Peace Negotiations and the Palestinian Decision-Making Process (Seminar)
Keywords: 
مفاوضات السلام
صنع القرار
عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية
Full text: 

ندوة نظمتها "مجلة الدراسات الفلسطينية" بالتعاون مع الجمعية الفلسطينية للشؤون الدولية في القدس. وقد أدارت ربى الحصري الندوة، وشارك فيها عدد من الشخصيات السياسية والأكاديمية في الضفة الغربية المحتلة، من مؤيدي مفاوضات السلام الجارية ومعارضيها.

وقد شارك في الندوة السادة التالية أسماؤهم:

د. مهدي عبد الهادي: رئيس الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية في القدس المحتلة.

د. مصطفى البرغوثي: طبيب ونشيط في حزب الشعب (الشيوعي سابقاً).

زهيرة كمال: عضو اللجنة الاستراتيجية المكملة للوفد الفلسطيني إلى مفاوضات السلام، ورئيسة اتحاد لجان العمل النسائي. مؤيدة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (ياسر عبد ربّه).

د. رياض المالكي: محاضر في جامعة بير زيت. مؤيد للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

د. محمد جاد الله: طبيب. مؤيد للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (نايف حواتمه).

د. علي الجرباوي: محاضر في جامعة بير زيت – دائرة العلوم السياسية.       

د. جورج جقمان: محاضر في جامعة بير زيت – دائرة الفلسفة.

 ربى الحصري: منذ عقد مؤتمر مدريد حتى انتهاء الجولة الرابعة من المفاوضات الثنائية بين إسرائيل والأطراف العربية، مرت أربعة أشهر طرأت خلالها تغييرات، سواءعلى الجانب الفلسطيني أو على الجانب الإسرائيلي. فإسرائيلياً، كان أهم مَعْلَم لهذه الفترة، أو ربما إحدى نتائجها، قرار تقديم موعد الانتخابات البرلمانية من تشرين الثاني/نوفمبر 1992 إلى حزيران/يونيو 1992. وفلسطينياً، دخلت عوامل جديدة في تحديد الدور الفلسطيني بشقّيه، أي دور منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج ودور فلسطينيي الداخل. وقد دعونا إلى هذه الندوة من أجل تقويم المسيرة السلمية والعملية التفاوضية بعد هذا الشوط الذي قطعته، ولا سيما في ضوء الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، ثم الانتخابات الأميركية الرئاسية. والسؤال المطروح للنقاش هو: في أي اتجاه تسير العملية السلمية بعد أربع جولات من المفاوضات، وفي ضوء التغيرات التي حدثت.

د. مصطفى البرغوثي: أعتقد أن التقويم يحتاج إلى عرض عدة جوانب يصعب التطرق إليها جميعاً، لكني أود أن أعرض ما يتعلق بالجانب الفلسطيني تحديداً. في اعتقادي أنه منذ لحظة إعلان تقديم موعد الانتخابات الإسرائيلية توقفت، عملياً وفعلياً، عملية المفاوضات؛ إذ أصبح الطرف الإسرائيلي المفاوض طرفاً غير مخوّل وغير قادر على اتخاذ قرارات أساسية في مسائل جوهرية مطروحة. هذه لم تكن مفاجأة، لأنها كانت أحد التكتيكات المحتملة والمنتظرة [من جانب إسرائيل] على أمل أن تكون سبباً في إعاقة المسيرة السلمية. وهذا، في رأيي، أحدها فقط. وهو لن يكون الأخير، لأن الانتخابات الإسرائيلية ستتبعها انتخابات أميركية. جوهر ما يجري هو أن إسرائيل غير معنية فعلاً بخوض مفاوضات حقيقية، أو التوصل إلى تسوية حقيقية. وما يجري على الأرض هو ضم فعلي ومتدرج للأراضي المحتلة، ومحاولة فرض أمر واقع. ولقد زاد التوتر خلال المسيرة [السلمية]، ورأيناه في أشكال القمع المختلفة، وفي الإجراءات الإسرائيلية، وفي رفض وقف الاستيطان.

              من جانب آخر، وخلال الأشهر الخمسة الأخيرة، جرى اختبار للأداء السياسي الفلسطيني أيضاً. أنا أعتقد أن قوى عديدة شاركت في المباحثات من منطلق أن المباحثات نفسها ساحة من ساحات الكفاح الفلسطيني، وبالتالي يجب أن يكون الأداء منسجماً مع طبيعتها كساحة صراع مرتبطة بساحات النضال الأخرى، وتحديداً – ببساطة – الانتفاضة. هناك سؤال مهم هو: كم نجح الوفد المفاوض في إحداث عملية الربط هذه؟ هناك شعور بأن الترابط بين مختلف ساحات الكفاح لم يكن وثيقاً بما يكفي، ليساهم في تعديل ميزان القوى لمصلحة الطرف الفلسطيني الذي يناضل في أوضاع صعبة، أساسها أن ميزان القوى مختلف.

              هناك أيضاً علامة استفهام كبيرة في شأن الأداء الأميركي والأوروبي، الذي كان الجانب الفلسطيني ينتظر أن تكون مساهمته في الضغط على إسرائيل أكبر.

              سؤال آخر ربما يصعب تحليله بسبب عدم وضوح الصورة وضوحاً كاملاً، ولكنه يثار، وهو يتعلق بالطريقة التي يدير الطرف الفلسطيني بها عملية المفاوضات، وتحديداً بالآلية التي يتخذ القرار بها. في رأيي أن الطرف الفلسطيني حتى الآن، وتحديداً منظمة التحرير الفلسطينية، فشل في تطوير آلية لإدارة القرار الفلسطيني على أساس المشاركة الديمقراطية من جانب جميع القوى المشاركة في عملية المفاوضات.

س: هل ملخص ذلك أنك ترى أن العملية السلمية تتجه نحو الفشل؟

د. مصطفى البرغوثي: ليس بالضرورة. وإنما في هذه المرحلة بالذات، وفي اللحظة التي أُعلن تقديم موعد الانتخابات الإسرائيلية، اصبح على الطرف الفلسطيني أن يراجع نفسه، وأن يطرح سؤالين: هل الاستمرار في عملية المفاوضات، في ظل الوضع القائم إسرائيلياً، مفيد أم ضار؟ في رأيي أنه ضار، وبالتالي ربما من واجب الطرف الفلسطيني تعليق المفاوضات حتى انتهاء الانتخابات الإسرائيلية، لأنه بهذه الطريقة يساهم في الضغط على الأطراف المتطرفة داخل إسرائيل، التي تحاول استخدام عملية المفاوضات مبرِّراً لسياستها الخاصة، وللظهور أمام الناخب الإسرائيلي أن في إمكانها، مع تعنتها وسياستها، خوض مفاوضات. وكي نخرج من هذه الحلقة المفرغة، على الطرف الفلسطيني أن يراجع موقفه وطريقته في الأداء. ومن المهم جداً مراجعة اتخاذ القرارات فيما يتعلق بالمفاوضات: أن تكون ديمقراطية أكثر واستراتيجية أكثر.

د. مهدي عبد الهادي: قد يكون مدخلاً صحيحاً الحديث عن إسرائيل كطرف مقابل ومجابه للمفاوضات ودورها في إفشال المفاوضات. لكن السؤال الأساسي هو: كيف جاءت إسرائيل إلى طاولة المفاوضات ومَنْ يقدر أن يفرض عليها أن تتنازل وتتراجع وتلبي رغبة الإرادة الدولية في تنفيذ القرارين 242 و338. وبالتالي يحافظ الوفد الفلسطيني على حضوره وحقوقه وتحصيل ما يمكن تحصيله في هذه المرحلة؟ القضية ليست قضية انتخابات إسرائيلية، لأن إسرائيل في الأساس (سواء الليكود أو حزب العمل) غير معنية إطلاقاً بتنازل، أو تراجع، أو إعطاء الفلسطينيين حقوقهم. ما أحضر الإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات هو عوامل تختلف عن العوامل الذاتية الإسرائيلية، منها: دولية – تغيّر موازين القوى وموقف أميركي واضح وصريح عبر عنه قرار بوش وعمل بيكر المكثف؛ حضور الانتفاضة على الساحة الدولية؛ نتائج حرب الخليج. كل ذلك ساعد في إحضار إسرائيل إلى طاولة المفاوضات مرغمة، وليس برضاها.

بالنسبة إلى الفلسطينيين، لا يمكن لأحد أن يغفل أنه إنْ لم تكن تحققت إنجازات فعلية، فعلى الأقل هناك التغيير الذي أنجزه الفلسطينيون. فأولاً، خرجنا من العزلة التي فرضت علينا في أثناء حرب الخليج، وفُرضت علينا نتيجة تغير ميزان القوى، وتراجع الانتفاضة، وتغير جدول الأعمال السياسي في عواصم الدول العالمية. لقد خرجنا من العزلة، وجلسنا إلى الطاولة على قدم المساواة مع جميع الوفود، بخطاب فلسطيني، وحضور فلسطيني، وبرنامج فلسطيني، بغض النظر عن الاجتهادات في شأن كيف تم ذلك، ومن يجلس ومن لا يجلس... إلخ.

ثانياً: هناك تغيير في التركيبة الفلسطينية في الداخل. فبعد أربعة أعوام من الانتفاضة، ماذا تحقق؟ لقد أفرزت الانتفاضة صوتاً فلسطينياً يفاوض الطرف الآخر. تغيرت لغة الاشتباك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من حجر وإطار مشتعل وإضراب وبيانات و"فاكس"، إلى اشتباك تفاوضي على وقع مفاوضات ووثيقة مفاوضات، بحضور أطراف دولية أخرى، فأعطت الفلسطينيين في الداخل نوعاً من الثقة بأن هناك مساراً يمكن البناء عليه.

الأمر الثالث الذي يجب أن نؤكده هو أننا تفادينا، بدخولنا مسار المفاوضات، خسائر لا يمكن حسابها في هذه المرحلة، وهي إسقاطنا من جدول الأعمال السياسي الإقليمي والدولي. فهناك عالم عربي منقسم، وهناك جدول أعمال مختلف في كل عاصمة عربية، ومصالح مختلفة، وتراجع في دعم الفلسطينيين والاعتراف بهم، ويجب ألا نخدع أنفسنا بالقول إن القضية الفلسطينية ستبقى لبّ الصراع. وإذا كان كذلك، فليس الأمر صحيحاً من ناحية جدول الأعمال السياسي المصلحي للنظام العربي في أية عاصمة عربية.

صحيح أن هناك زخماً ومخاضاً لولادة انتخابية، في تل أبيب وواشنطن، ستؤثر في المفاوضات. ولكن كيف يمكن ضمن مساري المفاوضات الثنائية والمتعددة الأطراف أن نفرض على إسرائيل أن تستمر في المفاوضات، وأن نفرض عليها التغيير في علاقتها بالفلسطينيين، وأن نستطيع أن نفرض على الأطراف العربية عدم دخول برنامج تطبيع مع إسرائيل قبل أن تتعامل معنا.

الأمور واضحة جداً. فلغة التفاوض اختلفت. هناك برنامج فلسطيني، وآخر إسرائيلي. وبمعنى آخر، هناك موضوعات نتفاوض في شأنها، وليست هذه مفاوضات شكلية. هناك موضوع للمفاوضات، وهو البرنامج المرحلي الفلسطيني: الفلسطينيون يطالبون بإنهاء الاحتلال، وبسلطة وطنية، وبنقل السلطة، وبانتخابات، وبحقوق إنسان، وبوقف الاستيطان. إذاً، هناك قضايا للتفاوض مطروحة على الطاولة، وهناك حضور للطرف الثالث لمتابعتها، إنْ لم يكن التأثير في الطرفين.

لكن السؤال هو: كيف يمكن للطرف الفلسطيني أن يستمر في المفاوضات من دون التراجع – لا عن حقوقه، ولا عن تقسيم وطنه، ولا عن سقوطه من جدول الأعمال العربي – وأن يحافظ على التحام التعاطف الإقليمي والدولي مع قضيته. إن الوثيقة الفلسطينية التي قدمت في المفاوضات ليست وثيقة للدولة الآن، وبالتالي هناك تفهم أوروبي وأميركي بأن الفلسطينيين لن يقيموا الدولة اليوم. هناك مدخل للحوار مع الإسرائيليين، منه أن الاحتلال يجب أن ينتهي، وأنه يجب أن تكون هناك صيغة للمرحلة الانتقالية.

النقطة الأخرى المهمة، هي ما يطرحه الفلسطينيون اليوم على الطاولة، والذي يمكن أن يمنحهم استمرار التعاطف والتفهم الإقليمي والدولي، واستمرارهم في المفاوضات، وعدم السماح لإسرائيل بالهروب من المفاوضات، أو التراجع عنها. وهذه النقطة تتلخص بثلاثة أمور: حقوق الإنسان، والانتخابات، ووقف الاستيطان. هذه هي الأمور التي يطرحها الفلسطينيون على طاولة المفاوضات.

السؤال هو: كيف يمكن استمرار تلاحم ووحدة البيت الفلسطيني في برنامج وطني فلسطيني، الخطوط الحمر وآلية القرار فيه واضحة، كي يحافظ على حضوره وصوته وحقوقه من دون تراجع؟

 الخطر الرئيسي:

تنازلات إضافية

د. جورج جقمان: أعتقد أن آلية الدفع في اتجاه تسوية سياسية هي، في الأساس، مصلحة الولايات المتحدة في إيجاد تسوية تؤدي إلى قدر نسبي من الاستقرار في الشرق الأوسط. هذه المصلحة ما زالت قائمة، لكن السؤال المركزي هو: إلى أي مدى يمكن للإدارة الأميركية الحالية، أو أية إدارة أميركية، الاستمرار في الدفع نحو التسوية السياسية عبر شهور، أو ربما أعوام، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود معوقات داخلية أمامها، وقضايا أخرى ينبغي لها أن تلتفت إليها من جهة، ومعوقات خارجية، وتحديداً محاولات حثيثة ودؤوبة من قبل الإسرائيليين للمماطلة والتسويف والتأجيل؟ يبدو لي أن قدرة أية إدارة أميركية على مواصلة دفع المسيرة السلمية لفترة طويلة هي، بالضرورة، محدودة ومرهونة بمتغيرات قد تطرأ من وقت إلى آخر. الخطر الرئيسي من وجهة النظر الفلسطينية هو، في رأيي، أن تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل من جهة، وعلينا من جهة أخرى، من أجل استمرار المسيرة، ويكون هذا الضغط أكبر علينا. وبالتالي، يكمن الخطر في احتمال انصياعنا لهذا الضغط فتستمر المسيرة على حساب تنازلات إضافية تضاف إلى تلك التي جرى تقديمها حتى الآن.

