Asali, ed., Jerusalem in History
Reviewed Book
Full text: 

القدس في التاريخ

Jerusalem in History

Edited by K. J. Asali. London: Scorpion Publishing, 1989.

 

لو قيل ان القدس قامت بدور لا نظير له في التاريخ لما كان هذا القول أكثر من قول صدق تردد عبر الزمن، وهو في كل حال لا يكاد يفي هذه المدينة حقها. إذ إن خصائصها التي تميزها تمييزاً فريداً في نوعه يجب أن تُبرز بصورة أشمل. فالقدس مركز مديني ذو أهمية فائقة على امتداد تاريخه الذي يرجع إلى خمسة آلاف سنة. لكنه مركز لم تُحِط به أية أراض فيها موارد معدنية ذات شأن أو غنى زراعي عظيم، بل على العكس فقد كانت المدينة تقع إلى ما وراء الطرق التجارية الكبرى؛ ولم تكن ثغراً، بل كانت على العكس على مسافة غير ملائمة من البحر، تنتصب مرتفعة على جبال وعرة غير مأنوسة، ولا تملك الموارد المائية التي يمكن الاعتماد عليها بعد أن ازداد عدد سكانها فتعذر إمدادهم بالآبار والمياه الجوفية. من هنا، فإن أهمية القدس الاستراتيجية كانت ضئيلة. كما أن أهميتها السياسية في التاريخ ليست واضحة فوراً للباحثين في العصور اللاحقة. فلماذا شُنّت الحروب من أجلها، ودُمّرت بالكامل وأعيد بناؤها عشرات المرات، وأصبحت مركزاً للعلم وكنزاً من كنوز العمارة، وعاصمة لعشرات السلالات؟ الجواب يبقى غامضاً، إذا لم نُشر إلى ذاك الخيط الذهبي الوحيد الذي يسري في ثنايا تاريخ "أمجادها وكوارثها"، كما جاء في تعبير العسلي؛ هذا الخيط الذهبي هو الدور الرئيسي الذي قامت المدينة به في أديان العالم التوحيدية الكبرى الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، وهو دور ما زالت تقوم به حتى يومنا الحاضر.

وكما هي الحال في كتب أخرى من ذات المنحى، فإن كتاب "القدس في التاريخ" يرصد لنفسه هدفاً صعب المنال. فحين يركّز كتاب تاريخي كهذا على موقع أو مكان واحد، نرى أن التواصل بين فصوله يتم من خلال اللجوء بكل بساطة إلى التسلسل التاريخي. وإذا لم يتم الأمر بشيء من الإبداع، فالنتيجة قد تكون التركيز على بعض الأماكن المهمة في ذلك الموقع، ومجرد عرض تطور هذه الأماكن عبر العصور المتلاحقة. لذا، فالكتاب قد يصبح بمثابة دليل سياحي منمّق. وممّا يحد أيضاً من قيمة كتب من هذا النوع أن التطورات المهمة في فترة تاريخية ما لربما لم تحدث فعلاً في المكان الذي هو موضع تركيز الكتاب. من هنا، فالانطباع الذي طالما يرسخ في الذهن هو أن المكان، وهو القدس في الحالة الحاضرة، ليس إلا مشهداً جانبياً أو ستارة خلفية للحدث المهم الذي يجري في مكان آخر. وفي كتاب محقق مثل كتاب "القدس في التاريخ"، والذي يساهم فيه تسعة أكاديميين متّبعين التسلسل الزمني، فإن المزالق التي أشرنا إليه أعلاه لا يمكن تفاديها إلا بصعوبة. لكن نجاح المحقق الدكتور العسلي يمثّل إشادة كبيرة بعمله التحقيقي وبفهمه للقضايا المهمة التي يتكون تاريخ القدس منها. لكن، وعلى الرغم من تفادي المزالق، فالكتاب لا يعرض لنا بالضرورة موضوعاً بارزاً متسلسلاً يكون بمثابة الخيط الذي يربط بين فصول الكتاب المختلفة. فالفصول الوسطى من الكتاب، وهي معقودة للفترة الإسلامية المبكرة والفترة الصليبية والفترتين الأيوبية والمملوكية، تمنحنا بعض الإشارات فيما يتعلق بموضوع رئيسي محتمل قد نستنتجه من دور القدس الفريد والموحِّد بين الأديان، بصفتها مدينة تجذب الحجيج من جميع الأمم والحضارات، كما تجذب الأوقاف الوافرة المؤثرة والآمال السياسية والدينية المتضاربة. وهذا الخيط الذي كان في إمكانه أن يربط أجزاء الكتاب بعضها ببعض، لا نراه متّسقاً متماسكاً خلال الكتاب. وعلى الرغم من أن فقدان هذا الرابط لا يقلل من قيمة المساهمات الفردية، فإنه يجعل من الكتاب مجرد مجموعة من الأبحاث أكثر منه كتاباً متكاملاًَ؛ ولهذا السبب، فإن صاحب هذه السطور يجد أن الإحاطة به كعمل واحد متماسك أمر صعب.

