The Gulf Crisis and the Issue of "Connectivity"
Special Feature: 
Keywords: 
أزمة الخليج
النزاع العربي - الإسرائيلي
الأمن الإقليمي
العملية السلمية
Full text: 

لعل من ابرز ما افرزته ازمة الخليج على الصعيدين السياسي والدبلوماسي حتى الآن، هو النقاش الدولي الواسع المتعلق بإمكان "الربط" بين تسوية هذه الأزمة وفرص السلَام العربي ـ الاسرائيلي، وما رافق ذلك من حديث متزايد عن إقامة بنية امنية إقليمية جديدة في الشرق الأوسط في ظل المتغيرات المحلية والدولية المرتقبة في المرحلة المقبلة. وسنحاول فيما يلي النظر الى هاتين المسألتين والعلاقة بينهما، وذلك على النحو التالي:

 مسألة "الربط" 

المفهوم العراقي: الربط المباشر والمتزامن: لقد كان العراق أول من طرح مفهوما للربط، كما تجسد ذلك في المبادرة التي أطلقها الرئيس صدام حسين في 12 آب / أغسطس 1990. وينطلق هذا المفهوم من مبدأ القيام بالخطوات المتزامنة والمتماثلة لمعالجة جميع دوائر الصراع في المنطقة (العراق ـ إيران ـ الوجود السوري في لبنان، الاحتلالالاسرائيلي للأراضي العربية) على ان يبدأ بأقدمها، اي دائرة الصراع العربي ـ الاسرائيلي. ووفقا للموقف العراقي الرسمي، سيكون في الامكان النظر الى "ترتيبات" للأوضاع في الكويت (لا تنص المبادرة صراحة على سحب القوات العراقية) فقط في حال بدء الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي المحتلة، اي ان مثل هذا الانسحاب هو شرط مسبق من شروط التسوية السياسية للخلاف مع الكويت. وفي رأي العراق، لا بد من ان يطبق مجلس الأمن المبادئ والقواعد نفسها على دوائر النزاع المعنية كلها. كما لا بد من ان يطبق الإِجراءات عينها المتخذة بحق العراق على اي من الأطراف الأخرى التي ترفض التزام الخطوات المقترحة في المبادرة.(1)

غير ان القوى الدولية والمحلية التي تقف في الصف المعادي للعراق رفضت هذا التصور لإِمكانات "الربط"، وذلك لأسباب سياسية وعملية مختلفة يمكن حصر بعضها على النحو التالي: أولا، لأن المطلوب بحسب رأيها ـ وبموجب قرارات مجلس الأمن ـ هو الانسحاب العراقي من الكويت من دون قيد او شرط، ومنع العراق من "جني اي ثمار" من جراء احتلاله الكويت. أما فيما يتعلق بالمبادرة العراقية، فانها قد تفتح الباب أما مقايضة "ترتيب" الأوضاع الكويتية ـ العراقية بالمكاسب العراقية السياسية او المعنوية في الساحات المحلية الأخرى. وعلى سبيل المثال، فان اي نجاح يحققه الرئيس صدام حسين في دفع عجلة السلام العربي ـ الاسرائيلي الى الأمام سيكون من شأنه، وفقا لوجهة نظر القوى المناوئة للعراق، تحسين صورة العراق السلبية الناجمة عن احتلال الكويت (في المنطقة العربية على الأقل). كما قد يتعزز النفوذ العراقي المحلي بصورة رئيسية قياسا ببعض القوى العربية المؤتلفة مع الغرب حاليًا. ثانيا، قد يحول الاقرار بمبدأ الربط المباشر الأنظار عن الاحتلال العراقي للكويت على نحو يؤدي الى تخفيف آثار الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية المتراكمة على الجانب العراقي، ويساهم في تعطيل فرص الحل في الخليج بالشروط التي حددها المجتمع الدولي. يضاف الى ذلك، ان الإِقرار بـ "الربط" بحسب المبادرة العراقية قد يُفسر من قِبَل الجانب العراقي بأنه "علامة ضعف" ومحاولة لاسترضائه وتجنب الصدام معه. وهذا بدوره قد يدفع العراق نحو المزيد من التصلب او نحو تصعيد مطاليبه السياسية. ثالثا، ومن الناحية العملية، فان شرط البدء بالانسحاب الاسرائيلي هو امر غير واقعي، وغير قابل للتنفيذ. ومن غير العملي، أيضا، الدعوة الى معالجة جميع دوائر الصراع في المنطقة في آن واحد. 

