عن سليمان منصور ومساهماته في صوغ الرموز الفلسطينية
Date:
9 août 2023
Auteur: 

"جمل المحامل"، أيقونة فلسطينية رسمها الفنان الفلسطيني سليمان منصور سنة 1973؛ هذه اللوحة الزيتية المرسومة على قماش بقياس 110x 90، طُبعت آلاف المرات، وعُلّقت في كثير من بيوت الفلسطينيين والعرب، الفقراء والأغنياء، في الضفة الغربية وقطاع غزة والجليل والمثلث، وفي مخيمات الشتات، على حد سواء، نظراً إلى ما تمثله من رموز عاطفية وسياسية وتراثية، وبطبيعة الحال دينية، بالنسبة إليهم. فقد جرى تعليقها كملصق إلى جانب صورة الزعيم جمال عبد الناصر، التي كانت موجودة في أغلبية المنازل في فلسطين والعالم العربي، نظراً إلى مكانة هذا الرجل لدى الجماهير الفلسطينية والعربية التي تكن له كل محبة وتقدير.

 

جمل المحامل، ١٩٧٣

 

"جمل المحامل" علقت في ذاكرتي كطفل، وكمراهق، إلى جانب صورة الزعيم عبد الناصر، فهي لم تكن موجودة في منزل أهلي فحسب، بل أيضاً في بيوت أصدقائي الذين كنت أزورهم ويزورونني. فقد شكلت هذه اللوحة أحد العناصر التي بنت وعي جيل كامل وصقلته، وأنا واحد من أبناء هذا الجيل.

فالرجل الفقير والمسن والحافي القدمين (الحمّال) يحمل المدينة المقدسة على ظهره مربوطة بحبل على جبينه، في دلالة على الصمود والتمسك بالحق، وفي إشارة أيضاً إلى أنه حملها وحيداً بعد سقوطها في يد المحتل سنة 1967. لقد حُفرت رمزية هذا المشهد في ذاكرة الناس، واستلهم الفكرة سليمان منصور بعد أعوام قليلة على سقوط مدينة القدس في يد الصهاينة سنة 1967.

في الفترة بين سنة 1973 وسنة 2021، لم يتغير المشهد كثيراً، وبقيت هذه اللوحة أيقونة من أيقونات الفن الفلسطيني والعربي والعالمي؛ ففي سنة 2021 وخلال معركة سيف القدس بين المقاومة الفلسطينية والقوات الإسرائيلية، جرى نشر نسخة إلكترونية معدلة من "جبل المحامل" على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي يظهر فيها مقاوم فلسطيني في غزة يحمل المدينة المقدسة على ظهره، بينما يجلس العجوز الحافي القدمين ليستريح، في إشارة إلى أن ثمة جيلاً جديداً يحمل الوطن على ظهره ومربوطاً بجبينه، وفي ذلك دلالة أيضاً على استمرارية حضور هذه اللوحة في الوعيين العربي والفلسطيني.

أمّا الأيقونة الثانية لسليمان منصور، فكانت لوحة الشهيدة التلميذة لينا النابلسي، التي استشهدت في نابلس خلال تظاهرات عمت المدينة سنة 1976؛ هذه الشهيدة التي حوّلها الشاعر حسن ضاهر إلى قصيدة غناها أحمد قعبور "لينا كانت طفلة تصنع غدها.. لينا سقطت لكن دمها كان يغني"، ورَثَتها فدوى طوقان بقصيدة غناها الشيخ إمام "لينا لؤلؤة حمراء تتوهج في عقد الشهداء"، ورسمها سليمان منصور، منع الجنود الصهاينة تصويرها وهي مضرّجة بدمها، وصادروا ما تم تصويره، لكن منصور أعاد تشكيل صورتها بعد أن طلب من زوجته حنان كتوعة - التي كانت خطيبته حينها - أن تمثل دور الشهيدة لينا النابلسي الملقاة على الأرض بزيها المدرسي المضرّج بدمها.

