دراسات إسرائيل وفرضياتها المعرفية: نظرة تحليلية وبدائل نظرية
نبذة مختصرة: 

تعنى هذه الدراسة باستكشاف النزعة الكولونيالية المتجذرة في دراسات إسرائيل، وتتساءل عن إمكان وكيفية تفكيكها من أجل فسح المجال أمام دراسة هذه الظاهرة المعقدة، بعيداً عن التزامات أيديولوجية وقيمية مسبقة.

النص الكامل: 

تم تقسيم هذه الدراسة التي تستكشف النزعة الكولونيالية في الدراسات التي تتناول إسرائيل، إلى ثلاثة أقسام رئيسية:القسم الأول يتعلق بالإطار التحليلي ـ النظري لجميع ما له شأن في العلاقات المركبة بين المعرفة والقوة وإمكانات تفكيكها من أجل تطوير دراسات نقدية إنسانوية من دون الوقوع في مطبات الهوياتية أو الأيديولوجيا. ومن أجل القيام بهذه المهمة، لا بد من التأسيس لذلك من خلال النقاشات القائمة في فلسفة العلوم الاجتماعية والآداب، وبالتالي موقعة التعامل مع إسرائيل في إطار تحليلي واسع يمكّننا من عدم الوقوع في الادعاءات المألوفة بشأن خصوصية إسرائيل من جهة، أو تحويل دراستها إلى ضرب من المحاسبة الأيديولوجية من جهة أُخرى.

القسم الثاني يتطرق إلى الحالة الإسرائيلية بهدف استحضار بعض الفرضيات المبطنة في أبحاث إسرائيل، والتي تعكس علاقة القوة بالمعرفة، وتغيّب الطابع الكولونيالي للمعرفة المتعلقة بإسرائيل. وتتناول الدراسة الفرضيات المهيمنة على أغلبية تلك الأبحاث، وتبيّن أن هذه الأخيرة تتعامل مع الدولة الإسرائيلية على أنها دولة طبيعية تعبّر عن حق تقرير المصير للشعب اليهودي، وأنها ذات صفات ديمقراطية وليبرالية على حد سواء، وتمارس سياسات اعتيادية في الحلبة الدولية. وتُظهر الدراسة كيف أن هذه الرؤية التحليلية المهيمنة على دراسات إسرائيل ملتزمة إبستمولوجياً وأخلاقياً، وتُستخدم ليس فقط لفهم الظاهرة، بل لشرعنتها أيضاً، وبالتالي فإنها تغيّب صفات مهمة للنظام السياسي والثقافي لإسرائيل، مثل نزعتها الاستيطانية التوسعية، والتمييز الإثني، ونظام الامتيازات العرقي. وتطرح الدراسة نماذج أولية تُظهر كيف يتم التعامل مع إسرائيل من خلال أطر معرفية ونظرية تغيّب النزعة الكولونيالية عنها، وتكشف الشروط الإبستمولوجية والأنطولوجية والأخلاقية المبطنة فيها.

القسم الثالث يعيد النظر في نقد المعرفة الغربية التي تشرّع ظواهر كولونيالية على أنها جزء من التطور الحداثي للعالم، ويقدم لدراسات تشترط نزع الكولونيالية عن المعرفة. ويُظهر هذا القسم من الدراسة أن تفكيكاً معرفياً ونظرياً وتحليلياً لدراسات إسرائيل لا بد له من أن يتوخى الحذر وعدم تحويل دراسة هذه الظاهرة المركبة إلى التزام أيديولوجي سابق للظاهرة، وذلك من خلال الانصياع لإطار نظري وتحليلي أحادي وملتزم إبستمولوجياً بشكل مسبق. وتدّعي الدراسة أن التزاماً من هذا النوع من شأنه زجّنا في تناقضات منطقية أو نظرية أو أخلاقية، ولهذا، فإن على دراسات إسرائيل أن ترتكز على توجهات إنسانوية شاملة في العلوم الاجتماعية، مثلما أسس لها بعض المنظرين وفي مقدمهم: يورغن هابرماس؛ ساندرا هاردينغ؛ إدوراد سعيد؛ أودري لورد؛ بارثا تشاترجي؛ بهيكو باريخ؛ بيير بورديو؛ جاك دريدا وآخرون.

 

إشكاليات التأطير النظري والتحليلي لدراسة الظواهر السياسية

يدّعي المفكر المارتينيكي، فرانز فانون، أن الحياد في المعرفة يخدم القوة أو الأقوياء (Fanon 1963)، وبالتالي فإنه في دراسة الحالات التي فيها صراع غير متوازن، يعني الوقوف بجانب الطرف القوي، إذ لا يمكن للمعرفة أن تكون حيادية لأن الحياة ملأى بالصراعات. وقد لفت فانون أنظارنا، من خلال فكره الجدلي ورؤيته التاريخية، وهو الشاهد على أحد أهم الصراعات ضد الاستعمار الكولونيالي في الجزائر، والذي لمس قسوة الاستعمار بشكل مباشر، إلى أن الكولونيالية المعرفية لا تقل أهمية عن الكولونيالية على أرض الواقع. وهذا التوجه رددته الباحثة الأميركية أودري لورد (Lorde 1984) في قولها: "أدوات السيد لن تفكك أبداً منزل السيد."

وبدوره، يتحدث ميشيل فوكو (Foucault 1980, p. 93) في كتاباته التاريخية السوسيولوجية والفكرية عن العلاقة غير القابلة للفصل بين المعرفة والقوة، فيقول:"نحن نتعرض لإنتاج الحقيقة من خلال السلطة التي لا يمكننا ممارستها إلاّ من خلال إنتاج الحقيقة... السلطة لا تتوقف أبداً عن تفسيرها وتحقيقاتها وتسجيلها للحقيقة: فهي مؤسساتية ومهنية وتكافىء سعيها."

هذه المقولات لمفكرين كبار لم يتم اختيارها مصادفة، فقد قدّم أصحابها نماذج حية للفكر النيّر والعقل المتحدي لما سمّاه أحد مؤسسي الفكر الحداثي وصانع فلسفة التاريخ في الحضارة الغربية الحديثة، فريدريك هيغل، "دهاء العقل" (Hegel 1977)، والذي بطبيعته قادر ليس على أن يفكر في "الأشياء" فحسب، بل من خلالها في نفسه أيضاً، وأن يصوغ ويطرح نفسه من خلال الأشياء بأشكال متنوعة تتناسب والظروف الملائمة لتوقه إلى التناسق والتكامل والسيطرة، الأمر الذي يعني، بحسب نقد فوكو وفانون، أن توصيف الأشياء لا يستمد مضامينه من الأشياء كما هي، وإنما مثلما تشترطه عملية تنصيب فكر معين كالفكر الأصح لرؤية هذه الأشياء. وكلما تحدثنا عن ظواهر معقدة أكثر، تصبح عملية تنصيب فكر على رؤية أشيائها، أكثر دهاء وتعقيداً، مثلما قال عن ذلك، وكل على طريقته، كبار فلاسفة العلم الحديث، وعلى رأسهم ستيفن تولمن وتوماس كون (Toulmin 1961; Kuhn 1962). هذه المفارقة تطرح تساؤلات كثيرة عن كيفية تأثير القوة في المعرفة، وهل من الممكن إزالة هذا التأثير؟ وإذا لم يكن هذا ممكناً فكيف يمكن الوقوف عند نوعية هذا التأثير وملابساته وتبعاته؟ وهل هذا لا يعني أن أي معرفة هي معرفة أيديولوجية، وبالتالي لا توجد معرفة أدق أو أفضل من غيرها إلاّ بقدرتها على فرض نفسها وهيمنتها على وعي وإدراك أكبر عدد من أبناء وبنات البشر؟

ليس من الهين إعطاء أجوبة قاطعة عن أسئلة تحاول التعامل مع علاقات القوة والمعرفة، ولهذا لا أنوي أن أبتّ في هذه الموضوعات بشكل قاطع، ليس لأنني لا أريد، بل لأن أي ادعاء قاطع يطرح أيضاً مأزقاً معرفياً عميقاً يمكن أن يؤدي إلى انهيار المنظومة المعرفية العلمية بشكل كامل. فإذا كانت المعرفة مرتبطة بالقوة بشكل كامل فهذا يعني أنه لا معرفة حيادية قائمة، ولا حقيقة ممكنة، ولا يقين قاطعاً في أصله، الأمر الذي يعني حل مكانة المعرفة العلمية وتحويلها إلى مجرد موقف مشابه للإيمان الديني أو الفكر الأيديولوجي.

غير أن فوكو وكذلك فانون ولورد، ومع أنهم ينبّهون إلى علاقة المعرفة بالقوة، إلاّ إنهم لا يلغون الحاجة إلى تقصّي الواقع إذا انتبهنا إلى أن إرادة المعرفة والمنظومة الإدراكية والمصطلحية المهيمنة، هي فاعل أساسي في تكوين صورتنا للواقع الذي نريد معرفته. وبالتالي، من دون تفكيك العلاقة بين المعرفة والقوة، يصبح صعباً علينا تكوين صورة للواقع مختلفة عمّا تريد أن تصوّره لنا القوة المهيمنة، وبالتالي يتحول المنهج التحليلي التفكيكي إلى شرط إلزامي للتعامل مع عالم الظواهر. وقد قام كل من أولئك المفكرين بعدة دراسات أشارت إلى استنتاجات مهمة بشأن تطورات تاريخية واجتماعية عينية، والأهم من ذلك إلى تبصرات ورؤى نظرية وفلسفية مهمة، وفي مقدمها الحاجة إلى التنبّه لمكر القوة وتجلياتها المتعددة، والحاجة إلى تنوع آليات التحليل والتفكيك العلمي من أجل القدرة على كشف الواقع المتخفي وراء الأغلفة الإبستمولوجية التي تعكس ليس الأحداث نفسها فحسب، بل التصورات التي تعرض الأحداث بشكل يتماشى مع الرؤية الإبستمولوجية أيضاً، ومن هنا القيمية المهيمنة. إن استنتاجات فانون وفوكو ولورد النظرية تطرح تساؤلات مهمة عن موضوع دراستنا، وبما أنه لا يمكن تجاوز الأطر النظرية وإسقاطاتها الإدراكية في التحليل العلمي، فهل من الجائز أو اللازم تحديد إطار نظري محدد وسابق لتحليل واقع معين، أم إن هنالك حاجة إلى تعدد الأطر النظرية والتحليلية، وإلى أن البتّ بينها يجب أن يكون بحسب الظروف والحيثيات التي يتم البحث فيها؟ بعبارة أُخرى وبشكل عيني أكثر، نتساءل هل دراسة إسرائيل كحقل أبحاث يجب أن تخضع لإطار نظري ـ تحليلي واحد، مثل نظرية الاستيطان الاستعماري، أم هنالك حاجة إمّا إلى تعدد الأطر، وإمّا إلى الالتزام بإطار تحليلي واحد ما دام الباحثون واعين لتبعاته وأبعاده النظرية والإدراكية والأيديولوجية؟ أليس إخضاع ظاهرة تاريخية أو سياسية أياً تكن، لقالب نظري محدد مسبق من أجل دراستها، لا يحجب جوانب من الظاهرة التي لا يمكن أن نراها من خلال هذا الإطار التحليلي ـ النظري، أو يحوّل الدراسة إلى ضرب من الأدلجة التي تنزع الشرعية عن علمية المعرفة الناتجة من هذا التحليل، حتى إن كان هذا القالب يعكس جانباً مهماً من الظاهرة المدروسة؟ بعبارة أُخرى، أليس تحديد إطار تحليلي أحادي مسبق لدراسة واقع معين لا يعني شرعنة غير مباشرة للإطار الإبستمولوجي المهيمن على دراسة هذه الظاهرة، وبالتالي ينزع الشرعية عن نفسه ليس بمجرد اعتراضه على علاقات القوة، بل أيضاً بواسطة حصر ظواهر إنسانية معقدة في إطار إبستمولوجي ونظري ـ تحليلي واحد ملتزم بشكل مسبق؟ أليس هذا النهج هو المهيمن على دراسات إسرائيل، والذي نحن بصدد انتقاده ونزع الشرعية عنه، وبالتالي ليس صحيحاً الوقوع في مطبات اعتناق بديل محدود مسبق نعتنقه كنقطة انطلاق لتفكيك الدراسات الإسرائيلية وإظهار التزاماتها الأيديولوجية المسبقة؟

