أي حياة قاسية تلك التي عاشتها سهى غسان جرار، ابنة الأسيرة خالدة جرار والأسير المحرر غسان جرار، الذي اعتُقل وتحرر أكثر من مرة؛ فلما وُلدت سهى سنة 1990 كان والدها غسان معتقلاً، ولم تكن هذه هي المرة الأولى، إذ بدأت مسيرته مع الاعتقال سنة 1976، مع خضوعه لتعذيب وحشي في أقبية جهاز المخابرات الإسرائيلي (الشاباك)، ولما غادرت سهى هذه الدنيا كانت أمها خالدة رهن الاعتقال، وما بين الولادة والرحيل اعتقالات متكررة مع محاكمات عسكرية للوالدين، وليال كثيرة من ليالي رام الله الباردة كان طرْقُ باب منزل العائلة فيها ثقيلاً كطرق المطارق على الفولاذ بحثاً عن الأب أو عن الأم.
يا لها من حياة قاسية تفتح عينيك فيها بغياب الأب قسراً، وتغمضها بغياب الأم قسراً؛ هذه الكلمات هي للأسيرة خالدة جرار بعد معرفتها بنبأ وفاة ابنتها سهى، ابنة الواحد وثلاثين ربيعاً، إثر نوبة قلبية حادة في منزلها برام الله، وكانت خالدة قد أرسلت يوم الجنازة رسالة كتبت فيها: حرموني (أي الحكومة الإسرائيلية) من وداعك بقبلة، أودعك بوردة.
فالفقيدة سهى كانت ناشطة حقوقية وبيئية همها دائماً الانتصار لقيم العدالة وحقوق الإنسان، وبوفاتها تم انتهاك أحد أبسط حقوقها وحقوق امها.
الحديث عن اعتقال الأب أو الأم أو الإخوة أو الأخوات أو الأب والأم سوياً لهو أمر شائع في الحالة الفلسطينية منذ سنة 1967، فقد خاض أكثر من 800 ألف فلسطيني تجربة الاعتقال، ومن هؤلاء مَنْ أمضى خلف القضبان أكثر من أربعة عقود (الأسير نائل البرغوثي)، ومنهم قادة فلسطينيون من الصف الأول ونساء وأطفال ومرضى وكبار في السن.
وفي حالة عائلة جرار الأمر مختلف، فخالدة، النائبة الفلسطينية، حكمت عليها المحاكم العسكرية الإسرائيلية بالسجن لمدة عامين بتهم سياسية لا قيمة أمنية لها، وذلك، أولاً، بهدف الانتقام، وثانياً بهدف تغييبها عن الساحة الفلسطينية، وعند وفاة سهى لم يكن قد تبقى لخالدة سوى نحو ثلاثة أشهر أو أقل، وبالتالي كان يمكن للحكومة الإسرائيلية إطلاق سراحها "كبادرة حسن نية" والاكتفاء بالوقت الذي قضته خلف القضبان، أو إطلاق سراحها بشكل مشروط لعدة ساعات للمشاركة في جنازة ابنتها ثم تعود إلى السجن لاستكمال محكوميتها، لكن هذين الطلبين قوبلا بالرفض. فثمة العديد من الآباء والأشقاء الذين فقدوا أحد ذويهم خلال فترة اعتقالهم، لكن ربما تكون خالدة هي الأم الوحيدة التي فقدت ابنتها وهي رهن الاعتقال. وبسبب خصوصية هذه الحالة أطلقت لجنة من المحامين الفلسطينيين والمؤسسات الحقوقية الفلسطينية والدولية حملة دولية تهدف إلى إطلاق سراح خالدة جرار من أجل المشاركة في جنازة ابنتها، لكن الحكومة الإسرائيلية رفضت كل المقترحات التي تقدم بها المحامون بهذا الشأن، ولم تقبل بأي تسوية تخدم هذا الهدف (إطلاق السراح او إطلاق السراح المشروط)، كما رفضت الخضوع لضغوط البرلمانيين الأوروبيين والنواب العرب في الكنيست "البرلمان" الإسرائيلي.
والأكثر إثارة للاستغراب أن الإسرائيليين رفضوا تسوية لا يقومون بموجبها بإطلاق سراح خالدة، بل فقط نقلها من سجن الدامون في أعالي جبل الكرمل بحيفا إلى سجن عوفر القريب من رام الله لتلقي النظرة الأخيرة على ابنتها الشابة سهى بعد أن يتم إحضار جثمانها إلى هذا السجن. ورفض هذا الطرح أيضاً، ولتسهيل الأمر قدمت اللجنة اقتراحاً آخراً يقضي بنقل الجثمان إلى حاجز الجلمة العسكري الفاصل بين مدينة جنين في شمال الضفة الغربية والداخل الفلسطيني لجهة سهل مرج بن عامر ونقل خالدة من سجن الدامون إلى هذا الحاجز الذي لا يبعد سوى أربعين دقيقة عن سجنها وبطبيعة الحال رفض هذا الاقتراح أيضاً.
