اعتداءات المستوطنين المتنامية: أداة إرهاب فعّالة تديرها الحكومة الصهيونية
Date:
31 mai 2024
Auteur: 

أصبحت اعتداءات المستوطنين على القرى والبلدات والطرق الفلسطينية ظاهرة تثير كثيراً من الأسئلة، كما تثير بين الفلسطينيين حالة هلع وتنبؤ بمستقبل خطِر يُعتقد أنه يتضمن تطهيراً عرقياً، وهذا لا يعني أنها ظاهرة جديدة بدأت منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي أو أكثر قليلاً (أصبحت أكثر كثافة في آخر عشر سنوات)، لكن حجمها واتساعها والآثار التي تتركها غير مسبوقة. ووفقاً لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان، فقد بلغت اعتداءات المستوطنين في سنة 2023 نحو 2410 اعتداءات، ومنذ بداية السنة الحالية (2024)، بلغت نحو 546 اعتداء. وتجتهد هذه الورقة لتقديم فهْم لهذه الظاهرة، إذ ترى أنها ترتبط بتحوُل في أدوات القمع والتطهير التي تتبناها الحكومة الصهيونية.

وقد نفذ الصهيونيون في 8 نيسان/أبريل 1948 مجزرة دير ياسين، ولم تكن هذه المجزرة الأولى أو الأخيرة في مسلسل المذابح الصهيونية تجاه الفلسطينيين. لكن ما الذي جعلها المجزرة الأشهر بين المجازر في أحداث النكبة؟ يعزو شريف كناعنة السبب إلى "جدة هذا النمط وحداثته من جهة، وكذلك نجاعته في تفريغ القرية من سكانها، وتأثيره في ترحيل السكان الفلسطينيين من جهة أُخرى"، فالأرقام المتداوَلة عن عدد الشهداء تتراوح بين 240 و254 شهيداً، بينما وجد كناعنة في بحثه أن عدد الشهداء قريب (ربما أكثر، وربما أقل) من 100 شهيد. ووفقاً لكلامه، فإن تضخيم عدد الشهداء مصادره صهيونية، وخصوصاً من جانب عصابتَي إيتسل وليحي، أمّا أسباب هذا التضخيم، فهي أنه كان بمثابة رسالة إلى العرب لحملهم على ترك قراهم وأراضيهم، ذلك بأن إثارة حالة من الذعر بين السكان العرب في منطقة القدس كانت هدفاً رئيسياً وراء المذبحة نفسها، ووراء المبالغة في تضخيم الأرقام.

وتتشابه حالة مذبحة دير ياسين مع حالات اعتداءات المستوطنين على القرى والبلدات، لكن الفارق بين الحالتين هو أن الخسائر البشرية والاقتصادية في الحالة الثانية حقيقية، وغير مضخّمة، وتنتشر على الإعلام من دون قيود وضوابط، وهذا التاريخ الصهيوني في ممارساته العدوانية تجاه الفلسطينيين يساعدنا في تفسير ممارسات المستوطنين في الوقت الحالي.