قبل التعمق في الإجابة عن هذه الأسئلة، أشير إلى أن هذه الادعاءات لميشيل فوكو وفرانز فانون وأودري لورد كانت قد شغلت فلاسفة كثر قبلهم، تعاملوا مع مأزق معرفة حيثيات وخصائص تكوين المعرفة وتبعاتها، وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (Kant 2007) الذي من خلال محاولته صوغ مشروع فكري إنسانوي حداثي متكامل ولا تشوبه تناقضات، أدى ليس إلى نشوء صراع فكري عميق ما زال معنا حتى اليوم فحسب، بل أيضاً، إلى ادعاء معترضيه أن منظومته الفكرية هي استعلائية بمجرد كونها تتحدث عن "الإنسان" كصيغة شاملة، وتتغاضى عن الاختلافات والحيثيات الثقافية والجغرافية والاجتماعية لمجموعات مختلفة من أبناء البشر. بالتالي، ومع أن مقاصد الفيلسوف كانت حسنة، إلاّ إن أفكاره ما هي إلاّ نموذج لدهاء العقل المنعكس في فرضية حيادية المنظومة الفكرية الكانطية من الناحية الإدراكية والقيمية التي، وعلى الرغم من كونها تتماهى مع منظور إنساني شامل، فإنها تطرح مشروعاً فكرياً ترانسندنتالياً، كأنه حيادي على المستويين الثقافي والحضاري (Parekh 2000)، مع أنه غربي المنبع والفرضيات ويطرح نموذجاً عقلانياً محدوداً للذات البشرية، وخصوصاً في تعامله مع الآخر، إذ إنه يشرعن فوقية الذات على الآخر، وبالتالي السيطرة عليه (Harding 2015). بعبارة أُخرى، يدّعي منتقدو المشروع الكانطي أنه، وبشكل غير مباشر، أسس لفكرة تراتب الحضارات، وبالتالي تحويل الفكر التنويري إلى آلية لاستعمار المجموعات الإنسانية المتنوعة، فكرياً وحضارياً، بادعاء أنها متخلفة بمقاييس كونية ـ أي بمقاييسه ـ وهو ما تمت ترجمته في الفكر الرومانطيقي ـ القومي (Berlin 2001) من جهة، وفي الفكر الكولونيالي ـ الاستعماري من جهة أُخرى (Flikschuh and Ypi 2014).

إن موضوع نقاشنا هذا، يستمد فرضياته من الادعاءات القائمة في النظريات النقدية بشأن النزعة الكولونيالية في الفكر الغربي، وخصوصاً الادعاء الذي ينتحل صفة الفوقية الفكرية، وخصوصاً صوغه في الحركات القومية، على غرار ما أوحى به الفيلسوف الألماني يوهان غوتليب فيخته، أو في الفكر النفعي مثلما أوحى به الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل. هذه النزعة الاستعلائية المبطنة في الفكر العقلاني ليست بالأمر الجديد، مثلما دلّت على ذلك دراسات الفيلسوف الهندي ضياء الدين سردار، وإنما هي جزء من الصراع الفكري في عصر التنوير، ولها تجسيدات مشابهة في العصر الهيليني، حين ادّعى اليونانيون أن كل مَن لا يتحدث اليونانية ولا يدرك مكونات فلسفتها هو بربري (Davies, Nandy and Sardar 1993)؛ هذا اللغط والتوجه ما زال لهما امتدادات وانعكاسات حتى يومنا هذا (Huntington 1996)، وتجلّيا في الفلسفة العربية في الصراع بين المدارس العقلية وعلى رأسها المعتزلة من جهة، والمدارس الفقهية التي ماهت بين الفكر الديني والفكر الإنساني من جهة أُخرى (Hourani 1985).

ومن أجل عدم الضياع في متاهات الفلسفة أريد أن اختصر النقاش في المأزقين التاليين:

1 ـ هل الفصل بين القوة والمعرفة عند دراسة الظواهر الاجتماعية، وخصوصاً في الدراسات النقدية، غير ممكن "حقيقةً"؟ أو بعبارة أُخرى، هل من اللازم علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن المعرفة دائماً منوطة بعلاقات القوة السابقة لها، وأن ليس في استطاعتها تجريد نفسها من هذه العلاقات السابقة لها والظهور بشكل نقي وحيادي لا انحياز لها إلى أي فكرة أو قوة تستبقها؟ وهل يمكننا طرح تساؤل إضافي في هذا السياق، على صلة بفرضية وجود كيانات متنوعة، مثل وجود الذات البشرية أو العلاقات الاجتماعية قبل المعرفة، وأن هذه الكيانات تستبقها، وبالتالي لا بد من أن تؤثر في تكوينها ومضامينها؟ من الواضح أنه إذا كان الجواب عن هذه الأسئلة إيجابياً، فلا موضوع للنقاش والاستمرار في هذا التداول، لأنه يعني على المستوى المباشر أنه في الحالة التي نحن بصددها، أي دراسات إسرائيل، فإن على علاقات القوة أولاً أن تتبدل من أجل إجراء تغيير على دراسات إسرائيل مثلما هي اليوم، كما يعني على المستوى الأوسع أنه لا وجود لمعرفة لا تخضع لإرادة صاحب القوة الذي بدوره يحدد الحقيقة مثلما يشاء.

2 ـ أمّا إذا كان الجواب سلبياً، أي يمكن تجاوز العلاقة المركبة بين القوة والمعرفة، فهل هذا يعني أن الإمكان الوحيد لذلك يتلخص في تطوير معرفة كونية شاملة وحقائق معرفية تتجاوز الظروف البشرية والزمان والمكان، مثلما ادّعى إيمانويل كانط؟ أم إن هنالك بدائل أُخرى لمعرفة إنسانية لا تخضع لحتمية ميتافيزيقية أو تنحصر في أفكار ترانسندنتالية؟ بعبارة أُخرى، هل إن تجاوز العلاقة بين المعرفة والقوة يطرح إمكان التحري عن العوامل والتأثيرات السابقة للمعرفة كجزء من بناء معرفة إنسانوية غير منحازة ولا تخضع بالضرورة لعلاقات القوة؟ هل هنالك إمكان لبناء معرفة مبنية على المصالح المشتركة لجميع أبناء البشر، تبشر بمعرفة بعيدة عن العوامل والتأثيرات والحيثيات الضيقة، وتحصر إرادة المعرفة في عقلية مصلحية أو هوياتية ضيقة؟

لدينا العديد من الأجوبة وبمستويات وطرق متنوعة، لكن لضيق المتسع لا يمكن طرحها كلها في سياق مقالة واحدة. ومع ذلك، يمكن تلخيص التوجهات الأساسية لهذه الأجوبة، بثلاثة معسكرات كبيرة أساسية هي:

1 ـ المعسكر المحافظ الذي يدّعي أن الادعاء الشمولي بشأن العلاقة بين المعرفة والقوة هو جزء من محاولة فكرية وأيديولوجية تهدف إلى تقويض المعرفة العلمية، وتأتي من مفكرين أو باحثين لا يريدون الالتزام بقواعد العلم الحديث. فممثلو هذا المعسكر يرون أن هنالك منظومات معرفية متنوعة يمكن اعتبارها بديلة من العلم، مثل الدين أو الأيديولوجيا، لكن لا يمكن اعتبار هذه المنظومات ذات مستوى متساوٍ في المعرفة العلمية، لأنها غير مبنية على نظريات ومعلومات وضعية قابلة للنقض مثلما هي الحال في المعرفة العلمية. ويجادل هؤلاء في أن العلم الحديث تطور بناء على قواعد معينة يجب الحفاظ عليها من أجل الإبقاء على الفرق بين معرفة علمية مثبتة يتم التحقق منها بواسطة استعمال مناهج دقيقة، وبين ادعاءات يمكن أن تكون منطقية، لكنها لا تخضع للالتزامات العلمية المعهودة مثلما هو الفرق بين علم الفلك ـ الأسترونوميا، والتنجيم ـ الأسترولوجيا. إن ذلك يُلزم المؤسسات العلمية أن تتّبع طرقاً ومناهج علمية قابلة للنقض والتمحيص والنقد وإعادة الصوغ لإتاحة المجال أمام فحص حقائق المعرفة وعدم الوقوع في ملابسات الخلط بين معرفة علمية من جهة، ومعرفة أيديولوجية أو عقائدية أو دينية من جهة أُخرى. بناء هذا الموقف الذي نادى به الفيلسوف النمساوي كارل بوبر، والذي ينادي به غيره من الفلاسفة الذين ليسوا من علماء الطبيعة فحسب، بل من علماء الاجتماع أيضاً، فإن على المعرفة العلمية أن تتّبع مناهج دقيقة وموثوقاً بها من أجل إمكان دحض نظرية معرفية قائمة. فمقياس الدحض فقط هو الذي يضمن علمية النظرية المعرفية، حتى إن كانت نظرية قيمية، مثلما هي الحال في نظرية الديمقراطية السجالية للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Habermas 1981)، والتي تعتبر أن العلم التجريبي (empirical) هو الوحيد الذي يستوفي شروط المعرفة العلمية، وهو الذي يقف أمام اندثار مشروع الحداثة بأكمله، وهذا في حال لم تتم المحافظة على الفرق الواضح بين العلم والبنى المعرفية الأُخرى، ولم يؤخذ بعين الاعتبار أهمية العقل العملي كمرجع أساسي للحكم على الواقع، والوصول إلى توافقات بشأن مركباته وتطوره. وهكذا، فإن العلم يقوم على نظريات تُعتبر حقيقة ما دام لم يتم نقضها بآليات علمية مشابهة لتلك التي أدت إلى تطورها. وفي هذا السياق، يتم الفصل بين النظريات التجريبية الصارمة في تأكيدها وجود حقيقة موضوعية في الواقع يمكن اجتراحها بواسطة آليات علمية دقيقة، وبين الموقف الواقعي الذي يدّعي، على الرغم من إمكان وجود حقيقة في الواقع، أن كل ما نستطيع إدراكه هو كيف يتجلى الواقع لنا، من دون أن نستطيع الفصل بين الواقع الحقيقي والواقع كما يتصور لنا.

يركز المعسكر المحافظ على تعليل العلاقات السببية في علم الظواهر كي يتقصّاها ويقف عند أسباب تطورها. ومن أجل ذلك يتم حصر المعرفة العلمية بمناهج محدودة، وكل معرفة لا تتبع هذه المناهج، لا تستوفي شروط المعرفة العلمية الأساسية بحسب هذا الفهم. كما يركز المعسكر المحافظ على التطورات ويستقصي العمليات والمجريات، ويحاول تعليلها من دون الخضوع لقوانين استقرائية أو استدلالية قاسية.

2 ـ المعسكر ما ـ بعد ـ الحداثي المرتبط بمأزق الميتافيزيقا ـ التي حجبت النظر عن أولوية الوجود في الواقع الإنساني وأعطت الأولوية للفكر المنزه عن حيثيات وجوده (Heidegger 2006) ـ يدّعي أنه لا معرفة حيادية لأنه لا إمكان ليس فقط للفصل بين المعرفة والقوة، بل بين المعرفة وحيثيات المعرفة أيضاً، إذ إن كل معرفة لها مقاصد تحدد رؤيتها (Husserl 1973). وبالتالي، فإن أي ادعاء بالحيادية ما هو إلاّ موقف إبستمولوجي مراوغ يتستر بالحيادية كجزء من إرادة القوة (Nietzsche 2017). فهنالك معارف متعددة لا بد من الموازنة بينها لأن ليس ثمة أي طريقة حيادية أو آلية منزهة عن علاقات القوة للبتّ فيما بينها (Lyotard 1984)، ولهذا سقط جميع الروايات الكبيرة للمعرفة الإنسانية، لأن المعرفة بشكل أساسي تتبع الوجود الإنساني، ولا يمكنها أن تتجاوزه. بناء على ما سبق، فإن علينا اتّباع إمّا مناهج وجودية على النهج الذي طرحه جان بول سارتر (Sartre 1956)، وإمّا مناهج تأويلية على نهج جورج غادامير (Gadamer 1975)، وإمّا نظريات تفكيكية على نهج جاك دريدا (Derrida 1997)، فهي كلها تحاول ألاّ تطرح نموذجاً ميتافيزيقياً يتم من خلاله الحكم على الواقع بشكل مسبق. هذا الموقف يضع المعرفة في مأزق كبير، لأن عدم القدرة على البتّ بناء على قيم أو آليات حيادية، يطرح نسبية أخلاقية ومعرفية لا بد منها، الأمر الذي يتيح المجال للقوة كي تحقق ذاتها، وبالتالي فإن المعرفة القوية تلغي جميع المعارف الأُخرى (Harding 2015; Lukes 2008). من هذا الباب ادّعى بعض النقاد أن هذا الفكر هو فكر محافظ في أساسه لأنه يلغي القدرة على الحكم على معرفة أو واقع بآليات عامة تمكّننا من الفصل بين ما هو صحيح أو غير صحيح، وبين ما هو شرعي وغير شرعي (Habermas and Ben-Habib 1981). ولهذا، فإن تلاشي المقاييس المعرفية الأساسية بشكل كامل تعني فتح المجال أمام الأقوى لتحديد ما هي الحقيقة (Hoy 2005).