المفهوم الغربي: الربط غير المباشر "التسلسلي": على الرغم من الرفض القاطع الذي أبداه بعض الأطراف الدولية الرئيسية إزاء مبدأ الربط، بمفهومه العراقي، وإصراره في المقابل على ضرورة "الفصل" بين ازمة الخليج والصراع العربي ـ الاسرائيلي تحديدا، فقد وجدت هذه الأطراف نفسها أمام ضرورة تطوير رد مؤات على هذا الطرح العراقي. ويبدو ان من دوافع ذلك تقدير هذه الأطراف انه يجب ألا يتاح أمام العراق مجال لاحتضان "الورقة الفلسطينية"؛ وذلك منعا لإِحراج القوى العربية الواقفة في الصف المعادي، وخصوصا في الوقت الذي ساد شعور واسع في المنطقة بأن المجموعة الدولية قد تحركت بسرعة وفاعلية غير معهودتين لإِخراج العراق من الكويت، في حين أنها لم تتخذ الاجراءات المماثلة لمواجهة الاحتلال الاسرائيلي المستمر للأراضي العربية منذ أكثر من عقدين. ومن ناحية اخرى، يبدو ان القوى الدولية الرئيسية باتت تشعر بأن الفترة اللاحقة لحل ازمة الخليج قد تكون مؤاتية فعلا، على نحو خاص، للقيام بجهود جديدة لمعالجة الصراع العربي ـ الاسرائيلي نتيجة التغيرات الجذرية في العلاقات بين الاتحاد السوفياتي والغرب، ولإِحياء دور الأمم المتحدة كإطار لـ "الأمن الجماعي" في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. هكذا، وفي مقابل الدعوة العراقية الى الربط المباشر والمتزامن بين ازمة الخليج والصراع العربي ـ الاسرائيلي، شهدت الفترة الأخيرة تبلور مفهوم آخر لدى بعض القوى الدولية الرئيسية، يمكن القول انه ينطوي على الربط الضمني وغير المباشر بين الأزمتين. ومن هنا، حدد الرئيس فرنسوا ميتران، في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تصوره لمجموعة من الخطوات لحل ازمة الخليج، تبدأ بـ "إعلان نية" من قِبَل العراق حيال الانسحاب، وتنتهي (بعد خروج العراق غير المشروط من الكويت) بجهود جديدة لمعالجة جميع النزاعات الأخرى في المنطقة، ومنها النزاع في لبنان وفي الأراضي العربية المحتلة. وقد دعا الرئيس الفرنسي الى ضرورة إقامة الحوار بين الأطراف المحلية المتنازعة وتطبيق جميع قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالمنطقة. وطالب ايضا بعقد مؤتمر سلام دولي كإطار للمفاوضات. وكمرحلة أخيرة، اقترح الرئيس ميتران إقامة بنية أمنية إقليمية لنزع السلاح وضمان الاستقرار "تمتد من إيران حتى المغرب ومن الشرق الأوسط حتى المحيط الأطلسي."(2) وبعد أيام قليلة، وعلى المنبر نفسه، دعا الرئيس الأميركي جورج بوش إلى ضرورة خروج العراق من الكويت من دون قيد او شرط، مضيفا انه عَقْب ذلك "قد تكون هنالك فرص" لتسوية الخلافات بين العراق والكويت تسوية دائمة، ولقيام "دول الخليج بنفسها" ببناء الترتيبات الجديدة لضمان الاستقرار، و "لقيام جميع دول المنطقة وشعوبها بحل ذاك النزاع الذي يباعد بين العرب واسرائيل."(3) وفي الوقت نفسه تقريبا، أدلى وزير الخارجية البريطاني دوغلاس هيرد بتصريح جاء فيه : "يجب ان ينسحب العراق من الكويت قبل البحث بالتحرك نحو تسوية اوسع في الشرق الأوسط، ولا يمكن طرح مبادرات جديدة بشأن فلسطين إلا بعد إخراج ]الرئيس[ صدام حسين من الكويت. لا ارى أملا في تحقيق تقدم حتى يحدث هذا." وأضاف هيرد انه حين ينسحب العراق من الكويت يمكن ان يمهد الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن الطريق أمام مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط.(4)

