عوامل أثّرت في ذلك، وأولها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في مختلف مراحله، وفرضه القيودَ على نقل الأعمال الفنية عبر الحدود، فضلاً عن المصادرات والتخريب المباشر للأعمال الفنية. وإذا كان سهلاً لوم الاحتلال، فإن مسؤولية كبيرة عن فقدان الأعمال الفنية تقع كذلك على عاتقنا كفلسطينيين. فقد التقت الظروف السياسية التي يصعب التحكم فيها، مع سوء التنظيم والإدارة، لتخلق ظروفاً ملائمة أمام مقتنصي الفرص للاستفادة من ذلك، وللإمعان في تغييب الفن الفلسطيني وتسليعه. والسبب في ضياع الأعمال والمعارض الفنية، سواء المعارض الجماعية، أو الأعمال الفردية التي يصعب إحصاؤها، يكمن في عدم فهم وإدراك أهمية الأعمال الفنية، وهو ما انعكس على طريقة التعامل معها، فنابها كثير من الإهمال.

لقد وصلت ذروة فقدان الفن التشكيلي الفلسطيني مع النشاط الكبير الذي شهدته الحركة الفنية التشكيلية في فلسطين والشتات بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، ونشاط رابطة الفنانين التشكيليين، وتعاونها الوثيق مع قسم الثقافة الفنية في منظمة التحرير الفلسطينية، والذي استمر حتى توقيع اتفاق أوسلو، ونشوء السلطة الفلسطينية (1995). وللأسف، لم يتوقف الفقدان عند هذا الحد، بل استمر وإن كان بعض ملامحه قد تبدل في المرحلة الجديدة مع تولّي وزارة الثقافة مهمة تنظيم المعارض، علاوة على بعض المؤسسات الفنية. واستمر فقدان الأعمال الفنية والمعارض حتى وقت قريب، وإن كانت وتيرته تباطأت مع ارتفاع أسعار الأعمال الفنية في سوق الفن، وتخفيف القيود عن الشحن، وإدراك الفنان أسعار أعماله في سوق الفن. وقد تم إحصاء 17 معرضاً جماعياً ضائعاً منذ نشوء الحركة الفنية التشكيلية في الأراضي المحتلة في بداية السبعينيات، وعندما قابلنا سليمان منصور، لسؤاله عن الأعمال والمعارض الضائعة، قال: "لم نكن نهتم كثيراً في سن الشباب عندما كانت تضيع لوحاتنا. فقد كنا نؤمن أنه (اللي بيرسمها بيرسم أبوها) (أي أفضل منها)." أمّا اليوم، وبعد مرور تلك الأعوام كلها، فإن الفنان الفلسطيني لم يعد يقبل أن تضيع أعماله، وأن تقع بين يدَي مَن يُسلّعها، ويحاول الاستفادة منها مادياً. ومع أنه ربما لا توجد معلومات كثيرة عن الفقدان الذي تعرّض له الفن التشكيلي الفلسطيني في العقود الماضية، إلّا إن هناك ضرورة لتتبّع روايات الفنانين ومنظمي تلك المعارض، من أجل تخيّل الظروف التي عمل فيها الفنانون، آنذاك، وتكوين صورة أدق لما فُقد.


 الملحق رقم 1

قصاصة صحافية مجهولة المصدر، من أرشيف مركز الواسطي للفنون

 

 

الملحق رقم 2

رسالة من مدير مركز الواسطي للفنون إلى اللجنة المنظمة لمهرجان أسبوع إنقاذ القدس، من أرشيف مركز الواسطي للفنون

 

 

الملحق رقم 3

نسخة من رسالة داخلية في وزارة الثقافة الفلسطينية بشأن الأعمال الفنية المفقودة في أسبوع القدس في الدوحة، من أرشيف مركز الواسطي للفنون

 

الملحق رقم 4

رسالة من مدير مركز الواسطي للفنون إلى فيصل الحسيني عن الأعمال الفنية المفقودة في مهرجان قطر، من أرشيف مركز الواسطي للفنون

 

المراجع

بالعربية

أرشيف الواسطي للفنون (انظر الملاحق).

الأكحل، تمام. "اليد ترى والقلب يرسم: سيرة تمام الأكحل وإسماعيل شموط". تحرير غانم بيبي. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2016.

بُلّاطة، كمال. "استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر". تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم / ألكسو، 2000.

الحلاج، مصطفى. "حوش الفن الفلسطيني". القدس: ستوديو ألفا، 2013.