من جهة أخرى، يبدو لي كذلك أننا نحن الآن في وضع أفضل لمقاومة الضغوط الأميركية لأننا، إنْ جاز التعبير، أثبتنا "حسن نية" عن طريق اشتراكنا في هذه المسيرة؛ وبالتالي يبدو لي أن وضع خطوط حمر واضحة، من دون التنازل عنها، هو أمر ممكن. لكن يبقى أن الخطر الكبير هو تقديم تنازلات إضافية على حساب المصلحة الوطنية نتيجة ضغوط أميركية، إذ قد يظهر للإدارة الأميركية أننا نحن الطرف الأضعف، ومن الأسهل أن يتم الضغط علينا منه على إسرائيل.

              هذه هي المعضلة، في رأيي، في المرحلة الحالية. وما أخشاه هو أن يجري استغلال المفاوضات بعد الانتخابات الإسرائيلية لدفع الفلسطينيين إلى تقديم تنازلات إضافية.

د. محمد جاد الله: أود أن أتناول الموضوعات في التسلسل نفسه الذي وردت فيه، وأبدأ بقضية الانتخابات الإسرائيلية. أنا لا أعتقد إطلاقاً أنه قد يكون في عملية المفاوضات الآن مطلب فلسطيني ذو علاقة بالانتخابات الإسرائيلية. والسبب هو أنني لا أرى الانتخابات المقبلة مدرجة في جدول أعمال الإسرائيليين من زاوية علاقتها بالمفاوضات؛ بمعنى أن جدول أعمال الناخب الإسرائيلي لا علاقة له، لا بالمفاوضات ولا بالسلام، بل هو مسألة حسم الأمر في مصلحة هذا الحزب أو ذاك. ما يشير إلى ذلك هو أن انتخاب يتسحاق رابين لزعامة حزب العمل لم يتم لقربه من المفاوضات، أو إمكان تحقيق السلام على يديه، بل تم لقربه من معسكر الليكود وتفاهمه معه. لذا، لا أرى أية جدية تجاه المفاوضات، سواء فاز حزب العمل في هذه الانتخابات أو فاز الليكود.

              الحالة الوحيدة التي يمكن أن أفكر فيها أن هناك جدية حقيقية في التعامل مع قضية المفاوضات وقضية السلام في المنطقة، هي وجود حكومة ائتلافية. عندها سيبدو أن لدى الجانب الإسرائيلي نية للتعامل مع ما هو مطروح في المنطقة العربية. ما عدا ذلك، سنبقى في متاهة بين الحزبين. أنا أعتقد حتى أن تقديم موعد الانتخابات إلى 23 حزيران/يونيو ليس قضية تكتيك، بل هو قضية في جدول أعمال الإسرائيليين في تعاملهم مع المفاوضات والعملية السلمية؛ فهم يتعاملون مع القضية من جانبها الشكلي والإجرائي. وهذه هي قضية شكلية وإجرائية للاستمرار في الابتعاد عن الجوهر، وعن التعامل الحقيقي مع قضايا المضمون فيما يتعلق بقضية السلام. أنا أعتقد أن إسرائيل لا تفهم الأمور كما نفهمها نحن، أي أن مقولة الأرض في مقابل السلام هي قضية أسقطتها إسرائيل كلياً، وسمعنا أصواتاً عديدة تقول: سلام في مقابل سلام. لكن أنا، في الحقيقة، أنظر إليها من زاوية أخرى؛ فالسلام العربي المطروح على إسرائيل لا قيمة له الآن، وهي بالتالي مستعدة لأن تعطي أي شيء في مقابل هذا السلام العربي الخالي من المضمون والضعيف. إن السلام العربي كان مهماً عندما كان هناك عامل تهديد لأمن إسرائيل. وما دام هذا التهديد غير موجود، فإن السلام العربي لا أهمية له. لذلك كان السلام مع مصر سنة 1978 ذا معنى وضرورياً لإسرائيل، لأنه كان يشكل نهاية للخطر من الجانب العربي.

د. مهدي عبد الهادي: لكن توجد هنا نقطة مهمة جداً يجب ذكرها، وهي أن اللغة تغيرت عما كانت عليه في الثمانينات. والتسعينات هي في مصلحة إسرائيل. صحيح أن الحقية الماضية، من الخمسينات حتى الثمانينات، كانت تُطرح فيها مسألة الأمن، ومسألة الحرب، ومسألة أن الأنظمة العربية تحاصر إسرائيل، وكان ذلك هو العامل الأساسي في مصلحة إسرائيل في البحث عن مفاوضات مع العرب. لكن في حقبة التسعينات لم تعد الحرب هي الأساس لحل المشكلات، إذ أصبحت المصلحة الاقتصادية قضية حيوية بالنسبة إلى إسرائيل، وقضية أساسية كي تصبح جزءاً من الشرق الأوسط، لا غيتو فيه. وهذا ما يباع للشارع الإسرائيلي، ولصاحب القرار الإسرائيلي، من الغرب ومن الأميركيين.

د. محمد جاد الله: هذا الكلام تبيعه أميركا وأوروبا للعرب، لكن إسرائيل لم تقتنع به ولم تشتره، بدليل أنها تزداد تسلحاً.

د. مهدي عبد الهادي: لو لم تشتره إسرائيل لما ذهبت إلى طاولة المفاوضات.

د. محمد جاد الله: إسرائيل مجبرة، لأكثر من سبب، على أن تشترك في المسيرة، ولديها في الوقت ذاته مخطط معين، هو التعامل مع الشكليات والقضايا الإجرائية و"اللف والدوران" حول قضايا معينة، وعدم دخول قضايا الجوهر والمضمون. وأعتقد أن إسرائيل غير جادة في ظل الأوضاع الحالية، ويمكن أن نفكر في أنها جادة، أو في أن هناك بعض الجد على الأقل في التعامل مع قضايا السلام عندما تتشكل حكومة ائتلافية ويوضع الاثنان على المحك. ما عدا ذلك سنبقى ضمن لعبة الحزبين والرأسين.

هناك قضية ثانية أود أن أتطرق إليها، وهي أن هناك مصالح أميركية. فأميركا معنية بنوع من الاستقرار في المنطقة. وهذه قضية مهمة جداً، بحيث أن الولايات المتحدة مستعدة للقيام بحرب على غرار الحرب التي قامت بها ضد العراق من أجل ضمان وتأمين هذا الاستقرار. هذا العنصر يجب ألا يغيب عن ذهن الفلسطينيين. وأود ربط هذا بالجانب الأوروبي؛ فالأوروبيون أيضاً بدأوا يعبّرون عن نوع من اليأس والإحباط إزاء المسيرة السلمية، وبدأوا يبحثون عن مَحاور ومداخل أخرى لقضية الشرق الأوسط، لا عن طريق الحل المطروح على طاولة المفاوضات، إذ من الواضح لهم أنه لا توجد هناك أية احتمالات لأن تسير الأمور في الاتجاه الصحيح. ومن هذه المداخل، مثلاً، تعاون اقتصادي في المنطقة.

د. مصطفى البرغوثي: ولكن هذا موجه إلى خدمة العملية السياسية المطروحة على الطريقة الأميركية، وليس بصورة مستقلة عنها.

د. محمد جاد الله: أنا أرى أن هذه القضايا الاقتصادية هي أحياناً لخدمة القضية السياسية، وأحياناً أخرى بديل منها. لا أرى أية خطوط حمر واضحة بين الاثنتين. وأحياناً توظف المساعدات الأجنبية لخدمة الهدف السياسي الأميركي، وهذا صحيح وواضح. لكن هناك أيضاً توجهاً. ولا سيما من الفرنسيين والدول الاسكندنافية، إلى أن يكون البديل بديلاً اقتصادياً، لأنهم يدركون أن الحل السياسي غير ممكن في ظل التعنت الإسرائيلي.

أما المفاوضات، فأنا أرى أن كل المفاوضات كانت دائماً تتبع حروباً واختلافاً في موازين القوى، وبروز موازين قوى جديدة. نحن أتينا إلى المفاوضات، لا بعد حرب بل بعد انتفاضة ربما لها طابع آخر. إننا نأتي في ظل مصالح في المنطقة تتعلق بالأميركيين، أي بالاستقرار والمصالح الأميركية. نحن لم نستوعب هذه القضية بطريقة معمّقة، ولم ندرك أن مصالحنا حيوية، ولم نعرف كيف ندافع عنها بجدارة، فذهبنا إلى المفاوضات لأنه يجب أن نذهب ويجب أن نكون موجودين، ثم نتحدث عن قضايا تتعلق بحسن الأداء وقدرتنا على تغيير المسارات... إلخ، بينما لو طرحنا أن مصالحنا أساسية ورئيسية، كالمصالح الأميركية في المنطقة، لكانت لغتنا وتعاملنا مع الأميركيين اختلفا. على الأقل، أستطيع القول إن سوريا اعتمدت على تراث سياسي من الرفض أكسبها ثقلاً لدى الأميركيين والإسرائيليين معاً، بينما الأردن مغلوب على أمره، ولبنان تابع لسوريا. أما الفلسطينيون فقاموا أحياناً بدور مشابه لدور لبنان، أو لدور المغلوب على أمره كالأردن، لكنهم لم يكتسبوا أية قوة ذاتية تدفع في اتجاه أن يكونوا مثل السوريين، وبالتالي يجبرون الأميركيين والإسرائيليين على أن يتعاملوا معهم على هذا الأساس.

 السؤال: نستمر

أو لا نستمر؟

د. رياض المالكي: في الحقيقة لن أتطرق إلى الموضوعات الكثيرة التي تطرق الزملاء إليها. لكنني أود أن أتساءل، وسأنهي بالتساؤل نفسه. فالسؤال المطروح كان: في أي اتجاه تسير العملية السلمية؟ وأنا أود التركيز على كلمتي "اتجاه" و"تسير". فأنا أعتقد أن ليس هناك سير ولا تحرك، منذ مؤتمر مدريد حتى هذه اللحظة. وبما أنه ليس هناك تحرك، فليس هناك اتجاه. وهذا يؤكده عدم وجود نتائج. لكن كي لا أكون متهجماً على العملية، أقترح أن تكون هناك عملية تقويم للجولات الأربع من المفاوضات التي تمت حتى الآن. وعملية التقويم هذه لم يحاول الوفد الفلسطيني ومَنْ يدعمه، حتى هذه اللحظة، أن يجلس ويقوم بعملية تقويمية شاملة وموضوعية لما يسمى العملية السلمية، كي يتوصل إلى نتائج محددة يتمكن في إثرها من اتخاذ القرار: هل نستمر فيها، أم لا؟ كان الوفد الفلسطيني المشارك في عملية المفاوضات يقوم بعملية تقويم ذاتية، لكن كيف يمكن للوفد أن يقوِّم دوره بنفسه؟ فبالتأكيد لن يكون موضوعياً. إذ إن الموضوعية تكون من خلال مشاركة أوسع يقوم بها كل القطاعات المشاركة وغير المشاركة في المفاوضات، كي نتوصل إلى رؤية واحدة محددة بخصوص العملية التفاوضية. هذه قضية مفتقدة في المسار الحالي من المفاوضات، وهي قضية مهمة جداً. وأعتقد أن تجنب الجانب المفاوض دخول عملية تقويمية من هذا النوع، هو من أجل عدم التوصل إلى النتائج التي أطرحها دائماً، وهي الفشل الذريع الذي وصلت إليه العملية السلمية حتى هذه اللحظة.

              الحقيقة أن هناك سؤالاً يُطرح باستمرار: هل هناك مفاوضات أم لا؟ فرئيس الوفد الفلسطيني، حيدر عبد الشافي، قال قبل أيام في واشنطن (خلال عقد الجولة الرابعة) انه لم يكن هناك شيء يجري يدعى مفاوضات. ربما كان هناك ما يمكن تسميته لقاء، أي أشخاص يجلسون معاً ويتحادثون، لكن ليس مفاوضات. إذاً نحن نتحدث عن تقويم شيء لم يحدث قط. فالبعض جلس في الرواق، والبعض الآخر تحدث في كل جولة عن مكان عقد الجولة المقبلة. وهذا ليس مفاوضات. لذلك لا أرى أن هناك ما يدعو إلى إعطاء انطباع بأن ما دار في الجولات الأربع ذو طابع تفاوضي، وبأنه كان هناك فعلاً ما يستحق أن نقوّمه، بإيجابياته وسلبياته.

أنا أعتقد أن المفاوضات انتهت فعلاً، وهي كانت بدأت بأول زيارة قام وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر بها للمنطقة، واستمرت على مدار 15 لقاء مع الوفد الفلسطيني في الداخل، وانتهت بلقاء مدريد. أما بعد مدريد، فأعتقد أنه لم يكن هناك أي نوع من المفاوضات. فقد تم الاتفاق على الجوهر، وخطاب عبد الشافي في مدريد أكد الموافقة الفلسطينية على مضمون نتائج المفاوضات التي تمت مع بيكر. وما يدور حالياً هو عبارة عن قضايا إجرائية للإدعاء أنه كانت هناك مفاوضات من أجل تهدئة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وتخفيف الضغط عن الإدارة الأميركية بعد انتهاء حرب الخليج.