وقد تمّت تجربة نجاعة دور المستوطنين في تهجير مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية و"تنظيفها"، كما هو حال البدو في مناطق العزل الشرقية على سبيل المثال، وهذا يشبه ما حدث في مجزرة دير ياسين. في الإطار العام، لا يخشى الفلسطينيون من المؤسسة العسكرية الصهيونية، إذ لدى جيش الاحتلال قرارات وسلوكيات يلتزمها، كممارسة التنكيل والاعتداء على الفلسطينيين على الحواجز، وفي أثناء مداهمات القرى والبلدات والمنازل على سبيل المثال، لكن تبقى معظم هذه الاعتداءات مضبوطة ضمن قرارات، أو هذا ما يعتقده الفلسطينيون في الحد الأدنى. ولهذا يقاومون قرارات المؤسسة العسكرية عندما يستخدم البدو المناطق المغلقة بقرار عسكري كمراعٍ، ويستخدم الفلسطينيون الطرق الممنوعة من جانب الجيش للتنقل، ويتحركون على الحواجز وبين دوريات الجيش. لكنهم، في المقابل، يخشون التحرك والتنقل في أثناء "عربدة" المستوطنين، لاعتقادهم أن ممارسات المستوطنين فوضوية وبلا ضوابط، وتهدف إلى التدمير والتخريب والإيذاء والقتل في كل لحظة، وبهذا، تستغل حكومة الاحتلال هذا الانطباع عن المستوطنين لإرهاب الفلسطينيين والتضييق عليهم، وتُظهر هذه الاعتداءات أمام العالم كأنها مواجهات بين مدنيين إسرائيليين وفلسطينيين. وتوجد بعض الأصوات داخل الكيان تنتقد علناً ممارسات المستوطنين، لكنها توافقها وتدعمها بصورة غير علنية، كما يوجد في حكومة الاحتلال الحالية بعض الأصوات المحرضة للمستوطنين علناً على ممارسة الاعتداءات، فمن وجهة نظر هؤلاء أن المستوطنين يقومون بالدفاع عن "أرض إسرائيل" التوراتية؛ فعلى سبيل المثال، لم تنجح إجراءات جيش الاحتلال منذ عشرات السنوات في تهجير التجمعات البدوية بصورة كبيرة، كما هو الحال في الخان الأحمر في محيط القدس، وحُمصة في أغوار طوباس وغيرهما، وأغلبية البدو صمدوا على الرغم من تدمير أملاكهم ومنازهم وحرمانهم من الحصول على البنية التحتية والخدمات، وأصرّوا على البقاء في أماكنهم رافضين التهجير القسري الذي يمارسه الجيش. أمّا اعتداءات المستوطنين على التجمعات البدوية والرعوية، فقد أدت في السنوات الأخيرة إلى تهجير مئات العائلات البدوية، وآلاف البدو في فترات قصيرة نسبياً، فما لم يتمكن الجيش من تحقيقه خلال عشرات السنوات، تمكن المستوطنون من تحقيقه في أسابيع وأشهر قليلة، وحتى في أيام، وهو ما أدى إلى تفريغ مساحات كبيرة من الأراضي في فترات زمنية قصيرة نسبياً في مناطق الأغوار ومسافر يطا، وذلك لأن المستوطنين يكررون اعتداءاتهم يومياً، ويستهدفون كل سبُل عيش البدو، إلى جانب الاعتداء على حياة البدو وسرقة أغنامهم بالتنسيق مع الجيش والشرطة. ويتعمد الإعلام الصهيوني إظهار هذه الاعتداءات وكأنها فوضوية وبلا ضوابط لإثارة الذعر، الأمر الذي اضطر آلاف البدو إلى الهجرة قسراً إلى محاذاة القرى والبلدات الفلسطينية. ولا تقتصر اعتداءات المستوطنين على الشريط الشرقي للضفة الغربية، بل أيضاً توجد نقاط استيطانية رعوية في مناطق متعددة في الضفة الغربية، كجيبيا وكفر نعمة وبتير وغيرها من المناطق، ويتحدث سكان هذه المناطق عن حجم هذه الاعتداءات وكثافتها، وهو ما أدى إلى امتناع سكان هذه القرى من الوصول إلى أراضيهم وتجنبها خوفاً من الاعتداءات.

يتحدث وليد دقة عن "صَهْر الوعي" الذي تمارسه المؤسسة العسكرية الصهيونية، بجعل "فكرة المقاومة فكرة مكلفة عبر هدْم البيوت والقتل والتدمير الواسع"، إذ بات من الواضح اليوم، كما يقول دقة، أن "حجم القتل والهدم والتخريب، للمنشآت والمزارع، الذي كُلفت بتنفيذه المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى حجم الاعتقالات الواسع في صفوف المواطنين الفلسطينيين، يفوق حاجات إسرائيل الأمنية." فنحن نتحدث عن "جباية الثمن"، وهو ما تطلقه مجموعات المستوطنين على نفسها، فعملية "صهر الوعي" هي عملية تقودها الحكومة الصهيونية، لكن بأدوات وآليات متعددة، إحداها المؤسسة العسكرية الرسمية، وأُخرى تتمثل في المستوطنين. وأيضاً يجب التنويه إلى أن جباية الثمن لا تقتصر على كونها ردة فعل على المقاومة فحسب، بل أيضاً هي حالة مستمرة يقل حجمها ويرتفع وفقاً للتوجهات الحكومية الصهيونية.

