التعليم في جامعة بيرزيت ما بين إغلاقات الاحتلال والكورونا: خواطر وانطباعات شخصية
التاريخ: 
30/03/2020
المؤلف: 

وصلت جامعة بيرزت في صيف سنة 1991، وقد صادف أن كانت الجامعة على عادتها مغلقة بقرار من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وعلى الرغم من الأوضاع الصعبة التي كانت تمر بها الجامعة بصورة خاصة، وفلسطين المحتلة في نهايات الانتفاضة الأولى بصورة عامة، فإنه جرى تعييني مدرّساً في دائرة التاريخ والعلوم والجغرافية السياسية.[1]  وكنت حينها حديث التخرج من إحدى أقدم جامعات أوروبا،[2]  حيث تتوفر كل الشروط وبذخ التعلم والتعليم، فكيف لي أن أعلّم في جامعة مغلقة؟ أين المكتبة؟ وأشياء أُخرى لا تستغني عنها الجامعة. تم تزويدي ببرنامج تدريس: صف في مبنى مجلس أمناء جامعة بيرزيت في رام الله، وصف آخر في مدرسة الفرندز، وصف ثالث في مبنى جمعية إنعاش الأسرة في البيرة. انتشرت الصفوف على مؤسسات رام الله والبيرة، ولا سيما بعد انتهاء دوام هذه المؤسسات.

صحيح أنني لست غريباً عن تجربة جامعة بيزيت، فأنا نفسي أحد خريجي الجامعة، وبالتالي جزء من تاريخها المبكر، عشت أشكالاً متعددة من القمع والملاحقة والمنع، لكن تجربة الطالب تختلف تماماً عن تجربة المدرّس. كانت المفاجأة في حينها أنني اكتشفت درجة لا تصدق من الالتزام بين الطلبة، التزام يعبّر عن التحدي والإصرار على الدراسة في أوضاع لا يمكن خلالها توفير الحد الأدنى من شروط الحياة الجامعية. لا أذكر أنني كنت في حاجة إلى تفقد حضور الطلاب، فلا يكاد يغيب أحد، على الرغم من أن المقاعد في الصفوف كانت غير مريحة، وتفتقد إلى التجهيزات الجامعية. لم أشعر بالتثاقل أبداً للوصول إلى طلابي، بل بالعكس، في كل مرة كنت أذهب مسرعاً إلى الصف للإطمئنان على أنهم لم يُعتقلوا، ولأكون أول الحاضرين في حال وصول قوات الاحتلال لمنعنا من حقنا في التعليم. لكن تجدر الإشارة إلى أن عدد طلاب الجامعة كان قليلاً نسبياً، لكنه كان أكثر تنوعاً، حيث حضر الطلاب من كل فلسطين بحدودها الانتدابية من غزة والجليل والقدس والخليل ورام الله وجنين، تقريباً من كل مكان في فلسطين، وهو أمر تراجع بشكل كبير، على الرغم من وصول عدد الطلاب إلى أكثر من 14.000 طالب، إذ أصبح الطلاب يأتون بشكل أساسي من وسط الضفة الغربية، وهو أمر قد بدأنا بملاحظته منذ سنة 1998، وهو ما أثر في هوية الجامعة، وبالتأكيد كان هذا نتيجة إغلاق الضفة الغربية وقطعها عن قطاع غزة، ووضع نقاط التفتيش في كل مكان بحيث أصبحت الحركة مقيدة بشدة، علاوة على نشوء جامعات في كل المدن الفلسطينية الكبرى.

لم تكن هذه التجربة الوحيدة، فقد عاشت الجامعة عشرات التجارب المشابهة وتعايشت معها وتكيفت بطرق لا تصدق، حتى يخيل لي اليوم أنها غير حقيقية. أذكر أنه جرى قطع الطريق بين بيرزيت ورام الله بحاجز ترابي، وتم حرث الشارع (خلع الزفتة) ووضع مكعبات أسمنتية ضخمة، لمنع السيارات والناس من استكمال طريقها عقب انتفاضة سنة 2000. تكيفنا عبر السير على الأقدام فوق تلال التراب، وكان الطلاب يسيرون عدة كيلومترات يومياً للوصول إلى الحرم الجامعي، بل وقمنا في عدة مناسبات بتحدي الساتر الترابي وإزالته، ليعيد الاحتلال إحضار جرافاته وإغلاقه من جديد.[3]  كما شهد الحاجز اشتباكات متعددة بين طلاب الجامعة وقوات الاحتلال.

