الطفولة الفلسطينية في سجون الاحتلال، وقرار الإعدام المبكر
التاريخ: 
22/01/2020

سجلت حكومة الاحتلال الإسرائيلي واحدة من أكبر الصفعات الموجهة للقانون الدولي عامة، وللمواثيق المتعلقة بالطفولة الفلسطينية على وجه الخصوص؛ إذ أصدرت سلطاتها "القانونية " في أقبية المحاكم العسكرية أكثر من خمسين ألف قرار حكم يصل للمؤبد بحق أطفال فلسطين منذ سنة ١٩٦٧، وفق تقرير لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، في مخالفة صريحة  للقانون الإنساني الذي وضع ليكفل حياة طبيعية لهؤلاء الأطفال، ومعبراً آمناً لهم صوب المستقبل.

طفولة قيد الاعتقال:

تحتجز سلطات الاحتلال الإسرائيلي في سجونها قرابة ٢٠٠ طفل فلسطيني حتّى مطلع  سنة 2020 ، موزعين على سجن "عوفر" و"مجدو" و "الدامون"، ومجموعة من مراكز التوقيف والتحقيق المختلفة، وتتراوح أعمارهم ما بين 12 و18 سنة، كما جاء في تقرير لهيئة شؤون الأسرى والمحررين.

فمنذ سنة ٢٠١٥ وحتى أواخر سنة ٢٠١٩ ، اعتقل الاحتلال نحو ٦٧٠٠ طفل، قرابة ٨٠٠ منهم في سنة ٢٠١٩ وحدها، وكانت النسبة الأعلى لاعتقال الأطفال في مدينة القدس.

ولم تتوقف الانتهاكات عند هذا الحد، بل امتدت، وفقاً لما بينه التقرير، لتشهد قضية الأسرى الأطفال، منذ سنة ٢٠١٥، العديد من التحولات، منها إقرار الاحتلال لعدد من القوانين العنصرية، وتقديم مشاريع القوانين التي تُشرع إصدار أحكام عالية بحق الأطفال، وصلت في بعض الحالات إلى أكثر من عشر سنوات، وحتى الحكم المؤبد، وكان آخرهم الأسير أيهم صبّاح الذي تجاوز سن الطفولة في الأسر، وحكم عليه الاحتلال حين كان طفلاً بالسجن لمدة ٣٥ عاماً، وحين تجاوز طفولته رفع حكمه للسّجن المؤبد.

ويطبق الاحتلال بحق الأطفال في الضفة الغربية القانون العسكري، فيما يطبق إجراءاته الاستثنائية في القانون المدني الإسرائيلي على أطفال مدينة القدس، كجزء من سياسات التصنيف التي تحاول فرضها على الفلسطينيين، وترسيخ التقسيمات التي فرضتها على الأرض. ومع أنها تطبق القانون المدني الإسرائيلي على أطفال القدس، فقد وصل بها الأمر إلى استدعاء أطفال عبر عائلاتهم، لم تتجاوز أعمارهم الست سنوات كما جرى في بلدة العيساوية، حيث استدعت سلطات الاحتلال – خلال شهر تموز/ يونيو ٢٠١٩- كل من: والد الطفل محمد ربيع عليان (٤ سنوات)، ووالد الطفل قيس فراس عبيد (٦ سنوات)، للتحقيق معهما بتهمة إلقاء الطفلين الحجارة على مركبات شرطة الاحتلال. وفي الأول من آب/أغسطس ٢٠١٩، استدعت سلطات الاحتلال عائلة الطفلة ملاك سدر البالغة (٨ سنوات) من محافظة الخليل، لغرض التحقيق مع الطفلة. وتكمن خطورة هذه الاستدعاءات، عدا عن الحصول على معلومات، في مطالبة عائلاتهم بإحضارهم، الأمر الذي يشكل مساً مباشراً بالعلاقة بين الآباء والأبناء، ووضع تلك العلاقة محط تساؤل لدى الأطفال.