منذ اليوم الأول على الاحتلال والسلطات الإسرائيلية لا تساوم في مسائل الاعتقال، ولا تفاوض أو تقدم مبادرات حسن نية، أو تقوم بأي لفتة إنسانية بهذا الشأن. وهذه المسألة لا تتعلق بسياسة شرطة السجون وإدارتها فهي التي تنفذ سياسات الشاباك وسياسة الحكومة ورؤيتها التي تنطوي على عدم التفاوض أو المساومة في الشؤون "الأمنية"، إن صح التعبير، فحسب، بل تعكس العقلية الاستعمارية الكولونيالية وجوهر الفكرة الصهيونية التي تقف خلف هذا التعنت والتوحش في آن وإظهار القوة الزائدة في وجه العدو.
لم تكن حالة خالدة جرار الأولى من نوعها في هذا الإطار، فثمة عشرات الحالات المشابهة لأسرى لم يتمكنوا من المشاركة في تشييع جثامين ذويهم أو إلقاء النظرة الأخيرة عليها، ومن هؤلاء الشيخ بسام حماد من قرية سلواد القريبة من رام الله. والشيخ حماد هو الذي خطب متطوعاً بجمهور المشيعين في جنازة سهى ابنة خالدة وغسان، ولم تكن خطبته دينية كما هو معتاد في حالات دفن الموتى، بل كانت عن تجربته الشخصية التي تلامس إلى حد كبير تجربة خالدة وغسان وتشابهها؛ ففي 4 كانون الأول/ديسمبر 2015 استشهد نجله أنس وتم احتجاز جثمانه من قبل سلطات الاحتلال، وبعد عشرة أيام من الاستشهاد واحتجاز الجثمان اعتُقل الوالد بسام حماد إدارياً لمدة أربعة أشهر تم تمديدها إلى ستة أشهر أُخرى، وبعد شهر من الاعتقال أعلنت سلطات الاحتلال نيتها تسليم جثمان الشهيد أنس إلى ذويه، وأن التسليم سيتم على مدخل سجن عوفر القريب من رام الله وهو السجن نفسه الذي يُحتجز فيه الشيخ بسام والد أنس، الأمر الذي دفع بممثلي الفصائل الفلسطينية في سجن عوفر إلى مطالبة إدارة السجن بالسماح لبسام بإلقاء نظرة الوداع على ابنه الشهيد، وخصوصاً أنه سيتم تسليم الجثمان على مدخل السجن، وكان مستغرباً ومستهجناً أن إدارة السجن وافقت على طلب ممثلي المعتقلين، وبدأ الأب ورفاقه الأسرى يتحضرون نفسياً لهذه اللحظة القاسية (ماذا سيقول له؟ كيف سيودعه؟ ماذا سيرتدي؟ وغيرها الكثير من الأسئلة، ناهيك بالتوتر والوقت الذي توقف في انتظار هذه اللحظة، والصور المتخيلة في ذهن الأب المكلوم). لكنه سرعان ما تبدد استغرابهم واستهجانهم حيث وفي آخر لحظة أبلغتهم إدارة السجن بأن جهاز المخابرات الإسرائيلي رفض السماح للأب المعتقل بوداع ابنه على مدخل السجن تحت حراسة مشددة، وبطبيعة الحال فإن الأسباب المعلنة والجاهزة سلفاً والتي تُستخدم في المناسبات كافة هي الأسباب الأمنية.
لم تنته حكاية بسام حماد بحرمانه من وداع ابنه الشهيد، بل تجاوزت ذلك إلى إعادة اعتقاله بعد الإفراج عنه لمدة عامين تقريباً، واعتقال نجله عبد الرحيم، وإصابة ابنته تقوى بساقيها واعتقالها أيضاً ولقصته بقية.
فحرمان الأب من أن يطبع قبلة على جبين ابنه الشهيد، وهو ليس بالأمر الصعب أو المستحيل، إنما يعيدنا إلى الطبيعة الكولونيالية للاحتلال الإسرائيلي؛ فالمسألة هنا ليست مسألة مبادرات حسن نية أو لفتات إنسانية، وإنما مسألة احتلال صلف لا يقيم وزناً لصورته الأخلاقية، ولا يهمه أن يخفي صورته القبيحة بل على العكس يقوم بإبرازها أحيانا ويبررها احياناً اخرى ليُظهر من خلالها قوته وغطرسته اللتين تشكلان جوهر وعيه الاستعماري ومصدر فخره.
بسام وخالدة... والقائمة طويلة جداً من آباء مكلومين لم يستجدوا المحتل من أجل طبع قبلات على جبين أبنائهم المتوفين. وفي كل مرة يصر هذا المحتل على الظهور بمظهره البشع الذي لا يلتفت إلى أبسط القيم الأخلاقية والإنسانية وقيم العدالة.