أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى الأولى لرحيلك يا شيرين، فماذا عسانا نقول لكِ في ذكراكِ؟ أنقول إن الفاعل "القاتل"، سواء الشخص أو المنظومة، لم ينل عقابه، ولم تتم محاكمته، وإنما على العكس ما زال حراً طليق اليدين يرتكب الجرائم نفسها مراراً وتكراراً؛ من قتل وقنص وترويع الآمنين وغزو المدن والقرى والمخيمات، وخصوصاً في جنين التي أحببتِ، والتي حملكِ أبناؤها على الأكتاف عندما سقطتِ شهيدة على أرضها، في 11 أيار/مايو من العام الماضي؟ أنقول يا شيرين إن كثيرين ممن حملوا نعشك لم يتأخروا عن اللحاق بكِ، وهم اليوم مثلك باتوا في ركب الشهداء؟
ولا ينطبق هذا الواقع على جنين فحسب، بل أيضاً على نابلس وأريحا وبيت لحم والخليل وقطاع غزة وقرية صندلة داخل أراضي الـ 48. كذلك لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل امتدت يد القاتل لتطال الأسرى في زنازينهم، وآخر هؤلاء كان الشهيد خضر عدنان. وفي موازاة سياسة القتل يستمر "الفاعل" في سياسة تهويد الأرض وسرقتها، في القدس والأغوار وحيثما تصل يده.
أمّا لماذا لا يزال المجرم طليقاً؟ فلأن منظومة العدالة الدولية مشوهة، وتفتقر إلى المعايير العادلة في تنفيذ إجراءاتها وتطبيق قوانينها؛ لأن ثمة مَنْ وضع نفسه، وبالقوة، فوق القانون، ويتصرف على هذا النحو، تغطيه وتدعمه قوى عالمية تحكمها المصالح، وتقسم العالم، بناء على هذه المصالح، إلى خير وشر.
لكن، في المقلب الآخر، ثمة كثيرين من الأوفياء، من مؤسسات وأفراد، وصلوا الليل بالنهار في سبيل الانتصار لعدالة قضيتك؛ فلجأوا إلى المؤسسات والمحاكم الدولية والحكومات، وقدموا التقارير ونتائج التحقيقات التي تنصفك، وتنصف شعبك، وتدين القاتل ومنظومته، وتضع حداً لآلة القتل العبثي في فلسطين، وفي أي مكان آخر في العالم.
المشهد ما زال على حاله
منذ رحيلك والمشهد على حاله في القدس، وخصوصاً خلال شهر رمضان المبارك، وعيد الفصح المجيد؛ فأبناء القدس وبناتها تمترسوا ورابطوا لحماية مقدساتهم الإسلامية والمسيحية، ولحماية مدينتهم العربية العريقة، لكن دولة الاحتلال لم تأبه لحرمة الأديان، ولا للشهر الفضيل، فأمعنت في استخدام أدوات القمع، وفي ترويع الناس. المتغير الوحيد يا شيرين هذا العام هو عدم وجودك في المشهد من خلال إطلالتك على شاشة "الجزيرة"، كعادتك، لتغطية الحدث وفضح ممارسات نظام الفصل العنصري الكولونيالي الاحتلالي الذي لا يبرع سوى في القمع، والترويع، والسيطرة، وفرض سياسة الأمر الواقع على أهل البلد الأصليين.
هل تعلمين يا شيرين أنه بعد رحيلك صعد اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في إسرائيل، وأصبح ممثلوه وزراء كبار في حكومة نتنياهو، وأول إنجاز لهم كان حرق قرية حوارة على يد شبيبة التلال، بمباركة علنية ومتبجحة من قادتهم في حكومة اليمين؟ فقد صرح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أمام وسائل الإعلام بأن قرية حوراة "يجب أن تُمحى من الوجود، وأن هذه المهمة تقع على عاتق الدولة لا الأفراد"، ولا يمكن تفسير هذا التصريح إلاّ بكونه إرهاب دولة منظماً. ووزير المالية نفسه هذا اعتبر ألاّ وجود للشعب الفلسطيني، وأن الشعب الفلسطيني اختراع لم يتجاوز عمره المئة عام.
