من ذكريات قمع السجان ووفاء القطط
التاريخ: 
13/05/2020
المؤلف: 
ملف خاص: 

 كان ذلك في قسم الكرافانات رقم 16 في سجن النقب، في الأول من شباط/ فبراير 2017، وكما أذكر، كان النهار ربيعياً في أجوائه، وكنت مناوباً في غرفة إعداد الطعام، التي نسميها في تلك الأقسام التي نعيش فيها "المطبخ". إنها أقلّ من مطبخ بكثير، بل هي عبارة عن كراڤان صغير وضيق توضع فيه معدات الطبخ البدائية على شاكلة بلاطات كهربائية يتم تسخين الطعام عليها، ورفوف مستطيلة لتحضير الطعام، وثلاجة، ومغسلة وفرن حافظ للحرارة. يبلغ طول المطبخ الجماعي والمخصص لمئة وعشرين أسيراً خمسة أمتار وعرضه متران.

كان يعمل في هذا المطبخ وتطوّعاً أسرى ممن يجيدون الطهي، وكانوا ينتظمون في مجموعتين من الطهاة؛ المجموعة الأولى مكونة من ثلاثة أسرى يعدون وجبة الإفطار، والثانية أيضاً مكونة من ثلاثة أسرى يعدون وجبة العشاء لينعم بها الأسرى سكان القسم بعد توزيعها في وجبات متساوية على الزنازين، وفي كل زنزنة ثمانية أسرى. وينتمي معظم أسرى القسم إلى تنظيمي حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

كنا في ذلك اليوم نعد وجبة العشاء، وكانت وجبة مميزة، فقد كنا في الأسر نشتري جماعياً جزءاً كبيراً من المواد الغذائية على حسابنا الخاص، إذ إن مصلحة إدارة السجون كانت توفر للأسرى خُمس كمية الطعام الذي يستهلكونه. فعلى سبيل المثال، كان يُسمح لكل أسير بشراء ثلاثة كيلوغرامات من اللحوم ومثلها من الخضراوات، وذلك مرة واحدة شهرياً وبشكل جماعي ضمن ما يطلق عليه "مشتريات خارجية". وهذا يُعتبر إنجازاً كبيراً مهّدت له نضالات مطلبية مريرة أرغمت في إثرها مصلحة إدارة السجون على القبول بها.

وماذا تضمّنت الوجبة المميّزة؟ كنا في ذلك المساء قد أعددنا صوانٍ من اللحم المحشي، وهي عبارة عن قطعة لحم كتف بقر يقع ضمن سلّة المشتريات الخارجية، إذ كنا نشتريه من إدارة مصلحة السجون لحماً مفرّزاً يستهلك منا وقتاً وجهداً في التنظيف والطبخ، وهو سيىء الجودة إلى درجة أن بعض الأسرى كان يشك في أنه لحم بقر فعلاً. وفي المطبخ  كنا نحشوها بخلطة من الثوم، والطماطم، والبقدونس والفلفل الحار، ونقوم بشيّها. وكيف كانت تجري عملية الشواء؟ كنا نضع قطعة اللحم في صينية على أحد الرفوف، ونحضر عصا مكنسة ونعلقها من طرفيها على برميلين من براميل زيت الزيتون الفارغة، ونقوم بتعليق البلاطة الكهربائية عكسياً بربطها من قاعدتها بخيط وشنكل من صنع الأسرى ونحملها على العصاة، ومن حول قطعة اللحم نوزّع قطع البطاطا والجزر وشرائح البصل المقلي.

وفجأة ودونما سابق إشارة أو إنذار، قامت إدارة السجن بإغلاق الأقسام وإدخال الأسرى من الساحة (الفورة) إلى زنازينهم قبل انتهاء الموعد المخصص لجولة الفورة، وهو ما أثار حفيظة الأسرى، وكذلك الفضول لمعرفة سبب ذلك.

لم تمرّ دقائق معدودة حتى وصلت الأخبار عن حادثة طعن في سجن نفحة، وأن إدارة السجن باشرت بقمع الأسرى هناك. فسجن النقب يبعد مسافة نصف ساعة بالحافلة عن سجن نفحة الصحراوي.

