المفهوم العمالي للحل والمأزق التفاوضي
Keywords: 
عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية
مفاوضات السلام
نتائج المفاوضات
الحكم الذاتي الفلسطيني
الأراضي الفلسطينية المحتلة
Full text: 

تشكّل أزمة المبعدين مثالاً مهماً لنوعية وطبيعة العقبات التي ستستمر في مواجهة عملية السلام، بغضّ النظر عن كيفية حل الأزمة بالذات، أو سبل الخروج منها. فعملية السلام من شأنها أن تتأثر على الدوام من جراء الأحداث الطارئة في الميدان، ولا سيما فيما يتعلق بالساحة الفلسطينية المشحونة بمختلفة التيارات والتوترات، والمنكشفة بصورة حادة أمام الأفعال وردّات الفعل الإسرائيلية المتوقعة وغير المتوقعة على حد سواء.

وربما أصبح من شبه المعتاد أن نجد الجانب الفلسطيني متردداً أمام العودة إلى المفاوضات مع اقتراب موعد كل جولة جديدة منها، وإنْ كان هذا التردد غالباً ما يخضع في النهاية لحسابات الربح والخسارة، ضمن أجواء عربية ودولية أوشكت عملية السلام أن تكتسب فيها زخماً تلقائياً. فغياب الفلسطينيين عن المفاوضات في وقت باتت الأطراف الأخرى كلها ملتزمة بها، بل معنية بتسريع وتيرتها، قد يولّد ضغوطاً شديدة على الموقف الفلسطيني التفاوضي، حتى ولو كان هنالك إقرار عام بأن القضية الفلسطينية تشكل لب النزاع - والحل – في المنطقة.

لكن مهما يكن الأمر، فإن المشكلة الأساسية، لا تتعلق بكيفية معالجة الحالات الطارئة، أو الأزمات غير المرئية، بل تكمن في جوهر المفاوضات في المسار الفلسطيني – الإسرائيلي، وفيما يخص الطرح الإسرائيلي حيال طبيعة المرحلة الانتقالية بالتحديد. فالعودة إلى المفاوضات بشروط محسنة في مجال حقوق الإنسان، أو عبر اتفاق وتنسيق ممتَّن مع الأطراف العربية الأخرى على أهميتهما، لا تشكل بديلاً لتحقيق ما هو أهم، أي اتفاق فلسطيني – إسرائيلي قريب على أُطر "نقل السلطة"، وتثبيت دعائم الحكومة الفلسطينية الانتقالية، تمهيداً للاتفاق في شأن المرحلة النهائية والحل الشامل المنشود. 

المفهوم الإسرائيلي للمرحلة الانتقالية

يقوم التصور الإسرائيلي الراهن للمرحلة الانتقالية على فرضيات ومفاهيم استراتيجية – سياسية – أيديولوجية، ثابتة ومتجذرة في المشاريع المتعاقبة التي عُرضت على الجانب الفلسطيني في واشنطن حتى الآن. ويمكن تلخيص خلفية هذه المشاريع على النحو التالي:

