في ذكرى حرب العام 1967 أي مستقبل ينتظرنا؟
التاريخ: 
17/06/2011
المؤلف: 

 إذا كان قسطنطين زريق هو الذي أطلق على عملية الاستيلاء على فلسطين واحتلالها في العام 1948 اسم "النكبة" وذهبت مثلاً؛ فلا أدري من أطلق اسم "النكسة" على حرب 1967 التي تفتحت عليها الأعين المراهقة المصدومة لجيلي. طبعاً للتسميات معناها ومغزاها، وإذا كان قُصد بالنكبة حصول أمر جلل يصعب تخطيه بسهولة؛ فلقد أوحت تسمية النكسة في جعلها حدثاً عابراً سرعان ما نغادره ونعود إلى "مسيرة تقدمنا المظفرة" التي كانت تعدنا بها الأنظمة العربية بقيادة عبد الناصر.

وعبد الناصر الذي جعلنا نحلم كثيراً، الأمر الضروري في حد ذاته، فماذا يمكننا أن نفعل لولا إمكانية الحلم؟ فحتى الثورات التي تتحقق الآن ومهما صادفها من صعاب وحواجز بدأت حلماً مستحيلاً!! عبد الناصر فتح لنا نافذة أمل في الليل الذي فتحنا أعيننا عليه؛ لذا عندما حصلت النكسة وسمعته يعلن نيته في التنحي، أغبشت الدنيا أمام ناظري وكنت في سيارة أجرة، وامتلأت عيوني بدموع الرفض والغضب، فالنصر كان على الأبواب والطائرات الإسرائيلية كانت تتساقط كالذباب كما أخبرنا أحمد سعيد!!

حينها عاهدت نفسي، على نزع الغشاوات كافة عن عيني وعلى عدم تصديق البروباغندات وعدم الانجرار خلف الشعارات الجوفاء؛ وقررت أن أكون "موضوعية" قدر استطاعتي وأن لا أترك للايديولوجيا أن تجرني من أنفي. شكلت النكسة صفعة قاسية لجيلي جعلته يجرب نضالاته ومقاوماته وحروبه، التي ومع حصة النقد الذاتي اللازمة تجاهها، أفضت فيما أفضت إليه إلى مزيد من الوعي وأدت إلى رفض العنف المجاني لأنه لم يجلب إلا المزيد من الخراب. وهذا ما أفضى إلى جعل الخيار اللاعنفي للجيل الشاب للثورات الرائعة التي نشهدها من المسلمات؛ بحيث أنهم أعطوا لمفردة الثورة، التي كانت مرادفاً للعنف والدم، معنى وبعداً جديدين سوف يساهمان في تغيير معنى الثورة في قواميس العالم.

هذه النكسة وما تلاها من هزائم وعنف، وخاصة أنواع الحروب المتنوعة التي تعرض لها لبنان، من الاحتراب الأهلي إلى الهيمنة الأخوية إلى الاغتيالات وجميع أنواع الإكراهات باسم العروبة نفسها جعلتنا نبتعد عن العروبة الجامدة القامعة التي لم تعن سوى أنظمة الاستبداد والتي تفننت في التنكر بأشكال متنوعة: من الجمهوريات الاشتراكية إلى الجماهيريات إلى الممالك إلى الثورات.. فهي لم ترتبط في أذهاننا سوى بالخسارات وبتحولها إلى مجرد غطاء للقمع والاستبداد للأنظمة التي تتخذ من الممانعة اللفظية غطاء لمهادناتها وتنازلاتها السرية!!

ورسخت صورة الفرد العربي الفاشل والعنيف والمتعصب والكسول غير المسؤول والقابل بمصادرة حرياته كافة.

أما على المستوى السياسي فلقد ارتبطت العروبة بالاستبداد والديكتاتورية والتبعية والتسلط والفساد وسيطرة المنطق الميليشيوي والصراعات الدموية العشائرية والقبلية والمذهبية في شكل مناقض تماماً لمنطق المؤسسات الديموقراطية التي تعتمد المساءلة والمحاسبة والشفافية وتحترم حقوق الإنسان.

كما أدى ارتباطها الحديث بالإسلاموية، إلى التشكيك بعروبة لبنان بحيث يتم تناسي أن هذه العروبة وجدت جذورها في هذه المنطقة من المشرق وعلى أيدي المثقفين المسيحيين خاصة، حيث توفر لهم الانفتاح على أوروبا وعلى الداخل في آن معاً. وكانت مساهمتهم في النهضة الأدبية والثقافية العربية كبيرة، هذه العروبة كانت مطلبا هاماً للمسيحيين الذين كانوا مواطنين من الدرجة الثانية في السلطنة العثمانية.

وبعد أن انطلقت فكرة العروبة متأثرة بالنزعة الإنسانية الكونية للقرن التاسع عشر وبأفكار عصر النهضة، وحملت شعارات الثورة الفرنسية: حرية، عدالة، مساواة، وارتبطت في بداياتها بالفلسفة القومية التي انبعثت في القرن التاسع عشر في أوروبا؛ بخاصة بعد فشل مشروع تحديث الإمبراطورية العثمانية وظهور حركة التتريك القومية؛ نجد أن العروبة التي أعيد بناؤها بقوة، بخاصة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، خصوصا بعد انهيار حلم المملكة العربية، هي عروبة قومية ضيقة وانقلابية وسوف تؤسس لبروز قوميات قطرية شوفينية متعصبة تحت شعار العروبة. 