فاعتداءات المستوطنين هي استمرار لاعتداءات الجيش الصهيوني في أماكن أُخرى، بمعنى أن المؤسسة العسكرية الصهيونية أحدثت خراباً هائلاً وكارثة إنسانية في غزة، قُتل وجُرح خلالها أكثر من 100,000 فلسطيني، ودُمرت عشرات الآلاف من المنازل والمنشآت، وعدد كبير من المستشفيات والمدارس، وغيرها من الأماكن المحمية وفق القانون الدولي. وبالتالي، نتج من ذلك صهر وعي الفلسطيني بعدم وجود أي مكان محمي من آلة الدمار الصهيونية، وقد برروا ذلك بملاحقة عناصر المقاومة، والعمل على استرداد الأسرى وغير ذلك، كما أحدثت المؤسسة العسكرية الصهيونية شيئاً مماثلاً في مخيمات الضفة الغربية، كالخراب الكبير في مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس وغيرها، مبررة ذلك بملاحقة عناصر المقاومة التي تتخذ من المخيمات مراكز لها. لكن بماذا ستبرر الخراب الذي ترغب في إحداثه في القرى والبلدات الفلسطينية الصغيرة التي تستطيع سيارة عسكرية إسرائيلية واحدة دخولها من دون مقاومتها عسكرياً؟ ومن هنا، يأتي دور المستوطنين ليمارسوا في القرى والبلدات السلمية الأدوار نفسها التي يمارسها الجيش في غزة ومخيمات الضفة، في محاولة إسرائيلية لتدفيع كل الفلسطينيين ثمناً باهظاً لدعمهم المقاومة. ووفقاً لمنظمة العفو الدولية، فقد أظهرت بعض الفيديوهات والتقارير تسهيل الجيش دخول المستوطنين إلى هذه القرى، وإحداث الخراب، وحمايتهم من الفلسطينيين الذين يدافعون عن بيوتهم وأملاكهم، وقد نجم عن ذلك ارتقاء عدد من الفلسطينيين داخل بيوتهم وقراهم برصاص الجيش والمستوطنين في أثناء صدهم الاعتداءات. وتستغل الحكومة الصهيونية هذه الاعتداءات لإرهاب الفلسطينيين بأن القادم سيكون أفظع إذا ظلوا يقاومون الاحتلال.

لقد أُنشئت المستوطنات كي تشكّل جبهة دفاعية وهجومية أمامية، طبعاً بالإضافة إلى جوانب أُخرى، كمصادرة الأراضي، والتهويد بادعاءات توراتية، ولهذا بُنيت ضمن خطط استراتيجية على قمم الجبال، بحيث تشكّل نقاط مراقبة لتحركات الفلسطينيين، وتقطع التواصل الجغرافي بين المدن الفلسطينية بصورة تحول دون وجود تماسُك جغرافي فلسطيني، فهي تعمل كالحاجز والسجن العسكري اللذين يمنعان حركة الفلسطينيين. وقد أجرى أليساندرو بيتي حالة تماثُل بين الضفة الغربية والسجن، تتماثل فيها المستوطنات مع أبراج المراقبة داخل السجن، والطرق الالتفافية مع الممرات داخل السجن، بينما تتماثل قرى الفلسطينيين ومدنهم مع زنازين الأسرى داخل السجن. وإلى جانب هذا الهدف، يشكّل المستوطنون داخل الضفة الغربية جيشاً دفاعياً/هجومياً ضد الفلسطينيين، إذ يتم تدريبهم ليتولوا بعض المهمات العسكرية، ويعمل تجنيد المستوطنين في المؤسسة العسكرية بصورة تجعلهم مستعدين لممارسة الأدوار التي تتخذها الحكومة الصهيونية، ولهذا، يُعتبر عنف المستوطنين عنفاً تمارسه الدولة الصهيونية.