من ناحية أخرى، لو نظرنا إلى تركيبة الوفد الفلسطيني، أنا أعتقد أنها ليست تركيبة وفد تفاوضي، بل تركيبة وفد سياسي. وأعتقد، لذلك، أننا لو أخذنا العملية التفاوضية بصورة جدية، لكان علينا أن نشكل وفداً تفاوضياً على مستوى عال من الكفاءة والقدرة. فاتجاهنا إلى تشكيل وفد سياسي، أي بحسب التركيبة السياسية الموجودة في الساحة، من دون الأخذ في الاعتبار الكفاءات المتاحة، يؤكد أننا لم نبحث أساساً عن عملية تفاوضية جدية. كذلك لم نشعر بأنه كانت هناك متابعة جدية لعمل الوفد والمفاوضات من خلال منظمة التحرير الفلسطينية، أو من خلال الجماهير والمؤسسات والحركة الوطنية في الداخل. هذا إضافة إلى أنه ليست هناك، حتى هذه اللحظة، أجهزة مكملة للوفد المفاوض حتى نقنع أنفسنا بأن هناك مفاوضات جدية وزخماً يدعمها. إن غياب الأجهزة المكملة، وغياب المتابعة الرسمية وغير الرسمية، وتركيبة الوفد نفسه، تشير – بالنسبة إليّ على الأقل – إلى أنه يجب عدم توقع الشيء الكثير من هذه المفاوضات.

واضح أيضاً أن الشروط التي وافق الوفد الفلسطيني عليها للمشاركة في المفاوضات، تحد من إمكان تحقيق أية نتائج على أرض الواقع، على الرغم من أن الوفد الفلسطيني حاول إدخال بعض التغييرات في هذه الشروط من خلال المناورات على مدار الجولات الأربع الماضية، إلا إنه فشل تماماً في تحقيق أي تغيير فيها، الأمر الذي يؤكد أن الجانبين الأميركي والإسرائيلي واعيان جداً للمحاولات الفلسطينية الهادفة إلى تغيير هذه الشروط. وكان الجانب الفلسطيني قد توقع دعماً أميركياً خلال عملية المفاوضات، لكن ثبت فشل هذا التوقع كلياً لأنه، حتى هذه اللحظة، لم تتقدم الإدارة الأميركية خطوة واحدة من أجل دعم الموقف الفلسطيني بأي شكل من الأشكال. أنا أعتقد أنه بحسب رسالة الدعوة [إلى مؤتمر السلام] ورسالة التطمينات [الأميركية إلى الفلسطينيين]، كانت الإدارة الأميركية تقول إنه خلال عام يجب التوصل إلى اتفاق على المرحلة الانتقالية. قضية العام هذه، في حد ذاتها، هي الفترة الزمنية التي تحاول أميركا من خلالها أن تهدىء الوضع في الشرق الأوسط، بإعطائه نوعاً من "المورفين"، كي تمر الانتخابات الإسرائيلية والأميركية من دون مشكلات.

 تعليق المشاركة

بانتظار الانتخابات

د. علي الجرباوي: هناك عدة نقاط أود التطرق إليها، أولها الثمن الذي ندفعه في عملية المفاوضات. نحن دائماً نتحدث عن عملية المفاوضات كما لو أننا نأخذ منها شيئاً ما، ولا نعطيها في المقابل. وما أثار هذه النقطة لديّ هو ما قاله د. مهدي. ليس هناك عملية نشترك فيها إلا وندفع، ثم نأخذ منها، لكن التركيز يتم على أننا نحقق إنجازات. والإنجازات، كما أراها، هي في الشكليات في مقابل الجوهر. نحن لا نتطرق إلى ما دفعناه عندما قبلنا أن ندخل هذه المفاوضات. فأولاً، عملية المفاوضات هي وسيلة لا غاية في حد ذاتها. نحن دائماً نصرّ على أنها غاية في حد ذاتها، ويجب أن نستمر فيها. لقد حققت المفاوضات، بحسب قول د. مهدي، تعاطفاً دولياً، وخروجاً من العزلة، وعدم اسقاطنا من جدول الأعمال. وأنا أود أن أذكر، فيما يتعلق بالتعاطف الدولي، أن كلاً من الهند والصين لم تقم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل إلا بعد بدء المفاوضات؛ وقرار الجمعية العامة بمساواة الصهيونية بالعنصرية لم يلغ إلا عندما دخلنا المفاوضات. فأين هو التعاطف الدولي؟

              وفيما يتعلق بمسألة الخروج من العزلة وإسقاطنا من جدول الأعمال، فأنا أتساءل: ما هي أولوياتنا؟ هل هي منظمة التحرير الفلسطينية، أم الحقوق الوطنية والشرعية للشعب الفلسطيني؟ فمنظمة التحرير هي آلية لا غاية في حد ذاتها، أي أن ضمان خروجها من عزلتها ووجودها ليس هدفاً يجوز أن نسقط حقوقنا الوطنية من أجله، هذا إضافة إلى أني لا أرى أننا فعلاً خرجنا من العزلة حتى الآن. فما زالت "مفاتيح" الدعم المالي مغلقة، ولم يحدث بعد إشراك منظمة التحرير إشراكاً جدياً في المفاوضات، وأتصور أننا لن نخرج من العزلة إلا عندما نوقع، لا قبل ذلك.

النقطة الثانية هي أن ما أظهرته عملية المفاوضات هي هشاشة الموقف الفلسطيني، وذلك لأننا آمنّا منذ دخولنا هذه المفاوضات بأننا ضعفاء ذاتياً، وعندما آمنا بأننا ضعفاء ذاتياً دخلنا المفاوضات من دون شروط مسبقة من جانبنا، بل بشروط مسبقة فرضت علينا. وخلال المسار كله، لم نستطع أن نؤثر في الأطراف، سواء كانت عربية أو أميركا أو إسرائيل. فالعملية نفسها قامت على أساس تقديم متواليات من التنازلات من قبلنا. ونحن نرى أن الجولة الرابعة التي رُسمت لنا على أساس أنها جولة حاسمة سنتمكن خلالها من وقف الاستيطان، انتهت بتقديم مشروع [للحكم الذاتي] من جانبنا من دون أن يتوقف الاستيطان. وفي كل مرة، نقدم التنازل تلو التنازل، ونقول أن هناك إنجازاً.

نحن لم نستطع خلال الفترة كلها تغيير الشروط، وهذه النقطة تطرق د. رياض إليها، وأنا أؤيده فيها.

من النقاط المهمة، التي يجب أن نراها في مسار المفاوضات، انفصال العملية برمتها عن القاعدة الجماهيرية. وهذه نقطة مهمة من أجل أن ندرك إلى أين نسير. فنحن بدأنا بعملية تمّت بناء على قرار سياسي، وعاد المتفاوضون فأخرجنا الناس بأغصان الزيتون لاستقبالهم، وفي النهاية بدأنا نرى أن علاقة المفاوضين بالعملية التفاوضية بدأت تنحصر داخل غرف مغلقة، وفي تبادل "فاكس" مع الخارج، ولم يعد لها أي مردود على القاعدة. وما نراه اليوم هو انفصال تام بين الموفدين من الداخل والخارج، وبين الناس في الداخل، وانحصرت العلاقة بين أعضاء الوفد وتونس. وهنا أوافق د. رياض تماماً على أنه لم تجر هنا عملية تقويمية لما يحدث، بل إن ما يحكم السياسة الفلسطينية هو "وشوشات".

النقطة التالية، التي يجب أن نعيرها اهتمامنا، هي تغيير مجرى الانتفاضة. فعملية السلام أدت إلى تغيير هذا المجرى. وإذا أردنا أن نتوقف عن رفع شعارات كيف نطور الانتفاضة وما شابه، فعلينا الاعتراف بأن الانتفاضة تحوصلت نتيجة الاشتراك في العملية السلمية. وربما بدأت عملية التحوصل قبل بدء المفاوضات، لكن الأخيرة ساهمت في ذلك. الانتفاضة اليوم موجودة في جيوب، سواء في الشمال أو في قطاع غزة، وما نراه اليوم من مظاهرها هو عمليات رتيبة انتهى مفعولها.

أما النقطة الأخيرة فتتعلق بالاستراتيجية؛ إذ على الرغم من كل التجميلات الموجودة في أوراقنا ومشاريعنا، فإن الحقيقة هي أننا نفاوض الليكود بشأن برنامج حزب العمل. لذلك أنا اتفق مع د. مصطفى في النقطة الأساسية التي بدأ بها. فإذا أقرينا بهذه الحقيقة، ويجب أن نقر بأننا نفاوض الليكود بشأن مشروع حزب العمل، إذن فإن الانتخابات ستكون حاسمة، ويجب أن يكون لنا دور فيها. وأنا أرى لنا مثل هذا الدور، من أجل التأثير في نتيجة الانتخابات الإسرائيلية، وممارسة ضغط على الإدارة الأميركية. فالهمّ الوحيد للإدارة الأميركية هو استمرار عملية المفاوضات إلى ما بعد الانتخابات، وليس المهم تحقيق نتائج على الإطلاق. بالنسبة إلينا، كان يفترض بنا خلال الجولة الرابعة للمفاوضات – أو إذا كان سيكون هناك جولة أخرى قبل الانتخابات، وهذا في رأيي مشكوك فيه – أن ننسحب، كأطراف عربية وفلسطينية، من المفاوضات ونعلن أنها مفاوضات عقيمة مع هذا الجانب الإسرائيلي. هذا إذا كنا أصلاً نؤمن بأن في إمكان المفاوضات أن تحقق شيئاً. وهذا هو الشيء الوحيد الذي كان يمكن أن يشكل مصدر قوة من جهتنا تجاه الانتخابات الإسرائيلية، إذ عندها تتحول إلى انتخابات بشأن إمكان تحقيق تسوية سياسية. والمفارقة العجيبة التي تدل على هشاشة موقفنا، هي أننا نتمنى في الانتخابات الأميركية فوز الطرف الذي دمر العراق، وفي الانتخابات الإسرائيلية فوز الطرف الذي كسر عظام الفلسطينيين [في الانتفاضة]، وذلك من أجل أن تستمر العملية وتحقق نتائج.

د. مهدي عبد الهادي: لدي تعليق على ما قاله د. رياض بشأن مسيرة المفاوضات واتجاهها. فبغض النظر عن شكل المفاوضات، وسواء جلس المفاوضون في الدهاليز أو في القاعة، وسواء بدأت المفاوضات بزيارة بيكر وانتهت بحسب رأيك بمؤتمر مدريد، فإن قناعتي هي أن هناك ثلاثة وجوه للاتجاه الذي سارت المفاوضات فيه: الوجه الأول هو الوجه الإسرائيلي الواضح، منذ اليوم الأول، وهو برنامج حكم ذاتي، سواء بوجود الليكود أو بوجود حزب العمل؛ والبرنامج الأميركي واضح أيضاً، وهو البحث عن مرحلة انتقالية تفرز حكومة ذاتية ذات علاقة بمستقبل كونفدرالي مع الأردن، وهذا توجه لم يتغير منذ مشروع ريغان في 1 أيلول/سبتمبر 1982 حتى اليوم؛ أما الاتجاه الثالث، فهو اتجاه فلسطيني، بدأ بدولة، وانتقل إلى كونفدرالية ثم إلى سلطة وطنية. الاتجاه الفلسطيني الذي تبلور رسمياً على الورق هو البحث عن سلطة وطنية، ولذلك هناك اتجاه فعلاً، ولا نستطيع أن نقول إنه ليس هناك اتجاه للمفاوضات. أما مسار المفاوضات، فأنا أقول إن المفاوضات تسير أيضاً في ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول، وهذا واضح، هو تطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية في برنامج (المفاوضات) المتعددة الأطراف، ودخول وفد أردني – فلسطيني مشترك [في العملية] من خلال جدول الأعمال السياسي المطروح لمسيرة التطبيع. ولا يتم التطبيع بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، بل هناك علاقات من خلال الطرف الثالث، أي واشنطن، بين الأطراف العربية وإسرائيل في أكثر من قضية.

              أما المسار الثاني، الذي تسير المفاوضات فيه، فقد يكون من المبالغة الآن الإشارة إليه. لكن بعد تغيير التوجه كله، سيكتسب تدويل العملية معنى بدخول أوروبا واليابان في (المفاوضات) المتعددة الأطراف؛ أي أنه لن يبقى هناك عاصمة أوروبية ذات ثقل سياسي واقتصادي إلا ويكون لها اصبع، أو علاقة بهذا المسار.

وأما المسار الثالث، وهو الأخطر والأهم، وعلينا أن نركز عليه، فهو فتح ملف جديد للتشابك الإسرائيلي – الفلسطيني. فالتشابك بيننا وبين الإسرائيليين بدأ بكفاح مسلح، ثم سقوط خيار الكفاح المسلح، ثم الانتفاضة، والآن تشابك سياسي. هذا التشابك السياسي لم يبق محصوراً بين أرض الانتفاضة وأرض إسرائيل، ووجد له منبراً آخر هو منبر مدريد وواشنطن وموسكو. ومن المهم في هذا التشابك بين الفلسطينيين وإسرائيل عدم التركيز على مسار المفاوضات فقط، بل علينا أن نفتح جبهات أخرى. فإسرائيل ليست حكومة أو أحزاباً فقط، بل هي أيضاً شارع، ومدريد بالتحديد أوجدت رؤية ونظرة جديدة ومختلفة كلياً للفلسطينيين.

د. علي الجرباوي: كيف تثبت ذلك؟

د. مهدي: لقد كتبوا عنها في صحافتهم، ولمسناها في أقوالهم، وأصبح هناك احترام للوجود الفلسطيني، على الأقل للحد الأدنى من الحق الفلسطيني، وأن هذه الانتفاضة ليست حرباً ويجب عدم التعامل معها بلغة الحرب.