3 ـ المعسكر الثالث معقد ومركب أكثر، وهو براغماتي في جوهره، ومبني على أفكار لفلاسفة براغماتيين ما ـ بعد ـ ميتافيزيقيين، مثل جورج هربرت ميد (Mead 2002)، إذ إن الاعتقاد السائد هو أن الفعل الإنساني دائماً في طور التطور، وفي حركة مستمرة، ويجري في مقابل المجتمع وعالم الأشياء، ويستخدم طريق التأويل والتفسير المستمر للظواهر، وبالتالي لا توجد جواهر للأشياء، وإنما مفاهيم يصبح التعامل معها مقبولاً ومألوفاً على أنها الواقع. بناء عليه، فإن المعرفة هي توافق يتم الوصول إليه وفق مقاييس واعتبارات يتم التداول فيها استناداً إلى شراكة واشتراك، وبصدق ومسؤولية علمية نزيهة، بعيداً عن الاعتبارات الضيقة أياً تكن.

يعترف هذا المعسكر بأن هنالك عوامل سابقة للمعرفة تستطيع أن تؤدي دوراً في تحديد نوعية المعرفة المنشودة، وبالتالي يمكنها أن تمنع تطوير معرفة موضوعية بحتة. إلاّ إن هذا المعسكر يدّعي أنه، وعلى الرغم من الأخذ بعين الاعتبار أهمية الحيثيات الشخصية والمصلحية وجواز التأويل الثقافي، فإن هناك توافقات بشأن حالات ومعطيات مثبتة تجريبياً من جهة، وهناك انفتاح على المثاقفة والتحاور في الحالات الخلافية من جهة أُخرى، الأمر الذي يفسح المجال أمام طرح عدة نظريات من منظورات متنوعة ما زالت دوافعها منطقية ومنزّهة عن دوافع شخصية. وهذه الرؤيا تفتح المجال أمام تعددية براغماتية، إلاّ إن هذه الأخيرة لا تصل إلى حد النسبية الثقافية التي تميّز المعسكر ما ـ بعد ـ الحداثي. ويؤسس هذا المعسكر أفكاره على مزيج من الفكر الإنسانوي الكلاسيكي والتوجه العقلاني العملي الحداثي، إذ إنه يعترف بأهمية التأويل الهادف إلى الوصول إلى موقف مشترك أو توافق. وهذا النوع من العقلانية القيمية يأتي ليحل مكان وطأة العقلانية الأداتية التي هيمنت على الفكر البشري في العصر الحديث، وهو يهدف إلى التحكم والسيطرة على الطبيعة، وبالتالي لا يصلح لأن يوفر النقد لهذا المشروع. وإذا جرى تسخير العلم لهدف السيطرة على الطبيعة، فما هو الضامن بألاّ يتم تطور هذا إلى تحويل العلم إلى أداة سيطرة على الواقع البشري، الأمر الذي يحوّله من مجال لضمان العقلانية والحرية والتحرر والحياة المثلى إلى اتجاه معاكس تماماً؟ هذا الموقف يعني أن هنالك إمكاناً للحفاظ على مقياس من العقلانية قادر على توفير حيز نقدي تجاه الأيديولوجيا، على الرغم من عدم الادعاء أن الموقف النقدي حيادي أو منزّه عن المصلحة. في هذا السياق يتفق فلاسفة من مشارب فلسفية متنوعة، مثل فوكو (Foucault 1980) وهابرماس (Habermas 1972)، على أن محللي الواقع الاجتماعي والسياسي قادرون على الحفاظ على بعد جزئي من موضوع دراستهم، وإلاّ لما استطعنا الحديث عن أن العلوم الاجتماعية والإنسانية ممكنة بأكملها. ويضع أقطاب هذا المعسكر فاصلاً بين العوامل التي تنبع من اهتمامات ومصالح إنسانية عامة تؤدي إلى إرادة معرفة تعطي أجوبة عن حاجات إنسانية شاملة وعامة، تتجاوز الهويات المكونة للمجتمعات المختلفة ولنوعية ونمط العلاقات القائمة بينها وبين معرفة مرهونة بمصالح ضيقة وهويات محدودة تسخّر المعرفة لتحقيق مأربها ومصالحها، وتقوم بذلك من خلال طرح نفسها بمصطلحات عامة وحتى حيادية (Kuhn 1962). وفي هذا السياق يعترف هذا المعسكر بأن إرادة المعرفة لها علاقة مركبة بعدة محفزات لا بد من أخذها بعين الاعتبار في عملية البحث العلمي، ومن أهم ما يجب التنبه له هو الفرضيات الإبستمولوجية والأنطولوجية والقيمية التي لها تأثير واضح في إرادة المعرفة، لكن من دون التخلي عن الحاجة إلى الحفاظ على دافع التحرر كجزء من العملية المعرفية. إن الوعي بهذه الفرضيات، وإسقاطاتها على موضوع الدراسة، وإثارة ذلك بشكل واضح، أمور تُعتبر جزءاً من محاولة الإبقاء على بُعد معقول عن موضوع الدراسة، على الرغم من عدم ادعاء الحيادية أو المعرفة الموضوعية المنزهة عن مصالح الباحث أو وجهته الثقافية أو الفكرية، وعلى رأس ذلك العلاقة غير المغيبة بين الاهتمام المعرفي والدوافع الأخلاقية.

لا يمكنني التعمق في كل من هذه المدارس الفكرية أكثر من ذلك، ومع هذا لا بد من الاتفاق مع ما قاله الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، من أن المعرفة يجب أن تكون واعية لإرادتها بالمعرفة كي تتحقق من أن هذه المعرفة قابلة للتعميم، أو تنبع من اعتبارات ضيقة ليس من المهم ما هي ماهيتها (Habermas 1972). لا جدال في أن إرادة المعرفة تطرح الذات العارفة بشكل استباقي للواقع المدروس، وهذه الفرضية مقولة واضحة بما يتعلق بالالتزام الإبستمولوجي غير الإرادي للمعرفة. فالإرادة تتضمن فرضيات غير إرادية تحدد المنظور الذي من خلاله وبآلياته تنظر إلى الواقع وتحلل مكوناته، والوعي بهذه الفرضيات مهم إذا أردنا أن نتجنب الوقوع في مطب التيئوتولوجيا (Tautology)، أي التناقض الدوري من جهة، أو النسبية الفكرية من جهة أُخرى؛ وبالتالي يتحول الوعي الذاتي النظري إلى مبدأ أولي مهم في تطوير معرفة نزيهة قدر الإمكان، تحاول الانطلاق من رؤى ومصالح مشتركة لمجموعات إنسانية متنوعة كي تستكشف قواعد متشابهة للسلوك الإنساني من دون التخلي عن أهمية الحيثيات والظروف الخاصة بهذا السلوك أو ذاك.

لهذا علينا الاعتراف بأهمية الفرضيات الإبستمولوجية في صناعة المعرفة، مثلما هي الحال في دراسات إسرائيل أو في حالة التمعن في فرضيات دراسات إسرائيل، والتي تُلزمنا بكشف فرضياتها والتمعن في إسقاطاتها من أجل أن تتحول إلى جزء لا يتجزأ من صناعة المعرفة بشأن عالم الظواهر ودراساتها. وإذا أردنا الكشف والتدقيق وتفكيك الفرضيات الإبستمولوجية لمعرفة معينة، فإن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أننا لا نستطيع القيام بذلك من خلال التزام إبستمولوجي مسبق غير واعٍ لذاته، ويكرر الفرضيات التي نريد انتقادها والتحرر منها (Connolly 1973). هذا يعني أن دراسة حالة محددة، مثل حالة إسرائيل، لا يمكن أن تكون محدودة بمنظور إبستمولوجي ضيق، أو بنزعة أخلاقية هوياتية محدودة، مثل منظور الكولونيالية الاستيطانية، على الرغم من جاذبيته، لأن منظوراً من هذا النوع يضيء جوانب في الواقع المدروس ويعتم على أُخرى، من دون أن نستطيع تجاوز هذه المحدودية في دراسة الواقع، ويوفر معرفة منحازة ليس إلى المصالح الإنسانية الجامعة، وإنما إلى الهوية التي تشكل منظار هذه المعرفة. وبالتالي فإن هذه المعرفة قاصرة عن توفير قاعدة تسهل الوصول إلى توافقات أو تقاطعات من شأنها المساعدة في التغلب على الاختلافات والخلافات (Habermas 1972).

هذا يعني أننا لا نستطيع التحرر بصورة كاملة من أي التزامات إبستمولوجية أياً تكن من أجل دراسة واقع إسرائيل والدراسات المتعلقة بها. المنظور الإبستمولوجي لا بد منه، لكن عندما نتغاضى عن مركباته وإسقاطاته، أو نؤكد عدم وجودها كمرجع معرفي ندرس الواقع من خلاله، نحول إرادة المعرفة إلى مشروع أيديولوجي لا يستطيع تجاوز إقناع الأشخاص الذين يتضامنون معنا، وبالتالي نغدو غير مقنعين، وهذا الموقف بحد ذاته يطرح تساؤلات عن مدى أحقية وصحة الالتزام المعرفي المسبق بإطار تحليلي ذي دلالات قيمية واضحة، مثل الكولونيالية الاستيطانية، عندما نتطرق إلى دراسة واقع سياسي مركب مثل الحالة التي نتحدث عنها في السياق الإسرائيلي. وإذا كان هذا الالتزام المسبق شرعياً، فكيف يمكننا لدى الحديث عن الحالة الإسرائيلية نزع الشرعية عن القوالب التحليلية التي تستعملها المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، مثل الديمقراطية الجمهورانية (Communitarian)، أو الديمقراطية الإثنية، أو القومية الليبرالية؟

 

علاقات القوة بالمعرفة في الحالة الإسرائيلية

سأبدأ الآن تفكيك بعض النماذج التي تشير إلى هذه الفرضيات الممزوج بعضها ببعض، وسأحاول استكشاف تبعاتها المعرفية والسياسية والاستراتيجية، وأهميتها في بناء علاقات القوة لإسرائيل مع محيطها الفلسطيني والإقليمي والدولي.