وبعد قليل، تم فتح المطبخ من أجل توزيع وجبة العشاء على الأسرى في غرفهم، وتم إغلاق القسم بشكل تام. وفي هذه الأثناء تناولنا عشاءنا ونحن في حالة ترقب، وكنت في حجرتي مع خمسة أسرى آخرين. وكنت أنا وبلال عودة نعشق القطط، فتناولنا العشاء وأطعمنا قططنا الثلاثة، وهي القطة الأم الحامل وابنتها سمرة، قطة بلال، وقطي، شمشوم الأشقر.

دخلت قوة من السجانين لإجراء العد المسائي للأسرى، وعند دخولهم غرفة رقم خمسة، قام أحد أسرى حركة "حماس" بطعن الضابط مسؤول القوة، وإذ بهم يهربون إلى خارج القسم يلحق بهم الأسير الذي قام بعملية الطعن.

حدثت عملية الطعن هذه بقرار فردي، كردة فعل على ما جرى قبل ساعة في سجن نفحة وقمع الأسرى. وهنا أيضاً بدأنا نترقب بحذر شديد ردة فعل إدارة السجن، وقد توقعنا الأسوأ، لأن العنف ضد السجانين يقابله عنف أشدّ من إدارة السجن وأذرعها القمعية.

مرت خمس دقائق والقطة الأم مستلقية على فراشي تتألم من الحمل، وأنا أمسّد بطنها بيدي، وكلما سحبت يدي كي أقوم لأرى ما يحدث في الخارج عبر النافذة، تمسك القطة الأم يدي بمخالبها وتشدها إلى بطنها، وأنا بين نارين، القطة التي تطلب مني البقاء إلى جانبها، وجهنم التي ستفتح فوهاتها علينا.

في تلك اللحظات كان قطي "شمشوم" وقطة بلال "سمرة" ورفاق الأسر الخمسة يعلقون رؤوسهم على نوافذ الغرفة ويترقبون ويراقبون من زاوية النظر الصعبة كل حركة أو صوت. أمّا أنا فما أن قمت ووضعت القطة الأم في سلة بلاستيكية مفروشة بمنشفتي الشخصية، ووضعت السلة تحت التخت الحديدي "البرش"، حتى بدأت قوات القمع المكوّنة من عدة وحدات باقتحام القسم بأعداد هائلة وباشرت رش الغاز الخانق الذي ما زلت أشعر به في أنفي وصدري حتى اليوم.

بدأت القوات المداهمة تفتح غرفة تلو الأُخرى وتقتحمها وتضرب بشراسة كل من فيها صغاراً وكباراً. وفي انتظار دورهم في الغرف التي لم يجر اقتحامها بعد،  شاهد الأسرى ما يحدث من نوافذ الغرف في الجهة المواجهة، ومن دون مبالغة، جثثاً حيّة ترمى في الهواء لتقع على رؤوسها بعنف شديد. في حين أن الضرب الذي كانت تتلقاه أجساد ووجوه الأسرى كان أقله مبرحاً.

كان هجوم قوات القمع المدججة بالعتاد شرساً لا رحمة فيه، ونحن الذين تبقّى أمامنا غرفتان، نشاهد وننتظر ما سيحل بنا، وإذ بالقطط تهرب من بين قضبان النوافذ لأنها لم تحتمل استنشاق الغاز الخانق، وعلى ما يبدو كانت تدرك أن الأعظم آت، وأن مشهد الذعر بعيد من الانتهاء. واصلت قوات القمع استباحة أجسادنا بوحشية من الغرفة رقم واحد وانتهاء بالغرفة رقم ستة عشر. وبعد الضرب، جرى ربط أيادي الأسرى خلف ظهورهم بالقيود البلاستيكية، ورمي كل أسير أرضاً على صدره في ساحة القسم، واصطفوا على صدورنا وبطوننا العارية في أكثر ليالي ذلك العام برودةً. شعرنا بأرضية الساحة وكأنها من شدة البرد أصبحت جليداً.