ومن سوء الحظ أن الفصل الأول، وهو بعنوان "القدس في العصر البرونزي، 3000 – 1000 قبل الميلاد" بقلم هـ. ج. فرانكن، هو الفصل الأصعب على القراءة في الكتاب بأكمله. وعلى الرغم من أن هذا الفصل يزعم أنه يشرح للقارىء العادي بعض الصعوبات الكامنة في تفسير المعطيات العائدة إلى الفترات التاريخية الأولى، أو التي سبقت التاريخ المدوّن فيما يختص بوجود المدينة وطبيعتها خلال تلك الفترة، فإنه يبدي تردداً حيال مواده ويعرضها بصورة تراكمية مما ينفّر القرّاء، ما عدا المتخصصين منهم. ومع ذلك، فالقارىء يجد نفسه متشجعاً على المضي قدماً، إذ إن هذا الفصل يبيّن استحالة الاعتماد تقريباً على مجموعة معينة من المعطيات بشأن وجود المدينة وطبيعتها، وليس على مجموعة أخرى من تلك المعطيات. فالكثير الكثير يعتمد على وجهة النظر، وعلى التفسير الذي يتبناه المرء للأساطير التوراتية وأساطير الشرق الأدنى. وحين يستخلص المرء بعض الوقائع التاريخية من الأساطير المتعلقة بالقدس، فإن التبريرات و"الأفكار المبنية على الرغائب" التي يطرحها أصحاب هذه  الأساطير قد تواكب تلك الوقائع. وحين يشدد فرانكن على هذه النقطة، فحجّته أن وجود المدينة خلال تلك الفترة ليس ثابتاً، ولا غير ثابت، بالبراهين الأدبية والأثرية والتاريخية والدينية. وإذ يبيّن صاحب هذا الفصل هذا الموضوع، فهو كمن يشدد على نقطة افتتاحية، هي أن الحقائق المطلقة عن تاريخ القدس صعبة المنال.

وثمة فصلان بقلم جـ. و. مندنهال و ج. ولكنسن يغطيان الفترة بين سنة 1000 قبل الميلاد وسنة 637 بعد الميلاد،ويصفان المدينة التوراتية الإسرائيلية والمدينة اليهودية في ظل حكم روما وبيزنطة. وقد يندهش المرء حين يجد أنه كان ثمة، على الأرجح، عبادتان كهنوتيتان تعملان جنباً إلى جنب في القدس أيام داود وسليمان: الأولى "يهوية" والثانية يبوسية؟ ويربط مندنهال، وببراعة، بين التنافس بين هاتين العبادتين وتاريخ القدس خلال تلك الفترة. وفي الوقت نفسه فإنه يطرح جانباً، وفي بدايات الكتاب ما كان في إمكانه أن يكون المقولة الرئيسية التي يستند الكتاب إليها. وعلى الرغم من أن الفصول اللاحقة تحاول، وبصورة ضمنية، أن تحدد دور الدين في حياة المدينة الاجتماعية والسياسية، فإن مندنهال يقول ما يلي:

"فالقدس، كغيرها من المدن الكنعانية في ذلك الزمن، كانت مركزاً مدينياً دولياً حيث السياسة تطغى على عملية صنع القرارات لا الأخلاقية الدينية. وبعد أيام سليمان، فإن صانعي القرار السياسي لم يكترثوا بالتراث الديني النبوي المنحدر من مهمة موسى ورسالته أكثر مما اكترث به ملوك المدن الأخرى وسكانها من المشركين" (ص 55).

ثم يمضي الكاتب فيقدم ما هو بمثابة تاريخ معلّب للتغيرات التي حدثت بعد فترة المنفى، ليس فيه سوى أقل من القليل من البحث عن دور القدس كمدينة تستقطب العبادة وآمال العودة أو كرمز للتجدد القومي.