تحمل هذه التصريحات في طياتها ما يمكن القول انه إقرار ضمني بالربط التسلسلي، لا بالربط المتزامن، بين دائرتي النزاع في المنطقة، وإنما على نحو يتعارض مع الطرح العراقي، اذ يبدو ان "الربط" بمفهومه الغربي يقوم على شرط حل ازمة الخليج اولا، وبحيث يصبح مثل هذا الحل مفتاح التحرك على صعيد السلام العربي ـ الاسرائيلي. وكان وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر اوضح المعبّرين عن هذا "الربط المعكوس" (كما وصفه البعض) في حديثه مؤخرا أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، إذ شدّد على أن الولايات المتحدة "لا تستطيع السماح لهذه الطريقة العنيفة ]اي احتلال الكويت[ بأن تصبح موجة المستقبل في الشرق الأوسط. ويجب ان يفشل صدام حسين إذا أردنا للسلام ان ينجح، لأن إمكانات قيام سلام دائم بين اسرائيل وجيرانها العرب ستتحطم إذا نجح." وأضاف بيكر ان كل أمل بتحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط المملوءة بالنزاعات "مرتبط بوقف عدوان صدام حسين وقدرته في المستقبل على القيام باعتداءات جديدة."(5)

"الرابط" المعنوي: العامل الاسرائيلي: منذ الغزو العراقي للكويت سعت الأطراف الدولية الرئيسية، ولا سيما الولايات المتحدة، لإِبعاد "العامل الاسرائيلي" عن ازمة الخليج، في الأساس من أجل توكيد "الفصل" سياسيا ودبلوماسيا بين دائرتي النزاع، وبغية منع تقويض موقع القوى العربية المناوئة للعراق التي قد تبدو منكشفة على الساحة العربية الداخلية في حال زج اسرائيل في الأزمة الراهنة. غير ان مجزرة المسجد الأقصى في 8 تشرين الأول / أكتوبر 1990 ساهمت في إحياء النقاش بشأن مسألة الربط، كما أنها أثارت تساؤلات تتعلق بامكان الاستمرار في سياسة تنفي، في العلن على الأقل، وجود اية علاقة مباشرة بين حل ازمة الخليج والأوضاع في الأراضي العربية المحتلة. هكذا، فقد كانت نتيجة المجزرة ان اضطرت الولايات المتحدة (وغيرها من القوى الدولية) الى اتخاذ موقف حاسم نسبيا من اسرائيل في الأمم المتحدة كي لا يبدو أنها تتبنى سياسة ذات وجهين حيال القانون الدولي، وضرورة التزام هذا الموقف من قِبَل خصوم الولايات المتحدة وحلفائها معا. ومن هذه الزاوية، برز ما يمكن تسميته "الرابط المعنوي"، فأصبح من الصعب بمكان "حماية" اسرائيل من عواقب أعمالها في الأراضي المحتلة في الوقت الذي يحاول المجتمع الدولي الاحتفاظ بأكبر قدر من الإِجماع في مواجهة العراق. وقد أشار الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران بوضوح الى هذا الرابط في تعليقه على مجزرة الأقصى قائلا انه "لا يريد المزج بين المسألتين" (اي الأحداث في القدس وأزمة الخليج)، إلا ان "الأمم المتحدة تجد نفسها أمام مشكلتين قد تصبحان مرتبطتين، إذ ان مسألة الحق مطروحة بالصيغة ذاتها وفي كلتا الحالتين." وأضاف الرئيس الفرنسي قائلا انه "لا يمكن السعي الى الدفاع عن الحق هنا وتجاهله هناك... فالحق هو الحق. وعندما تعلن الأمم المتحدة موقفها يجب ان يكون في وسعها إحلال الحق هنا وهناك على حد سواء."(6) وذهب وزير الخارجية الفرنسي، رولان دوما، الى ابعد من ذلك في حديثه عن مسألة "الربط" إذ أكد انه "لا يمكننا ان نمتنع عن رؤية (تقارب ورابط) بين مختلف النزاعات في الشرق الأوسط." وأضاف: "هناك في الشرق الأوسط عدد من براميل البارود، وهناك رابط بينها كلها." وتابع وزير الخارجية الفرنسي قائلا "ان أحداثا مثل هذه ]اي مجزرة الأقصى[ تعطي حجما لصدام حسين الذي يطرح نفسه بطل الكفاح العربي ضد اسرائيل.... ان هذه الحوادث ستخدم قضية صدام حسين إذا لم يرد ]المجتمع الدولي[ على قلق الفلسطينيين وعلى الطلب الشرعي للشعب الفلسطيني بأن تكون له دولة يكون قادرا على العيش فيها مع احترامه لأمن اسرائيل."(7) ولعل ما يلفت الانتباه هو ان الإدارة الأميركية نفسها قد اعترفت، وإنْ بصورة مموهة وغير مباشرة، بأهمية "الرابط المعنوي." فقد أشارت المصادر الاسرائيلية الى رسالة بعث وزير الخارجية بيكر بها الى نظيره الاسرائيلي دافيد ليفي جاء فيها "ان اسرائيل إذا رفضت قرار مجلس الأمن ]اي القرار الأخير رقم 672[ فهناك من سيقارن بينكم وبين صدام حسين ورفضه قرارت الأمم المتحدة حتى ولو لم يكن لمثل هذه المقارنة ما يبررها."(8)