أتذكر تلك التجارب المثيرة وأنا أجلس اليوم في ظل فيروس الكورونا أمام حاسوبي وأخاطب طلابي.[4]  وفرت الجامعة برنامجاً متطوراً للتدريس عن بُعد، يستطيع المدرس أن يقدم محاضرته بموعدها المحدد عبر جهاز الحاسوب، ويستطيع كل طلاب المساق أن يكونوا حاضرين ومتابعين، بل يمكنهم أيضاً طرح الأسئلة. لكنني لم أستطع التعامل مع هذا النظام، الذي يفتقد إلى الروح الإنسانية التي أعرفها، ويجعلني أشعر بأنني أخاطب لا أحد. قاومت ذلك، لكنني مجبر على تقديم البدائل، هكذا قررت إدارة الجامعة. لقد قمت بكتابة محاضراتي (غير تلك القراءات المطلوبة من الطلاب) وكأنني ألقيها عليهم، فكانت ردة فعل العديد من الطلاب بأن لغتها صعبة وغير مفهومة وتحتوي على الكثير من المصطلحات التي تحتاج إلى تفسير، وهم يتذكرون كلامي أيام التدريس العادي عندما كان يتصف بالسلاسة، وكانوا يستطيعون فهم المادة بطريقة أسهل إن خاطبتهم.

أصبحت بين مطرقة الطلاب، الباحثين عن الأسهل، ويريدون اللقمة ممضوغة وجاهزة للهضم، وبين سندان عجزي عن التعامل مع برامج التدريس عن بعد. عملت جاهداً للتعامل معها، لكنها صعبة على الذين دخلوا مثلي عالم الحاسوب بسن متأخر، فقررت أن أسجل محاضراتي على أفلام وأضعها على دروب بوكس (Dropbox) وأرسل لهم الرابط ليستطيعوا مشاهدة الفيلم. إنني أشعر بالإحباط لحديثي مع شاشة، فلا أستطيع قراءة وجوه الطلاب، ولا قياس إدراكهم، وإعجابهم، وموافقتهم أو رفضهم، وسخطهم واستنكارهم ودعمهم.. إلخ من المقاييس التي ينظر إليها المدرس في غرفة الصف ويسترسل أو يعيد صوغ كلامه.. إلخ.

إن الإصرار على عدم ضياع الفصل الدراسي مفهوم جداً، لكن التدريس عن بعد ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالحياة الجامعية بكل أبعادها، وبالتفاعل بين الطلاب ومدرسيهم والتفاعل بين الطلاب أنفسهم خلال المحاضرة وبعدها. صحيح أن مصادر المعرفة اليوم لم تعد كما كانت، فالإنترنت يشكل أنبوبة معرفة لامتناهية، أعترف أنه يمكنها أن تكون بديلاً جيداً للتعلّم والتعلم الذاتي، لكن التعليم لم يكن يوماً ضخاً للمعلومات فقط، فلو كان كذلك لكانت المكتبة تكفي ولأصبح الإنترنت المصدر شبه الوحيد للمعلومات. والعملية التعليمية هي عملية تفاعيلة، وطرق تفكير، ومنهجيات تحليل، وطرق تفاعل ومشاركة، وتشكيل مجموعات سياسية وثقافية، إلخ. إنني أعتقد شبه جازم، أن عملية التعليم عن بُعد لا توفر لنا متعة، وبالتالي لا نستطيع أن نوفر المتعة لطلابنا. وحتى أكون متصالحاً مع نفسي، فإنني أفضل إلغاء الفصل الدراسي على تمريره بهذه الطريقة.

 

[1] هكذا كانت قبل أن تتفكك لاحقاً إلى ثلاث دوائر.

[2] جامعة توبنغن / جنوب غرب ألمانيا.

[3] أزيل الحاجز نهائياً بتاريخ 3/12/2003.

[4] قرر مجلس جامعة بيرزيت وقف العملية التعليمية في الحرم الجامعي بتاريخ 7/3/2020 تجنباً لانتشار وباء الكورونا، وما زال مغلقاً حتى تاريخ كتابة هذه الخواطر بتاريخ 26/3/2020.

عن المؤلف: 

نظمي الجعبة: أستاذ مشارك في دائرة التاريخ والآثار في جامعة بيرزيت.