ولا تتوانى سلطات الاحتلال عن اعتقال الأطفال والفتيان إدارياً، إذ سُجلت على الأقل خمس حالات اعتقال إدارياً خلال سنة ٢٠١٩، أُفرج عن أحدهم لاحقاً، ومنهم: الأسير نضال عامر من محافظة جنين، الذي يبلغ من العمر (١٧ عاماً)، والأسير حافظ إبراهيم زيود (١٦ عاماً)، من محافظة جنين، والأسير سليمان محمد أبو غوش (١٧ عاماً)، من مخيم قلنديا، الذي أُفرج عنه بعد عدة شهور من الاعتقال، بالإضافة إلى الطفل سليمان قطش (١٦ عاماً) من بلدة عبن يبرود، الذي اعتقل في شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام المنصرم ٢٠١٩، علماً أنه سُجلت، منذ سنة ٢٠١٥، قرابة ٣٠ حالة اعتقال إداري للأطفال.

وقد تعرض جل هؤلاء الأطفال لشكل أو أكثر من أشكال التعذيب والانتهاك، ويعيشون في ظروف قاهرة مثلهم مثل باقي المعتقلين الكبار، ويشرف عليهم مجموعة من المعتقلين الكبار الذين انتدبتهم الحركة الوطنية الأسيرة للإشراف على أقسام الأطفال، ورعايتهم، وتنظيم ظروف حياتهم المعيشية، وتمثيلهم أمام السجان.

اعتقال يبدأ بانتهاك وينتهي بانتهاك:

"يتضمن حق حماية الطفل (وفقاً لاتفاقية حقوق الطفل) حمايته جسدياً، حماية صحته ونموه، حماية حقوقه، وحمايته نفسياً وعقلياً، وتوفير السبل التي تحمي عقليته، وحمايته اجتماعياً عن طريق حفظ حقه في الازدهار بوصفه جزءاً مهماً من المجتمع، ويشمل حق حماية الطفل جزأين رئيسيين، هما القرارات التي تم إنجازها يجب أن تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العليا للطفل ومستقبله، وكذلك القرارات التي يتم اتخاذها نيابة عن الطفل يجب أن تتضمن حصوله على حقوقه، وتطبيق حق حماية الطفل يجب ضمان وجوده في بيئة عائلية صحية، ودولة آمنه توفر نظام حماية شامل له".

أمام كل هذه الحقوق، تتوجه قوة كبيرة من جيش الاحتلال بعدتها وعتادها، وكلابها البوليسية لحصار منزل بعد منتصف الليل واقتحامه وولوج غرفة طفل، موجهين بنادقهم نحوه وهو لا يكاد يقوى على الاستيقاظ محتضناً لعبته مذعوراً، ويختطف من فراشه وحلمه وأحضان والديه، ويُقتاد معصوب العينين تحت الشتم والضرب بالأيدي وأعقاب البنادق، والركل بالأرجل، إضافة لعضات الكلاب في بعض الحالات إلى مركز للتوقيف والتحقيق، يظل فيه دون طعام أو شراب لساعات طويلة وصلت في بعض الحالات الموثقة ليومين، وفقاً لما جاء عن نادي الأسير الفلسطيني وهيئة شؤون الأسرى والمحررين. وفي التحقيق والتوقيف، يتم توجيه الشتائم والألفاظ البذيئة إليهم، وتهديدهم وترهيبهم، وانتزاع الاعترافات منهم تحت الضغط والتهديد، ودفعهم للتوقيع على الإفادات المكتوبة باللغة العبرية دون ترجمتها، وحرمانهم من حقهم القانوني بضرورة حضور أحد الوالدين والمحامي خلال التحقيق، وغير ذلك من الأساليب والانتهاكات التي تمثل في مجملها سياسة ممنهجة لحكومة الاحتلال، التي توظف بدورها كافة أذرعها "التشريعية" و"القانونية" و"التنفيذية" في تنفيذ هذه الممارسات المخالفة لكل تلك القوانين والمواثيق الدولية، التي ما وضعت إلا لحماية الأطفال من هكذا ممارسات منافية للإنسانية.

الأطفال الكبار!:

تبين هذه السياسة المتبعة مع المعتقلين الأطفال، أن حكومة الاحتلال وإدارة مصلحة سجونها، ومحاكمها العسكرية، يتعاملون مع الأطفال تماماً كما يتعاملون مع الأسرى البالغين الكبار، ويخضعونهم للإجراءات والظروف ذاتها، سواء في الاعتقال أوالتحقيق أو المحاكمة، وكذلك في ظروف الاحتجاز، إذ يخضعون لـ "القوانين" والسياسات ذاتها التي تفرضها إدارة مصلحة سجون الاحتلال على المعتقلين الفلسطينيين والعرب في سجونها المختلفة، دون مراعاة أي خصوصية ذات معنى للأطفال، وذلك بخلاف المعاملة التي يلقاها السجناء الجنائيون الأحداث من الإسرائيليين مهما كبر حجم جنحهم أمام فعل طفل فلسطيني لم يرتكب جنحة أصلاً، وإنما هو طفل خاضع بفعله الطفولي الغاضب لوجود المحتل وسطوته.