علاوة على هذا، عمد المدعو إيتمار بن غفير، وزير الأمن الوطني في حكومة الاحتلال، إلى محاربة الأسرى في قوتهم اليومي، فحرمهم من تشغيل المخابز للحصول على الخبز الطازج، كأن في هذا تهديداً لأمن الدولة القومي، كذلك حدد لهم مدة الاستحمام، وقونن استخدامهم للمياه الساخنة، مدعياً أن هذا ترفاً لا يحق لهم التمتع به.
كثير من الأوفياء
يا عزيزتي، أكتب لكِ عن هذه المواضيع لأنني أعلم أنها كانت تشغل بالك، لا على مستوى عملك كصحافية فحسب، بل أيضاً على مستوى قناعاتك الشخصية وضميرك وأخلاقك؛ فقد كان بالك مشغولاً على الدوام بكل هذا القهر والظلم اللذين يتعرض لهما الناس على كامل تراب البلد.
لكن على الرغم من هذا كله، فإن ثمة جانباً مضيئاً وسط هذا المشهد القاتم تمثل في احتضان الناس لسيرتك وذكراك؛ أأكتبُ لك عن عائلتك (عن لينا ونصري ولارين وليزا، وعن طوني الذي جاب العالم كله حاملاً قضيتك ومخاطباً عن عدالتها)، أم عن العواصم والبلديات والجامعات والمعاهد، أم عن الفنانين والصحافيين والموسيقيين والكتّاب والسينمائيين؟ عمّن يحضّرون لتكون ذكراكِ الأولى على قدر أهمية المناسبة، وعمّن يعملون على بناء متحف يخلّد سيرتك، وعمّن عبّروا عن فداحة الخسارة بالرسم، فضلاً عن مئات الجوائز والمنح والزمالات البحثية التي حملت اسمك، وخصوصاً في حقل الصحافة التي أحببتِها واخترتِها مهنة لكِ لتكوني قريبة من الناس، كما قلتِ في أكثر من مقابلة.
فها هما قناة "الجزيرة" وبلدية رام الله أعلنتا الشروع في إقامة متحف يخلّد ذكراك، سيتم افتتاحه في أيار/مايو 2024، في الذكرى الثانية لرحيلك.
هل أكتب لكِ عن التكريم الذي حظيتِ به من الجميع، لا في فلسطين فحسب، بل في العالم أجمع؟ فاسم شيرين أبو عاقلة اخترق الأذان الصماء في العالم؛ تلك الأذان التي لم تكن تريد أن تسمع لولا أن هول الجريمة وفظاعتها لم يسمحا بالاستمرار في اللامبالاة، وكسرا الصمت، ولو على استحياء.
زميلاتك وزملاؤك الصحافيون واصلوا التغطية، وهم يتصدون بالكلمة المكتوبة والصوت والصورة لهذه الممارسات الاحتلالية الكولونيالية، وفاء لذكراك. فيوم تشييعك كان يوماً استعادت فيه القدس عروبتها، واستعادت فيه فلسطين قيمها العربية الكاملة، وصرتِ أنتِ موضوع الكتابة والكلام والصورة حتى الوصول إلى تحقيق العدالة.
فكيف ننسى صورة الصحافيين الفلسطينيين الذين ارتدوا القمصان السود التي تحمل صورتك خلال استقبال الرئيس الأميركي جو بايدن في مدينة بيت لحم في أواسط تموز/يوليو 2022، مطالِبين بالعدالة لشيرين؟
وكيف ننسى أسرى نفق الحرية وهم يصدحون باسمك أكثر من مرة في قاعات المحاكم الإسرائيلية؟
كيف ننسى المواقف التي تخلّد ذكراك في العالم أجمع لا في فلسطين فحسب؟
أخيراً، صديقاتك وأصدقاؤك لم ينفكوا عن التفكير بكِ، وما زالت ذكراكِ حاضرة بينهم.
فارقدي بسلام في بلد غادره السلام.