  • إن حزب العمل (بخلاف الليكود والأحزاب إلى يمينه) على استعداد للتخلي عن جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 في المرحلة النهائية، تفادياً لتحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية في الأمد البعيد (أي بحلول العقد الثاني من القرن المقبل بحسب آخر التقويمات الإسرائيلية الديموغرافية)، أو خوفاً من تقويض "الديمقراطية" الإسرائيلية نتيجة وجود كتلة بشرية فلسطينية متكاثرة، معدومة الحقوق السياسية، وفي حالة من الصدام الدائم مع سلطة الاحتلال. وليس في هذا من جديد، كونه يمثل موقفاً متناغماً مع الطروحات المركزية في حزب العمل منذ "مشروع آلون" سنة 1968. وقد تبلور وتطور هذا الموقف خلال السنوات الأخيرة، ليصل إلى حد الاعتراف بـ"الحقوق الفلسطينية الوطنية" في برنامج الحزب خلال انتخابات سنة 1992، وإنْ كان ذلك قد ارتبط برفض صريح لقيام دولة فلسطينية مستقلة "غربي نهر الأردن".[1]
  • إن المفهوم العمالي لما يسمى "الحل الوسط الإقليمي"، أو المساومة الإقليمية" (territorial compromise)، يفترض في المقابل احتفاظ إسرائيل بأجزاء مهمة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبسط السيادة الإسرائيلية عليها في المرحلة النهائية، وذلك تحت شعارات وذرائع مختلفة، منها ما هو "أمني"، ومنها ما هو "مبدئي". وبحسب برنامج الحزب الأخير، "ستصر إسرائيل، خلال المفاوضات، على أن يشكل غور الأردن وشمال غرب البحر الميت – في ظل سيادة إسرائيل – الحدود الأمنية للدولة [....] كذلك ستحتفظ إسرائيل بمناطق حيوية غير مزدحمة بالسكان العرب، مثل ضواحي القدس وغوش عتسيون." وهذا، طبعاً، علاوة على بقاء القدس (في حدودها البلدية الموسعة)، "عاصمة إسرائيل، مدينةً موحدةً في ظل سيادة إسرائيل."[2]
  • يستتبع هذا أن المرحلة الانتقالية يجب ألا تتمخض عما قد يتعارض مع قدرة إسرائيل على رسم حدودها النهائية، بحسب ما تراه متجانساً مع هذه الفرضيات والمواقف. والمبدأ الأساسي المطروح من وجهة النظر العمالية، هو استحالة العودة إلى حدود سنة 1967؛ أي أن "الحل الوسط الإقليمي" يعني بالضرورة تقسيماً جديداً للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967، والتي تمثل في حد ذاتها نحو 23% من مجموع أرض فلسطين في عهد الانتداب. أما النسبة الحقيقية للأرض المنوي ضمها ما بعد المرحلة الانتقالية، فتبقى خاضعة للاعتبارات السياسية والتفاوضية اللاحقة. ولا يعطي برنامج حزب العمل صورة كاملة أو واضحة لنيات الحزب التوسعية، ذلك لأنه ليس هنالك – على ما يبدو – خريطة موحدة ثابتة متفق عليها داخل الحزب أو المؤسسة السياسية – الأمنية حتى الآن. غير أنه يستدل من مصادر "حركة السلام الآن" الإسرائيلية أنه في حال تطبيق مشروع آلون اليوم، فإنه سيتم ضم 46 قرية ومدينة فلسطينية إلى إسرائيل يبلغ عدد سكانها 385.000 نسمة، بالإضافة إلى 71 مستوطنة يهودية يبلغ عدد سكانها 48.500 نسمة في مناطق رام الله وأريحا وبيت لحم والخليل وغزة. وبموجب "خطة حزب العمل للاستيطان سنة 1976"، وهي خطة غير رسمية "لكنها شكلت أساساً للقرارات العملية"، سيتم ضم 99 تجمعاً سكانياً فلسطينياً يبلغ عدد سكانها 603.000 نسمة، علاوة على 87 مستوطنة يهودية في الضفة والقطاع. وبحسب "خطة المؤسسة الدفاعية"، التي كُشف النقاب عنها السنة الفائتة، سيتم الاحتفاظ بـ 49 مستوطنة يهودية يبلغ عدد سكانها 40.000 نسمة، و60 تجمعاً سكانياً فلسطينياً يبلغ عدد سكانها 204.000 نسمة. وتشتمل هذه الخطة الأخيرة على ضم أريحا وبيت لحم وبيت جالا والرام والعيزرية وأبو ديس وغيرها إلى إسرائيل في المرحلة النهائية.[3]