المعتقلون الأطفال في أدبيات ونضال الحركة الأسيرة:

تعاملت الحركة الوطنية الأسيرة بمسؤولية واهتمام كبيرين مع هؤلاء المعتقلين الأطفال، وخصتهم في البرامج والرعاية والاهتمام في الفترات التي كانوا يندمجون فيها في ذات أقسام المعتقلين الكبار، ضمن سياسة الاحتلال، وإدارة مصلحة سجونها، التي تساوي ما بين البالغ والطفل في "الجرم"، وبالتالى تقاضي الأطفال "كمجرمين" بالغين، مدركين لما قاموا به من فعل مقاوم ومناهض للاحتلال الذي استدرج بقمعه طفولتهم لمربع الاشتباك مع العدو.

من جهتها، أطلقت عليهم الحركة الوطنية الأسيرة مصطلح "الأشبال"، واستوعبت طفولتهم ضمن برامج ملائمة لأعمارهم وتفكيرهم، وبما يحقق لهم الاندماج في الحالة الوطنية والاعتقالية، دون أن يفقدوا ما تبقى من طفولتهم، على كافة الأصعدة التعليمية، والتوجيهية، والتعبوية، والتثقيفية، وكذلك السلوكية.

وبعيد انتفاضة الأقصى، قررت إدارة مصلحة سجون الاحتلال فصل هؤلاء الأطفال في سجون وأقسام خاصة بهم، بعيداً عن أي تواجد للمعتقلين البالغين الكبار معهم، وفرضت عليهم بعد أن حققت مبدأ الاستفراد بهم، إجراءات قمعية لا تختلف عما تمارسه مع المعتقلين الكبار، بل وأكثر من ذلك، سعت إلى أن تزرع بينهم تربة خصبة للانحراف، وتركتهم يختلفون، ويفترقون، ويتناحرون، وفرضت عليهم العديد من إجراءاتها العنيفة، ما انعكس تلقائياً، في بعض الأحيان، على سلوكهم وتكوينهم، لا سيما وأنهم كانوا في وضع تواصل مباشر وفردي مع إدارة السجون، التي حاولت أن تنشر أفكارها وسياساتها بينهم، وتسلب عقولهم وتفرغها من الأفكار الوطنية، وذلك في مرحلة تنشئة حساسة وخطيرة.

وأمام هذا الواقع، جعلت الحركة الأسيرة قضية المعتقلين "الأشبال" قضية مطلبية في نضالها ضد السجان. فهي حاولت، من جهة، أن تتواصل مع المعتقلين "الأشبال" بكل ما تستطيع من وسائل، سواء عبر الحديث معهم في المحاكم عن بعد، أو من خلال زيارات الأهل، أو المحامين، لنصحهم وإرشادهم وتوجيههم، ومارست، من جهة اخرى، نضالاً متواصلاً ضد السجان لتصويب وضع المعتقلين الأطفال ضمن حالة منظمة يشرف عليها المعتقلون الكبار.

يقول الأسير المحرر لؤي المنسي، الذي كان أحد ممثلي قسم المعتقلين الأطفال في سجن عوفر مدة سبع سنوات: "حصلنا في سنة ٢٠١٠، بعد إصرار ونضال طويل، على الموافقة بتخصيص قسم للمعتقلين الأطفال في سجن عوفر، وانتداب مجموعة من المشرفين للعيش في غرفة منفصلة داخل قسم الأطفال لتنظيم حياتهم المعيشية اليومية، وتمثيلهم أمام أدارة السجن".

وتمكنت بهذا  لجان متفق عليها من الأسرى الكبار من احتضان الأطفال والاعتناء بهم، وحمايتهم، وتنظيم شؤون ومتطلبات حياتهم اليومية، وضبط وتوجيه سلوكهم، والدفاع عن حقوقهم أمام إدارة سجون الاحتلال، ووضع برنامج تعليمي تربوي تثقيفي لجميع المستويات، من محو الأمية وحتى الثانوية العامة.

