يافا: "ترانسفير" هادىء للعرب
Keywords: 
يافا
الفلسطينيون في إسرائيل
الترحيل
تهويد
Full text: 

"تهويد يافا":

مشروع سري للجنرالين لاهط وشارون 

بعد عام، بعد عامين، ويكون قد مرّ جيل.. وقد لا تكون هناك يافا. لقد أفاق العرب في يافا، في أواسط تموز/يوليو 1990، على تطبيق مشروع يؤدي في النهاية إلى ترحيل السكان العرب عن يافا، علماً بأن المشروع ليس جديداً ويعمل لتنفيذه بلدية تل أبيب التي يرئسها الجنرال احتياط شلومو لاهط، بالتعاون مع وزارة الإسكان والبناء وعلى رأسها الجنرال أريئيل شارون.

وهذا المشروع السري لرئيس بلدية تل أبيب، والقاضي بتهويد مدينة يافا العربية، لا، لا يعتبر جديداً. إذ إنه يسعى لتنفيذه منذ عشرة أعوام. ومشاريع كهذه لا تقتصر على لاهط وإنما هنالك مشاريع مشابهة في باقي الأماكن: في القدس -  على سبيل المثال لا الحصر – يعمل تيدي كوليك، رئيس بلديتها، بأسلوب مغاير معروف بالأحزمة الخضر. إن سياسة الترانسفير الهادئة – الخفية نهج إسرائيلي قطري. ففي حين أن كوليك ينفذها بهدوء وسرية كاملة من خلال دينامية مختلفة تعرِّف الأراضي التي يمتلكها العرب ويسكنون عليها بأنها أحزمة خضر، لجأت بلدية تل أبيب إلى الجهر بمخططها الرامي إلى توطين مهاجرين وأزواج شابة يهودية مكان السكان الأصليين، أي العرب. ولا تخفي السلطات المسؤولة، وعلى لسان رئيس بلدية تل أبيب، نيتها تفريغ يافا من سكانها العرب. فقد أعلن لاهط خلال اجتماع لمجلس بلدية تل أبيب، في 16 تموز/يوليو 1990، عزمه توطين المهاجرين اليهود في هذه  المدينة، بغية تغيير الوضع الديموغرافي فيها "لأن دولة إسرائيل يهودية"، بحسب تعبيره. وبعث لاهط إلى زميله الجنرال شارون وزير الإسكان والبناء برسالة خاصة، في 19 حزيران/يونيو، يعلمه فيها بالأماكن المهيأة للسكن بصورة فورية، معلناً أن من أهدافه "تهويد مدينة يافا". وأرفق رسالته بقائمة شملت تفصيلات المساكن والمواقع الجاهزة.

ووفقاً للمعلومات التي كُشف عنها، تم تحويل شقق خاصة بالعرب إلى أماكن لاستيعاب المهاجرين اليهود، مع فتح المجال لبناء آلاف من الشقق الأخرى.

وكشفت مصادر بلدية تل أبيب عن مشاريع في طور البناء تستوعب قرابة 2800 وحدة سكنية، بالإضافة إلى مشروع منحدر يافا الذي يستوعب 2000 وحدة سكنية، وعن عملية تحويل 1048 وحدة سكنية، كانت مغلقة ومُنِع العرب من استعمالها وترميمها، لتسليمها إلى الأزواج الشابة والمهاجرين اليهود.

بعد مضي أسبوعين على رسالة الجنرال لاهط إلى الجنرال شارون، عقد في مكتب الأخير اجتماع في القدس حضره ممثلون عن الجهات المعنية، وكان في مقدمهم رئيس بلدية تل أبيب الذي قال: "نريد إعادة اليهود إلى يافا"، علماً بأن شواهد التاريخ تؤكد عدم نزول اليهود في هذه المدينة يوماً من الأيام. وأضاف لاهط في مناسبة لاحقة: "إن يافا مدينة تسكنها أكثرية يهودية نشيطة، وهي تابعة لدولة إسرائيل." وتابع مهدداً العرب في يافا بأنه ليس بحاجة إليهم، وهم لا يستحقون أي شيء منه، إذ إنهم لا يشكلون قوة انتخابية.

اعتادت حكومات إسرائيل على إخفاء مشاريع تهويد الأماكن العربية تحت يافطة التطوير، مثلما فعلت وما زالت تفعل في منطقة الجليل. والهدف واضح من هذه المشاريع التي يؤكد الإسرائيليون فيها الجانب الجمالي، في الوقت الذي لا يقومون بإصلاح الوضع الاجتماعي للسكان العرب في يافا، ولا يولونه أية أهمية. أضف إلى ذلك أن إصلاح الوضع المادي وارتفاع قيمة الممتلكات يؤديان عامة إلى تبديل السكان، أي أن الضعفاء يخلون أماكنهم للأقوياء. وهذا ما خططت له السلطات الإسرائيلية الواقفة وراء لاهط، في حي العجمي، من دون الحاجة إلى "قادمين جدد" لتحقيق الهدف؛ إذ يوجد ما يكفي من الأثرياء لينقضوا على هذه الفرص المتوفرة بالقرب من البحر، بعد أن أصبح العرب في يافا أقلية، ولم يبق لهم سوى حيين من الأحياء في منطقة يسكنها اليهود، وفقاً لما يرويه المحامي نسيم شقر، رئيس الرابطة لرعاية شؤون عرب يافا؛ وهذان الحيان هما: حي العجمي، وحي الجبلية.