بقينا على هذه الحالة من الثامنة مساء وحتى الثالثة فجراً، ونحن نئنّ من الألم والبرد القارس، ونواجه الضرب والإهانات اللفظية والسحل، إنه ألمٌ لا يُحتمل. وكانت القوات في أثناء رمينا في الساحة موزّعة إلى مجموعتين: الأولى كانت تعيث في الغرف فساداً وتخريباً، وكان أفرادها يكسرون المقتنيات والجدران وأبواب الحمامات ويلقونها خارجاً؛ أمّا المجموعة الثانية فكانت تراقب وتضرب الأسرى الملقين على الارض، إذ كان ممنوعاً أن يتحرك أحد من مكانه، حتى أن هنالك من منع من الذهاب إلى المرحاض وكان يعاني مرض السكري ، واضطر إلى التبول في ملابسه. وبعد نحو أربع ساعات من انبطاحنا الجبري على بطوننا، ونحن نعاني شدة الألم مع اليدين المكبلة من وراء ظهورنا، مخدرة لا يجري الدم فيها والبرد الذي تمتصه الضلوع من الأرضية الباردة مؤلم بشكل لم نألفه، بدأت بوادر تشير إلى احتمال انتهاء القمع.

وبينما نحن في هذه الحال، واذ بأحد الأسرى يناديني بصوت منخفض كي لا يسمعه السجانون،  لينبهني بأنه رأى قطي شمشوم الأشقر يقف بعيداً عني بأمتار وينظر بذهول إلى هذا المشهد الغريب الذي لم يعتد عليه منذ ولد قبل ثمانية أشهر. فمنذ ولادته، كان شمشوم يرى البشر إمّا واقفين، وإمّا ماشين في ساحة القسم، ولم يرَ أبداً هذا الكم منا مبطوحاً ومربوطاً. ورويداً رويداً تقدم مني واقترب من وجهي ومسح وجهه بوجهي ومشى من حولي ومسح وجهه بيدي المكبلتين الباردتين وحاول بأسنانه أن يقطع المربط البلاستيكي، لكنه أخفق في مهمته. وعاد يواسيني عند وجهي، إلى ان رآه أحد السجانين فسارع يهاجمه ليهرب القط المتعاطف، القط الإنساني الذي أحببت من أعماق قلبي من لحظة ولادته، وحتى الآن أشعر بذلك الحب وأنا لا أدري عن أحواله شيئاً.

في الصباح أعادونا إلى غرفنا، هذه الغرف التي لم يبقَ فيها إلاّ هياكل الأبراش الحديدية. ولاحظنا أن القطط لم تعد في الصباح، وعند الظهيرة أتت سمرة قطة بلال، وهي أخت شمشوم، وقفزت إلى النافذة، ألقت نظرة وهربت. وعلى الرغم من كل ما حلّ بنا، فقد حللنا سلوكها على أنه من أثر الصدمة. لكن الحقيقة كانت أنها لم تحتمل رائحة ما تبقى من الغاز الخانق الذي رشه السجانون في اليوم السابق، وكان دليلنا أن القطط قد عادت بعد يومين جائعة ومشتاقة كما دلّ سلوكها.

قبل هذا الحادث كنا بلال وأنا نتقاسم طعامنا من اللحوم والبيض مناصفة مع القطط، نطعم القطط، وكنا نشتري ما يناسب من الكانتينا يومياً لإطعامهم. في هذا الوضع من القمع وتبعاته، كان الطعام شحيحاً والكانتينا مغلقة، وأصبحنا غالباً ما نستغني عن أكل البيض المسلوق اليومي وثُمن الدجاجة (نصف فخذ) كي نطعمها للقطط.

لكل معركة بطل، سواء أكان مهزوماً أم منتصراً، وفي هذه المعركة كان البطل بالنسبة إليّ هو شمشوم القط الذي لم يهب ذلك المشهد القاسي والمخيف، بل جاء منتصراً لأصدقائه البشر وفياً للعشرة متضامناً مع الآلام التي رآها والأجساد المنكسرة المهانة أمام ناظريه، لم يقف متفرجاً من بعيد وكان مقداماً، خاطر بحياته ليفك قيد صديقه الأسير المكبل حين كان لا حول له ولا قوة.

عن المؤلف: 

راندي عودة: أسير سابق.