 

عروس الوطن (لينا النابلسي)، زيت على قماش، ١٩٧٦

 

 وكما "جمل المحامل" تحولت صورة لينا إلى أيقونة، وعُلقت في كل المنازل، وعلى الأعمدة، وفي طرقات وأزقة مدن وقرى ومخيمات فلسطين، تلهب حماسة الشابات والشبان المنتفضين في شوارع غزة والضفة والجليل والمثلث.

"رجال في الشمس" لغسان كنفاني، و"حنظلة" ناجي العلي، و"لاعب النرد" لمحمود درويش، و"خارج المكان" لإدوارد سعيد، و"العطش" لإسماعيل شموط، و"الشهيدة لينا النابلسي" لسليمان منصور؛ هذه كلها أعمال إبداعية لمبدعين فلسطينيين تركوا بصماتهم في المشهد الثقافي الفلسطيني، الذي أثروا فيه وتأثروا به.

وسليمان منصور هو أحد هؤلاء المبدعين؛ هو الفنان الذي لم تتأثر تجربته بتجارب فنانين كبار وعالميين فحسب، بل تأثرت أيضاً بالمشهد اليومي في فلسطين المتمثل في أداة احتلالية وظيفتها اغتيال حلم الناس في الحرية عبر قتلهم وحصارهم والتضييق عليهم، كما تأثرت ببرتقال يافا، الذي حُرم أصحابه من قطافه بعد طردهم من مدينتهم في سنة النكبة، وبشجر الزيتون الذي يجري حرقه واقتلاعه ومصادرته كل يوم، وبالمنتفضين في شوارع الضفة وغزة، وبالساحل فلسطيني الذي حظرته سلطات الاحتلال على أهله الأصليين.

 

من البحر إلى النهر ٢

 

وبين بيارت البرتقال الممتدة على الساحل الفلسطيني وكروم الزيتون، رسم سليمان منصور لوحة نصفها من البرتقال ونصفها الآخر من الزيتون، في مجاز جميل يعكس جمال طبيعة فلسطين الأخاذة، ولطافة وطيبة أهلها، كأن اللوحة تقول إن فلسطين بساحلها وجبالها وصحرائها متحدة في الروح والجمال.

 

سليمان منصور

 

سليمان منصور المولود في بلدة بيرزيت شمالي مدينة رام الله قبل النكبة بعام واحد، سنة 1947، المصور ورسام الكاريكاتور، رسم المشهد الفلسطيني في القرية والمدينة؛ رسم المقاتل، والمرأة الأم، والمرأة المقاتلة؛ رسم الانتفاضات ومواسم القطاف والساحل الفلسطيني. وخلال الانتفاضة الأولى، وفي إثر دعوة القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة إلى مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية كفعل شعبي انتفاضي، اتفقت مجموعة من الفنانين الأصدقاء، سليمان منصور ونبيل عناني وفيرا تماري وخالد حوراني وتيسير بركات، على أن تكون لهم مساهمتهم في تعزيز دعوة المقاطعة، والاستعاضة عن مواد الرسم (من ألوان وأقمشة وغيرها) التي لم تكن متوفرة إلاّ في الأسواق الإسرائيلية بمواد من الطبيعة الفلسطينية، كالفخار والطين وجلود الحيوانات، وحتى الشاي.

قبل أيام احتفل سليمان منصور بعيد ميلاده السادس والسبعين، وهو لا يزال في ذروة عطائه، وما زال لديه الكثير من الأفكار والمشاريع الفنية، على الرغم من الوعكة الصحية التي ألمت به قبل نحو عامين.

فمشروعه الفني الذي بدأ العمل عليه مؤخراً يقوم على رسم مدن الساحل الفلسطيني، مثل يافا وعكا وغيرها من مدن الساحل.

À propos de l’auteur: 

خالد فرّاج: مدير عام مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

انظر