بحيث أصبح منطلق العروبة التي نادى بها القومجيون مختلفا تمام الاختلاف عن المفاهيم القديمة من أفكار ثقافية وإنسانية كونية، ومن مفاهيم النخبة في فترة الاستعمار التي حلمت بتكوين دولة سيدة مستقلة، فتحولت إلى حركات شعبوية جمعت بين العداء للاستعمار وبين مناهضة النخب والطبقات الارستقراطية الحاكمة التي بدت وكأنها الحليفة الأساسية لهذا الاستعمار. ومن هنا كانت الحركة القومية العربية منذ بداياتها حركة انقلابية تراهن على التعبئة الشعبوية.

 وعلى الرغم من أن الوحدة كانت محور التعبئة الأيديولوجية للحركة القومية العربية، إلا أن نشاطها سوف يتركز على تغيير توازنات السلطة داخل كل قطر وإعادة توزيع الثروة لصالح الفئات والطبقات الحاكمة الجديدة وحزبها التوتاليتاري الواحد. ولم يتحقق من حلم الوحدة سوى تلك التي حصلت بين مصر وسورية، ولم تدم أكثر من 3 سنوات؛ ولكونها ذات جذور انقلابية عسكرية لم تعط أي قيمة للقيم الديمقراطية وللتمثيل الدستوري أو القانوني.

واستقرت في النهاية طبعة جديدة من العروبة اختلفت جذريا عن العروبة السابقة ذات قيم الاستقلال والوحدة والسيادة، وسميت بحسب الأدبيات الماركسية باسم حركات التحرر الوطني، ولم تكن سوى أنظمة أمنية ومستبدة حكمت باسم أحزاب مكونة من الطبقات الجديدة وعائلاتها وأتباعها. 

من هنا لم يسفر انحلال السلطنة العثمانية وظهور أنموذج الدولة القومية عن نشوء جماعة عربية موحدة في دولة عربية تتطابق فيها الحدود الثقافية القومية مع الحدود السياسية، بسبب غياب قوة سياسية عربية، الأمر الذي أدى إلى أزمة على مستوى الهوية وعروبتها. 

وهكذا أخفقت الحركة القومية العربية في تحرير فلسطين وفي تحقيق حلم الدولة القومية، كما أخفقت في تحقيق العدالة، أو التقدم والنمو، وأوصلت الأمور إلى طريق مسدودة. هذا الإفلاس نزع عن الأيديولوجية العروبية كل صدقية، وهذا ما أدى إلى انفصال الواقع عن الأيديولوجيا وأوجد هوة بينهما، ولم تعد هذه العروبة خياراً أو حلاً ممكناً. 

من هنا برزت ضرورة العمل على إرساء دول تكون مرجعيتها الديمقراطية والمواطنة واحترام حقوق الإنسان. فلكي تستعيد العروبة أحقيتها، ينبغي أن تحمل قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة التامة الأخلاقية والقانونية. 

ولكي نأمل بعروبة للمستقبل تصلح لأن تكون أداة انبعاث جديد تلبي طموحات الأجيال الجديدة، ينبغي أن تبرهن عن استحقاقها عبر بناء بلدان مدنية متطورة وقادرة على احترام مواطنيها وحرياتهم الفردية وحرية التعبير والمعتقد وعلى تلبية حاجاتهم كافة. عندها فقط يمكن أن تتمكن الدول العربية من مجاراة العالم في تحوله إلى كيانات كبيرة عبر وحدتها المنشودة منذ عقود بين دول ديمقراطية حقيقة. وهذا ما تعدنا به الثورات العربية الناشئة في مختلف البلدان العربية التي قربت ما بين الشعوب وأشعرتهم بالوحدة العميقة التي تجمع بينهم بعد أن عملت الأنظمة الحاكمة على تفرقتهم، بحيث نلاحظ بروز وعي عروبي جامع لم يسجل منذ حقبة طويلة.

العالم العربي يتحول بشكل راديكالي.  قبل الآن كان التغير في التاريخ، الذي هو أحد نواميس الطبيعة الجوهرية، يحصل ببطء وتلزمه عشرات بل مئات السنين ليأتي سبارتاكوس واحد كل قرون ليحرر العبيد. تبدّل الوضع الآن، فالتغيير صار يحدث في غمضة عين، وما يبدو مفاجئاً لن يعود كذلك. هناك شروط جديدة للحياة لم يعد مقبولاً التغاضي عنها؛ وهناك حقوق أساسية للإنسان لا يمكن تجاهلها: الحق في الكرامة، ويشمل الغذاء والسكن والدواء والتعليم والحقوق السياسية الكاملة والحريات على أنواعها. الشباب العربي يعاين كيف يعيش أمثاله في البلدان الحرة ولا يرى سبباً لجعله شبيهاً بإنسان العصور الحجرية، ويحصل على أقل مما تحصل عليه الحيوانات في الدول الغنية التي تتواصل "بديمقراطية" مع حكّامنا وتحمي المصالح المشتركة.