              وللرد على ما قاله د. علي، أنا لا أختلف معه في أن هناك، بخصوص عملية التقويم، إيجابيات وسلبيات. لكنني أقول إنه يجب عدم اختزال العمل السياسي في عملية المفاوضات. فنضال الحركة الوطنية الفلسطينية غير محصور في أنها أفرزت وفداً للتفاوض. وهذه مشكلة مررنا بها، ونحن كمؤرخين يجب أن نحذر من تكرارها. فعندما خرج الوفد الفلسطيني سنة 1955 برئاسة موسى كاظم الحسيني تجمدت كل الحركة الوطنية الفلسطينية، وأصبح الهمّ الرئيسي هو ما سيحضر لنا هذا الوفد، وماذا سينجز لنا؟ الحركة الوطنية الفلسطينية مملوءة بالزخم والفكر والقدرة والكفاءة، ويجب ألا تختزل في تركيبة وفد عُيِّن أو شُكِّل أو أخذ براءة وأخذ دوراً.

الأمر الآخر هو أن علينا ألا نركز على وجود فجوة بين الوفد والقاعدة، وعلى حصر العلاقة بين الوفد وتونس. فوفدنا موجود في أزمة حقيقية. إن أعضاء الوفود العربية والوفد الإسرائيلي موظفون لدى حكوماتهم، ويأخذون القرار من حكوماتهم هذه. والسمة التي تجعلنا مختلفين عنهم هي أننا ما بين حركة وطنية أو ثورة أو انتفاضة أو علاقات داخل – خارج، أصبح الوفد بالنسبة إلينا هو ما بين شركاء ومتزعمين وموظفين. وهذه أزمة علينا أن نبحث فيها. أما تشكيلة الوفد ودوره، فيجب ألا يكون هو القيادة الفلسطينية الجديدة أو البديل. وبالتالي، علينا التركيز بكل جدية وموضوعية، وما دمنا نبحث عن بناء سلطة وطنية في الأراضي المحتلة، هذا هو برنامجها السياسي المعلن للمفاوضات، وهذه هي براءتها من اللجنة التنفيذية والمجلس الوطني، كيف يمكن أن تصبح هي البرنامج الوطني في الأراضي المحتلة الذي تلتقي عنده كل الفصائل وكل الوطنيين والمجتهدين لبنائها وإنجازها.

هناك نقطة أخيرة أود أن أطرحها، وهي ما البديل من المفاوضات؟ د. علي طرح أن ننسحب (من المفاوضات)، وأن الانسحاب ربما كان الجواب الصحيح في هذه المرحلة، لأن كل المعادلة ليست في مصلحتنا.

د. علي الجرباوي: ليس هذا ما قلته، بل قلت اني أتفق مع د. مصطفى على أننا إذا أردنا أن نؤثر في تصحيح مسار هذه المفاوضات، فيفترض بنا أن نؤثر في الإدارة الأميركية وفي الانتخابات الإسرائيلية. وتأثيرنا يكون بانسحابنا من المفاوضات، أي تعليقنا لها إلى أن نرى ماذا سيحدث في المسقبل.

 "الانسحاب يخرجنا

من اللعبة الدولية"

د. مهدي: في رأيي، ينبغي لنا الاستمرار في المفاوضات مع التعامل بلغة أخرى مع الأطراف المعنية، أي الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية. علينا أن نضع الآن جدول أعمال خاصاً بنا في تعاملنا في إطار المفاوضات. المشكلة الفلسطينية الحقيقية هي أننا نضع برنامجنا السياسي في أثناء المفاوضات لا قبل المفاوضات؛ أي أنه ليس لدينا آلية سياسية لوضع استراتيجية للتعامل مع واشنطن وتل أبيب والطرف العربي. فنحن نتعامل معها تلقائياً نتيجة الأحداث لا نتيجة دراسة وبرنامج واستراتيجية ووضوح. لا نستطيع أن ننسحب لأن انسحابنا يعني إخراجنا من اللعبة الدولية القائمة. علينا أن نبقى في هذه اللعبة مع تغيير أدواتنا ولغتنا وعلاقاتنا. هذه هي مسؤولية القيادة الفلسطينية، ومسؤولية الانتفاضة، ومسؤولية تلاحم الداخل مع الخارج.

د. مصطفى البرغوثي: أولاً، أود أن أبدأ بالقول إنني شخصياً ليس عندي شك إطلاقاً في صحة القرار الفلسطيني بالمشاركة في المفاوضات، والذهاب إلى مؤتمر مدريد. وكذلك ليس لدي استهتار أو تقليل من أهمية الإنجازات، أو بعض الإنجازات التي تحققت، بما في ذلك فك العزلة عن الطرف الفلسطيني، وخصوصاً بعد حرب الخليج. كذلك أيضاً لا شك لدي في صحة القرار الذي أُخذ في حينه، بدليل أن المعارضين للمشاركة في المفاوضات لم ينجحوا حتى الآن في تقديم خطة أو برنامج بديل، سوى تكرار مقولات سابقة. وللأسف، إن في تكرار هذه المقولات، في اعتقادي، تجاهلاً للواقع. وبالتالي، فإن المعارضة التي سمعناها لمبدأ المشاركة في المفاوضات كانت، في الغالب، معارضة تستند إلى أسلوب سلبي يعتمد على نقد ما يجري، من دون اقتراح مناهج بديلة.

              هذه هي النقطة الأولى التي رغبت في تسجيلها. أما النقطة الثانية، فهي في شأن كيف ننظر إلى النظام الدولي الجديد. في رأيي إن ما يجب أن نمارسه، كفلسطينيين، هو استقراء النظام الدولي الجديد، ودراسة كيف يمكن التأثير فيه لا الاستسلام له. وهذا يقودني إلى نقطة أساسية، هي أننا في نظرتنا إلى المشاركة في المفاوضات، وإلى ما يجري الآن، فإن الكل متفق على أن الدافع الأساسي للولايات المتحدة هو محاولتها فرض نوع من الاستقرار لمصالحها الخاصة، وتحديداً مصالحها النفطية، ونوع من الاستقرار لهيمنتها السياسية على هذه المنطقة الاستراتيجية لخدمة أهدافها، وخدمة الوضع التنافسي الذي سينشأ خلال أعوام قليلة بينها وبين أوروبا واليابان، في إطار النظام الدولي ككل. وفي إطار هذا الفهم، يجب أن يكون سلوكنا موجهاً إلى الطريقة التي يجب أن نستخدم فيها عناصر القوة لدينا كي نحقق مكاسب فلسطينية. فمن الواضح أنه لن يكون في استطاعة الولايات المتحدة تحقيق الاستقرار المثالي المطلوب بالنسبة إلى مصالحها، من دون حل معين للمشكلة الفلسطينية. إذاً، فإن نقطة القوة الرئيسية لدينا، وربما الوحيدة في بعض الحالات، هي حاجة الأطراف التي تحاول أن توجد نوعاً من الاستقرار لوجود فلسطيني.

              السؤال الرئيسي هو: كيف نضمن أن يكون هناك وجود فلسطيني، وبالتالي مكاسب فلسطينية، وليس فقط غطاء فلسطينياً لعملية الاستقرار التي تجري محاولات لفرضها؟ وهذا يقودني إلى مسألة أساسية أخرى، هي: كيف نجعل منهجنا استراتيجياً في هذا المجال؟ وهنا سأتطرق إلى ثلاث مسائل: أولاً، إن الوفد المفاوض ارتكب خطأ استراتيجياً بموافقته على طرح برامج مفصلة لما يسمى الإدارة الذاتية، قبل حل مسألة الاستيطان؛ لقد فقد الوفد المفاوض بذلك وسيلة للضغط – آمل بأن يتراجع عنها حتى لا نفقد المبادرة كلياً – في مسألة قابلة للإنجاز. فحتى الولايات المتحدة تقول إنها ضد الاستيطان، وهناك إجماع دولي على وقفه. إذاً، توجد نقطة تركيز أساسية، في رأيي، كان يجب أن يصر الوفد المفاوض عليها، وأن لا يتقدم أية خطوة في اتجاه آخر، قبل الحصول على جواب فيما يتعلق بمسألة الاستيطان.

              أما الخطأ الثاني، الذي يجري أحياناً تجاهله وعدم التعرض له بصراحة، فهو أنه في الوقت الذي يُجري الوفد الفلسطيني مفاوضات، وفي وقت يجب أن يكون الوفد ممثلاً للشعب الفلسطيني وناطقاً باسمه، يجري عملياً التهاون أو التهادن أو التعامل مع مسائل "تطبيع" فعلية، يحاول الإسرائيليون فرضها في الأراضي المحتلة، مثل مسألة تعيين مجالس بلدية. فهذه، أولاً، طعنة في ظهر الوفد المفاوض؛  وهي، ثانياً، تعني عملياً القبول بالدخول فعلياً في عمليات تطبيع مع الإسرائيليين، بمعزل عن حل المسائل السياسية والاستراتيجية. كما ينطبق  الشيء نفسه، في رأيي، على موقفنا من المباحثات المتعددة الأطراف. أيضاً هنا يجب أن نصرّ على موقف واضح وصريح، هو أننا لن نشارك في هذه المباحثات ما لم يحدث تقدم فعلي في المحادثات الثنائية، وتجاوب مع مطالب الطرف الفلسطيني. إن أي تهاون في هذه المجالات الثلاثة يضعف عملياً الموقف الفلسطيني.

              وأود أن أشير إلى نقطة أخرى، يجب أن يتنبه لها الوفد المفاوض والفلسطينيون بصورة عامة. وهي أنه يجب أن نوجد نوعاً من التوازن في التركيز بين الطابع الاستراتيجي للوفد ومهماته، وبين الاهتمام المبالغ فيه بوسائل الإعلام. فنحن لا نفاوض كي نرضي وسائل الإعلام، مع أن من حقنا أن نبذل ما في وسعنا كي نحصل على انطباع جيد في وسائل الإعلام، وكي نصل إلى الشارع الأوروبي والشارع الأميركي. لكن هذه ليست النقطة الأساسية، بل هي أن نمارس دورنا بطريقة استراتيجية وسياسية. وإحدى وسائل حل كل هذه المسائل هي إيجاد مرجعية سياسية للوفد المفاوض، تكون فيها مشاركة حقيقية لمن يقبل المشاركة في هذه المفاوضات. ومن دون وجود مرجعية سياسية ديمقراطية وفعالة، توجد توازناً حقيقياً بين الداخل والخارج وبين القوى المشاركة وحتى غير المشاركة – لكن الموجودة في الشارع الفلسطيني – فنحن عملياً نؤذي عملية المفاوضات، ونفقد إمكان إيجاد رؤية استراتيجية متماسكة ومتمسكة بأهدافنا الواضحة، وأولها حق تقرير المصير. وللخروج من هذا الوضع أعتقد، أولاً، أنه يجب أن يتم تعليق المفاوضات إلى أن تتضح نتائج الانتخابات الإسرائيلية، وثانياً أن يتم إيجاد ميثاق وطني مشترك بين القوى السياسية المشاركة في منظمة التحرير، سواء كانت معارضة لمؤتمر مدريد أو مشاركة فيه. فالاتفاق على ميثاق وطني، وعلى خطوط حمر واضحة ممنوع تجاوزها، بغض النظر عن موقف المشاركة أو عدم المشاركة، من شأنه أن يوفر لنا استراتيجية سياسية وطنية مشتركة تكرس شكلاً من أشكال الوحدة الوطنية، وبالتالي تجعل مسار العملية السياسية يخدم أهداف الشعب الفلسطيني.

 كلّ يغني على ليلاه

زهيرة كمال: في رأيي أن هناك إضاعة للوقت؛ إذ يشعر المرء في كل جلسة بأن الحاضرين يكررون أنفسهم، وهذا أحد العوامل التي تضيّع الكثير مما يمكن أن ينجز. فما سمعته اليوم سمعته في مرات أخرى. القضية الأساسية هي: كيف نخرج من موقف "أنا مع أو أنا ضد" في اتجاه رؤية حقيقية إلى ما نريد؟ أنا أرى أن في النقاط التي نناقشها نوعاً من النزق، أو قصر النفس في التعامل مع العملية السياسية. فنحن داخلون عملية تفاوضية يُفترض أن تحل صراعاً يعود إلى بداية هذا القرن. وبالتالي من غير المقبول، عقلياً وعملياً، أن نتخيل أن في الإمكان حله خلال أربعة أشهر، أي منذ مدريد حتى الجولة الرابعة. بالتأكيد ليس هناك عملية تفاوض جارية، بل إن ما يجري هو طرح تصور فلسطيني لما نريده، كي نضع الحكومة الإسرائيلية في إطار تصوراتنا لهذه العملية، لأن هناك تناقضاً حقيقياً بين تصورنا للعملية والتصور الإسرائيلي، وهذه هي أول مرة نجلس فيها مع الإسرائيليين للبحث في هذا الموضوع. ولا يمكن تخيّل أن في إمكاننا التقدم في هذه العملية، أي أن نوقع شيئاً ما بأننا اتفقنا على هذا المبدأ وسننتقل إلى المبدأ الثاني. فمثلاً مسألة الاستيطان، هل هي مسألة سهلة؟ صحيح أن هناك موقفاً عالمياً ضد الاستيطان. لكن هذه المسألة إذا وافقت إسرائيل عليها، فهذا يعني أنها ستنسف المشروع الصهيوني من أساسه، ولذلك فهي لن توافق عليها بسهولة. إن هذه المسألة بالذات تحتاج إلى وقت. لكن هذا لا يعني أن عليّ أن أنسحب، ولا أن أتوقف عن طرحها. فأنا لا أؤيد أن نتقدم في عملية التفاوض قبل أن ننتهي من مسألة الاستيطان. في إمكاننا أن نطرح مسألة أخرى. فقد كان يُفترض أن يطرح الوفد الفلسطيني الحماية الدولية، بدل أن يطرح تفاصيل مشروع الإدارة الذاتية. فالوفد (خلال الجولة الرابعة) كان يقدم يومياً ورقة في شأن انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان. وعملية التراكم التي بدأت منذ الجولة الثانية، بتقديم وثائق يومية عن هذا الموضوع، أصبحت تسمح لنا، فلسطينياً وعالمياً، بأن نطرح موضوع الحماية الدولية.