الفرضية الأولى التي أود طرحها إبستمولوجية وتتعلق بين كون إسرائيل واقعاً، وبين كونها فكرة لها مدلولاتها المتنوعة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ومؤسساتياً وثقافياً. فممّا لا شك فيه أن هنالك واقعاً إسرائيلياً متنوعاً ومتعدد الأشكال في جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، لكن الأهم من ذلك كله هو الإطار المعرفي الذي من خلاله تتم دراسة هذه الجوانب. ورأيي هنا هو أن الفرضيات الإبستمولوجية والأنطولوجية بشأن إسرائيل تضعها في سياق تطور مجرى الحداثة الذي أدى إلى تكوين فكرة إسرائيل التي تموضعها في خندق ظواهر تاريخية حظيت باهتمام علم الاجتماع والتاريخ، مثل حركات تحرر الشعوب وحقها في ممارسة حق تقرير المصير في وطنها. هذا يعني فوقية حضارية في مواجهة ما تعتبره بربرية عربية وإسلامية في الشرق الأوسط، مثلما تجلى في الأدب والمسرح والفن، وحتى في موسيقى الحركة الصهيونية التي موضعت نفسها في سياق الحركة التنويرية الغربية، وركبت عجلة التاريخ الحداثية، موفرة التقدم التكنولوجي كدلالة قاطعة على فوقيتها الحضارية والإنسانية. هذه الفكرة الحداثية حجبت عدة جوانب من ظاهرة إسرائيل، وفي مقدمها الجوانب الكولونيالية الاستعمارية التي تحقق وجودها وتُخضع جميع جوانب الحياة في إسرائيل للمؤسسة العسكرية المهيمنة على صناعة الوعي والمعرفة الجماهيرية للمجتمع الإسرائيلي، بما في ذلك صناعة الوعي الفوقي المتحضر في مقابل الإسلامي العربي الشرقي الذي يتم تكوينه كالمتخلف والمنحط أخلاقياً والذي لا يؤتمن له. من الواضح أن هذه الرؤية الإبستمولوجية وفرضياتها الأنطولوجية كانت الأقوى، إذ إن دراسات إسرائيل فرضت هذه الرؤيا، ومنعت رؤى إثباتاتها مغايرة لها من الظهور إلى درجة أن أي دراسات نقدية، حتى إن كانت صهيونية، مثل كتابات باروخ كيمرلينغ أو أوري رام، اعتُبرت ضرباً من الأيديولوجيا، وليست جزءاً من المعجم المعرفي الصحيح (Kimmerling 2001; Ram 2018). إن التأسيس لهذه الفكرة مبني على فرضيات أنطولوجية لا بد من الإشارة إليها، وعلى رأسها وجود شعب يهودي لديه الحق في تقرير المصير، وله وطن تاريخي يُدعى أرض إسرائيل، وأن هذا الشعب جزء من الحركة التحررية الغربية التي تنعكس في حق تقرير المصير، مغيبة بذلك وجود أي شرعية أخلاقية أو سياسية أُخرى، يمكن أن تضاهيها أو حتى تشابهها. وبما أن جميع هذه المركبات قائمة أنطولوجياً، بحيث يمكن تحويل الفكرة إلى شرعية كمدخل لدراسة هذا الواقع، فإن فكرة إسرائيل تتحول إلى عقيدة ميتافيزيقية تلوح في أفق الوجود اليهودي، وبالتالي تعكس فكر مسيحاني (messianic). وفقاً لذلك تتحول دراسة وجود شعب آخر على قطعة الأرض نفسها، إلى دراسة خاضعة لمنهج سيكولوجي يهتم بمحاولة فهم تجلي ظاهرة التخلف ودوافع الكراهية للغرب على أساس أن إسرائيل جزء من هذا الغرب، أو البحث عن مصادر الإرهاب، أو دراسة مسببات ثقافة العنف. هذه الرؤيا تحوّل وجود الفلسطينيين إلى عقبة يجب إزالتها ليس لأنهم ظاهرة شرعية وأصحاب البلد الأصليون، وإنما لأن أخلاق الغرب تدمج بين التحلي بالتسامح والفوقية العسكرية، وعلى الآخر الفلسطيني الاختيار بين المساومة على وجوده، أو دفع ثمن استعمال القوة ضده وتحمّل المسؤولية عن كونه السبب الذي جعل الطرف المتنور يستعمل العنف منذ البداية. إن اعتراض الفلسطينيين على تقبّل هذا المفهوم حوّلهم إلى العامل السلبي في المعادلة، لأن الحالة الطبيعية هي أن يتم ترجمة مفهوم إسرائيل من الحيز الفكري إلى الحيز العملي. وإذا نظرنا الآن إلى معرفة إسرائيل، نرى أن هذه الفرضية الإبستمولوجية، أي المفهوم وتبعاته الأنطولوجية والقيمية، هي التي تهيمن على المعرفة بشأن إسرائيل، إذ لا توجد معرفة إسرائيلية عن إسرائيل لا تخضع للفرضيات المؤسسة للفكر الصهيوني، والتي تفترض حداثة إسرائيل وأخلاقيتها، وأنه إن وُجدت تحديات لذلك فإنها ليست في الهوامش فحسب، بل هي الدلالة القاطعة على "حقيقة" إسرائيل الليبرالية والمتسامحة والأخلاقية أيضاً. علاوة على ذلك، حتى الدراسات النقدية لإسرائيل تفصل بين إسرائيل الفكرة التي تراها الأغلبية أنها شرعية، وبين إسرائيل الظاهرة المترجمة في الدولة وسلوكياتها (Sternhell 1998; Ben-Eliezer 2012). إن الانتقاد هو للسلوك وليس للفكرة، حتى عند الدارسين النقديين للظاهرة، الأمر الذي يعني أن الفكرة تنجح في استغلال كيفية إقامة إسرائيل، وأن الاعتراض الفلسطيني هو للتأكيد أننا نتحدث عن حركة تحرر قومي شرعية، وأن النضال الفلسطيني يتم تأطيره من خلال الباراديغم المعرفي المتعلق بظاهرة الخطر والتهديد. من هنا التقبل الأعمى لمصطلحات مألوفة في إسرائيل مثل حرب التحرير أو الاستقلال، من دون الحاجة إلى التساؤل عن ماهية التحرر، وبأي الوسائل تم، ولماذا. هل هذا المثال يعني أنه لا يمكن دراسة إسرائيل بشكل أدق وعلمي، وبالتالي لا منظومة علمية لها قيمتها وأهميتها؟ إجابتي بحسب ما قلت سابقاً هي النفي. كل ما علينا القيام به هو تفكيك المنظومة الإبستمولوجية والفرضيات الأنطولوجية للتعرف إلى المنظومة القيمية التي تحكم دراسة إسرائيل، وأن نطرح بدائل ليس من باب المصلحة الضيقة أو الهوية الخاصة، وإنما بحسب مصالح إنسانية مشتركة توفر أساساً ثابتاً لعلم أدق ومتحرر من تبعات الفرضيات التي تحدثنا عنها، الأمر الذي يعني تحرير إسرائيل من نفسها، وتحرير المعرفة بشأن الواقع في إسرائيل من مصطلحات معرفية هيمنت على المعرفة وحولتها إلى آلية أيديولوجية فاعلة في صوغ الوعي الإسرائيلي، مثلما هي الحال في الفكر العسكراني المهيمن الذي ينظر إلى الواقع من باب التهديد والخطر، وبالتالي يشرعن الهيمنة العسكرية على نواحي الحياة كلها في الدولة الإسرائيلية.

الفرضية المعرفية الثانية تتعلق بالفرضيات الأنطولوجية المتعلقة بإسرائيل، إذ إن الطروحات المهيمنة في دراسات إسرائيل تغيّب كونها ليست معرّفة جغرافياً وديموغرافياً. ولهذا، فإن التشديد على الدولة الإسرائيلية، كأنها دولة طبيعية، يغيّب فقدان هذه الدولة المركبات الأساسية في تعريف الدولة، الأمر الذي له إسقاطات على عدة موضوعات لا بد من الإشارة إليها ولو بشكل مقتضب. الإسقاط الأول يتعلق بموضوع السيادة. فالسؤال عن مكان حدود السيادة الإسرائيلية على المستوى الجغرافي هو سؤال وجيه لا بد من طرحه في هذا السياق. وعلى الرغم من أن بعض الدراسات بشأن إسرائيل يطرح هذا الموضوع بوضوح، وخصوصاً تلك المتعلقة بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، فإن أغلبية الدراسات غير المتعلقة بذلك مباشرة، مثل الدراسات الصحية والاقتصادية والثقافية والفنية وحتى الاجتماعية، تفترض ضمناً أن إسرائيل هي دولة طبيعية، وبالتالي تغيّب هذه الدراسات الوضع القائم، وتتعامل مع الدولة الإسرائيلية على أنها مشابهة لغيرها من الدول على هذا المستوى. إن التطرق إلى الجانب الديموغرافي للسيادة الإسرائيلية يُبرز بشكل أوضح إسقاطات التعامل مع إسرائيل على أنها دولة طبيعية، وفي هذا السياق لا بد من ذكر ثلاث مجموعات سكانية مهمة من أجل توضيح هذه النقطة. المجموعة الأولى هي ملايين الفلسطينيين القابعين تحت سلطة إسرائيل، لكنهم لا يتمتعون بحقوق مدنية، وإنما يعيشون تحت سلطة عسكرية عمرها أكثر من خمسين عاماً. فهذه المجموعة التي تطالب بالاستقلال لا تنضوي تحت مصطلح الدولة الإسرائيلية في معظم الدراسات، مع أن أغلبية القرارات المتعلقة بحياة أعضائها على جميع الصعد يتم البتّ فيها من طرف الدولة الإسرائيلية، وخصوصاً من مواطنيها اليهود. المجموعة الثانية المهمة في هذا السياق هي مئات آلاف المستوطنين الذين يعيشون خارج الخط الأخضر، أي الحدود الرسمية التي تم الاعتراف بها من طرف الأمم المتحدة في سنة ١٩٤٩، ومع ذلك فهم شركاء بكل معنى الكلمة في ممارسة "السيادة" الإسرائيلية على أجزاء الشعب الفلسطيني القابعة تحت الاحتلال. المجموعة الثالثة المهمة في هذا السياق هي عموم أعضاء الشعب اليهودي الذين لا يُعتبرون مواطنين إسرائيليين بالقوة فحسب، بل يتدخلون بشكل واضح في وضع السياسات الأساسية للدولة الإسرائيلية أيضاً، وبالتالي يُفقدون مصطلح سيادة المواطنين أي معنى حقيقي، إذ يتم البت في القرارات المصيرية على أساس إثني، لا على أساس المواطنة. من الواضح أن تغييب هذه المركبات له إسقاطات واضحة على فهم الظاهرة المدروسة، إذ إن هذه الفرضيات لا تأخذ بعين الاعتبار أن عدم وجود حدود جغرافية واجتماعية واضحة للدولة ذو انعكاسات على الظاهرة نفسها، وما الفصل بين الظاهرة ومقوماتها، والبعد بين المستوى النظري والقانوني وبين الواقع العملي، إلاّ جزء من فرض القوة المعرفية لنفسها لمصلحة مفهوم أيديولوجي للدولة الإسرائيلية غير القائمة مثلما يتم افتراضها على أرض الواقع.

الفرضية المعرفية الثالثة تتعلق بمفهوم تاريخ الدولة وسياقها الزمني، ذلك بأن العلاقة بين الدولة الإسرائيلية التي أُقيمت في سنة ١٩٤٨، واصطناع الوجود اليهودي المفترض في فلسطين قبل آلاف الأعوام، هي فرضية مسلّم بها، وبالتالي تحدد معالم دراسات الدولة العبرية، مثلما تتجلى في دراسات رموزها وسياساتها التربوية وتصميمها لوعي مواطنيها ووعي العالم تجاهها. إن نظرة بسيطة إلى المعرفة التاريخية والأثرية والبيولوجية المتعلقة بعلم الجينات والجغرافيا السياسية تُظهر بشكل جلي أن هذه المعارف لا تفترض علاقة بين الدولة الإسرائيلية الحالية ودولة اليهود في عهدَي داود وسليمان فحسب، بل توفر لها أيضاً الموارد الهائلة من أجل التأسيس لهذا الادعاء، على اعتبار أن الدولة الإسرائيلية الحالية هي البيت الثالث للشعب اليهودي الذي عاد إلى أرضه بعد أن كان قد طُرد منها بالقوة. وفي هذا السياق يكفي النظر إلى الدراسات النقدية مثل كتب عالم الآثار يسرائيل فينكلشتاين الذي، وعلى الرغم من انتقاداته للدراسات الكلاسيكية في هذا المجال، يُبقي على الخيوط المعرفية الأساسية التي تربط بين ممالك اليهود القديمة وتاريخ الشعب اليهودي وإعادة بناء البيت الثالث في أرض الميعاد في العصر الحديث. إن هذه العودة إلى ما قبل التاريخ المعاصر، والتأسيس لتواصل زمني بين الماضي السحيق والزمن المعاصر هما عنف معرفي واضح، إذ يتم تغييب القطيعة التاريخية كجزء من تحركات سكانية طبيعية كانت وما زالت جزءاً لا يتجزأ من الوضع البشري العام، وخصوصاً في العصور القديمة، وما اصطناع التواصل التاريخي والسكاني إلاّ جزء لا يتجزأ من شرعنة الواقع الذي فُرض بالقوة بشكل تراجعي. كما يتجلى هذا العنف المعرفي في مهاجمة كل دراسة تمسّ بشرعية الدراسات الإسرائيلية المهيمنة في هذه المجالات، وعلى رأسها ما يتعلق بالوعي التاريخي وارتباطه بالدين، إذ يتم تحويل الكتاب المقدس إلى كتاب تاريخ يُحتذى به، أو يصبح أساس الدراسات المتعلقة بالأساس الجيني لليهود المرتبط بشكل مباشر باليهود القدماء على حد تعبير بعضها، مثلما أظهرت دراسة واسعة النطاق بقيادة دورون بيهار من مستشفى رمبام في حيفا (Behar 2010).