"الرابط الميداني": مهما يكن الأمر بالنسبة الى إمكانات "الربط" السياسية او الدبلوماسية او المعنوية بين حلقتي النزاع، فقد دلت الأحداث على صعوبة تجاوز حقيقة التفاعل او الترابط الميداني بينهما. وقد كشفت مجزرة القدس بوضوح عن ان محاولة تجميد ساحة الصراع العربي ـ الاسرائيلي او محاولة تحييد اثر العامل الاسرائيلي في الأوضاع المحلية ريثما يجري حل ازمة الخليج، ليست عملية سهلة في الأحوال كافة. وإذا كانت السياسة الغربية / الأميركية قد هدفت الى إبعاد اسرائيل، قدر الامكان، عن التطورات المتعلقة بأزمة الخليج، فمن اللافت ان الجانب الاسرائيلي نفسه قد اصرّ على ايجاد ترابط بين الساحتين عن طريق اتهام العراق ومنظمة التحرير الفلسطينية بـ "تنظيم وتحريض" المتظاهرين الفلسطينيين في القدس يوم مجزرة الأقصى، وعن طريق الإِيحاء بأنه في حال تردد، او في حال فشل التحالف الدولي في توجيه ضربة حاسمة الى العراق، فقد تضطر اسرائيل الى اتخاذ الخطوات الكفيلة بذلك من طرف واحد.(9)

وبطبيعة الحال، فان هناك درجة عالية من التداخل والترابط بين مختلف دوائر النزاع في المنطقة نتيجة سلسلة التفاعلات بين الأطراف المحلية نفسها من جهة، وبين الوضع الاقليمي ككل والأوضاع الدولية من جهة أخرى. ويبدو من الواضح، مثلا، ان الموقف الأميركي الأخير في مجلس الأمن حيال مجزرة القدس لم ينبع من قناعة أميركية كاملة بأن اسرائيل قد تجاوزت خطوطا معنوية أو سياسية غير مقبولة، بقدر ما جاء نتيجة التقدير الأميركي ان الوقوف مع اسرائيل في هذا الوقت بالذات (اي في خضم ازمة الخليج) يضر بالتحالف الغربي ـ العربي المعادي للعراق. وبكلام آخر: ان مستلزمات مواجهة الاحتلال العراقي للكويت هي التي فرضت على الولايات المتحدة الوقوف ضد اسرائيل؛ وهذا ما يؤكد مفعول عامل "الربط" تأكيدا مباشرا. ومما قد يحرج الولايات المتحدة ثانية، وبصورة خاصة في هذا المجال، رفض اسرائيل الاستجابة لقرار مجلس الأمن رقم 672، الأمر الذي قد يضع الدولة العبرية في المنزلة نفسها (من حيث القانون الدولي) التي يحتلها العراق. وهذا، بدوره، قد يضع الجانب الغربي / الأميركي أمام إمكان النظر الى تصعيد الاجراءات الدولية العقابية ضد اسرائيل والعراق معا، وعلى نحو يصبح "الربط" فيه أمرا واقعا لا مفر منه.