لقد ألزمت الثورات العربية الدول الغربية من الآن وصاعداً بجعل ممارستها شفافة لجهة التخلي عن دعم الحكومات الاستبدادية ودعم الحركات المطلبية الشبابية التي تهدف إلى إرساء حكومات ديموقراطية تمنح الشعوب حقوقها كافة وتسمح بدينامية نمو اقتصادي واجتماعي وتربوي مما يعد بتحوّل دراماتيكي على مدى المسقبل المتوسط.

إن أفضل ما قدمته لنا الثورات العربية، هو صبّ مطالبها على حاجاتها الداخلية من حريات وإصلاح وقضاء على الفساد وتنمية وتربية فغابت شعارات شتم الإمبريالية والصهيونية. ليس لأن الشباب المصري مثلاً راض عن العلاقة المهينة والمجحفة التي أقامها النظام المصري (وأنظمة الاعتدال ) مع إسرائيل، وسكوته المريب عن تعاملها الوحشي مع الفلسطينيين، بل لأن الشتم ودوس الأعلام التي تجيدهما دول الممانعة، لا يفيدان سوى في تنفيس الغضب!

 يعي شباب ثورة 25 يناير أن المطلوب إلزام إسرائيل الخضوع لمنطق القانون الدولي واحترام الاتفاقات والقرارات الدولية وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة ودولتهم الكاملة السيادة. فهم الشباب أن الهتاف لا يعدّل ميزان القوى هذا، بل العمل على تحقيق المطالب بالوسائل المشروعة والقانونية قبل استخدام العنف. ولأننا لا يمكن أن نطالب الدول بأن تُعامَلنا بعدل واحترام طالما أن هذا الاحترام غير متوافر للمواطن العربي في أوطانه، وطالما لم نقم بتحقيق العدالة بيننا نحن المواطنين العرب الخاضعين لظلم ذوي القربى، فلن تتحرر فلسطين. الأحرار في بلدانهم هم الأقوياء، لذا المهمة الأولى أن نكون أحراراً في أوطاننا. وهذا ما تطلبه وتؤكده الثورة الشبابية المدنية السلمية الناضجة، عبر المزج بين المطالب المعيشية ومطالب الإصلاح السياسي ومكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين.

 وائل غنيم الذي وصف النظام المصري بأنه يمتلك منظومة متكاملة لإعدام كرامة المصريين؛ لم يعن له هذا ولرفاقه الانتقام أو تصفية الحسابات ولا فرض الايديولوجيات. يقول إنه فقط وقت المطالبة بالحقوق وببناء الدولة المدنية. ثورة لا تريد بعد الآن حكاماً وزعماء كاريزماتيين يقمعون الشعب ويسامحهم، يرتكبون الأخطاء المميتة ونتركهم يأخذوننا إلى الهاوية لأن لهم سحراً علينا وتبهرنا خطاباتهم البليغة. لم تعد الخطابة مطلوبة ولا البروباغندا. يريد هذا الشباب ممثلين سياسيين يقومون بمهامهم ويرحلون. يكرر شباب الثورة المصرية: الشرطة في خدمة الشعب، السياسيون المنتخبون هم كذلك لخدمة الشعب، وليس العكس.

الثورة ستعالج مجتمعاتنا التي أمرضتها الديكتاتوريات، فزخرت بجميع أنواع العنف والانحطاط في السنوات العشرين الماضية، وعدا الاقتتال والحروب المتنقلة بين مكونات مجتمعاتنا المتعددة وعدا ظواهر الإرهاب والقتل العشوائي وتفجير الكنائس، هناك الانتحار والعنف المنزلي الذي يشمل الطفل والمرأة يضاف إلى ذلك كله العدائية في جميع أنواع السلوك. مارست الأنظمة جميع أنواع التنكيل والتعذيب طوال عقود طويلة وحولت الشعوب العربية إلى ضحايا عاجزة ومريضة ممحوة الشخصية أجسادها "ميتة – حية"، أجساد عبيد.

قد يطول زمن التغيير في منطقتنا، فالأنظمة تمرّست بالقمع، والقائمون عليها لديهم كمّ خرافي من الامتيازات بحيث لا يمكن لعاقل أن يتخيل أن من الممكن إزاحتها بسهولة. لكن الشرارة بدأت والسيناريوات متعددة بالطبع؛ بتعدد البلدان وباختلاف تكوينها وباختلاف مميزات الفئات الاجتماعية المعنية بحمل التغيير. على كل حال، تشير الأحداث المستمرة إلى أن شرارة التغيير انطلقت، وأن قمع هذه الثورات الآن لن يجدي نفعاً إلا في تأخير التغيير وفي جعله دامياً وعنيفاً. 

العالم العربي يتطلع الآن إلى المستقبل، لتخطي الماضي القريب المظلم، ولسان حال الجميع ما جاء على لسان صبية في إذاعة بي بي سي: "معليش يا بلدي اتأخرت عليكي".