الفرضية المعرفية الرابعة تتعلق بالنظام السياسي لإسرائيل، وبالمنظومة القيمية التي تتحكم فيه. فأغلبية الكتابات الأكاديمية بشأن نظام إسرائيل السياسي تفترض أنها دولة ديمقراطية، وهذه الفرضية مبنية على بعض الإجراءات المؤسساتية المتمثلة في الانتخابات وفصل السلطات وتغيير الحكم بطريقة سلمية وبالحريات الفردية. لكن هذه الفرضيات تتغاضى عن الحكم العسكري الذي فُرض على الفلسطينيين حتى سنة 1966، أو قوانين الطوارىء المستعملة حتى اليوم، أو قانون الحاضر الغائب ومصادرة الأراضي العربية. هذه الموضوعات كلها إن طُرحت فإنها الاستثناء لا القاعدة، وهي مبطنة في سيكولوجية التهديد الوجودي التي تمنحها الشرعية إن تم في الأصل التنبه لها والحاجة إلى التعامل معها. يكفي أن نقرأ هنا بعض الكتب لمؤلفين مهمين مثل دان هوروفيتس وموشيه ليساك في كتابيهما: "أصل الدولة الإسرائيلية" (Origins of the Israeli Polity)، و"اضطراب في المدينة الفاضلة" (Trouble in Utopia)، (Horowitz and Lissak 1978; 1989)؛ أو كتاب آشر آريان: "الجمهورية الثانية" (The Second Republic)، (Arian 1998)؛ أو بيتر مدينغ: "تأسيس الديمقراطية الإسرائيلية" (The Founding of Israeli Democracy)، (Medding 1990)؛ وآخرون من الذين يمكن اعتبارهم من مؤسسي ومروجي فكرة ديمقراطية إسرائيل. إن فرضية الديمقراطية تحوّل التعامل مع النظام على أنه مشابه لأنظمة ديمقراطية غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وإذا نظرنا إلى الدراسات المقارنة في العالم نجد أنها، في معظمها، تتناول إسرائيل على أنها نظام ديمقراطي، حتى إن لم يكن متّبعاً بالشكل الموجود عليه في إسرائيل، الشيء الذي يمكن تبريره بأنه بسبب الظروف الاستثنائية لهذه الديمقراطية الشابة. وإذا نظرنا أيضاً إلى مؤشرات الديمقراطية في العالم، فسنجد أن إسرائيل موجودة هناك مثلما هي الحال مع مؤشر تشاتام (Chatham) هاوس، أو فريدوم هاوس، أو دراسات الانتخابات الديمقراطية في العالم الديمقراطي، ونجد التعامل مع إعلامها على أنه حر. وعلى الرغم من وجود دراسات نقدية لديمقراطية إسرائيل مثل نموذج الديمقراطية الإثنية لسامي سموحا (Smooha 2002)، فإن هذا النموذج يُبقي على المرجعية الديمقراطية لإسرائيل، وعلى أن الشذوذ عن النموذج الديمقراطي المثالي ينبع من حاجات واعتبارات قسرية لا ترغب إسرائيل فيها، وهي تتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. هذا النموذج النقدي يمنح النظام السياسي الإسرائيلي الشرعية اللازمة، وذلك من خلال تعليل السلوكيات غير الديمقراطية ونزعها عن طبيعة النظام وتحويلها إلى هامشية بالقياس مع جوهر النظام الذي يبقى ديمقراطياً في أساسه، متغاضياً عن أن النظام مبني على تمييز جذري بين أصناف متعددة من المواطنين من جهة، ومتغاضياً عن حقيقة كون النظام استعماري وتوسعي من جهة أُخرى، إذ إن ملايين الفلسطينيين يعيشون تحت وطأة قمع وبطش الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، ومتغاضياً عن أن المستوطنين اليهود الذين يعيشون في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 يحسمون نوعية الائتلاف الحكومي الذي يحكم الدولة، ويقتطعون جزءاً كبيراً من مواردها لدعم سياسات استعمارية واستيطانية لا تقرب الأنظمة الديمقراطية بشيء. ومن أجل تفكيك هذه الفرضيات لا بد من الإشارة إلى وتأكيد كيفية عمل المؤسسة السياسية الإسرائيلية، ونزع الأفكار المسبقة عنها، والتي تتمحور حول إجراءاتها السياسية أكثر من جوهر قراراتها وأهدافها، إذ إننا نتحدث عن استعمال نموذج قرار الأغلبية من أجل الحفاظ على فوقية المجتمع اليهودي وامتيازاته، وبالتالي نتحدث عن نظام ديكتاتورية الأغلبية الإثنية التي حذّر منها جون ستيوارت ميل في كتابه عن الحرية (Mill 1974)، ثم حنّه أرندت في كتابها عن الثورة (Arendt 2006).

الفرضية المعرفية الخامسة والأخيرة في هذا السياق تتعلق بمصطلح الاحتلال واستعمالاته الذكية في صناعة الوعي الإسرائيلي، والتأسيس لشرخ إدراكي بين الواقع اليومي والمفهوم الأيديولوجي لهذا الواقع. إن أحد المصطلحات الأكثر دهاء للمعرفة والعقل، والأكثر خدمة لتطبيع فكرة إسرائيل وكفّ النظر إليها على أنها نتاج لحركة كولونيالية توسعية، هو مصطلح الاحتلال الذي بُدىء باستعماله منذ سنة 1967. فهذا المصطلح الذي وضعته المؤسسة المعرفية الإسرائيلية وجّه الأنظار إلى أنه إذا كان هنالك استثناء في النظرة إلى إسرائيل فهو إنما يتعلق بالاحتلال لأراضي 1967. هذه النظرة والمصطلحات التابعة لها تؤكد بشكل أوتوماتيكي الرواية الإسرائيلية عمّا جرى في سنة 1948، وتعرضه على أنه تحرر وليس احتلالاً. بعبارة أُخرى إن مصطلح الاحتلال هو ليس توصيفاً لواقع عيني، وإنما نظرية معرفية تمحو وتغيِّب وتستحضر وعياً يتلاءم مع إرادة القوة التي تغذيه وتتغذى منه، والتي تطبّع إسرائيل في حدود الخط الأخضر، كأن هنالك فصلاً واضحاً بين إسرائيل الدولة الطبيعية والاحتلال غير الطبيعي الذي يصاغ كحالة موقتة ستزول في اللحظة التي يتم الاتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين. إن مصطلح الاحتلال يعكس الفرضية السائدة في إسرائيل وفحواها أن تقسيم فلسطين تم على المستوى المبدئي، وبقي تنفيذه على المستوى العملي، الأمر الذي يخلق قبولاً ذهنياً عاماً يؤكد شرعية إسرائيل والفرق بينها ككيان طبيعي وشرعي، وبين سياساتها الاضطرارية التي لا بد من التخلي عنها من أجل إعادتها إلى وضعها الطبيعي. تتضمن هذه الفكرة تجذير الرؤية الإسرائيلية التي لا ترى الفلسطينيين كشعب واحد مثلما يدل على ذلك استعمال مصطلح "عرب إسرائيل" كمحاولة لتفتيت الفلسطينيين وترسيخ التقسيم الطائفي المتّبع فيها، لكن عند التفكير في حل سياسي للقضية، فإنها تموضعهم كمجموعة واحدة عند الحديث عن الخطر الكامن في وجودهم، وفي مطالبتهم بالتحرر والاستقلال. بعبارة أُخرى، تأتي فكرة الاحتلال كقالب نظري لتأكيد فرضيات سياسية تمكّن الدولة الإسرائيلية من استغلال الوضع القائم من أجل تعزيز سيطرتها على أجزاء آخذة في التوسع من أرض فلسطين، وكي تسلخ الشعب عن الأرض، موحِّدة الأرض تحت سيطرتها، ومجزِّئة الشعب للتحكم فيه تحت وطأتها. وهنا لا بد من استحضار الاقتباس السابق من ميشيل فوكو كي نرى كيف أن القوة تستحضر المعرفة بشكل محنك، وأن المعرفة تشرعن القوة بشكل ناعم. ولايقع في مطبات هذه المعرفة الكولونيالية أكاديميون إسرائيليون اعتياديون فقط، بل دارسون نقديون وحتى فلسطينيون أيضاً.

للخلاصة يمكن القول إن نزع الصفة الاستعمارية عن المعرفة تعني تفكيك الفرضيات الإبستمولوجية والأنطولوجية والقيمية للمعرفة التي نحاول دراستها، ومحاولة تفحّص كيف أن هذه الفرضيات تؤدي إلى نشوء منظومة أيديولوجية تغلق الهوة بين المعرفة وموضوعها، وبالتالي تشرعنه. فأي دراسة نقدية لإسرائيل تعني إعادة فتح الفراغ المطلوب بين المعرفة عن موضوع معين، في هذه الحالة إسرائيل، وبين الموضوع نفسه، كي نجرد هذا الأخير من تبعات الفرضيات المبطنة في دراسته، ونحاول معرفته بشكل لا يُخضعنا لهذه الفرضيات بشكل مسبق. بمعنى آخر، إن دراسة إسرائيل لا تعني إجراء بحث تجريبي وسلوكي على جميع مركبات إسرائيل فقط، بل أيضاً دراسة الفرضيات الكامنة في كيفية دراسة إسرائيل، لأن القوة المعرفية الطاغية على دراسة هذه الحالة توجه الأنظار إلى جوانب معينه فيها، وتحجب النظر عن جوانب أُخرى، وبالتالي تحدّ المعرفة وتحولها إلى آلية تخدم القوة المهيمنة فيها. إن تفكيك ونقد الفرضيات المبطنة في دراسات إسرائيل، وخصوصاً في الفترة الأخيرة، إذ أقيم في العديد من جامعات العالم الغربي، ولا سيما في الولايات المتحدة، وحدات لدراسة إسرائيل تموّلها جهات متماهية مع الفكر الصهيوني المهيمن في إسرائيل، يصبحان مسؤولية بحثية مهمة للحدّ من استمرار أدلجة دراسات إسرائيل. هذه الأدلجة الحكيمة تتمحور في الفصل بين إسرائيل وسلوكياتها، فتتم شرعنة إسرائيل من خلال تقديم دراسات نقدية لسياساتها كدلالة مباشرة على حيادية الدراسة من جهة، وعلى الفرق بين الظاهرة، أي إسرائيل، وبين الحاجة إلى التعامل معها كظاهرة طبيعية مثل جميع الدول في العالم الغربي، وخصوصاً الديمقراطية منها، الأمر الذي يغيّب الاحتلال والتوسع الاستيطاني والتمييز القومي من جهة أُخرى. إن تطبيع إسرائيل ذهنياً وإدراكياً ومعرفياً يصبح الناتج الأساسي لعمليات دراسات إسرائيل، حتى إن كانت نقدية، لأنها تفصل بين طبيعتها ووجودها، كأن إسرائيل ممكن أن تكون شيئاً مختلفاً عمّا هي عليه اليوم، وهذه الدراسات ليست سوى جزء من محاولة تغييرها كي تتّسق وتتماهى مع ما يجب أن تكون عليه.