يفصلونهم عن طفولتهم، لينفصلوا عن مستقبلهم:

يتعدى اعتقال الأطفال والفتية حالة الفصل القسري عن أسرهم، وبالتالي عن حياة طبيعية فيها المدرسة والأصدقاء وساحة اللعب، ليصل إلى فصلهم عن عائلتهم الأخرى التي تحتضنهم، بعد خروجهم من مركز التحقيق مرعوبين مصدومين من هول ما تعرضوا له من تخويف وتعذيب وشتم وابتزاز، تلك العائلة التي يمثلها "المشرفون الكبار" من الأسرى ورفاقهم من الأطفال في القسم، الذين يبذلون أقصى جهد لتقديم الدعم والعون والحب لهم، وذلك إلى أن يأتي قرار جديد يقضي بإعادة فصل المعتقلين الأطفال في سجون منعزلة عن الكبار وبعيداً عن المشرفين. وعلى هذا الأساس، قامت إدارة سجون الاحتلال بتاريخ 13 كانون الثاني/ يناير 2020 بنقل 34 أسيراً طفلاً من سجن "عوفر" إلى "الدامون" دون السماح لممثليهم بمرافقتهم، أو السماح بوجود ممثلين لهم هناك، وذلك في خطوة أولية لفرض هذه السياسة على جميع أقسام الأسرى الأطفال في السجون. وقد واجهت الحركة الأسيرة هذا القرار بالرفض واللجوء إلى خطوات تصعيدية، لما قد يترتب عليه من نتائج كارثية، وتحديداً في ظل "البدائل" التي تناقشها حكومة الاحتلال، وأذرعها ذات الارتباط، بشأن ظروف احتجاز الأطفال، وهو ما أوضحه الأسير المحرر ضرغام الأعرج، الذي أشرف على الأسرى المقدسيين الأشبال لمدة عامين ونصف العام في سجني "مجدو" و"الدامون"، والذي أشار إلى أن سلطات الاحتلال بدأت تفكر بتطبيق سياسات تستهدف الأطفال المقدسيين، عبر بدائل اعتقال مثل الحبس المنزلي، واللجوء إلى مؤسسات التأهيل الإسرائيلية والاحتجاز في السجون الجنائية، والتي تستهدف دمج الأطفال مع السجناء الإسرائيليين وتفريغهم من حسهم الوطني والنضالي، خصوصاً وأن السجون أثبتت بأنها تساهم في صقل شخصية الطفل الفلسطيني. وأضاف الأعرج أن إدارة السجون بدأت مخططها لتعميم هذه السياسات على الأسرى من الضفة الغربية، لا سيما وأن وجود أسرى أمنيين بالغين مع الأسرى الأشبال يشكل حالة مزعجة للاحتلال، الذي يعتبر أن وجودهم يخلق التحريض، لافتاً إلى أن غياب ممثلين عن الأطفال يعني عدم وجود قانون ضابط، ما يسمح للسجّان باختراقهم والاعتداء عليهم واستغلالهم أمنياً، مؤكداً أن الحركة الأسيرة "تحاول جاهدة التصدي لهذه السياسات، التي لن يلغيها الاحتلال، كما يبدو، إنما يؤجل تنفيذها إلى الوقت المناسب".

إن ما يجري حالياً هو عملية إعدام للطفولة الفلسطينية على أيدي حكومة الاحتلال الإسرائيلي وأذرعها المختصة، وذلك على مرأى العالم والقانون الدولي، وهو ما يوجب على كل الحريصين على مستقبل الطفولة والإنسانية العمل على وضع حد له. كما يحملنا فلسطينياً مسؤولية أكبر تجاه أطفالنا، تتطلب منا تفعيل جميع  إمكانياتنا وأذرعنا الأسرية، والمؤسساتية، والمجتمعية، والوطنية، لمواجهة هذا الاستهداف، وحماية أطفالنا من سياسات المحتل وحمايتهم من الاعتقال، والتوجه إلى الهيئات الدولية المعنية لمحاكمة هذا المحتل على ما يقترفه بحق طفولتنا الفلسطينية من جرائم.

عن المؤلف: 

عبد الفتاح دولة: أسير محرر وعضو اللجنة الادارية لهيئة شؤون الأسرى الفلسطينيين.