ويضيف شقر أنه "في حال تراجُع بلدية تل أبيب عن وعودها لعرب يافا، فإن القنبلة الموقوتة ستنفجر." وهو ما يؤكده أيضاً يوسف ديك، عضو الجمعية الأرثوذكسية في يافا، قائلاً: "لا نريد هنا غيتو عربياً، ولا نفكر بحكم ذاتي. ما نريده هو المساواة. وإن التعبير تهويد يافا يحمل مدلولاً عنصرياً واضحاً يذكّر بمشروع رحبعام زئيفي المقيت الداعي لترحيل العرب. وإذا أراد لاهط تهجير العرب من يافا، ليقل هذا بشكل واضح وعلني، وسنُرغَم في نهاية الأمر على خرق القانون إذا حدث ذلك."

منذ سنة 1948 حتى اليوم، تم في يافا بناء 200 وحدة سكنية جديدة للعرب في إطار إيجاد حلول لضائقة السكن للأزواج الشابة، علماً بأن العرب بحاجة إلى أكثر من ألف وحدة سكنية.

وفي سنة 1982، قرر الكنيست بناء 750 وحدة سكنية في يافا خلال خمسة أعوام، إلا إنه تم بناء 80 منها، ولم تكن مخصصة للعرب فقط. وكانت وزارة الإسكان قد رفضت بيع العرب 28 وحدة سكنية جديدة في حي الجبلية، علماً بأنها خُصصت أصلاً للعرب، لكنها حولت فيما بعد للمهاجرين السوفيات.

لقد دابت السلطات الإسرائيلية وعلى رأسها بلدية تل أبيب، ومنذ ضمها مدينة يافا، على تغيير المعالم العربية لهذه المدينة في محاولة لتصفية الوجود العربي الفلسطيني فيها بالتدريج.. فقد غيرت البلدية أسماء الشوارع إلى أسماء عبرية ويهودية، ولعل شارع حي النزهة أو شارع المحبة خير دليل على ذلك. فقد أضحى يعرف باسم "شدروت يروشلايم" (جادة القدس) بعد أن كان يعرف في العهد العثماني باسم شارع جمال باشا، وفي عهد الاحتلال البريطاني باسم شارع الملك جورج. ومن الشوارع الرئيسية الأخرى التي بُدلت أسماؤها: شارع العجمي الذي أصبح شارع يافت؛ شارع فيصل الذي أصبح شارع يهودا هيميت؛ شارع فؤاد الدجاني الذي أصبح شارع إيرليخ؛ شارع الحلوة الذي أصبح شارع الستين، ثم شارع قيدم؛ شارع الدرهلي الذي أصبح شارع شفطي يسرائيل.

والقائمة طويلة. حتى الأزقة والممرات الضيقة لم تسلم من هذا التزوير الذي تلا تفريغ المدينة من أهلها العرب وهدم المنازل وإزالتها عن وجه الأرض. وقد بلغت نسبة ما هدمته السلطات في حي العجمي حتى الآن 75%. وهذا الحي أكبر أحياء المدينة وأهمها، ويقطن فيه أكثر من نصف المواطنين العرب الباقين في المدينة. وتسعى بلدية تل أبيب لإزالته كي تنشىء مكانه ما تطلق عليه اسم مشروع "مدرون يافا" (منحدر يافا)، ليكون بمثابة "ريفييرا" يقطن فيها أثرياء اليهود. وهي تعدّ الميناء التاريخي ليكون مرسى ليخوتهم، كما تعدّ لجعل الصيادين العرب الذين يعيلون عائلات من الصيد عبيداً يسهرون على خدمة أسيادهم الجدد.

إن اللجان الشعبية في يافا تعي هذا الخطر المتفاقم، والذي وصفته اللجنة الشعبية للحفاظ على الكيان العربي في يافا، في رسالة وجهتها إلى شخصيات عربية ويهودية، بأنه "مخطط عنصري يتسم بالتمييز. وما هو إلا نهب ما تبقى، ويحمل في طياته خطراً كبيراً على كيان مجتمعنا العربي في يافا."

إلا إن السلطة لا تعير ذلك أهمية. ففي 5 تشرين الثاني/نوفمبر 1990، أقدمت جرافات مدينة تل أبيب على هدم سوق للخضروات خاصة بعرب المدينة وتمثل مصدر رزق للكثير من العائلات العربية. يقول موسى موسى، صاحب مصطبة لبيع الخضروات في السوق المهدومة: "لقد بدأت العمل في السوق منذ سنوات، حيث شكلت مصدر رزق لي ولعائلتي وحتى لأبي وجدي اللذين كانا من أوائل العاملين في السوق."