هذا التوجه الطاغي في دراسات إسرائيل يتحول إلى آلية حكيمة للادعاء أن ما تقوم به إسرائيل مشابه لما قامت به دول ديمقراطية أُخرى مثل بريطانيا أو فرنسا بكل ما يتعلق بتاريخهما الكولونيالي، أو بما تقومان به الآن بما يتعلق بأمنهما القومي وحقهما في الدفاع عن نفسَيهما في مواجهة الإرهاب، الأمر الذي يخلق اصطناعياً موازاة بين مقاومة الفلسطينيين لاحتلال أرضهم ومواجهة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي من جهة، ومواجهة عمليات إرهابية تتم في قلب بعض المدن الغربية من جانب مجموعات متطرفة من جهة أُخرى. هذه الدراسات المتعلقة بالمجتمع أو السياسة في إسرائيل تتغاضى عن حاجتها إلى أن توفر البراهين اللازمة من أجل نقض العلاقة بين التمييز والتوسع الاستيطاني ليس في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 فحسب، بل أيضاً داخل الخط الأخضر حيث يجذّر القانون الإسرائيلي التمييز والتوسع الاستيطاني اليهودي في الأراضي التي تمت مصادرتها من المواطنين الفلسطينيين الذين يتم الحدّ من نمو مدنهم وقراهم بشكل متعمد، وبين هوية إسرائيل كدولة يهودية. وعندما يقوم بعضها بذلك لا يتم دحر الادعاءات المتعلقة بالتمييز، وإنما شرعنتها بواسطة أبحاث مقارنة توفر أمثلة لدول مبنية على أسس تمييزية وتوسعية (Yakobson and Rubinstein 2009). ومن الواضح أن ادعاءات من هذا النوع ركيكة نظرياً وأخلاقياً، لأن وجود تجاوزات لا يمنح الشرعية للمتجاوزين على أساس المساواة في التجاوز، مثلما أن قيام بعض الأشخاص بالسرقة لا يمنح السرقة شرعية. كما أن علينا التنبيه هنا إلى أن نموذج قيمي لإسرائيل يهودية هو الذي يحدد الفرضيات والمصطلحات، وبالتالي النتائج المتعلقة ببحث ظاهرة إسرائيل؛ فالتغاضي مثلاً عن السياق التاريخي، يجب أن يكون محورياً في هذا السياق، إذ إن إسرائيل صنيعة عملية استيطانية في مكان عاش فيه شعب آخر طالب وما زال يطالب بالحق نفسه في تقرير المصير، وبأن إقامة إسرائيل هي العلة الأساسية آنذاك وحتى الآن، والتي تقف عائقاً أمام تحقيق هذا الحق. ومن هنا، فإن التطرق إلى إسرائيل كنظام ديمقراطي مبني على قرارات الأغلبية (majoritarian decisions) التي بحسبها يتم تطبيق السياسات، يعتّم على حقيقة تاريخية مهمة، وعلى أن هنالك تساؤلاً كبيراً عن حق الأغلبية في أن تتخذ قرارات تتعلق بمصير نسبة كبيرة من السكان ـ مواطنين وغير مواطنين ـ هم ضحية مباشرة لهذا السياسات التي يتم اتخاذها من دون مشاركتهم الحقيقية في عمليات اتخاذ القرار، الأمر الذي يُفقد هذه القرارات شرعيتها الإجرائية والقيمية والأخلاقية على حد سواء.

كما أن ادعاءات أخلاقية مثل التي يطرحها الفيلسوف حاييم غانس، والتي حتى إن أظهرت إجحاف إسرائيل وقيامها بأعمال ليس لها الحق في أن تقوم بها، إلاّ إنها في نهاية المطاف تشرعن الدولة اليهودية، وتتحدث عن صهيونية عادلة على أساس حق اليهود في ملجأ آمن هو المكان الوحيد الذي يستطيع الشعب اليهودي اللجوء إليه. وهذا الأمر هو الذي يؤدي دوراً مهماً في هويتهم ووعيهم الثقافي والديني بأن عليهم الدفاع عن أنفسهم في عملية اللجوء، وبالتالي نتجت من أعمالهم الدفاعية نتائج غير حميدة يجب الاعتراف بها والتعويض عنها (Gans 2008). هذه الادعاءات في نهاية الأمر مبنية على رؤية ترانسندنتالية لصهيونية لم توجد قط، وعلى ما يبدو من التوجهات المهيمنة في إسرائيل لا يمكن أن توجد إلاّ من خلال عملية إعادة صوغ متكاملة لتاريخ الشعب اليهودي والوعي الإسرائيلي، وهو ما يجعل ذلك مستعصياً أو بالأحرى مستحيلاً. علاوة على ذلك، فإن ادعاءات غانس، حتى إن كانت تمثل أفضل ما قدمته النظرية الإسرائيلية حتى اليوم، إلاّ إنها يمكن أن تُفهم على أنها عملية فكرية عميقة لشرعنة تراجعية لما يجب أن يتم تعليله، أي لماذا لم تنجح الصهيونية في أن تكون إنسانوية. وإذا كانت الإجابة عن ذلك متعلقة بمسوغات ذاتية مرتبطة بمميزات الحركة الصهيونية، فهذا يعني أنها لم ولن تستطيع أن تكون غير ذلك، وبالتالي فهي في هويتها كولونيالية وتوسعية، الأمر الذي ينزع الشرعية عنها. أمّا إذا كانت الإجابة متعلقة بردة فعل الفلسطينيين، فهذا يعني تحويل الضحية إلى جلاد من أجل تسويغ سلوكيات دفع ثمنها الشعب الفلسطيني بأكمله، وبالتالي فهي تسويغات مبنية على مغالطات منطقية ومنظومة قيمية غير متسقة. وحتى لو كان الادعاء جدلياً، أي أن نيات الحركة الصهيونية قابلتها ردات فعل فلسطينية أدت إلى تدهور العلاقات بين الطرفين، فهذه ادعاءات تساوي بين الطرفين على مستوى الفعل التاريخي، وتسحب ذلك على المستوى الأخلاقي، الأمر الذي يشوّش تحليل العلاقة بين الطرفين، ويمنح الحركة الصهيونية شرعية غير مبررة عملياً وأخلاقياً، لأنها تتغاضى عن علاقات القوة من جهة، وعن العلاقة المباشرة بين القوة والشرعية الأخلاقية من جهة أُخرى.

 

الدلالات النظرية للحالة العينية

في نقده للمعرفة الغربية، وفي مقدمها الفكر الكانطي والهيغيلي، والتي تبيَّن أن لها التزاماً هوياتياً وسياسياً مبطناً، وجّه المفكر الألماني فريدريك نيتشه أنظارنا إلى أن المعرفة الغربية، وخصوصاً الليبرالية القومية منها، التزمت بفرضية الذات الواعية لذاتها والتي تستبق واقعها، وباتت بالتالي قادرة على أن تتجاوز انخراطها في واقعها عندما تتجه إلى دراسته. هذه الفرضية التي أسس لها الفيلسوفان كانط وهيغل، الأول من خلال الفرضيات الترانسندنتالية التي تفترض أحادية معرفية عابرة للاختلافات الظرفية والثقافية، وذاتاً مستقلة قادرة على استيعاب حيثياتها، والثاني من خلال طرح مشروع تاريخي تحقق فيه الذات نفسها من خلال تطور جدلي نحو المثال الأسمى، تتضمن مشاريع فكرية حداثية رأى مفكرو الحركة الصهيونية أنفسهم جزءاً منها، وتتضمن جانباً تعسفياً وتوسعياً ـ إمبريالياً ذا ثلاثة مستويات:

المستوى الأول ينعكس في المصلحة التي تتحكم في إرادة المعرفة، والتي يتم ترجمتها بشكل أوتوماتيكي إلى الاستيلاء على موضوع المعرفة والتحكم فيه من أجل تفحّص مركباته، وبالتالي توصيفه وتحليله وتفكيكه وبناؤه من أجل تقديمه بشكل معرفي جديد أيديولوجي النزعة، لكنه يدّعي حيادية الهوية. إن تغييب المصلحة والظرف اللذين من خلالهما تتم عملية المعرفة باسم مشروع فكري شامل يؤدي إلى تفضيل رؤية معرفية معينة على بدائل قائمة بآليات معرفية وإدراكية ذكية تموضع هذه المعرفة على مستوى كوني، فتفضّل نفسها على بدائلها، مثلما هي الحال في دراسات إسرائيل التي تفترض شرعية الفكر الصهيوني كقاعدة معرفية تستبق تحليل ظاهرة إسرائيل، وبالتالي فإن أي نقد لإسرائيل لا ينتقص من شرعيتها، بل يأتي من أجل تحسين وضعها. وبما أنه من الواضح أن المصلحة لها علاقة بالمعرفة وبالعملية الإدراكية، وعلى الرغم من أن لغة هذه المعرفة شمولية، فإنه لا يمكن التغاضي عن نزعتها الفوقية التي تتطلب كشف تحايلها لأنها مجرد اعتقادات لا تعبّر عن حقيقة موضوعية، مثلما تعبّر عن اعتقاد قوي بقوتها في فرض نفسها كحقيقة (Nietzsche 2001). وبالتالي، فإن الوعي بهذه النزعة يتحول إلى جانب مهم في محاولة تنقية العملية المعرفية من شوائب تعكّر صفاءها، أي واقعيتها.

المستوى الثاني الذي لا بد من الإشارة إليه يتعلق بالفرضيات الأنطولوجية التي نبّه إليها نيتشه وطورها الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (Heidegger 2006). فالاثنان أشارا إلى أهمية الانتباه لماذا نفترض أن ظواهر معينة نقوم بدراستها موجودة. فالالتزام المبطن المسبق لموجودات معينة يغيّب حقيقة كونها تقيم علاقة جدلية مع العملية المعرفية التي تدل عليها، ولهذا، فإن تفكيك هذه الجدلية وأبعادها على عالم الظواهر، يصبح استراتيجياً في فهمها. وفي هذه السياق، تتحول العلاقة بين الأشياء وظاهرها إلى نقطة انطلاق تحليلية مهمة من أجل عدم الوقوع في مطب التعامل مع ظواهر الأشياء على أنها الأشياء نفسها، ومن أجل عدم التغاضي عن إمكان كون الأشياء مغيبة بواسطة ظواهرها، وبالنتيجة فإن دراستها تدل على كونها ذات صيرورة محددة تنبع من مجريات وحيثيات، وهي بالتالي، ليست مجردة وليست عابرة للزمان والمكان. بعبارة أُخرى، إن العملية المعرفية، أياً تكن، يجب ألاّ تفصل بين الموجود ورؤيتنا إليه، وبالتالي تتغاضى عن جانب مهم من العملية المعرفية. لهذا علينا تقصّي مفهوم الموجود بشكل جينيولوجي كي لا يؤخذ هذا الموجود كمفهوم مسلّم به. ومن أجل التبسيط، لا يمكن دراسة إسرائيل قبل أن نتفحص ماذا نفترض بإسرائيل على المستوى الأنطولوجي، وكيف أصبحت هذه الظاهرة تتضمن فرضيات مغيبة عن التفكير والتفكيك كجزء من نجاح إسرائيل في تمرير فكرتها من دون نقد، والتعامل مع سلوكياتها كالشيء الوحيد القابل للتحليل.

المستوى الثالث الذي نبّه إليه نيتشه هو الالتزام الأخلاقي المبطن بمصطلحات المعرفة وبعملية تقييم الحالة التي يتم دراستها. وهذا المستوى يعني أن أي عملية معرفية هي أيضاً التزام أخلاقي وأدبي بمنظومة قيمية تستبق عملية الاكتشاف والتمحيص والبحث. ومن هنا، فإن العملية المعرفية لحالة معينة، والمعرفة الناتجة منها، هما معرفة تتضمن انحيازاً أخلاقياً إلى قيم مبطنة فيها. لهذا، عند القيام بعملية البحث عن ظاهرة معينة يتعين علينا أن نتساءل عن الالتزامات والانحياز القيمي المبطن في الظاهرة المدروسة وفي عملية دراستها، مثلما أظهرنا في الأمثلة والنماذج التي حللناها سابقاً بشأن ظاهرة بحثنا هذا.

بالإجمال نحن نتحدث عن ثلاثة مستويات مركزية يجب أخذها بعين الاعتبار عند التوجه إلى الدراسة العلمية لواقع معين أو ظاهرة معينة، وهي الفرضيات الإبستمولوجية والأنطولوجية والقيمية. بالتالي إذا أردنا أن نطور معرفتنا لحالة معينة، مثلما هي الحال في دراسة إسرائيل، ومن أجل عدم الوقوع في مطبات التغاضي عن هذه الفرضيات المهمة، أو تحويلها إلى عوامل لا يمكن التعامل معها بحنكة من أجل عدم الوقوع في مأزق معرفي لا نهائي يؤدي في نهاية المطاف إلى إلغاء الصبغة العلمية عن المعرفة ويسخّرها لمتاهات خطرة، لا بد من أن نتنبه لدهاء المعرفة من جهة، وعدم الانزلاق في محوها من جهة أُخرى. هذا التوجه يعني تقبّل فرضية يورغن هابرماس أنه، وعلى الرغم من الاختلافات في منظور أبناء البشر واختلاف حيثياتهم وظروفهم، وعلى الرغم من العلاقة بين المعرفة والمصلحة والقوة، فإنه لا بد من التمسك بما هو مشترك بين أبناء البشر كلهم، وهو إرادة المعرفة العلمية المنزهة عن الخصوصيات ومكر المعرفة والأدلجة اللا ـ نهائية للواقع.