"حضور تشكيلي فلسطيني في بيروت". صحيفة "الخليج"، 11 تشرين الثاني / نوفمبر 2009.

سعيد، إدوارد. "إذن بالرواية". ترجمة عبد الرحيم الشيخ. "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 127 (صيف 2021)، ص 181 - 208.

شموط، إسماعيل. "الفن التشكيلي في فلسطين". الكويت: دار القبس، 1989.

"ظهور النسخة الضائعة من لوحة 'جمل المحامل' ". "الشرق الأوسط"، 12 آذار / مارس 2015، في الرابط الإلكتروني. 

عز الدين، روان. "رشا السلطي وكريستين خوري: بحثاً عن 'فلسطين 1978' ". جريدة "الأخبار"، 28 آب / أغسطس 2018، في الرابط الإلكتروني.

عناني، رنا. "17 معرضاً فنياً ضائعاً". "النشرة الإخبارية للمتحف الفلسطيني"، 15 آب / أغسطس 2014، في الرابط الإلكتروني

عناني، نبيل. "الخروج إلى النور". مراجعة وتحرير رنا عناني. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2019.

عناني، نبيل وعصام بدر. "الفن التشكيلي الفلسطيني في الأرض المحتلة". رام الله: جاليري 79، 1984.

كتيّب معرض "مقدمة في المتاحف الفلسطينية". رام الله: المتحف الفلسطيني، 2014.

 

بالأجنبية

Laura S. Schor, Sophie Halaby in Jerusalem: An Artist’s Life. Syracuse: Syracuse University Press, 2019.

 

المقابلات

مقابلة مع بشير السنوار (11 أيار / مايو 2014)، أجرتها حنين ماخو.

مقابلة مع تمام الأكحل (أيار / مايو 2014)، أجرتها حنين ماخو.

مقابلة مع حسني رضوان (أيار / مايو 2014)، أجرتها رنا عناني.

مقابلة مع سليمان منصور (تموز / يوليو 2021)، أجرتها رنا عناني

مقابلة مع شفيق رضوان (أيار / مايو 2014)، أجرتها حنين ماخو.

مقابلة مع طارق عبد العال (27 كانون الأول / ديسمبر 2020)، أجرتها رنا عناني.

مقابلة مع محمد صالح خليل (أيار / مايو 2014)، أجرتها رنا عناني.

مقابلة مع نبيل عناني (26 تموز / يوليو 2020)، رام الله، أجرتها رنا عناني.

مقابلة مع نبيل عناني وسليمان منصور (نيسان / أبريل 2014)، أجرتها رنا عناني وجاك برسكيان.

 

المصادر:

[1] نبيل عناني، "الخروج إلى النور"، مراجعة وتحرير رنا عناني (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2019)، ص 90.

[2] إدوارد سعيد، "إذن بالرواية"، ترجمة عبد الرحيم الشيخ، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 127 (صيف 2021)، ص 181-208.

[3] إسماعيل شموط، "الفن التشكيلي في فلسطين" (الكويت: دار القبس، 1989)، ص 39.

[4] المصدر نفسه، ص 40.

[5] انظر: كمال بُلّاطة، "استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر" (تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم / ألكسو، 2000).

[6] المصدر نفسه، ص 84.

[7] المصدر نفسه، الفصل الأول.

[8] Laura S. Schor, Sophie Halaby in Jerusalem: An Artist’s Life (Syracuse: Syracuse University Press, 2019), p 154.

[9] شموط، مصدر سبق ذكره.

[10] مقابلة مع بشير السنوار (11 أيار / مايو 2014) أجرتها حنين ماخو.

[11] تمام الأكحل، "اليد ترى والقلب يرسم: سيرة تمام الأكحل وإسماعيل شموط"، تحرير غانم بيبي (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2016)، ص 172.

[12] شموط، مصدر سبق ذكره، ص 78.

[13] عناني، مصدر سبق ذكره، ص 74-75.

[14] مقابلة مع نبيل عناني (26 تموز / يوليو 2020)، في رام الله، أجرتها رنا عناني.

[15] مقابلة مع نبيل عناني وسليمان منصور (نيسان / أبريل 2014)، أجرتها رنا عناني وجاك برسكيان.

[16] المصدر نفسه. انظر أيضاً: "معرض رسّامي الأرض المحتلة يتجول في أمريكا الشمالية: الفنان الفلسطيني (يروي) بريشته معاناة شعبنا وتصميمه على النصر"، قصاصة صحافية مجهولة المصدر، حزيران / يونيو 1977، من أرشيف مركز الواسطي للفنون (الملحق رقم 1).

