تدريب من الماضي على العزلة في الحاضر
التاريخ: 
08/06/2020
المؤلف: 

هناك بيتنا على أطراف البلدة، أول بيوتها، يقف وحيداً بعيداً عن بقية البيوت. وأن يكون بيتك أبعد البيوت يحكم مسبقاً بأنك ستكون أبعد ما يمكن عن قاطنيها، وأقل ارتباطاً ومعرفة بما يحدث داخلها، وهو ما سيجعل إمكان العيش في نطاق البيوت وبينها أقرب إلى الاستحالة، مقارنة بإمكان العيش في البرية التي تحيط بك من كل صوب، في رحاب التلال وحول الوادي الهزيل. كنت أتجه إلى البلدة فقط للذهاب إلى المدرسة، حيث أستمر في الجلوس فوق المقعد ذاته طيلة النهار، يومياً بانتظار الاستراحات بين الحصص، ثم، وأخيراً نهاية اليوم الدراسي، لأتجه عائدة فوق طريق ستتلاشى البيوت منه بالتدريج، وحياة البلدة التي يسودها النظام والإرغام، إلى أن أصل بيتي على جهة اليسار، وعلى اليمين البرية وكل ما تحوي من عزلة وحرية. بالتحديد أسفل التلة حيث يجري الوادي، على ضفته الأُخرى، هناك قطعة أرض صغيرة، تقع في شكل أشبه بالمثلث وتضم أكثر اللحظات حميمية وسعادة التي عرفتها في طفولتي، قبل أن تختفي فجأة وبالكامل.

في ذلك المثلث الصغير، شهدت أول تعبير للحب بين والديّ. والدايّ يقلبان أرضه معاً، ليزرعا بعض الخضروات التي سيتمكنان من ريها من مياه الوادي، وأنا بالقرب منهما أقفز مع الضفادع التي انتشرت على طول ضفاف الوادي. ثم بعد فترة وجيزة سيتم طرد والديّ من هذا المثلث الصغير. الطرد يبدو أقل وضوحاً، ولا أعرف إن كنت قد شهدته فعلاً، أو سمعت به فحسب، أو قد تخيّلته ولم يحدث أصلاً. دوريات حماية الطبيعة ستظهر فجأة وتقلع ما زرع والدايّ من خضروات، ثم ستدفعهما خارج المثلث بالقوة. سيقاوم والدايّ، وسيقولان إن هذه أرضنا "أباً عن جد"، لكن أفراد الدورية سيستمرون بدفعهما، ولن يعودا إلى ذلك المثلث الصغير للعناية به، ولا سننعم بالحميمية والسكينة التي أغدقها على ثلاثتنا آنذاك، لأسباب ربما لها كل العلاقة بذلك الطرد، أو ربما لا علاقة لها به.

أنا بدوري لن أوافق، ولن أخضع للأوامر. سأعود يومياً إلى ذلك المثلث الصغير، محاولة جني ثمار خضروات اقتُلِعت منذ فترة طويلة، وأُخرى وهمية سأزرعها بقدرة خيالي. كما سأخدم أعشاب برية عديدة وأتأملها، ثم سأرتب حجارة كثيرة، كل يوم من جديد، في خطوط وأشكال هندسية متنوعة، تقسم أرض المثلث إلى غرف في بيتي في البرية، حيث سأجلس داخله وحيدة، وأنظر إلى بيت والديّ والبيوت الأُخرى حتى المدرسة، تقف جميعها في خط طويل على خاصرة الجبل المنتصب قريباً جداً مني، يماثل خطوط بيتي المكونة من الحجارة.

من هناك، من داخل مثلث العزلة الصغير ذاك، ستنمو علاقتي ببقية الأماكن التي سأسكنها، والناس الذين سأحيا بينهم وقلما معهم، على أسس يحكمها الخيال، وإن حدث وتسرب إليها ما هو واقعي، سأعمل جاهدة على تحريفه ولو قليلاً، فلا يمكن لأحد طردك مما هو خيالي لا يخضع لشروط الواقع.

 
الصورة: فؤاد الخوري، دمية على الأسفلت، القدس، ١٩٩٤.
عن المؤلف: 

عدنية شبلي: كاتبة وباحثة من مواليد فلسطين عام ١٩٧٤.