              هناك نقطة ثانية أود التطرق إليها، وهي أن هناك خللاً بين الأطراف [الفلسطينية] المشاركة في المفاوضات. وهذا الخلل يجب أن ندرك كنهه. فليس هناك حركة متناسقة، وكل طرف يغني على ليلاه. إننا جميعاً متفقون على أن قرار دخول العملية السياسية قرار صائب، لكن لم تجر حتى الآن جلسة لتوحيد موقفنا، وتحديد ما نريده من هذه العملية السلمية. فهل نريد دولة فلسطينية، أم كونفدرالية، أم ماذا؟ صحيح أن خطوطاً تُرتسم خلال العملية لما نريده، لكن يجب أن نحدد كيف نريد لهذه العملية أن تكون وأن تسير، وما هي الأساليب لتحقيق هدفنا. هذه العملية ليست جارية. من هنا، فإن عملية التقويم التي تُطرح ضرورية. صحيح أن هناك نقاشاً يجري بعد كل جلسة، لكن كل طرف يستمع ثم يغادر. طبعاً، أستطيع أن أتفهم أن حركة وطنية فلسطينية عملت لفترة طويلة من خلال أسلوب إلقاء الخطب السياسية لا يمكن أن يُتوقع منها أن تنقلب، بين ليلة وضحاها، إلى العمل بأسلوب آخر. فكل شخص يأتي محضّراً خطاباً، يلقيه ثم تنتهي العملية. ففي العملية التقويمية التي تجري لا نخرج بنقاط محددة للتنفيذ.

هناك أمر ثالث يتعلق بالموضوع المطروح، وهو أننا في كل عملية نحتاج إلى عوامل مساعدة. فما هي العوامل المساعدة والأساسية التي يجب أن ندفعها إلى الأمام من أجل تحقيق نتائج للعملية التفاوضية، لأن العملية التفاوضية ترسم وقائع في ما هو موجود، وما نقوم نحن به في هذه العملية؟

فمثلاً، هناك مسألة الانتفاضة التي يتكلم الجميع عنها، متجاهلين العديد من الندوات التي شارك الجميع فيها، لا اليوم ولا منذ بدء المفاوضات، بل منذ عام ونصف العام على بداية الانتفاضة. ففي البداية كانت الانتفاضة عبارة عن جماهير تشارك فيها، وهذا كان في العام الأول. لكن منذ منتصف العام الثاني أصبحت الانتفاضة في حالة بين بين، أي بدأت تظهر مؤشرات [على وجود جوانب خلل] لُفت النظر إليها في حينه، لكن مع ذلك تأجلت عملية مواجهتها، إلى أن وصلنا إلى وضعنا الحالي. وهذا كي نواجه حقيقة قصور الحركة الوطنية. فهي ليست قيادة للجماهير حتى الآن، بل قيادة تلحق بالجماهير. هذه إحدى الحقائق التي يجب أن نواجهها. ربما ليس من الخطأ أن تكون بهذا الشكل، لأن إسرائيل لم تعطنا الفرصة كي نراقب تجربة العملية القيادية. فما أن تتشكل قيادة، حتى تصدر قرارات بالإبعاد، وبالتالي تُعطى المهمة لأشخاص جدد، وتبدأ العملية من جديد، وبالتالي لا ينشأ نوع من التراكم. ومع استمرار وجود هؤلاء الأشخاص، إما في المعتقل وإما مبعدين، فإن كل ما يمكننا أن نعمله هو محاولة التقاط الأنفاس. ووصلنا إلى ما وصلنا إليه لأنه ليس هناك برنامج مدروس. فلا يعقل أن نواصل الطلب من الناس طوال خمسة أعوام أن ترمي حجارة. ومنذ البداية قيل إن هناك عمليتين يجب أن تجريا على الأرض: إحداهما تتعلق بالمواجهة مع الاحتلال، والأخرى تتعلق ببناء السلطة الوطنية على الأرض من دون أخذ موافقة الاحتلال. وبالتالي، يُطرح سؤال هنا: كيف تقود الحركة الوطنية العمل في اتجاه حل مشكلات الإنسان الفلسطيني على الأرض، والتي تزداد يوماً بعد يوم وتزداد معاناته معها؟ هذه مسألة تحتاج إلى جهد من قبل الأطراف المشاركة في عملية التفاوض، والأطراف غير المشاركة فيها، وأنا أرى أن الطرفين مقصران تجاه هذه المسألة.

هناك أيضاً عوامل دفع العملية التفاوضية حتى في القضايا المطروحة، سواء كانت الاستيطان أو الحماية الدولية، أو حتى الخطوط العريضة لتصورات الحكومة الذاتية الفلسطينية. فلا يمكن أن يستمر التعامل مع هذه العملية كأنها كلها أسرار. فمثلاً، ماذا يعرف شعبنا عن هذه العملية؟ وحتى القوى الموجودة، لا أعرف ما إذا كان الجميع اطلع على وثائق المفاوضات أم لا، ولا سيما تلك التي قدمت إلى الجانب الإسرائيلي. فمن أجل الحصول على نتائج، ومن أجل إدخال تحسين في وجهة النظر الفلسطينية، يجب أن تتحرك الفصائل وغيرها في اتجاه تعبئة الشارع بخصوص ما يطرحه الوفد الفلسطيني في المفاوضات. والنقطة الثانية تتعلق بالصعيدين العربي والدولي. فإذا عملنا بطواقم من هذا النوع، فأنا أرى أننا سنحرز تقدماً كبيراً جداً. لكن ما يحدث هو أن لدينا وفداً دفع إلى عملية التفاوض، والباقي يتحين الفرص لالتقاط أخطاء وتقصيرات ومواقف في هذه العملية. في الوقت نفسه، فإن الوفد ليس لديه إعلام مرئي أو محسوس كي يستطيع الوصول إلى الشارع. كذلك لم توضع آلية لتجميع أوراق المفاوضات في ملفّ، ولم تشكَّل طواقم لعرض هذه الأوراق على الناس وتعريفهم بها. وأنا أرى أننا إذا لم نعالج هذه المسائل فلن نتمكن من تحقيق نتائج علنية وفعلية.

النظرية شيء

والواقع شيء آخر!

د. رياض  المالكي: هناك نقطة طرحها البعض، ولا سيما د. محمد، في شأن دور أوروبا. ما أقوله أنا هو أن أوروبا لن تجرؤ على طرح أية أفكار جديدة قبل أن تقرر الإدارة الأميركية رفع يدها كلياً عن المسيرة الحالية، إضافة إلى أن لا أوروبا ولا غيرها سيجرؤ على طرح أي بديل من الطروحات الأميركية.

وأنا أرى أن وجهة النظر التي طرحها د. مهدي تعتمد، أساساً، على مجموعة من القضايا: الأولى هي الاعتماد على أسلوب التبريرات والأعذار في طرح الموقف؛ والثانية هي الاعتماد على الأمر الواقع، أي أننا ذهبنا إلى المفاوضات وأصبح هذا أمراً واقعاً؛ والقضية الثالثة هي الاعتماد على طرح سياسة الخوف والضعف. وأتفق في هذا مع ما قاله د. علي، أي أننا إذا لم نذهب إلى المفاوضات فستزداد العزلة وسيقل الدعم؛ والقضية الرابعة هي أننا دائماً نعتمد على إخفاء المعلومات وعدم إشراك الجماهير في هذه المعلومات، وهو ما قالته زهيرة، وأنا اتفق معها في مجمله، وهو يستند إلى قرار مقصود؛ والنقطة الأخيرة هي أنه تجري عملية خداع للذات بأننا يمكن أن نحقق المعجزات فقط إذا ذهبنا إلى واشنطن، وأن في إمكاننا أن نغيّر السياسة الأميركية، وأن في إمكاننا إدخال أميركا في علاقة حب معنا كفلسطينيين، أي أننا إذا لبسنا ملابس غربية، وتكلمنا اللغة بصورة جيدة مع الإعلام، فإننا نستطيع أن نقنع من لم يقنع.

وأنا أرى أن السياسة المطبقة تعتمد كلها على النظرية، لا على الواقع. فعندما يتحدث د. مهدي عن وجود ثلاثة اتجاهات، أي إسرائيلي يطرح الحكم الذاتي، وأميركي يطرح الكونفدرالية مع الأردن والمرحلة الانتقالية، وفلسطيني يطرح الدولة أو السلطة الوطنية... إلخ، فإن هذا في رأيي هو الجانب النظري الذي يحاول من يؤيد وجهة نظر د. مهدي أن يطرحه لتحليله. لكن هناك فارقاً بين الجانب النظري والواقع. صحيح أن هناك، ضمن مفهوم نظري، ثلاثة اتجاهات، لكن ما يحدث في واشنطن شيء آخر. وحتى عندما تطبق هذه الاتجاهات الثلاثة على أرض الواقع، فهل تطبق في المستوى نفسه، وهل لها القدرة والقوة أنفسهما؟ هنا يكمن السؤال المهم: حتى لو كانت نظرياً صحيحة، وحتى لو كانوا طرحوا فكرة المرحلة الانتقالية أو المشروع الفلسطيني، فأي مشروع سيبقى؟ هل هو المشروع الإسرائيلي الذي سيتم اعتماده، أم هو المشروع الفلسطيني؟ من تجربتنا، ومنذ مدريد حتى هذه اللحظة، وحتى منذ ما قبل مدريد، أي منذ أول زيارة لبيكر حتى الآن، كان السقف الفلسطيني دائماً مرتفعاً جداً ثم يهبط بالتدريج إلى أن يلتقي مع السقف الأميركي أو السقف الإسرائيلي. والدليل أننا وافقنا على الذهاب إلى مدريد بالشروط الأميركية، لا بالشروط الفلسطينية. المسألة، إذاً، واضحة جداً، وهي أننا نتحدث نظرياً، وهو في الواقع غير موجود.

هناك قضية أخرى ذكرها د. مهدي، وهي أننا لا نستطيع أن ننسحب (من المفاوضات)، بل نستطيع أن نغير أدواتنا ولغتنا فقط. وهذه قضية أعتقد أنها خطرة جداً، لأن ذلك يعني التنازل عن القرار الفلسطيني المستقل. فإذا ادعى د. مهدي أننا ذهبنا إلى واشنطن بقرار فلسطيني مستقل، فإذاً يجب أن نملك القرار نفسه للخروج عندما نشاء. إذ يجب أن نملك مثل هذا القرار عندما تتطلب المصالح الفلسطينية القومية الانسحاب، وعندها يجب أن ننسحب. إذاً، إما أننا نملك القرار المستقل، وإما أننا نلحق ردة الفعل. ويبقى في النهاية السؤال: ما هي أولويات الموقف الوطني؟ هل هي إرضاء أميركا والغرب، أم هي تحقيق ما تطلبه جماهيرنا الفلسطينية؟

أنا أتفق مع د. علي فيما يتعلق بالانتفاضة وأنها تحوصلت. وأنا أرى أنها لم تتحوصل فحسب، بل أصبحت العملية السياسية تسير على حساب الانتفاضة ودعمها وإسنادها بصورة أساسية. لكن في ملاحظة أيضاً على ما قاله د. مصطفى في شأن فشل المعارضة في طرح البديل؛ إذ إنني أعتقد أنه منذ البداية كان هناك موقف فلسطيني واضح جداً، وهو المطالبة بمؤتمر دولي كامل الصلاحيات. وفي اللحظة التي تنازلنا عن هذا الموقف كي نطرح أموراً أخرى بديلة، ولم نعد نطرح مطلب المؤتمر الدولي، فإن ذلك عنى أننا تنازلنا عن موقفنا الأساسي الملزم. وتصبح المسألة لا في عدم قدرة المعارضة على طرح بديل، بل في قرار الذهاب إلى واشنطن، ثم التنازل عن الموقف الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي كان دائماً يطالب بالمؤتمر الدولي. وأصبح من يتحدث عن المؤتمر الدولي كأنه خرج عن رسالة التطمينات ورسالة الدعوة الأميركية التي وجهت إلينا.

أما بالنسبة إلى استقراء النظام الدولي الجديد، فأعتقد أننا – نحن الفلسطينيين فقط – ما زلنا نكرر هذا المصطلح. فقد تلقفناه وأصبح كأنه شعارنا لهذه السنة وللسنوات المقبلة. وأنا سبق أن طرحت تساؤلاً، وما زلت أطرحه، وهو: ما هو النظام الدولي الجديد، وعلى أي أساس يقف، وكيف نراه؟ أعتقد أن علينا التوصل إلى قراءة صريحة وواضحة، وإلى تفسير صحيح، لهذا النظام الدولي الجديد، كي نتمكن من ربطه بعلاقة أو بأخرى.