لا بد من بعض الحذر عند التعامل مع مثل هذه التقديرات، وخصوصاً أنها لا تمثل موقفاً حكومياً أو حزبياً رسمياً. غير أنها تعطي، من دون شك، صورة جيدة ولو مشوشة لنوعية الاقتطاعات الإقليمية التي ينظر رابين وحزبه إليها، والتي يمكن اعتبارها نماذج مختلفة من "الحل الوسط الإقليمي" المنشود. هكذا، فإذا كانت هذه الخرائط الجغرافية – الديموغرافية بمثابة الهدف الاستراتيجي للمفاوضات في شأن المرحلة الانتقالية، فإن المرحلة الانتقالية نفسها يجب أن تترك المجال مفتوحاً أمام اختيار الأنسب منها، تماشياً مع هذا الهدف، ووفقاً للأوضاع القائمة على الأرض فيما بعد.

وضمن هذا السياق، فإن التمييز الذي استحدثه رابين ما بين الاستيطان "السياسي" والاستيطان "الأمني" جاء ليخدم أكثر من غرض. فمن جهة، ساهم هذا التمييز في رفع الضغوط الخارجية (وخصوصاً الأميركية) عن إسرائيل، فيما يتعلق بالعملية الاستيطانية المستمرة في الأراضي المحتلة، وغلّف جزءاً منها بذريعة (أي "الأمن") تبدو أنها مقبولة لدى الرأي العام الدولي، الشديد الحرص على مراعاة "الحساسيات" الأمنية الإسرائيلية. لكن الأهم من ذلك أن مناطق الاستيطان "الأمني" هي، في تصور رابين، المناطق المرشحة للضم في المرحلة النهائية، في حين أن مناطق الاستيطان "السياسي" تمثل تلك التي يمكن أن تجلو إسرائيل عنها في نهاية المطاف. وليس مصادفة أن يكون رابين قد رفض (على الرغم من الاستفسارات الفلسطينية المتكررة في واشنطن) تحديد المنطقتين المعنيتين بدقة حتى الآن، كون ذلك سيحدد سلفاً خريطة المرحلة النهائية، كما أنه سيزج رابين في صراع مبكر مع المستوطنين الرافضين لمبدأ الإجلاء الجزئي من جهة، ومع الفلسطينيين الرافضين لمبدأ الضم الجزئي من جهة أُخرى. ومن هنا، أيضاً، يأتي تركيز المفاوضين الإسرائيليين في واشنطن على ضرورة "إبقاء كل الخيارات مفتوحة" (all options open) في ترتيبات المرحلة الانتقالية؛ وهذا من أجل صد المطالب الفلسطينية، السيادية وشبه السيادية، التي تنقض المفهوم الإسرائيلي "الاختباري" للمرحلة الانتقالية، وفي الوقت نفسه من أجل تهيئة الأجواء الإسرائيلية الداخلية والفلسطينية والدولية لطرح "الحل الوسط الإقليمي" بعد العام الثالث من بدء المرحلة الانتقالية.

وبناء على مثل هذه الخلفية، نرى أن المقترحات التي تقدمت إسرائيل بها في واشنطن حتى الآن تدمج، بصورة واعية ومدروسة، ما بين مختلف عناصر التفكير الإسرائيلي في شأن مهمات المرحلة الانتقالية ودورها في خدمة الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية النهائية:

  • فالإصرار على الطابع الوظيفي الإداري (functional/administrative)، للمجلس الفلسطيني المنتخب المقترح، يهدف إلى تجاوز مسألة خوض رسم الحدود الإقليمية والحيلولة دون منح السلطة الفلسطينية بُعداً جغرافياً متكاملاً على الأرض، مما قد يعطل احتمالات الضم، ويحسم مصير الخريطة الجيوسياسية في الأراضي المحتلة مسبقاً ولغير مصلحة إسرائيل.
  • وكذلك الإصرار على تقاسم الصلاحيات بين سلطة فلسطينية مدنية تشرف على إدارة شؤون الفلسطينيين في المجالات غير الأمنية، وبين سلطة إسرائيلية موازية تشرف على إدارة شؤون المستوطنين والمستوطنات (والمهمات الأمنية كافة)، يصب في اتجاه تعزيز "استقلالية" مناطق الاستيطان، وزيادة السيطرة الإسرائيلية عليها بغية تسهيل عملية تحديد مساحة الضم الجزئي والإجلاء الجزئي في المرحلة اللاحقة.
  • والحديث عن مناطق مشتركة (ما يسمى "أراضي الدولة" بحسب عملية إعادة التصنيف الإسرائيلية الأحادية الجانب للأرض الفلسطينية) يهدف إلى تطبيع الوجود الاستيطاني بالاتفاق مع الفلسطينيين، وفتح باب المساومات الإقليمية على أرضية "شرعية"، بخلاف الوضع الحالي غير الشرعي لكل الوجود الاستيطاني على الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.[4] 

المأزق التفاوضي

إذا صح هذا التحليل لموقف إسرائيل التفاوضي الحالي، فإن مستقبل المفاوضات بات محكوماً بقدرة الفلسطينيين على التصدي، لا للمقترحات الإسرائيلية في صدد المرحلة الانتقالية فحسب، بل أيضاً لخلفية التصور الإسرائيلي – العمالي للتسوية النهائية. وبكلام آخر، فإن الخطر من وجهة النظر الفلسطينية لا يكمن في قيام مرحلة موقتة/ انتقالية من حيث المبدأ، بقدر ما يكمن فيما قد تنطوي هذه المرحلة عليه من تثبيت وتدعيم لاحتمالات الضم الجزئي، الذي قد يشمل ما بين 20% و40% من مجموع الأراضي الفلسطينية المحتلة (بما في ذلك القدس)، ويحول في المقابل دون إمكان إنشاء كيان فلسطيني مستقل ذي حد أدنى من الصدقية السياسية، أو القدرة على البقاء. والواقع أنه على الرغم من الإقرار الفلسطيني الرسمي في المفاوضات بعدم إعلان السيادة من طرف واحد خلال المرحلة الانتقالية، فإن الهدف الفلسطيني الاستراتيجي كان، ولا يزال هو الدفع بحدود سلطة الحكومة الذاتية الانتقالية إلى أقصى حد سيادي ممكن، بالاتفاق مع إسرائيل، أو بالممارسة على أرض الواقع. وبمعنى من المعاني، فإن شعار "الإبقاء على كل الخيارات مفتوحة" يتوافق مع الطرح الفلسطيني، شرط أن تكون هذه "الخيارات" غير متناقضة مع خيار الاستقلال، وإنهاء الاحتلال، وبسط السيطرة على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967. هكذا يبدو أن الطرح الفلسطيني والمفهوم الفلسطيني، للمرحلة الانتقالية، يتناقضان تناقضاً كلياً مع الطرح والمفهوم الإسرائيليين. فالخيارات كلها تعني للفلسطينيين عملياً خياراً واحداً (فكفكة الاحتلال)، في حين ان الخيارات كلها تعني للإسرائيليين عكس ذلك؛ أي الضم الجزئي.

لن يكون من السهل أبداً إيجاد أرضية مشتركة بين الطرفين تكفل الخروج من هذا المأزق، بغض النظر عن "حسن نيتهما، أو الجهود التوفيقية للأطراف الخارجية. فالخلاف الأساسي ليس في شأن شكل السلطة في المرحلة الانتقالية – وإنْ كان هناك تطورات متباينة للطرفين في هذا المجال أيضاً – بقدر ما هو في شأن هدف هذه العملية، في الأساس. وعلى الرغم من أهمية تثبيت مرجعية المفاوضات (التزام إسرائيل تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 مثلاً) فإن الأهداف الاستراتيجية ستبقى خاضعة لاعتبارات أوسع وأهم، بما في ذلك ميزان القوى بين الطرفين، وعمق الالتفاف الداخلي لدى الطرفين حول الأهداف المرجو تحقيقها. ومهما يمكن الأمر، فإن المأزق التفاوضي، كما حددناه، يطرح احتمالات وبدائل عديدة يجدر النظر فيها، ولو بصورة أولية:

أولاً: يمكن للمفاوضات في شأن المرحلة الانتقالية أن تصل إلى الطريق المسدود، باعتبار أن أياً من الطرفين ليس على استعداد للتخلي عن أهدافه الضمنية فيما يتعلق بالتسوية النهائية، وغير معني أو ليس مستعداً للتراجع عما يعتبره الحد الأدنى الضروري لضمان تحقيقها. وفي مثل هذه الحال، قد يبرز إمكان التوجه الإسرائيلي نحو "القفز" كلياً عن المرحلة الانتقالية، والدخول مباشرة في البحث في صلب التسوية النهائية وترسيم الحدود على الجبهة الفلسطينية كما على الجبهات الأخرى. والواقع أن دوائر مختلفة في حزب العمل والمؤسسة السياسية – الأمنية الإسرائيلية قد اقترحت، على ما يبدو، مثل هذا الخيار، انطلاقاً من تصورها لصعوبة التوفيق بين المطالب الفلسطينية والمطالب الإسرائيلية المرحلية، ونظراً إلى كون الخريطة النهائية للحدود الفلسطينية – الإسرائيلية محددة النطاق نسبياً، ويمكن التفاوض بشأنها.[5]   وتفيد هذه الوجهة أيضاً أن الخلاف مع المستوطنين آتٍ عاجلاً أو آجلاً، ولا فائدة أساسية في إرجاء هذه المواجهة، بل إنها قد تكون أشد في مرحلة لاحقة مما في الأمد القريب. لكن، في حين أن مثل هذا الخيار قد يشتمل على بعض الإيجابيات من وجهة النظر الفلسطينية، كونه قد يعجّل في الانسحاب الإسرائيلي، وفي فرصة إقامة سلطة وطنية على الأراضي الفلسطينية المحررة، كما أنه قد يحل مشكلة "الربط" بين المسارات الفلسطينية والعربية الأخرى، فإن السؤال يبقى قائماً بشأن ما إذا ستكون الشروط الإسرائيلية، فيما يتعلق بالضم والقيود المفروضة على الجانب الفلسطيني، أشد في مثل هذه الحال قياساً بالخيارات الأخرى. وبكلام آخر، فإن الطرح الإسرائيلي القائل بـ"القفز" فوق المرحلة الانتقالية لا يتضمن بالضرورة تراجعاً عن مطالب الضم الجزئي، بل إن نطاق الضم قد يكون أوسع في غياب الفترة "التجريبية" التي تفترضها إسرائيل في المرحلة الانتقالية، علاوة على أن إسرائيل قد تحظى بتفهم دولي (أميركي) لشروط قاسية، في حال "مغامرتها" بإخلاء الأراضي المحتلة من دون فترة انتقالية تجريبية. أما على صعيد آخر، فإن التوصل إلى طريق مسدود في المفاوضات بشأن المرحلة الانتقالية، إنْ كان ذلك تلقائياً وطبيعياً، أو نتيجة استراتيجية تفاوضية مدروسة من جانب أي من الطرفين، لا يضمن بذاته الاتفاق بشأن "القفز" إلى المرحلة النهائية، ويمكن أن يواكبه تغيير في الحكومة الإسرائيلية (عودة الليكود مثلاً)، أو تبديل في طرح الحكومة العمالية نفسها. وقد يجد الطرف الفلسطيني نفسه أمام محاولة تطبيق الحكم الذاتي من طرف واحد، أو إبقاء الاحتلال على ما هو عليه حتى "تنضج احتمالات السلام" في فترة لاحقة غير محددة.