ويتساءل موسى بغضب شديد عن هدف السلطات من وراء هدم السوق: "هل يريدون دحرنا إلى المخدرات؟ لقد تكلموا في السابق عن بديل للسوق، فاتضح فيما بعد أن هذه الأقوال كانت فقاعات في الهواء. عدا ذلك، فالسؤال الأهم هو ماذا سيكون مصير العائلات التي تشكل السوق مصدر الرزق الوحيد لها؟ على ما أعتقد ستتحول سوق الخضار إلى سوق للمخدرات، وهذا ما تريده بلدية تل أبيب للعرب، فرئيسها لاهط يريد أن يتحول العرب إلى قوى عمل رخيصة وإلى عبيد في هذه الدولة."

وضمن التآمر على المدينة للقضاء على ميزتها العربية، أعلنت البلدية استعدادها لشق طريق يقطع مقبرة حسن بيك إلى نصفين لخدمة المستوطنين في كل من بات يام وحولون المجاورتين، وذلك بعد أن هدمت قذيفة صاروخية مئذنة مسجد حسن بيك في 2 نيسان/أبريل 1982، على حد تأكيدات شرطي سابق كان أول من وصل إلى المسجد فور انهيار المئذنة. وكانت الشرطة قد فضلت إغلاق الملف واعتبار الحادث من فعل الطبيعة، علماً بأن جميع المؤشرات دلت علة أنه من عمل منظمات الإرهاب اليهودي التي نشطت آنذاك. 

يافا تواجه الانقراض

كان عدد العرب في مدينة يافا حتى سنة 1948 نحو 120 ألف نسمة، بقي منهم بعد أحداث 1948 ثلاثة آلاف نسمة كانوا جميعاً من عائلات فقيرة. واليوم، ليس هناك إحصاء رسمي بعدد السكان العرب هناك. فسكرتير بلدية تل أبيب يقدّر العدد بنحو 6000 – 6500 نسمة، وتقدّره شركة حلميش المسؤولة عن حل مشكلات السكن في الأحياء الفقيرة بنحو 8500 نسمة، ويقدّره رئيس بلدية تل أبيب بنحو 11,000 نسمة، ويقدّره مكتب الوزير للشؤون العربية بنحو 12,000 نسمة، وتقدّره شركة منطقة يافا بنحو 15,000 نسمة. أما الأهالي فيقدرون عددهم بنحو 22,000 نسمة، في حين أن ملف أسماء أصحاب حق الاقتراع للكنيست الإسرائيلي يتضمن أسماء خمسة آلاف شخص.

إذاً، يتراوح عدد العرب في مدينة يافا بين 6000 نسمة و 22,000 نسمة. ويؤكد عدم وجود إحصاء رسمي أن أحداً من المسؤولين والخبراء لم يقدم على إجراء إحصاء جدي لعدد السكان في يافا. ولا يعود السبب إلى كون السكان يرفضون الكشف عن أنفسهم وإنما إلى عدم إقدام المؤسسات المسؤولة على تنفيذ مشاريع للعرب في هذه المدينة، إذ إن المشاريع التي نفذت حتى الآن تجاهلت وجود عرب يافا عمداً، وكأنهم اختفوا تلقائياً اختفاء الأشباح. وهذا يؤكد أن السلطات، ممثلة في بلدية تل أبيبب لا تبحث عن حلول لمشكلات المواطنين العرب بل تبحث عن طريق للتخلص منهم.

فبعد أحداث سنة 1948، تجمع من بقي من عرب يافا في المنطقة المحصورة بين شارع العجمي (يافت حالياً) في الشرق وشاطىء البحر في الغرب، وتتكون هذه المنطقة من حيين هما الجبلية والعجمي. ومنذ ذلك الوقت، لا تسمح السلطات لهم بالتوسع أو بناء مساكن جديدة أو حتى ترميم المساكن القديمة، وذلك لإجبارهم في نهاية المطاف على الرحيل. فليس التكاثر السكاني هو سبب الضائقة السكنية التي أسفرت عن مشكلات جمة بل السبب هو السياسة الرسمية؛ فأغلبية العرب تعيش في بيوت كانت عربية، وتسيطر عليها الآن شركتا عميدار وحلميش اللتان تمنعان أي مواطن عربي من بيع منزله، وتجبراه على تسليمهما المنزل، فتخمّناه بأبخس الأثمان وتدفعان لصاحبه ثلثي قيمة هذا التخمين. وتسارع الجرافات، بعد ذلك، إلى هدمه وتسويته بالأرض. وقد جعل ذلك المدينة خاوية بعد أن هدمت الشركتان ثلاثة أرباع المنازل في مدينة يافا القديمة؛ يافا التي كانت تعج بالحياة والجمال، وكانت حتى سنة 1948 تشكل مركزاً للنشاطات السياسية والاجتماعية والثقافية والتجارية، ووُصفت آنذاك بأنها عروس فلسطين، أصبحت اليوم ضاحية قديمة مهملة ومنسية من أحياء تل أبيب، يعيش سكانها الأصليون العرب في مناطق محاصرة تأكلها الجرافات. والآن، وبعد قتلها، تم إعلان تهويدها.