وأنا اتفق مع د. مصطفى تماماً في شأن طرح المشروع الفلسطيني بتفاصيله قبل وقف الاستيطان، كما اتفق مع ما قالته زهيرة في هذا الموضوع. وأعتقد أن الإدارة الأميركية قالت سابقاً إن الجولة الرابعة للمفاوضات يجب أن تختلف عن سابقاتها، وضغطت على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني لتقديم مقترحات للحكم الذاتي أو المرحلة الانتقالية، ولهذا السبب قدم الإسرائيليون [مقترحاتهم] أولاً، والفلسطينيون ثانياً، أي أن أميركا كانت معنية بهذا الشيء، على الرغم من أن الفلسطيني كانوا يصرّون على عدم طرحهم أي موضوع آخر قبل وقف الاستيطان. وهذا يثبت أن الشروط الفلسطينية غير معترف بها، وغير مهمة، بالنسبة إلى الطرفين الأميركي والإسرائيلي، لأنه في كل مرة يطرح الفلسطينيون شرطاً، نجدهم يقفزون عن هذا الشرط وينتقلون إلى قضية أخرى. وأنا أرى أنه يجب وضع سقف زمني لكل ما يجري كأن نقول، مثلاً، إنه إذا لم يتوقف الاستيطان، بعد عدد محدد من الجولات، فيجب أن نعيد تقويم وضعنا وننسحب من هذه العملية.

أما بخصوص وضع ميثاق وطني، فأنا أرى أنه قضية مهمة جداً، لأنه يحدد كيف يمكن لأي طرف، سواء أكان مؤيداً للمسيرة [السلمية] أم معارضاً لها، أن يستمر في عمله من دون أن يعرض طرفاً آخر لخلافات أو إشكالات.

وبالنسبة إلى وضع استراتيجية، فأنا أتساءل عما إذا كانت هناك، ضمن تركيبة الوفد الحالية، لجنة تسمى اللجنة الاستراتيجية، وفيها أشخاص يمتلكون القدرة والكفاءة لطرح قضايا استراتيجية وتفكير استراتيجي. وإذا كانت موجودة، فما هو عملها، وكيف استطاعت أن تجير العملية التفاوضية الجارية بشكلها الاستراتيجي المحدد؟

د. جورج جقمان: أعتقد أنه ربما ليس هنا مكان الحديث عن جدوى دخول المفاوضات أو عدمه، لكني شخصياً أعتقد أنه لم يكن هناك منذ البداية مجال لعدم دخول المفاوضات. لكن كنت أتمنى أن يكون تحت شروط أفضل. وفي رأيي أن في الإمكان الحصول على شروط أفضل. في أية حال، سأنتقل مباشرة إلى ملاحظة على ما ذكره د. علي. فأنا فهمت ما قاله بشأن الانسحاب على أنه يقصد انسحاباً تكتياً، لا نهائياً، اي أن هدف الانسحاب هو تحقيق إنجاز معين يمكّننا من الاستمرار في المفاوضات بشروط أفضل، وليس الخروج من المفاوضات.

د. علي: هذا صحيح.

د. جورج: أنا أؤيد هذا الموقف، لكن هذا يقودنا إلى نقطة أخرى. يبدو لي واضحاً، مما ذكر، أن هناك مشكلات رئيسية وأخطاء ارتُكبت، وعلى ما يبدو وقعنا في مطبات. وهذا يقودنا إلى سؤال لم تجر إثارته بصورة مباشرة حتى الآن، ويتعلق بموضوع يجب تقويمه، إضافة إلى تقويم مسار المفاوضات، وهو تقويم آلية اتخاذ القرار، وكيفية إدارة المفاوضات من قبل الجانب الفلسطيني. فمن الواضح أن هناك خللاً رئيسياً في آلية اتخاذ القرار، ويتضح مما ذكرته زهيرة أن هناك سوء تنظيم لهذه الآلية. وواضح أيضاً أن هناك أكثر من طرف يتخذ القرار. ويجب التطرق إلى هذا الموضوع بصورة مباشرة وصريحة، وربما أيضاً بصورة علنية، لأنه ما دام الوضع مستمراً على ما هو عليه، فلا مندوحة من أن نقع في مطبات أخرى في المستقبل، وربما كان هناك من يرغب في بقاء الوضع كما هو حالياً فيما يتعلق بآلية اتخاذ القرار. لكن يبدو لي أن هذا الوضع مهم جداً، وربما خطر، ويجب الحديث عنه بطريقة جدية.

 خلل بنيوي

في آلية اتخاذ القرار

د. علي الجرباوي: أود أن أتناول الموضوع ابتداء مما قالته زهيرة. فهناك ثلاث نقاط مهمة تطرقت إليها. فالسلطة الوطنية على الأرض تحدثت عنها، كما تحدث الجميع عنها. أنا أعتبر أن هذا شعار، وهنا اتفق مع رياض في أنه شعار نظري لا ينطبق على أرض الواقع. التساؤل الذي أطرحه هو: كيف يمكن الحديث عن سلطة وطنية في ظل الفئوية المستحكمة؟ يجب أن نعالج أمورنا الفئوية المستحكمة هذه. كيف يمكن تحقيق سلطة وطنية على الأرض في ظل احتماء أفراد وجماعات بغطاء الوطنية، ولا مجال لمحاسبتهم وتقويم أعمالهم؟ كيف يمكن أن ننجز سلطة وطنية على الأرض من دون ديمقراطية بيننا؟ لننظر كيف تشكل المجالس، وكيف تشكل مؤسسات و"دكاكين" أيضاً، تسلب القرار من الناس. صحيح أنه يجب أن نتحدث عن سلطة وطنية، ولكن يجب أيضاً أن نتطرق إلى كيف نريد تطبيقها، ولا نكتفي برفعها شعاراً فقط. فهنا توجد أمور مهمة يجب أن نخوضها.

              النقطة الثانية المثيرة فيما قالته زهيرة، وخصوصاً أنها مشاركة في عملية المفاوضات، هي في حديثها عن عدم فعالية العملية التقويمية، وأن "كلاً يغني على ليلاه". وهنا لدي نقطة أساسية سأضيفها إلى ما قيل من دون تكراره، وهي أن هناك خللاً بنيوياً أساسياً يفترض أن نعالجه، ولا نستطيع أن نستمر في تكرار أن "كلاً يغني على ليلاه"، ونواصل.

أما النقطة الثالثة، فهي ما قالته زهيرة بشأن عدم إمكان حل الصراع خلال أربعة أشهر. أنا أتصور أن لا الرافضون لعملية المفاوضات، ولا المنتمون إليها، يعتقدون أن في الإمكان حل هذا الصراع خلال أربعة أشهر، ولا حتى خلال أربعة أعوام. إن النقطة تكمن في أننا نتحدث عن ماهية شروط التفاوض، وكيف تتم إدارة المفاوضات، وما هي استراتيجيتنا في هذه المفاوضات. وهنا توجد عدة نقاط يجب أخذها بعين الاعتبار من قبل المنتقدين والرافضين والمتفقين، كي نتمكن من تقويم العملية في مجملها، وإلا لن تكون لها فائدة بعد ذلك. فنحن – المنتقدين أو الرافضين – لسنا من هلّل منذ اليوم الأول لتحقيق الإنجاز، ولسنا نحن من قال إننا كسبنا الجولة الأولى عندما ذهبنا إلى مدريد. بل إن غيرنا هو من قال ذلك، وعليه أن يتحمل مسؤولية ما قاله. ثم إنه في موضوع إدارة المفاوضات، يبدو أننا ندخل المفاوضات لا تحت شعار: "كل يغني على ليلاه" فقط، بل أيضاً تحت شعار أن "ليس كل ما يصدر عنا هو نتيجة لخطتنا واستراتيجيتنا وبرنامجنا." وأنا أتفق مع د. رياض ود. مصطفى بأنه يجب أن تكون هناك خطوط عريضة، وأننا [ما زلنا] نتصرف بحسب الموقف في لحظته. في رأيي أنه ليس لدينا استراتيجية حتى اليوم. فمن المفروض أننا لا نفاوض أنفسنا، بل نفاوض غيرنا. لكن عندما تنقل وسائل الإعلام خبراً أن اثنين من أعضاء الوفد اعترضا وانسحبا، فإننا نبدو كأننا نفاوض أنفسنا. وإذا لم نرتب أمورنا داخلياً، فكيف سنتمكن من مفاوضة غيرنا؟ وهنا توجد ثلاثة أمور يجب أن نقوم بها: أولها – والذي أتفق بشأنه مع د. جورج ولن أكرره – هو مراجعة جذرية لآلية اتخاذ القرار، سواء على صعيد الوفد أو على صعيد علاقة  الداخل بالخارج، أو علاقة الوفد بالناس في الداخل؛ الأمر الثاني هو مراجعة تقويمية حقيقية، وليس فقط برفع الشعارات، للمرحلة الانتفاضية الحالية. فالكل يقول إنه  يريد أن نطور الانتفاضة من دون أن يبحث أين وصلت؛ وأخيراً، في  موضوع الاستراتيجية، فنحن نفاوض لكن علينا أيضاً أن نؤثر في غيرنا، وليس فقط أن يؤثر غيرنا فينا. ومن وسائل التأثير في الغير، وهنا أوافق د. رياض في رده على د. مهدي، وهو الضغط. فالضغط هو إحدى الوسائل المشروعة للتأثير. وإذا استمرينا في محاولة الظهور بالمظهر الإيجابي والحضاري الذي لا يرغب في إغضاب أحد، فهذا ليس من العوامل التي تؤثر في الغير. والنقطة المهمة تصبح: أين نريد أن نضغط ومتى نتخذ قرارنا بالضغط، وبأي شكل نضغط؟

وفي النهاية أقول: إذا نحن لم نتدارك أنفسها على صعيد إدارة المفاوضات واستراتيجيتنا، وكل ما قيل هنا، فإننا سننتهي في نهاية هذه السنة بحكم ذاتي إسرائيلي يطبق علينا من طرف واحد، ولكنه ملفع بقبول فلسطيني قسري، أو سنكون أوصلنا أنفسنا إلى مرحلة لا نستطيع فيها أن نرفض، وعندها نلفع قبولنا بالإدعاء أن هذا هو الإنجاز.

إشراك الجماهير

في اتخاذ القرار

د. محمد جاد الله: أود هنا أن أناقش بعض القضايا التي أرى أنه جرى إسقاطها. فمثلاً، عندما نصرّ على مسألة التكرار، فما هو المقصود؟ هل أن الجميع يكرر موقفه أم البعض فقط؟ وإذا كان بعض الأطراف يكرر موقفه، فهل هذا لا ينسحب أيضاً على من يعيب على الآخرين التكرار؟ أنا أرى أن التكرار وارد عند الطرفين، وهو صحي ومشروع. والسبب، فيما أعتقد، هو أنه ليس مطلوباً منا الخروج بموقف جديد كل 24 ساعة.

زهيرة: إن ما عنيته هو أن التكرار يضر حتى بالآلية للخروج بنتائج. فهناك بعض القضايا، مثلاً، التي يوجد إجماع في شأنها، لكننا لم نخرج ولا مرة واحدة بنقاط محددة لننفذها كي نتقدم. نحن لا نتحدث عن تغيير موقف أي منا كل ساعة، ولا كل يوم، بل نتحدث عن كيفية وضع المسائل المعنية، التي هناك اتفاق بشأنها، في قيد التنفيذ.

د. مهدي: مثلاً هناك اتفاق أساسي لا أحد يختلف بشأنه، وهو أن هناك أزمة في آلية اتخاذ القرار، ولكن لا أحد يطرح كيفية الخروج من هذه الأزمة، لأن لا أحد منا صاحب قرار في تنفيذ كيفية الخروج من هذه الأزمة.

زهيرة: لا، لا أتفق معك.

د. مصطفى: نحن نطرح مقترحات، لكن هذه المقترحات لم يؤخذ بها حتى الآن من قبل مركز القرار السياسي.

د. محمد: ليس هذا ما انتقدته في قضية التكرار التي تحاولون تفسيرها. فما قصدته هو أنه عندما تُطرح قضية، مثل قضية الاستيطان، ويتم الاتفاق بشأنها، أو عدم الاتفاق، فليس هنا الإشكال. لكننا نرى أنه بعد 24 ساعة يتم طرح قضية أخرى، ويصبح من المحظور والممنوع العودة إلى التذكير بأن هناك قضية تم الاتفاق بشأنها، أو يوجد خلاف في شأنها. هذا ما أعنيه بالتكرار. وأنا ارى أن هذا الفهم مغلوط فيه، وأن المطلوب هو الترسيخ لا الخروج من التكرار لمجرد الخروج منه فقط.

القضية الثانية تتعلق بالمعارضة، وبالقول إن موقف المعارضة كان سلبياً. أنا أعتقد أن في هذا بعض الإجحاف، وحتى أنه غير مقبول. فعندما نقول إن المعارضة كانت سلبية ماذا نعني بذلك؟ هل إنها معارضة سلبية لأنها لا تطرح مناهج بديلة؟ هل الذين وافقوا على الذهاب إلى مدريد طرحوا منهجاً، وهل هناك برنامج؟ إذا كان هناك برنامج، فتستطيع الأطراف التي تملك هذا البرنامج أن تطلب برنامجاً بديلاً. لكن الحقيقة، من خلال العرض الذي نسمعه عن الخلل في آلية اتخاذ القرار، ومجموعة الأخطاء التي تطرح، سواء على صعيد علاقات الوفد الداخلية، أو على صعيد علاقة الوفد بمنظمة التحرير، أو على صعيد علاقة الاثنين بالناس أو بالانتفاضة أو بالقوى الوطنية الأخرى، الحقيقة هي أن كل هذه المظاهر للخلل لا يوحي بأن هناك برنامجاً. إذاً، هذا يمكن أن ينسحب على الطرفين. ولكني أقول إنه كانت هناك قواعد وأسس وثوابت مشتركة كان الجميع متفقاً عليها، وتم الخروج منها، أو التنصل منها، مثل قرارات المجالس الوطنية المختلفة.