[17] يُذكر أن جهوداً بُذلت لإعادة اللوحات في الأعوام الأخيرة.

[18] نبيل عناني وعصام بدر، "الفن التشكيلي الفلسطيني في الأرض المحتلة" (رام الله: جاليري 79، 1984)، ص 52.

[19] المصدر نفسه، ص 48.

[20] مقابلة مع سليمان منصور (تموز / يوليو 2021)، أجرتها رنا عناني.

[21] عناني وبدر، مصدر سبق ذكره، ص 23.

[22] المصدر نفسه، ص 82.

[23] المصدر نفسه، ص 83.

[24] مقابلة مع نبيل عناني وسليمان منصور (نيسان / أبريل 2014)، مصدر سبق ذكره.

[25] المصدر نفسه.

[26] ناصر السومي خلال "ندوة حول أعمال الفنان توفيق عبد العال"، في 18 كانون الأول / ديسمبر 2020. وجرت الندوة بالتعاون مع متحف جامعة بيرزيت، وأدارتها رنا عناني.

[27] مقابلة مع نبيل عناني وسليمان منصور (نيسان / أبريل 2014)، مصدر سبق ذكره.

[28] مقابلة مع بشير السنوار (11 أيار / مايو 2014)، مصدر سبق ذكره.

[29] مقابلة مع نبيل عناني وسليمان منصور (نيسان / أبريل 2014)، مصدر سبق ذكره.

[30] مصطفى الحلاج، "حوش الفن الفلسطيني" (القدس: ستوديو ألفا، 2013) ص 46.

[31] مقابلة مع طارق عبد العال (27 كانون الأول / ديسمبر 2020)، أجرتها رنا عناني.

[32] مقابلة مع شفيق رضوان (أيار / مايو 2014)، أجرتها حنين ماخو.

[33] الأكحل، مصدر سبق ذكره، ص 211.

[34] روان عز الدين، "رشا السلطي وكريستين خوري: بحثاً عن 'فلسطين 1978' "، جريدة "الأخبار"، 28 آب / أغسطس 2018، في الرابط الإلكتروني.

[35] مقابلة مع تمام الأكحل (أيار / مايو 2014)، أجرتها حنين ماخو.

[36] مقابلة مع حسني رضوان (أيار / مايو 2014)، أجرتها رنا عناني.

[37] المصدر نفسه.

[38] مقابلة مع محمد صالح خليل (أيار / مايو 2014)، أجرتها رنا عناني.

[39] المصدر نفسه.

[40] مقابلة مع حسني رضوان (أيار / مايو 2014)، مصدر سبق ذكره.

[41] رسالة من مدير مركز الواسطي للفنون إلى اللجنة المنظمة لمهرجان أسبوع إنقاذ القدس، من أرشيف مركز الواسطي للفنون (انظر الملحق رقم 2).

[42] نسخة من رسالة داخلية في وزارة الثقافة الفلسطينية بشأن الأعمال الفنية المفقودة في أسبوع القدس في الدوحة، من أرشيف مركز الواسطي للفنون (انظر الملحق رقم 3).

[43] رسالة من مدير مركز الواسطي للفنون إلى فيصل الحسيني عن الأعمال الفنية المفقودة في مهرجان قطر، من أرشيف مركز الواسطي للفنون (انظر الملحق رقم 4).

[44] انظر كتيب معرض "مقدمة في المتاحف الفلسطينية" (رام الله: المتحف الفلسطيني، 2014).

[45] رنا عناني، "17 معرضاً فنياً ضائعاً"، "النشرة الإخبارية للمتحف الفلسطيني"، 15 آب / أغسطس 2014، في الرابط الإلكتروني.

[46] رسم الفنان ثلاث نسخ من اللوحة، وأُهديت النسخة الثانية في سنة 1975 إلى السفير الليبي الذي أهداها بدوره إلى الرئيس الليبي معمر القذافي، ويُعتقد أنها دُمرت في القصف الذي طال منزل الرئيس الليبي في سنة 1986. لمزيد من المعلومات انظر: "ظهور النسخة الضائعة من لوحة (جمل المحامل)"، "الشرق الأوسط"، 12 آذار / مارس 2015، في الرابط الإلكتروني.

السيرة الشخصية: 

رنا عناني: كاتبة وباحثة في الفنون البصرية والثقافية.