ليس المقصود هنا طرح الإجابات الفلسطينية المحتملة على أي من هذه الاحتمالات. غير أن خيار "القفز"، وإنْ كان يتلاءم مع تصورات القيادة الفلسطينية في تقصير مدة المرحلة الانتقالية (أو إلغائها كلياً)، يستوجب الدمج في خيارات أخرى عملية للحيلولة دون فرص واحتمالات الضم الجزئي كثمن لها. وتبقى مسألة الضم أساسية في هذا الاحتمال كما في الاحتمالات الأخرى كافة.

ثانياً: يمكن للجانب الإسرائيلي أن يحاول توضيح الربط بين المرحلتين الانتقالية والنهائية. وفي مثل هذه الحال، قد تسعى إسرائيل (ربما بدعم أميركي) من أجل التخفيف من وطأة الترتيبات الانتقالية، باعتبار أنها ستؤدي إلى مكاسب فلسطينية سياسية ملموسة ومحددة منذ بداية الطريق. وإذا كانت مواقف حزب العمل من المرحلة النهائية تقوم، في الأساس، على هدف "إيجابي" (أي الضم الجزئي) أكثر  مما هو هدف "سلبي" (أي منع الكينونة الفلسطينية)، فإنه يمكن العمل على مقايضة "الضم" بـ"الكينونة"، بصورة أوضح وأكثر مباشرة من السابق. وفي حين اكتفى برنامج حزب العمل الانتخابي الأخير بالإشارة إلى ضرورة قيام "إطار أردني – فلسطيني" بديلاً من الدولة الفلسطينية المستقلة، فإن من اللافت أن رابين نفسه قد طوّر هذا الموقف مؤخراً في الكشف، وللمرة الأولى، عن عدم اعتراضه على البحث في إقامة "كيان فلسطيني" من حيث المبدأ؛ ففي حديث له أمام رؤساء تحرير الصحف الإسرائيلية، نُقل عن لسانه أنه "إذا أقمنا نظاماً انتقالياً في الأراضي (المحتلة)، وإذا توصلنا في موازاة ذلك إلى دفع عملية السلام مع الأردن وسوريا ولبنان، يمكننا أن نبحث في إقامة نوع من الكيان الفلسطيني ليس بالضرورة أن يكون دولة." وقد أضاف رابين: "ليس لدى جميع الأقليات دول"، موضحاً أن مسألة الكيان هي في كل الأحوال غير واردة في المرحلة الانتقالية.[6]

ويأتي كلام رابين هذا كأنه شاذ ومتناقض مع مفهوم "الإبقاء على كل الخيارات مفتوحة"، من وجهة النظر الإسرائيلية. لكنه، في الواقع، يكشف عن نوع من عدم الاكتراث الإسرائيلي (أو الرابيني) حيال مبدأ الكينونة الفلسطينية إذا ما عمّ السلام المنطقة، وإذا ما قامت إسرائيل بضم ما تريده من الأراضي المحتلة، وإذا ما توافق ذلك مع "إطار" أردني – فلسطيني ملائم (بل يصعب الوصول إلى مثل هذا "الإطار" في غياب كيان فلسطيني ما). لكن مهما يكن الأمر، فإن الحديث عن كيان فلسطيني يهدف – على الأرجح – إلى "القفز"، لا من فوق المرحلة الانتقالية، وإنما من فوق الصراع الضمني فيما يتعلق بالهدف النهائي الذي يعطل فرص الاتفاق في شأنها. ومن وجهة النظر الفلسطينية، من الواضح أن تثبيت مبدأ الكينونة مطلب أساسي، بل تحسين في الشروط الإسرائيلية، وإن كان من السابق لأوانه تقويم مدى جدية رابين والتزامه هذا الكلام. غير أننا نعود هنا إلى المشكلة إياها، وهي ما إذا كان هدف إسرائيل توضيح شكل الحل النهائي من أجل رفع ثمنه للفلسطينيين، أم توضيحه من أجل تسهيل تمرير الترتيبات الانتقالية التي تؤدي الغرض نفسه. وفي الحالتين يبقى المأزق من دون حل.