هذه الإسقاطات، وهذه المفاهيم، تدخل – في نظري – تحت باب الشعارات، وبالتالي تمنع أي إمكان للخروج من هذا الواقع. فمثلاً د. مصطفى بنى حديثه على المطالبة باستراتيجية وطنية. كيف يمكن الخروج من هذا الجو إلى بناء استراتيجية وطنية يتم الاتفاق عليها، إذا لم يخرج كل شخص من المواقع التي يتمترس وراءها، وينتقل في اتجاه حرصه على وضع مثل هذه الاستراتيجية، بدل البقاء في موقع: من مع المسيرة ومن ضدها؟

صحيح أن هناك مأزقاً يعانيه الطرفان، لأنه لا يوجد هناك بدائل مطروحة، سواء فيما يتعلق بالانتفاضة، أو بمصالح الناس، أو بكيفية التعامل مع قضايا القمع الإسرائيلي اليومي، أو مع الاستيطان. ليس هناك جواب عملي وشعبي لكل هذه القضايا قادر على أن يوقفها. وبالتالي يجب أن يبحث الطرفان، أو كل الأطراف الفلسطينية، عن نقاط الالتقاء. أعتقد أن هناك عدة عناصر يجب مراعاتها، منها اتخاذ القرار على أساس ديمقراطي، والتعامل مع القضايا الوطنية من منطلق وطني عام، وليس من منطلق وطني عام، وليس من منطلق الضعف، أو المغلوب على أمره، أو عدم وجود بدائل أو خيارات، ويجب إشراك الجماهير في اتخاذ القرار. وعندما تكتمل هذه العناصر، نكون قد حققنا الأسس القادرة على جعلنا نستمر حول خطة وطنية محددة.

زهيرة: أود تلخيص الموضوع بنقطتين نهائيتين. فكل النقاش يدل على أن هناك فعلاً مأزقاً حقيقياً، وكنا ناقشنا هذه الأمور في السابق. فقبل مؤتمر مدريد عقدنا ندوة بحضور كل الموجودين هنا تقريباً، وطرحنا في حينه ضرورة وجود استراتيجية فلسطينية عامة على صعيد الانتفاضة. وواضح اليوم في ضوء المفاوضات الجارية أنه يجب وضع استراتيجية لهذه العملية أيضاً. وكي نتمكن من ذلك، علينا أن نبحث أولاً في العلاقة بين فصائلنا، لأن الأزمة هي في الفئوية. وهذا ما يؤدي إلى صعوبة تنفيذ القرار. ومن مظاهر الفئوية مقاطعة اثنين من أعضاء الوفد جلسات المفاوضات (في الجولة الرابعة)، ومن نتائجها، التي بدأنا نلمسها على الأرض، مثلاً، نتائج انتخابات الغرفة التجارية في رام الله مؤخراً [فازت الكتلة الإسلامية بعشرة مقاعد والكتلة الوطنية بمقعد واحد]. وهذه تحتاج من الحركة الوطنية إلى جلسة سريعة لتقويم أوضاعها. وإذا نحن وضعنا أصبعنا على مكان الخلل، من دون أن نوسع نقاشنا، وتناولنا نقطة بعد أخرى، وخرجنا بنتائج عملية، عندها فقط يمكن أن نخرج من الأزمة.

د. مهدي: لدي عدة نقاط فقط من أجل تسجيل الحقيقة. فكل لقاءات جيمس بيكر (مع ممثلين فلسطينيين] هنا لم تتم في فراغ. فقد كان هناك باستمرار حوار فلسطيني بشأن كل من هذه اللقاءات. وأذكّر الحاضرين هنا بأنه عُقدت جلستان شارك فيهما حيدر عبد الشافي، وفيصل الحسيني، وبشير البرغوثي، وحنان عشراوي، وغسان الخطيب، ومحمد جاد الله، ورياض المالكي.

د. رياض: غير صحيح. لم أشارك.

د. مهدي: إنْ لم تكن أنت شخصياً شاركت، فقد حضر آخرون يمثلون وجهة النظر التي تمثلها أنت. وفي هذه الندوات طُرحت قضيتان أساسيتان: طُرحت آلية اتخاذ القرار الفلسطيني ما قبل مدريد، وفي خضم الحوار مع بيكر، وطرح الحزب الشيوعي في حينه الحاجة إلى قيادة سياسية محلية لصنع القرار الفلسطيني في هذه المرحلة؛ والقضية الثانية التي طرحت كانت قضية الاستراتيجية الفلسطينية، أي ما هي الخطوط الحمر التي يجب ألا يتجاوزها أحد. هاتان القضيتان طُرحتا بوضوح في أكثر من ندوة خلال لقاءات بيكر، ولسبب بسيط هو أن النخبة الفلسطينية، التي حاورت بيكر والتقته وتعاملت مع الإدارة الأميركية من خلال بيكر، لم تتعامل في فراغ، بل من داخل البيت، وبكل وضوح وتبادل معلومات.

د. علي: عندما نتحدث عن ندوة أكاديمية مفتوحة جرت هنا، فهذه ليست من أجل اتخاذ قرار، أو المشاركة في اتخاذ قرار، ولم يكن الحاضرون يمثلون فصائل.

د. مهدي: ما أقوله أن الموضوعين اللذين طُرحا هما اتخاذ القرار...

د. علي: ولكنهما طُرحا في كل بيت...

د. مصطفى: لنقل أنهما طُرحا ولم يجر التقيد بهما. هذه أمور شكلية...

د. علي: ليست شكلية إطلاقاً.

د. رياض: هل لقاء واحد مثل هذه اللقاءات يعني أنه كانت هناك آلية وقرار...

د. مهدي: لا، ولكن كان هناك مطالبة بآلية...

د. رياض: المعلومات كانت في حينه محجوبة عن الناس، بمن في ذلك ممثلون لفصائل، منذ اللقاء الأول لبيكر حتى اللحظة.

م. د. ف: لنختصر بأن هناك خلافاً في شأن ما إذا كانت الندوات التي أُجريت هي ندوات أكاديمية للنقاش، أم ندوات لتحل محل آلية اتخاذ القرار؟

د. مهدي: بالنسبة إلى موضوع أوروبا، أنا لا أختلف معكم في أن أوروبا لا تطرح نفسها بديلاً من أميركا على الساحة. لكن وجودها يعني عدم انفراد أميركا بالتعامل مع الأطراف في المفاوضات، ويعني أيضاً أن مستقبل أميركا في التدخل هو في يد أوروبا من خلال مشاريعها والتمويل الذي تقدمه. وهذا يعني حضوراً على جدول الأعمال السياسي الفلسطيني، وبالتالي يجب عدم إسقاطها أو تقليل حجمها في هذه المرحلة الانتقالية، لأنه قد يكون لها تأثير حتى في واشنطن.

              وفي شأن مسألة التبرير والأعذار التي طرحها د. رياض، فأنا أعتقد أن قراءة موضوعية للموقف الفلسطيني لا تعني إيجاد تبرير وأعذار. أي هل يختلف أحد، على سبيل المثال، في أننا كنا، سواء في الداخل أو الخارج، في حالة من الحصار بعد حرب الخليج؟ كان هناك تراجع في الانتفاضة بعد أربعة أعوام، وكان هناك ضغط إسرائيلي يومي بمصادرة أراض واستيطان وقمع، وكذلك جفاف مالي في المؤسسات كافة، الأمر الذي جعل الجهاز التعليمي والصحي، والأجهزة الأخرى كلها، في الحضيض، إضافة إلى أن الفئوية بدأت تنهش عظمنا. هذا بالنسبة إلى الداخل. أما في الخارج، فقد سقط خيار الكفاح المسلح، ولا أعتقد أن أحداً ينكر ذلك، إضافة إلى الجفاف المالي الذي طال كل مؤسسات منظمة التحرير، ثم تراجع الاعتراف العربي والدولي بالمنظمة. هذه القراءة الموضوعية هي التي تجعلنا نقول إننا خرجنا من حالة الحصار في مدريد.

د. علي: صحيح أننا كنا محاصرين، لكن أين هي مظاهر فك الحصار؟ فالاعتراف الدولي بإسرائيل يزداد، والمنظمة غير موجودة في المفاوضات، وهذا يختلف عن مشاركتها من وراء الستار. والأموال لم تأت بعد...

د. مصطفى: يجب ألا نهمل عدة عوامل موضوعية، ومن ضمنها أنه أتيح للفلسطينيين، أول مرة، أن يتحدثوا باسمهم. كما جرى الاعتراف بالطرف الفلسطيني، أول مرة طرفاً أساسياً في عملية المفاوضات، وبصورة رسمية.

د. علي: ماذا يعني طرف اساسي؟ هل يعني ذلك ضمن الوفد المشترك؟...

د. مصطفى: ليس مع الأردن فقط. لكن من المعروف للجميع أن الطرف الفلسطيني طرف مستقل ومفاوض...

د. علي: كيف هو مستقل؟

د. مصطفى: هذا كان واضحاً في مدريد. فكل وفد تحدث لمدة 40 دقيقة، ود. حيدر عبد الشافي تحدث أيضاً لمدة 40 دقيقة. وهذا أمر ذو مغزى. ما أطلبه منكم هو الموضوعية في عملية التقويم، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم السماح بالمبالغة في الحديث عن الإيجابيات.

د. مهدي: أود أن أعقّب على ما قاله د. رياض بشأن النظريات وتطبيقها على أرض الواقع. فما أقوله هو أن الحكم الذاتي طرح إسرائيلي؛ والحكومة الذاتية، كمرحلة انتقالية إلى علاقة أردنية – فلسطينية، هي طرح أميركي؛ والسلطة الوطنية هي طرح فلسطيني. وما أقوله هو أنه يجب ألا نقف متفرجين أمام السيناريوهات الثلاثة، من دون أن نضع على أرض الواقع تطبيقنا لمفهومنا للسلطة الوطنية، ونحاول جذب الآخرين للتعامل مع هذا الواقع.

د. رياض: المهم كيف نفعل ذلك؟

د. مهدي: نحن في حيازتنا قرار من البيت الشرعي الفلسطيني لتشكيل مجالس عليا متخصصة كنواة لهذه الدولة. أتفق كلياً بخصوص مسألة الفئوية، وغياب الديمقراطية، وتغطية مواقف. لكن علينا الآن كشف هذه الأورام كي نقيم سلطتنا الوطنية من خلال مجالس عليا متخصصة، بمفهوم وطني شمولي، وضمن ميثاق وطني، وضمن خطوط حمر يشارك الكل فيها. وإذا حصلت هذه المؤسسات، في المرحلة الانتقالية، على تمويل أوروبي واعتراف أميركي وعدم تدخل إسرائيلي، نكون قطعنا شوطاً إلى الأمام.

المطلوب حالياً أن نكون موضوعيين جداً بشأن المرحلة الانتقالية، وأن نصوغها ضمن هذا التحالف الوطني من دون السقوط لا في الفخ الإسرائيلي ولا في الفخ الأميركي، ومن دون السقوط أيضاً في الفخ الذي نعيشه، وهو الخوف الذي بدأ يغزو البيت الفلسطيني، ويجب ألا نهمله، أي الخوف من المجهول، والخوف من عدم وجود دعم، والخوف من المستقبل، وعدم وجود مؤسساتية فلسطينية حريصة، والخوف من البطش بها. كل هذا الخوف الذي عاد ليغزو البيت الفلسطيني، على الرغم من أن الفلسطيني تحرر من هذا الخوف في العام الأول للانتفاضة، وبدأ يغير الأمر الواقع. ما يحدث الآن هو أن الأمر الواقع عاد ليتغلب عليه، لأن الخوف عاد: يخاف على عمله فلا يستطيع أن يقول ما يريد في مؤسسته؛ يخاف من الهجرة لأن لا مستقبل في الخارج؛ يخاف ويشعر بالحصار لأنه لا يوجد فلسطيني مقبول في العالم العربي؛ ويخاف لأن قرارات المنظمة أصبحت معزولة عن أرض الواقع.

د. علي: أنت تتحدث عن انهيار الحركة الوطنية.

د. مهدي: ما أقوله هو أن هناك تفسخاً في الحركة الوطنية.

توقعات وأسس

حل الأزمة الداخلية

م. د. ف: من أجل إجمال النقاش وتلخيصه نطرح التساؤل التالي: ما الأساس الذي يجب أن يرتكز العمل الفلسطيني عليه في المرحلة المقبلة، التي ستميزها الانتخابات الإسرائيلية والأميركية، في ضوء كل ما طرح حتى الآن في النقاش، سواء فيما يتعلق بالاستراتيجية الفلسطينية، أو مواطن الخلل، أو الموقف الإسرائيلي والأميركي والأوروبي؟

د. جورج جقمان: أنا شخصياً أتوقع أن تستمر الإدارة الأميركية في السعي لدفع المسيرة السلمية، أو على الأقل إلى حين موعد الانتخابات. لكن حتى بعد ذلك، قد تواصل دفعها. والخطر الأكبر هو ما ذكرته سابقاً، بأن الاستمرار قد يكون على حساب تنازلات فلسطينية إضافية. وهنا تكمن ضرورة العمل في اتجاهين: استدراك الوضع وإعادة تقويمه، والتعرف على نقاط القوة، وخصوصاً طرح إمكان عدم المشاركة الفلسطينية ولو لفترة مرحلية، بهدف الضغط المعاكس، وعدم الانزلاق وراء الضغوط. وفي رأيي، نحن لسنا مضطرين إلى المشاركة في المفاوضات بأي ثمن.

د. محمد جاد الله: أنا أعتقد أننا لسنا مدرجين في جدول أعمال الأميركيين، ولا في جدول أعمال الإسرائيليين، فيما يتعلق بجوهر قضايانا الأساسية، كي يكون للانتخابات الأميركية علاقة بمستقبلنا، وبالتالي يعني ذلك أننا غير قادرين على التأثير إيجابياً في هذه الانتخابات. وهذا ينسحب، بطريقة أو بأخرى، على الشارع الإسرائيلي. فنحن لم نضع شروطنا على ورقة الناخب الإسرائيلي، وهذا سببه السياسات التي نفذناها. وهنا اتفق مع ما قيل من أن المفاوضات الأميركية – الإسرائيلية بدأت مع أول زيارة لبيكر، ومنذ ذلك الحين حتى اليوم، خلال عام، لاحظت الإدارة الأميركية سهولة التعامل مع الجانب الفلسطيني، وسرعة تقديم التنازلات. حتى أن اشتراك العرب في المحادثات المتعدد الأطراف نابع من استسهال الموقف الفلسطيني.