بعبارة أُخرى لا بد من الاعتراف بأن هنالك توقاً إنسانياً مشتركاً إلى المعرفة، وأن ذلك يجعلنا نفترض أن هنالك عوامل متشابهة تؤدي إلى حركات معينة في الطبيعة المادية، وأنه لا بد من وجود عوامل متشابهة تؤدي إلى أنماط سلوكية متشابهة عند أبناء البشر. الأمر المفهوم ضمناً هنا هو أننا لا نوازي بين حركة المادة في الطبيعة وحركة الجنس البشري، إذ إن الأخير واعٍ لنفسه، ولدراسته تأثير في حركته وتحركاته، وبالتالي، فإن التغاضي عمّا قاله الفيلسوف الألماني جيورج غادمير من أننا في العلوم الاجتماعية يجب أن نأخذ بعين الاعتبار التأويل المزدوج للمعرفة، هو مطب لا يمكن تجاوزه (Gadamer 1975). وعدم أخذ ذلك على محمل الجد، وحصر العلم الاجتماعي في مناهج مشتقة من العلوم الطبيعية، مثلما يفعل أصحاب المعسكر المحافظ الذي تحدثت عنه سابقاً، فيهما تحدٍّ غير بسيط يوقعنا من جديد في مطبات من شأنها زجنا إمّا فيه، وإمّا في نقيضه، أي المعسكر ما ـ بعد ـ الحداثي.

لذلك، واستناداً إلى قولنا إن هنالك إرادة معرفية شاملة عند جميع أبناء البشر، لا بد من إيجاد الطريق المعقول لبناء منظومة علمية تفترض الوقوف عند أسباب ودوافع سلوكيات أبناء البشر من خلال تحويل هذه الأسباب والدوافع إلى الساحة الأساسية للدراسة العلمية، منتبهين إلى الحيثيات والظروف والعوامل العينية التي تعطينا التعليل الأشمل والشرح الأوفى عن هذه السلوكيات. هذا التوجه يرى أن دراسة السلوكيات البشرية تشمل أيضاً السلوكيات العلمية، أي سلوك وتطور منظومات معرفية ومؤسسات علمية، والوقوف عند فرضياتها الإبستمولوجية والأنطولوجية والقيمية، وتأثير ذلك في تطورها وسلوكها وخصائص وميزات المعرفة التي تنتجها.

إن الوعي القاطع بهذه التوجهات ضروري من أجل الانتباه لنقطتين نظريتين لا بد من أخذهما بعين الاعتبار وبجدية وتعمّق لدى الحديث عن الدراسات الاجتماعية والإنسانية، وخصوصاً عندما نتحدث عن تكوين المعرفة في حالات الصراع، مثلما هي الحال في دراسات إسرائيل.

1 ـ عندما نتطرق إلى الحديث عن دراسة حالة عينية، مثل الحالة التي نتحدث عنها، يجب أن نتأكد من أننا واعون لإمكان عدم الحياد في إرادتنا للمعرفة، وأن من الممكن أن نفترض فرضيات إبستمولوجية وأنطولوجية وقيمية تتحكم في معرفتنا للظواهر التي ندرسها، وتحوّل دراساتنا إلى مجرد أطروحات أيديولوجية لا عماد لها، وهي غير قادرة على الصمود في وجه انتقادات مبنية على معلومات أكثر دقة بشأن الظواهر نفسها. الوعي بفرضياتنا مصدر قوة يجب ألاّ نفرّط فيه من أجل المقارعة أو تحويل العلم والمعرفة إلى مجرد سلاح نصوّبه نحو الآخر لنزع الشرعية عنه. إن دراسة الظواهر الاجتماعية من منظور هوياتي ضيق وغير واعٍ لفرضياته هو هدر للوقت من الناحية العلمية، أو عمل سياسي يتغطى بغلاف العلم إلى أن يحين نزع الشرعية عنه. بعبارات معممة أكثر، يمكنني القول إن عملية نزع الصبغة الكولونيالية عن معرفة أو ظاهرة معينة لا يمكن أن يتم مواجهتها بكولونيالية معرفية مضادة لسببين: الأول أننا بذلك نمنح الشرعية للكولونيالية المعرفية؛ الثاني أننا نُضعف موقفنا ونسخّره لهدف ضيق لا يخضع لمقاييس إنسانية عامة، وبالتالي يمكن نزع الشرعية عنه، وخصوصاً في حالة تتسم بعلاقات قوة غير متكافئة. فمثلما ذكرنا سابقاً، المعرفة والقوة متلاحمتان، وإذا كانت القوة تؤدي دوراً في المعرفة، فإنها تصبّ أكثر في خانة القوي. ولهذا يجب اتّباع موقف يتجاوز علاقات القوة، ويحاول ألاّ يحدد نفسه بهوية أو مصلحة ضيقة، وإنما يهتم ببحث نقدي يتعلق بمنظومة القيم والرؤى التاريخية ومجالات الحرية القائمة في وضع معين، وذلك من أجل تجاوز المطب الذي وقع فيه إدوارد سعيد عندما نشر كتابه العظيم "الاستشراق" (Orientalism) في سنة 1978. وبقي الوضع على ما هو عليه إلى أن قام بنشر توضيحات جذرية في النظرية والمنهج في كتابه: "العالم والنص والناقد" (The World, the Text and the Critic) (Said 1983)، ثم في الطبعة الجديدة لكتابه "الاستشراق"، والذي رد فيه على منتقديه، وأوضح موقفه مبتعداً عن الوقوع في جهد بحثي يخضع لقالب نظري ثابت ومحدد مسبقاً، أو لمصطلحات هوياتية جامدة، أو عن الانشغال بقضايا عينية خاصة، بدلاً من الاهتمام بالقيم والمبادىء الإنسانية التي على البحث العلمي العمل من أجلها، وهو ما صاغه سعيد في كتابه الأخير "الإنسانية والنقد الديمقراطي" (Humanism and Democratic Criticism)، (Said 2004). ففي هذا السياق أوضح سعيد أن رؤيته النظرية غير ملتزمة بمنظور تاريخي أو قالب نظري جامد ومحدد مسبقاً، لأن العقل البشري في تغيّر دائم. وبما أن التاريخ من صنيعة الإنسان، فإنه قابل للفهم بمصطلحات عقلانية، ومفتوح للإرادة الإنسانية، وبالتالي قابل للتغيير لأنه من صنيعتها (Said 2004, p. 11). هذه التوضيحات الفلسفية والنظرية والمنهجية لسعيد منحت كتاباته شرعية معرفية وعلمية لا يمكن لأحد دحضها أو التغاضي عن أهميتها، لما فيها من عمق معرفي وإبداع نظري وعطاء إنساني. فمن جهة، أتبع سعيد المقولة الفانونية بأن الحياد في علاقات القوة غير المتكافئة يؤدي دوراً لمصلحة القوي، بالتالي فإنه (سعيد) لم يدّعِ الحياد، من الناحية العلمية المعرفية، وإنما اتخذ موقفاً، لكنه تمسّك بأن يكون هذا الموقف موقفاً إنسانياً يخضع لقيم إنسانية عامة يجب أن يتم الحكم على الواقع الإنساني من خلالها، ليس لأنها مسقطة أو مفروضة من إرادة إلهية، وإنما لأنها تعكس إرادة بشرية عامة وتخدم مصالح إنسانية شاملة.

بعبارات أُخرى، أظهر سعيد بشكل جلي أن دراساته لا تقوم على أهداف استراتيجية على الرغم من إمكان استعمالها استراتيجياً، كما أظهر أن معرفته لا تنحصر في هويته الفلسطينية فقط، بل ترتبط أيضاً بتجربة إنسانية واسعة تتعلق بظواهر عامة موجودة في عدة أماكن من العالم، وتشد اهتمام المؤسسات العلمية، مثل الاقتلاع والتشريد والغربة واللجوء، التي تمس الحياة الإنسانية والكرامة البشرية، وليس لأن مجموعة معينة تعاني جرّاءها. وقد قدّم سعيد نظريات أساسية في العلوم الاجتماعية والآداب غيرت معالم هذه الحقول من أساسها، وهذه النظريات من الصعب تخيلها لو أنه تحدث عن هذه الموضوعات من خلال تجلياتها العينية الفلسطينية، منقطعاً عن النظرية العامة أو القيم الإنسانية الشاملة. كما أظهر سعيد أن معرفته لا تنبع من منظور جوهراني للآخر، وإنما من تفكيك حساس ومتفهم ومتأنٍّ لتكوين المنظومة المعرّفة بالآخر، وكيفية تسخيرها لمصالح ضيقة لا تخدم مبادىء إنسانية سامية تتعلق بالتحرر والحرية والمساواة، وإنما تخدم الاستعباد والكولونيالية ونزع الإنسانية عن كل مَن هو خارج إطار الهويات الحداثية التي ترى نفسها أرقى من الآخرين، وتربط بين تفوقها التكنولوجي وتفوقها الأخلاقي والحضاري. ولا شك في أن نظرياته كشفت عورات الفكر الصهيوني الذي كوّن معرفة فوقية تجاه العرب والفلسطينيين، وشرعن احتلال فلسطين بجميع الوسائل الفكرية المتاحة في المجالات العلمية المتنوعة، مثل التاريخ والجغرافيا وعلم السياسة وعلم الإنسان وعلم الاجتماع وعلم الآثار والبيولوجيا والآداب.

باختصار، إن التوجه الأول الذي يجب الحذر منه هو عدم قلب الاستشراق رأساً على عقب، وبالتالي الوقوع في مطبات "الاستغراب"، لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال عدم دراسة، أو الرهبة من دراسة الغرب، كما لا يعني أن الدراسة يجب أن تكون بحجة أن هنالك غرباً حقيقياً ثابتاً، وإنما لوجود مجتمعات غربية تعيش أنماط حياة وسلوكيات تقع تبعاتها عليها وعلينا وعلى العالم الذي نتقاسم بشكل غير متكافىء ثرواته، ولا بد من دراستها ومحاولة سبر غور دوافعها والعوامل الأساسية المؤثرة فيها. دراستنا هذه لا تهدف إلى دمغ جوهراني ومعادٍ للغرب، مثلما تفعل منظومات دينية معينة في الشرق، وإنما من أجل تطوير نظريات تعلل وتوضح لنا الدوافع الأساسية لهذه السلوكيات، وكيف أنها لا تنبع من هوية سابقة للسلوك واعية لنفسها بصورة مستمرة، بل لأن السلوكيات تخضع لظروف تاريخية واجتماعية واقتصادية معينة تؤدي إلى بناء هويات تتماشى معها وتسوّغها بشكل رجعي (retroactively).

2 ـ هدف هذه المداخلة يتعلق بنزع الصفة الكولونيالية عن دراسات إسرائيل ومعرفتها، ولا بد في هذا السياق من أن نشير إلى أننا نتحدث عن مستويين: الأول يتعلق بمعرفة إسرائيل ودراساتها، والثاني يتعلق بإسرائيل. هذا يعني أن هنالك دراسات عن إسرائيل، وهنالك دراسات تُعنى بدراسة الدراسات عن إسرائيل. من الواضح أن المستويين مرتبط أحدهما بالآخر، وعلى الرغم من إمكان الفصل التحليلي بينهما، فإن هنالك روابط عميقة بينهما بحيث إن أحدهما يغذّي الآخر منذ نشأة الحركة الصهيونية حتى يومنا هذا. وبما أن أغلبية دراسات إسرائيل قامت بها وما زالت مؤسسات إسرائيلية أو يهودية داخل إسرائيل وخارجها، أو مؤسسات علمية خضعت للرؤية المعرفية الإسرائيلية، فإننا نجد أن هنالك تجانساً كبيراً بين فرضيات دراسات إسرائيل، وفرضيات الدراسات بشأن دراسات إسرائيل. وهذا إن دل على شيء فإنه إنما يدل على أن العمليات المعرفية بشأن إسرائيل وعنها بُنيت على فرضيات إبستمولوجية وأنطولوجية وقيمية تتقبل أن المعرفة في إسرائيل منفتحة ومتنورة وليبرالية وتعددية، وبالتالي فإن المعرفة الناشئة عن مؤسساتها هي معرفة علمية منزهة عن المصالح والأهداف الاستراتيجية والسياسية للمؤسسة الصهيونية. هذه الصبغة عن المعرفة الإسرائيلية بأكملها تمنح دراسات إسرائيل الإسرائيلية شرعية دولية، تماماً مثلما تمنح المحكمة العليا الجهازين التشريعي والقضائي الإسرائيلي شرعية عالمية على الرغم من الممارسات التي تمسّ بحقوق الإنسان الأساسية، وخصوصاً في الأراضي الفلسطينية القابعة تحت الاحتلال أو الحصار منذ سنة 1967. لإجمال هذه النقطة، أستطيع القول إنها بجانب صناعة المعرفة في إسرائيل هنالك عملية صناعة للمعرفة بشأن المعرفة الإسرائيلية تمنحها الشرعية، وبالتالي تغيّب إمكان التشكيك في صدقية المعرفة الإسرائيلية والتنبيه لالتزامها الاستراتيجي والأيديولوجي.