وهناك طبعاً عوامل أُخرى ساهمت في زيادة حجم دور المستوطنين في "صهر الوعي" أو "جباية الثمن" من الفلسطينيين، وهي: وجود حكومة إسرائيلية متطرفة تشمل وزيرَين في حقائب وزارية سيادية ترتبط بالمستوطنين، كوزارة الأمن القومي التي يرأسها إيتمار بن غفير، ووزارة المالية التي يرأسها سموتريتش، وهاتان الوزارتان تساهمان في دعْم المستوطنين وتوفير الإمكانات المالية والقانونية (بمعنى عدم المحاسبة ولو كانت شكلية) في حال شاركوا في الاعتداءات على الفلسطينيين، وذلك بالاستفادة بصورة كبيرة من حالة الضعف والخلافات التي تعيشها الحكومة الصهيونية بسبب إخفاقاتها في الحرب. وبالتأكيد ظهر منذ النكسة قادة صهيونيون متطرفون يدعمون ممارسات المستوطنين العدوانية، لكن يبدو أن الحاجة الصهيونية إلى هذه الممارسات أصبحت اليوم ملحّة وضرورية. كما أدى تفريغ القرى والمدن الفلسطينية من مقومات المقاومة والدفاع عن الذات دوراً آخر في تعزيز دور المستوطنين، وهو جزء من ترتيبات مرحلة ما بعد انتفاضة الأقصى التي كان للسلطة الوطنية الفلسطينية فيها دور أساسي. وبهذا، أصبح المستوطنون وقادتهم مطمئنين بعدم مقاومتهم عسكرياً في حال اعتدوا على القرى والبلدات، ويمكن تحقيق أغراض الاعتداءات بحماية محدودة من جانب الجيش الصهيوني، وهذا ربما أيضاً يفسر تجنُب المستوطنين الاعتداء على القرى والبلدات التي أُطلق فيها النار عليهم.

إن حالة الحرب الوجودية التي تعيشها اليوم دولة الكيان الصهيوني فرضت عليها اختبار كل مقومات قوتها الهجومية والدفاعية، من المؤسسات السياسية والعسكرية والمستوطنين، وكأن هذه الاعتداءات جزء من مناورة عسكرية صهيونية تفحص مدى جاهزية الجبهة الداخلية الصهيونية في حال حدثت حرب شاملة. فمنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي تماهى المستوطنون مع المؤسسة العسكرية، لكون العديد منهم انخرطوا في التجنيد الذي وفرته حالة الطوارئ في الكيان، فتجدهم يقومون بالاعتداءات بحماية المؤسسة العسكرية الرسمية التي تتكون أصلاً منهم، وبالتالي، فإن هذه الاعتداءات التي تحدث من جانبهم، وبمساعدة عناصر محدودة من الجيش الصهيوني، تفحص مدى قدرتهم على القمع وفرْض السيطرة على القرى والبلدات الفلسطينية.

الخاتمة

لقد انتقدت حكومة الولايات المتحدة الأميركية اعتداءات المستوطنين، وطلبت من الحكومة الصهيونية إيقافها، وألحقت هذه الانتقادات بفرض عقوبات على 4 مستوطنين ارتكبوا اعتداءات في الضفة الغربية، وأيضاً على كتيبة في الجيش الصهيوني "نتسيح يهودا"، لارتكابها اعتداءات ضد الفلسطينيين، وكذلك على منظمة "لاهافا" الاستيطانية المتطرفة، لكن لم تؤدِ هذه العقوبات إلى توقف إرهاب المستوطنين أو الحد منه على الأقل، وأبدى قادتهم، الممثلون في الحكومة الصهيونية، كإيتمار بن غفير، تحدياً علنياً لهذه العقوبات.

وقد جاءت هذه العقوبات غير المسبوقة من جانب حكومة الولايات المتحدة لتخفيف الضغط والانتقادات الموجهة إليها بسبب دعمها الشامل للكيان الصهيوني وجرائمه في قطاع غزة. ولهذا، يبدو أن هذه العقوبات غير جدية، وتتماثل مع المقولة الشعبية الفلسطينية "ذر للرماد في العيون".

إن اتساع أو تقلص اعتداءات المستوطنين على القرى والبلدات والطرق الفلسطينية يخضع لاعتبارات فلسطينية، أي مدى قدرة الفلسطينيين على إيلام المستوطنين وإيقاع خسائر في صفوفهم في أثناء مهاجمتهم للقرى والبلدات الفلسطينية، وذلك عبر امتلاك هذه القرى مقومات وأدوات الدفاع عن النفس.

 

المصادر:

  • دقة، وليد. "صهر الوعي أو في إعادة تعريف التعذيب...". الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات؛ والدار العربية للعلوم ناشرون، 2010.

  • كناعنة، شريف. "الشتات الفلسطيني: هجرة أم تهجير؟". رام الله: مركز اللاجئين والشتات الفلسطيني (شمل)، شباط/ فبراير 2000.

  • حباس، وليد وعبد القادر بدوي. "إسرائيل والضفة الغربية: جبهة حرب أخرى وأفق سياسي مفتوح على الاحتمالات". ورقة تقدير موقف. رام الله: مدار- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 1/2/2024.