ثالثاً: إذا ما افترضنا أن إسرائيل لن توافق على مشروع الحكومة الذاتية الفلسطينية (PISGA) من دون تعديل، أو أن الفلسطينيين لن يتقبلوا المشروع الإسرائيلي البديل بصورته الحالية، فهنالك احتمال التوصل إلى نموج مختلط أو مشترك يدمج ما بين عناصر مختلفة من المشروعين. وفي مثل هذه الحال، يفترض انه تم الاتفاق الضمني أو المباشر على أي مما يلي: (1) تعليق الأهداف النهائية للطرفين على حد السواء، والاتفاق على "إبقاء كل الخيارات مفتوحة" فعلاً؛ (2) فسح المجال لكليهما كي يحققا أهدافهما من دون تحديد مسبق لما يمكن تحقيقه؛ (3) ترجيح كفة أحد الطرفين على حساب الطرف الآخر، الأمر الذي يقوّض إمكان تحقيق أحدهما لأهدافه النهائية.

ولن ندخل هنا في معالجة مطولة لأفضليات وسلبيات هذه الفرضيات، أو النتائج المحتملة لها. ومن وجهة النظر الفلسطينية، يبدو أن إمكان تقبّل أي نموذج مختلط للمرحلة الانتقالية يزداد إذا ما كان هذا النموذج لا يلغي إمكان تحقيق الأهداف الفلسطينية النهائية. وهنا تبرز احتمالات تغيير الأمر الواقع أو "خلق الحقائق" على الأرض بعد الاتفاق ومن خلاله، بدلاً من السعي للحصول على الاعتراف الإسرائيلي المسبق بالكينونة أو السيادة الفلسطينية، أو إرغام الطرف الآخر على التراجع عن الضم الجزئي في المفاوضات نفسها. وما من شك في أن مثل هذا الاحتمال ينطوي على مخاطر كبيرة، كونه يعتمد على دينامية استلام السلطة في المرحلة الانتقالية والاستعداد والقدرة الفلسطينيين على المبادرة ومواجهة إسرائيل بواقع جديد، تماماً كما فعلت الحركة الصهيونية منذ بداية القرن الحالي. كذلك فإن "الاتفاق"، في حد ذاته، لا بد من أن يشتمل على قيود قد يكون من الصعب على السلطة الفلسطينية التملص منها، مقارنة بالوضع القائم الذي لا يلزم الفلسطينيين سوى بقوة الاحتلال وسيطرته. لكن، وحتى في ظل الإدراك الإسرائيلي الكامل لأهمية العملية الدينامية التي ستولدها سلطة فلسطينية "انتقالية"، فإن المأزق قد يكون أشد هنا على الجانب الإسرائيلي مما هو على الجانب الفلسطيني. وفي النهاية، فإن الإرادة والقدرة الفلسطينيتين على البناء قد تكونان أهم الأسلحة المتوفرة في مواجهة "المأزق" وذلك في غياب وسيلة أخرى لتصحيح الخلل في ميزان القوى بين الطرفين.

 

المصادر:

[1]  راجع: "برنامج حزب العمل" في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 11، صيف 1992، ص 173 – 177.

[2]  المصدر نفسه.

[3]  راجع تقرير حركة "السلام الآن" الصادر عن لجنة مراقبة الاستيطان التابعة للحركة، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1992، بعنوان "الخريطة الحقيقية":

The Real Map, Peace Now, Report No. 5, by the Peace Now Settlement Watch Committee, November 1992.

[4]  راجع نصوص المقترحات الإسرائيلية في:

Journal of Palestine Studies, Nos. 85 and 86, Autumn 1992, Winter 1993.                    

[5]  "عال همشمار"، 18/11/1992.

[6]  "الحياة" (لندن)، 30/11/1992. راجع، أيضاً، نص المقابلة مع رابين في: "الحياة"، 20/10/1992.