وفي الفصل المعقود للقدس في الفترة الإسلامية الأولى، أي من الفتح العربي لفلسطين حتى سقوط القدس في يد الصليبيين، يركّز الدكتور عبد العزيز الدوري، وعلى عكس من سبقه من الكتّاب، على أهمية المدينة الدينية بعد أن دخلها الإسلام. ومع أن المدينة خلال هذه الفترة لم تصبح عاصمة أو مركزاً إدارياً مهماً كدمشق أو البصرة (والسبب في رأيه هو أن المدينة لم تكن لها من المراعي ولا المناخ ما يصلح للمقاتلة من العرب)، فقد كان لها واليها الخاص بها وقاضيها، وذلك اعترافاً بمكانتها المميزة في الإسلام. وقد جاء تفصيل هذه المكانة المميزة في ذاك النوع من الأدب الإسلامي الغزير المعروف بأدب فضائل القدس الذي بدأ في تلك الفترة واستمر خلال الفترة الصليبية حتى أيام الأيوبيين. ومن الفضائل المذكورة في هذه الأدبيات أن القدس موطن ابراهيم، وأولى القبلتين، وموضع الإسراء والمعراج، والمكان الذي يُحشر الناس فيه يوم الدين، وموضع المسجد الأقصى، و"ثالث الحرمين الشريفين"؛ ومن هنا فهي في القداسة في المكان الثالث بين مدن الإسلام. وكما يقول الكاتب د. ليتل في فصله للفترة الأيوبية والمملوكية، فإن هذا التبجيل للقدس بلغ حداً دفع الفقيه الكبير ابن تيمية، وهو من رجال القرن الرابع عشر للميلاد، إلى أن يراه مبالغاً فيه وينطوي على خطر الارتقاء بالقدس لتجاري مكة في قداستها. وعلى الرغم من التحذيرات التي ترد عند ابن تيميّة فقد أصبحت القدس "محطة ثالثة" على طريق الحج إلى مكة والمدينة، تنافس هاتين المدينتين في غزارة أوقافها (ص 150). وبسبب هذه الأوقاف، فقد شهدت الفترة المملوكية من تاريخ القدس ازدهاراً في العمارة يوازي في روعته ما شهدته القاهرة ودمشق، وإنْ كان ذلك على نطاق أضيق.

أما الدكتور العسلي نفسه فهو يتابع تسلسل هذه التطورات خلال الفترة العثمانية، مما يمنح القارئ الإنكليزي أخيراً فرصة الاطلاع على ما قام هذا الباحث به من أبحاث مستفيضة عن القدس باللغة العربية. فالفصل الذي كتبه يشدد على أهمية الدين الأساسية في تاريخ المدينة الاجتماعي والسياسي، حيث تشاد المباني بأموال الأوقاف، ويعيش أهلها من المسيحيين واليهود والمسلمين على خدمة السياح والمؤسسات والاحتفالات الدينية. لكن ثمة خطأ طباعياً من شأنه أن يشوه هذا الفصل بعض الشيء؛ إذ إن المصادر فيه تنتهي قبل انتهائها في النص بنحو سبعين مصدراً.

أما الفصل الأخير، وهو بقلم الباحث السياسي البارز م. هدسن، فيشعر القارئ بأنه ضم إلى هذه المجموعة من أجل استكمالها ليس إلا. فالفصل يتألف من لمحة عابرة عن التطورات التي لحقت بالقدس منذ سنة 1917، وهي أمور نجدها قد نالت ما تستحقه من بحث في أدبيات الصراع العربي – الإسرائيلي. ولعلنا نطلب الكثير إذا طالبنا بأن يكون البحث أصيلاً ويعالج، في الوقت ذاته، جميع القضايا البارزة في هذه الفترة مثل: وعد بلفور، والهجرة اليهودية، والتقسيم، والمقترحات المتنوعة لجعل المدينة "جسماً منفصلاً"، والاحتلال الإسرائيلي، وتدمير حارة المغاربة، وبناء المستعمرات اليهودية. لكن هذا الفصل يفي، في كل حال، بالغرض المطلوب، أي بوصف تحول القدس من مدينة إسلامية في الغالب إلى مدينة مهوَّدة في الغالب، ليس فيها سوى جيوب صغيرة من الفلسطينيين العرب.

إن الإنجاز الأكبر لكتاب "القدس في التاريخ" هو أنه يقدم للقراء من غير ذوي الاختصاص لمحة عريضة عن تاريخ القدس بأسلوب مشوق. وقد قسّم هذه اللمحة العريضة بنجاح وشدد وبطريقة لبقة على الفترات الإسلامية التي ما زالت حتى الآن مهملة إهمالاً ذريعاً في الأدبيات عن القدس الموجودة في الغرب. من هنا، فثمة معلومات كثيرة جديدة ومشوقة ومثيرة للتفكير في هذا الكتاب الذي يؤكد الحق العربي في المدينة وطبيعته الراسخة ومغزاه الحاضر. وعلى الرغم من أن هذا الأمر لم يكن لربما هو الهدف النهائي لهذا الكتاب، فإنه مع ذلك كتاب جدير بالقراءة.