لهذا تتحول عملية نزع الكولونيالية عن معرفة إسرائيل إلى عملية معقدة هي جزء ليس فقط من تحرير الموضوع المدروس من فرضياته، بل تحريرنا نحن أيضاً من الوقوع في مطبات نسخّر فيها جهودنا المعرفية لمنظومة أيديولوجية تعيش على عدم وعينا، وتشرعن الظاهرة بدلاً من أن تقدّم دراسة تفكك الارتباط المحكم بينها وبين شرعنتها. هذه العملية هي محاولة لفصل المعرفة عن القوة في عملية التعرّف إلى ظاهرة معينة، وبالتالي هي لا تطرح تساؤلات عن حنكة منظومة السيطرة المبطنة في المعرفة فحسب، بل عن موقع الباحث أو الباحثة التواقَين إلى المعرفة أيضاً.

 

خلاصة

هذه الدراسة تطرح تساؤلاً بشأن العلاقة بين موقع البحث العلمي من الظواهر التي يدرسها ، كما أنها بصورة خاصة، تساءلت عن إمكان تغلّب الباحث العلمي في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية على الفرضيات الإدراكية والوضعية والقيمية المبطنة في أي دراسة كانت وتجاوز إسقاطاتها. وبما أننا صرّحنا وأثبتنا أن ذلك غير ممكن، فإنه يجب الإشارة إلى أن المسؤولية عن عدم استبدال هيمنة منظومة ورؤية إبستمولوجية وقيمية معينة تتحكم في دراسة ظاهرة إسرائيل بمنظومة بديلة أحادية وملتزمة إبستمولوجياً وأخلاقياً، تقع علينا كباحثين وباحثات لهذا الموضوع. إن العمل العلمي تحرري ليس بطبيعته، وإنما بالإمكانات المبطنة فيه، وإذا لم نطور الوعي النظري الكافي من أجل ذلك، فإننا سنمضي حياتنا في معترك معرفي نحارب فيه من أجل معرفة تشرعن واقع منافٍ ومناقض لحقّنا الأساسي ليس في المعرفة فحسب، بل في التحرر من نير دهائها أيضاً. وهذا لا ينطبق على التحرر من فرضيات دراسة إسرائيل التي تشرعنها وتغيّب جوانبها الاستعمارية والكولونيالية فحسب، بل أيضاً على الحاجة إلى عدم تحويل نموذج تحليلي ونقدي محدد إلى النموذج الوحيد القادر على فهم الظاهرة، وبالتالي منحه نوعاً من القدسية الميتافيزيقية التي لا تتماشى مع روح العقل البشري المتغير والمتقلب، مثلما أفصح العديد من مفكري الفكر التحرري، وعلى رأسهم المفكر الهندي بارثا تشاترجي (Chatterjee 1986)، كما ينطبق على الحاجة إلى أن تكون الدراسات الاجتماعية والإنسانية واعية لنفسها ولفرضياتها ولالتزاماتها الإبستمولوجية والأنطولوجية والأخلاقية، وأن تكون انعكاسية بالمفهوم الذي أوصى به الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو (Bourdieu 2004)، أي عدم الالتزام المسبق بعلاقة ثابتة بين العلة والمعلول، وإنما النظر إليهما كبديلين جائزين على المستوى الإبستمولوجي والأخلاقي على حد سواء. وفي هذا السياق يدعونا بورديو إلى اليقظة الإبستمولوجية قائلاً:

"إن الأمر لا يتعلق بمتابعة شكل جديد من المعرفة المطلقة، بل بممارسة شكل محدد من اليقظة الإبستمولوجية، وهو الشكل الذي يجب أن تتخذه هذه اليقظة في منطقة تكون فيها العقبات الإبستمولوجية، أولاً وقبل أي شيء، هي العوائق الاجتماعية" (Bourdieu 2004, p. 89).

بعبارات أوسع، إن عملية تفكيك فرضيات دراسات معينة كالتي نتحدث عنها في هذا السياق، أي دراسات إسرائيل من أجل نزع النزعة الكولونيالية المتجذرة فيها على المستوى الإبستمولوجي والأنطولوجي والأخلاقي، يجب أن تخضع لمقاييس مهمة يذكّرنا بها المفكر الفرنسي جاك دريدا (Derrida 2005)، عدم الخضوع لنموذج جاهز لواقع بديل من ذلك الذي ننتقده ونفككه من أجل إبقاء الباب الأخلاقي للمعرفة مفتوحاً على أفق كلما اقتربنا منه ابتعد عنا، وذلك كي لا نقع في مطبات تسخير المعرفة للقوة من جهة، وكي نستطيع بناء مستقبل لا يستبدل واقعاً بواقع آخر شبيه به، لكنه معكوس من جهة أُخرى. نموذج بورديو ودريدا يكمل أحدهما الآخر في محاولة ليست منهجية فقط، بل إبستمولوجية وأخلاقية أيضاً، تهدف إلى توفير أرضية لترسيخ الإنسانوية في العالم، واستبدال ما ننتقده بنموذج يتجاوز أخطاءه، ويسخّر العملية العلمية لخدمة واقع تعددي وتسامحي وحر أكثر. فقط عند ذلك، أي عندما نتواصل مع مصالح إنسانية عامة متجاوزين ضغوط الهوية العينية والحيثيات الآنية، ونحرر المعرفة من أي نزعة كولونيالية تُخضعها لاعتبارات الهيمنة والقوة، فقط عندها نؤكد ونحافظ على مشروع معرفي تحرري وإنساني أكده الراحل إدوارد سعيد في كتابه الأخير: "الإنسانية والنقد الديمقراطي".

 

المراجع

 

Arendt, Hannah (2006). On Revolution. New York: Penguin Books.

Arian, Asher (1998). The Second Republic: Politics in Israel. New Jersey: Chatham House.

Behar, Doron et al. (9 June 2010). “The Genome-Wide Structure of the Jewish People”. Nature, no. 466, pp. 238-242, https://www.nature.com/articles/nature09103

Ben-Eliezer, Uri (2012). Old Conflict, New War: Israel’s Politics Toward the Palestinians. New York: Palgrave Macmillan.

Berlin, Isaiah (2001). The Roots of Romanticism. Princeton: Princeton University Press.

Bourdieu, Pierre (2004). Science of Science and Reflexivity. Chicago: University of Chicago Press.

Chatterjee, Partha (1986). Nationalist Thought and the Colonial World: A Derivative Discourse. London: Zed Books.

Connolly, William E. (Fall 1973). “Theoretical Self-Consciousness”. Polity, vol. 6, no. 1, pp. 5-35.

Davies, Merryl Wyn, Ashis Nandy and Ziauddin Sardar (1993). Barbaric Others: A Manifesto on Western Racism. London: Pluto Press.

Derrida, Jacques (1997). Deconstruction in a Nutshell: A Conversation with Jacques Derrida. Edited by John Caputo. New York: Fordham University Press.

---------- (2005). Rogues: Two Essays on Reason. Translated by Pascale-Anne Brault and Michael Naas. Stanford: Stanford University Press.

Fanon, Franz (1963). Wretched of the Earth. New York: Grove Press.

Flikschuh, Katrin and Lea Ypi, eds. (2014). Kant and Colonialism: Historical and Critical Perspectives. Oxford: Oxford University Press.

Foucault, Michel (1980). Power/Knowledge: Selected Interviews and Other Writings, 1972-1977. Edited by Colin Gordon. New York: Pantheon Books.

Gadamer, Hans-Georg (1975). Truth and Method. New York: Seabury Press.

Gans, Chaim (2008). A Just Zionism: On the Morality of the Jewish State. Oxford: Oxford University Press.

Habermas, Jürgen (1972). Knowledge and Human Interests. London: Heinemann Educational Publishers.

---------- (1981). "Theorie des Kommunikativen Handelns". Handlungsrationalität und gesellschaflichi Rationalisierung, vol. 1. Frankfurt am Main: Suhrkamp.

Habermas, Jürgen and Seyla Ben-Habib (Winter 1981). “Modernity versus Postmodernity”. New German Critique, no. 22, pp. 3-14.

Harding, Sandra (2015). Objectivity and Diversity: Another Logic of Scientific Research. Chicago: The University of Chicago Press.

Hegel, Georg Wilhelm Friedrich (1977). Phenomenology of Spirit. Translated by Arnold V. Miller. Oxford: Oxford University Press.

Heidegger, Martin (2006). Sein und Zeit. Tübingen: Max Niemeyer Verlag.

Horowitz, Dan and Moshe Lissak (1978). Origins of the Israeli Polity: Palestine under the Mandate. Chicago: University of Chicago Press.

---------- (1989). Trouble in Utopia: The Overburdened Polity of Israel. New York: State University of New York Press.

Hourani, George Fadlo (1985). Reason and Tradition in Islamic Ethics. Cambridge: Cambridge University Press.

Hoy, David Couzens (2005). Critical Resistance: From Poststructuralism to Post-Critique. Cambridge, Massachusetts: MIT Press.

Huntington, Samuel (1996). The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order. New York: Simon and Schuster.

Husserl, Edmund (1973). Experience and Judgement: Investigations in a Genealogy of Logic. Evanston: Northwestern University Press.

Kant, Immanuel (2007). Critique of Pure Reason. London: Penguin Books.

Kimmerling, Baruch (2001). The Invention and Decline of Israeliness: State, Society, and the Military. Berkeley: University of California Press.

Kuhn, Thomas S. (1962). The Structure of Scientific Revolutions. Chicago: University of Chicago Press.

Lorde, Audre (1984). Sister Outsider: Essays and Speeches. “The Master’s Tools Will Never Dismantle the Master’s House”. Berkeley: Crossing Press, pp. 110-113.

Lukes, Steven (2008). Moral Relativism. New York: Picador.

Lyotard, Jean-François (1984). The Postmodern Condition: A Report on Knowledge. Minneapolis: University of Minnesota Press.

Mead, George Herbert (2002). The Philosophy of the Present. New York: Prometheus Books.

Medding, Peter (1990). The Founding of Israeli Democracy, 1948-1967. New York: Oxford University Press.

Mill, John Stuart (1974). On liberty. Baltimore: Penguin Books.

Nietzsche, Friedrich (2001). The Gay Science: With a Prelude in German Rhymes and an Appendix of Songs. Edited by Bernard Williams. Translated by josefine Nauckhoff and Adrian Del Caro. Cambridge: Cambridge University Press.

---------- (2017). The Will to Power. London: Penguin Books.

Parekh, Bhikhu (2000). Rethinking Multiculturalism: Cultural Diversity and Political Theory. Basingstoke: Palgrave Macmillan.

Ram, Uri (2018). Israeli Sociology: Text and Context. Switzerland: Palgrave Macmillan.

Said, Edward W. (1983). The World, The Text and The Critic. London: Vintage Books.

---------- (1995). Orientalism. London: Penguin Books.

---------- (2004). Humanism and Democratic Criticism. New York: Columbia University Press.

Sartre, Jean-Paul (1956). Being and Nothingness: A Phenomenological Essay on Ontology. Translated by Hazel E. Barnes. New York: Washington Square Press.

Smooha, Sammy (October 2002). “The Model of Ethnic Democracy: Israel as a Jewish and Democratic State”. Nations and Nationalism, vol8, issue 4, pp. 475-503.

Sternhell, Zeev (1998). The Founding Myths of IsraelNationalism, Socialism and the Making of the Jewish State. Translated by David Maisel. Princeton: Princeton University Press.

Toulmin, Stephen (1961). Foresight and Understanding: An Enquiry into the Aims of Science. New York: Harper and Row.

Yakobson, Alexander and Amnon Rubinstein (2009). Israel and the Family of NationsThe Jewish Nation-State and Human Rights. London: Routledge.

السيرة الشخصية: 

أمل جمال: بروفسور في العلوم السياسية في جامعة تل أبيب، ومدير برنامج الإعلام السياسي للمدراء في الجامعة، والمدير العام السابق لـ "مركز إعلام ـ المركز العربي للحريات الإعلامية والتطوير والبحوث".