أما بالنسبة إلى المستقبل، فأنا أرى أن المأزق الذي تحدثنا عنه، والذي يشمل كل الأطراف [الفلسطينية] المعنية، وكل الشارع الفلسطيني، هو نقطة الارتكاز الأولى، كي يتم الاتفاق على خطة عمل مستقبلية. فمن دون تحديد معالم هذا المأزق، واشتراك الجميع، سواء كانوا مؤيدين للمسيرة السلمية أو معارضين لها، لا نستطيع أن نتقدم في الاتجاه الصحيح.

د. رياض المالكي: عندما أشير إلى ضرورة وجود آلية لاتخاذ القرار، فيما يتعلق بعملية المفاوضات الحالية، فإني أعتقد أن هذا – في حد ذاته – انعكاس لأسلوب اتخاذ القرارات الفلسطيني بصورة عامة. وإذا تحدثنا عن مرحلة مقبلة فترتها ستة أشهر أو عام، فسنستمر في التحدث عن الموضوع نفسه، ما لم يكن هناك تغيير في آلية اتخاذ القرار. وأود التأكيد أنه ما لم تتم معالجة هذا الموضوع، فستستمر الأوضاع على ما هي عليه، وربما سيتردى الوضع أكثر إلى درجة أن نصبح نحن أنفسنا نطرح المفهوم الإسرائيلي نفسه، أو نحاول إقناع الإسرائيليين بقبول ما سبق أن طرحوه هم في السابق. هذه قضية أعتبرها خطرة جداً، وتتطلب الإسراع في البحث في هذا الموضوع، وإدخال إصلاحات ديمقراطية في البنية الفلسطينية من أجل الوصول إلى رؤية سليمة أكثر لعملية اتخاذ القرار. والوضع الحالي يجعلني أتساءل: في ظل الأزمة الحالية، وأسلوب اتخاذ القرار غير السليم... إلخ، هل هناك خطوط حمر فعلاً أم لا؟ تحدث البعض عن وجود خطوط من هذا النوع، لكني أعتقد أن هذه الخطوط بدأت تتلاشى وتم صبغها بألوان أخرى. أعتقد أن ليس هناك استراتيجية شاملة ضمن هذه الرؤية الشاملة، ولم يكن هناك يوماً استراتيجية فلسطينية. وعندما نتحدث عن الوضع الحالي، الذي بدأ منذ آذار/مارس 1991، فإن الموقف الفلسطيني كان كله مبنياً على ردة فعل إزاء شرط إسرائيلي أو طرح إسرائيلي، وليس أكثر من ذلك.

وعندما نتحدث عن انتخابات أميركية مقبلة، فأنا أعتقد أن الدعم الأميركي للمسيرة سيستمر. فهي ستفرز إما ديمقراطيين وإما جمهوريين. ولدى الأوائل موقف واضح يتمثل في دعم إسرائيل، وهم يرون أن العملية السلمية الحالية تشكل ضغطاً وانتهاكاً للموقف الإسرائيلي. أما إذا عاد الرئيس جورج بوش، فسيكون أضعف مما هو الآن، ولا سيما أن شعبيته بدأت تهتز، إضافة إلى أن الضغط الاقتصادي داخل أميركا قلل من قدراته على التأثير في إسرائيل. ونحن نرى أن بوش، حتى في قوته الحالية، لا يملك فرض أي شيء على إسرائيل.

              يبقى السؤال: ما هو مستقبل المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية؟ وأنا أرى أن لدى الجانب الفلسطيني الرغبة في الاستمرار، بسبب ضغوط كثيرة تمارس عليه، إضافة إلى توجهات داخل القيادة الفلسطينية المؤيدة للاستمرار إلى ما لا نهاية، من دون أية شروط فلسطينية. وأعتقد أن الجانب الإسرائيلي مستفيد جداً من هذه العملية على جميع الصعد، بغض النظر عن نتائج الانتخابات المقبلة.

د. علي الجرباوي: لننظر إلى الأطراف المشاركة كافة، وما هو إمكان حدوث تغييرات لديها في المرحلة المقبلة. أنا أرى أنه لا توجد لدى الطرف العربي بأكمله، ومن ضمنه الطرف الفلسطيني، إشارات تدل على إمكان حدوث تغير نوعي في المناخ المحيط بالمفاوضات خلال الأشهر المقبلة. أي أني لا أرى ما من شأنه أن يغير موازين القوى بصورة درامية، بحيث يتحسن وضع الطرف العربي.

              في الجانب الإسرائيلي، هناك انتخابات مقبلة يمكن أن تغير موازين القوى الداخلية. وإذا قرأنا مختلف برامج القوى، نجد أن حزب العمل يطرح برنامجاً مغايراً لبرنامج الليكود، فيما يتعلق بالتسوية السياسية.

ثم هناك جولة انتخابات مقبلة في الولايات المتحدة. وأنا أخالف د. رياض بشأنها، وأقول أنه للأسف، وعلى الرغم من عدم إعجابي ببوش، فإن عودته لولاية ثانية تريحه من جميع الضغوط الداخلية في النظام السياسي الأميركي، وتمكّنه من الاستمرار في العملية.

وما دام المتغيران يقعان خارج حلبتنا، فالنقطة الأساسية إذا هي كيفية التأثير فيهما. أنا أتصور أننا فوّتنا فرصة كبيرة خلال الجولة الرابعة، لأننا لم نعلق المفاوضات بقرار عربي جماعي ومعلل. والتعليل هو عدم إمكان دخول مفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية الحالية، وأن إدارة بوش لا تقوم بدورها كراع للمؤتمر خير  قيام. فاستمرار المفاوضات، حتى بأي شكل، يعطي شمير مظلة حماية، وكذلك بوش. وبالتالي، فنحن نسهّل لبوش النجاح في الانتخابات من دون أن يكون لنا تأثير فيها، ونسهّل لشمير عودة حكومته على الرغم من أننا يمكن أن نتفق مع حزب العمل على خطوط دنيا من دون أن يعني ذلك أنني بالضرورة أوافق على برنامج حزب العمل. ولذلك أرى أنه من مصلحة الأطراف المشاركة في عملية التفاوض، إذا أرادت لها الاستمرار، أن ينجح رابين في تزعم الحكومة المقبلة، وأن يعود بوش إلى الإدارة. غير ذلك لا أرى أية وسيلة أخرى يمكن أن يُضغط بوساطتها في اتجاه التأثير في هذا، إلا بإعلان الأطراف العربية تعليق المفاوضات إلى حين اتضاح الصورة.

من جهة أخرى، علينا ألا ننسى نحن، كطرف فلسطيني، ضرورة حيوية إجراء عملية تقويم داخلية حثيثة وصريحة وعلنية، كي تحدث تغيرات جوهرية، لا ترتيبات فقط. إذا لم يتم العمل على هذين الأمرين بصورة متوازية، فسنجد أنفسنا في عملية مفاوضات، كلما تقدمنا فيها أكثر صعب على المشاركين فيها أن يخرجوا منها. وبالتالي، سيجدون أنفسهم مضطرين إلى تبرير نتائجها مهما تكن سيئة.

د. مصطفى البرغوثي: أنا لا أؤيد استخدام تعبير أننا في "مأزق"؛ فهذا لا يريح الشعب الفلسطيني نفسياً، أو من يسمع ذلك. لا أنكر أن عندنا أخطاء، لكن تعبير "مأزق" في رأيي، مبالغ فيه. ومن دون أن نكرر الاحتمالات المختلفة، أعتقد أن هناك مجموعة من المهمات يقف أمامها الشعب الفلسطيني وقيادته للمرحلة المقبلة.

أولاً، توحيد الصف الفلسطيني، وتوحيد العلاقة بين القيادة والناس، وتوحيد العلاقة بين الداخل والخارج. وأنا أرى أن هذه هي المفاصل الثلاثة التي من شأنها أن تساهم في توحيد الموقف الفلسطيني. والمهم أن يكون هناك برنامج وطني مشترك.

وثانياً، هناك محاولة التأثير في الوضع العربي. وهذه مسألة لم تستنفد، ويجب أن نواصل العمل في اتجاهها، ولا سيما أن لدينا مصالح مشتركة مع عدد من الدول العربية، وعلى الأقل في قضايا محددة.

والمسـألة الثالثة هي التي أشار د. علي إليها، أي ممارسة الضغط الفلسطيني، واستخدام عناصر القوة الموجودة بين يدينا، بغض النظر عن حجمها، للتأثير سواء في ما يجري في إسرائيل، أو في ما يجري في الولايات المتحدة. وأشكال ممارسة الضغط يجب أن تكون بتعليق المفاوضات حتى انتهاء الانتخابات الإسرائيلية، وبالإصرار على مقاطعة المحادثات المتعددة الأطراف، والإصرار كذلك على رصد التطبيع الإسرائيلي على الأرض، الذي يحاول الاحتلال ممارسته في الأراضي المحتلة. وهذه مسألة في غاية الخطورة على الرغم من أنه يتم تجاهلها، لكنها ستكون المدخل لنسف كل الاستراتيجية الفلسطينية في المدى البعيد.

كذلك تصحيح آلية اتخاذ القرار. ومن دون تكرار، أقول فقط إنها شرط أساسي لمسيرة فلسطينية سليمة في المستقبل.

أما أهم المسائل جميعها، فهي مواصلة المقاومة والبناء على الأرض، وخلق حقائق فلسطينية على الأرض، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر وتحديد أسلوب سليم في مشاركة الجماهير في هذه العملية. يجب أن نواجه أنفسنا بالسؤال: في حال فشل عملية المفاوضات، كيف سنضمن المحافظة على كيان الشعب الفلسطيني، وعلى بقائه، وعلى مواصلة نضاله لنيل حقوقه المشروعة؟

د. مهدي عبد الهادي: أود التطرق، أولاً، إلى موضوع الانتخابات الإسرائيلية والأميركية. أنا أعتقد أن هناك توجهاً إلى اليمين في إسرائيل، ومزيداً من التطرف في الشارع الإسرائيلي. وقد نرى في المستقبل تحالفاً بين يمين قوي بقيادة الليكود، وبين حزب عمل ضعيف وملحق به. هناك أيضاً غياب جدول الأعمال السياسي الفلسطيني عن جدول أعمال الناخب الإسرائيلي. وإحدى الوسائل لتغيير هذا الوضع ما يجري في مسار الانتفاضة، وتحولها إلى صراع دموي، وعدم استمرارها كانتفاضة بيضاء، واستعمال الأسلحة. وهذا كله يعني تيقن الناخب الإسرائيلي من أنه مهما يحاول التمادي في غطرسته، وفي تشبثه بالأرض واستعماره لها، فما زالت هناك مقاومة فلسطينية، وثمنها غال.

والقضية الثانية هي قضية المستوطنين، وطرحها على جدول الناخب الإسرائيلي، في اتجاه أن الاستيطان في الأرض الفلسطينية، ولا سيما في ظل الانتفاضة، ليس أمراً سهلاً، ولا يمكن حل المشكلة بالشوارع والطرقات التي فتحها أريئيل شارون وربطها بالطرقات داخل إسرائيل. وعلى الجانب الفلسطيني أن يتعامل مع مسألة الاستيطان بلغة أخرى. وبالتالي، فإن مسألة الانتخابات الإسرائيلية مربوطة بثلاثة قضايا أساسية: الوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية والتعامل معها من خلال عمالة واستيطان ومؤسسات وقضايا تطبيع، إنْ كانت عن طريق انتخابات غرف تجارية، وفي المستقبل انتخابات بلدية، أو عن طريق إعطاء منح وتحقيق مصالح أصحاب رأس المال.

بالنسبة إلى الانتخابات الأميركية، أنا قد أختلف مع د. رياض في تقويمه أن جورج بوش وجيمس بيكر هما في موقف لا يُحسدان عليه. لكن على الرغم من الحصار الاقتصادي، وتراجع الاقتصاد الأميركي، والمشكلات الداخلية الأميركية، ومسألة الخروج من أوروبا، فإنه ليس هناك منافس لبوش كرئيس، لا بين الديمقراطيين ولا بين الجمهوريين. وأعتقد أن استمراره في موقع السلطة، في المرحلة المقبلة، سيعطيه قوة أكبر للتشبث ببرنامجه السياسي الذي يعني به: "الأرض في مقابل السلام"، والمفاوضات، وإعادة إسرائيل إلى حجمها من منظور أميركي أي حدود سنة 1967، ومن منظور أميركي أيضاً بالنسبة إلى الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية.

بالنسبة إلى الاستراتيجية الفلسطينية، في المرحلة الحالية، أنا أرى ثلاث قضايا يجب التركيز عليها في مسار المفاوضات: الأولى هي قضية الاستيطان وربطها بالضمانات (للقروض التي طلبتها إسرائيل من الولايات المتحدة)؛ والقضية الثانية هي قضية حقوق الإنسان التي أصبحت أحد أعمدة ما يمكن تسميته النظام الدولي الجديد؛ والقضية الثالثة الأساسية هي أيضاً قضية حيوية، وكانت إسرائيل طرحتها في كامب ديفيد ثم تراجعت عنها، ثم طرحتها مجدداً خلال العام الثالث للانتفاضة وتراجعت عنها أيضاً. وهي الآن مطروحة في برنامج المرحلة الانتقالية الفلسطيني؛ وهي حق الشعب الفلسطيني في إجراء انتخابات واختيار سلطته الوطنية على أرضه. وهذه القضية تنبه إلى قضية أخرى هي قضية الديمقراطية، وهذا يقودنا إلى مناقشة لفهم وممارسة وطنية فلسطينية لمسألة الديمقراطية.