وعلى صعيد آخر، لا بتوقف اثر عامل الربط عند ساحة الصراع العربي ـ الاسرائيلي، في الواقع. فالخطوات السورية الأخيرة في لبنان، مثلا، تعكس على ما يبدو حرية العمل السوري المكتسبة في هذه الساحة نتيجة الموقف الذي اتخذته سوريا من ازمة الخليج وما رافق ذلك من انفراج نسبي في العلاقات السورية ـ الأميركية. ويشير بعض المصادر الغربية كذلك الى أن هنالك ما قد "يربط" بين السياسة السورية الخليجية الراهنة وبين إمكان استعداد الولايات المتحدة للقيام بدور الوسيط بشأن الجولان المحتل، في حال إعادة تحريك عجلة السلام على الجبهة العربي ـ الاسرائيلية. (10)

خلاصة القول، ان مسألة "الربط" باتت مطروحة فعلا على عدة مستويات ومن زوايا مختلفة. وهذا لا يعني ان العراق قد نجح في تثبيت مفهومه الخاص للربط، لكن الإِصرار الغربي المستمر على الفصل الكامل بين الأزمتين يخفي هو الآخر إقرارا خفيا بأن هنالك وقائع وآثارا "رابطة" لا يمكن تجاهلها. فمن الاعتراف غير المباشر بِـ "الربط التسلسلي" بين حل ازمة الخليج وفرص السلام العربي ـ الاسرائيلي، الى الإِقرار بـ "رابط تحليلي" (analytic) بين الساحتين، (11) يبدو ان القوى العالمية، وبخاصة الولايات المتحدة، اصبحت تدرك أنها مضطرة الى التعامل مع هذا المفهوم بشكل او آخر.

 "البنية الأمنية الاقليمية الجديدة"

 يبدو ان فكرة "البنية الأمنية الاقليمية الجديدة" اصبحت تشكل ركيزة أساسية من ركائز التصور الأميركي لكيفية معالجة أزمة الخليج. وقد أشار وزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر، الى هذه الفكرة أول مرة خلال لقائه أعضاء لجنة الشؤون الخارجية التابعة لمجلس النواب الأميركي في 5 أيلول / سبتمبر 1990. ففي رده على سؤال لأحد النواب عما إذا كانت الولايات المتحدة ستواجه وضعا خطرا في حال انسحاب العراق من الكويت و "احتفاظ صدام حسين بترسانته النووية والكيماوية والبيولوجية وجيشه المؤلف من مليون عنصر"، أجاب الوزير الأميركي بأن المطلوب هو العمل من أجل "إقامة بنية امنية إقليمية جديدة" في المنطقة، يكون هدفها في الأساس "احتواء العدوان العراقي"، ثم المساهمة في "دعم الاستقرار" في الخليج، مما "سيضمن المصالح الأمنية المشروعة ]في المنطقة[ والتدفق الحر لإِمدادات الطاقة."(12) وقد أثار هذا التصريح تساؤلات واسعة داخل الولايات المتحدة وخارجها، ولا سيما فيما يتعلق بالأهداف السياسية ـ الاستراتيجية الأميركية البعيدة الأمد في المنطقة، وفيما يتعلق بإمكان الاحتفاظ بوجود أميركي عسكري رئيسي في الشرق الأوسط/ الخليج في مرحلة ما بعد حل الأزمة الراهنة.

ونتيجة حساسية الدول الخليجية نفسها حيال فكرة الوجود الأميركي العسكري الدائم في محيطها المباشر (بل رفض بعض القوى، مثل إيران، هذا الوجود رفضا قاطعا)، يبدو ان الإدارة الأميركية حاولت فيما بعد مراعاة مثل هذه الحساسيات عبر التشديد على ان الولايات المتحدة "لن تبقي على قواتها في المنطقة يوما أكثر مما يلزم"، بحسب قول الرئيس بوش خلال لقائه الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في هلسنكي بتاريخ 9 أيلول/ سبتمبر 1990.(13) ومن اللافت ان الرئيس الأميركي كان حريصا، في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، على تأكيد دور دول الخليج نفسها في "بناء الترتيبات الجديدة لضمان الاستقرار" بعد حل الأزمة الراهنة، وذلك من دون أن ينفي إمكان المشاركة الأميركية في مثل هذه الترتيبات. (14)

لكن مهما يكن الأمر، فانه يبدو ان فكرة البنية الأمنية الإقليمية الجديدة لا تزال في قيد النقاش والبلورة، حتى عند الجانب الأميركي نفسه. ويمكن القول ان هنالك عدة تصورات جارية في هذا المجال:

إعادة تنظيم العلاقات الأميركية السياسية ـ الاستراتيجية في الشرق الأوسط برمته، بحيث يواكب التركيز الأميركي التقليدي على التحالف مع اسرائيل تطويرا جديدا للعلاقات الأمنية بمحور مصر ـ سوريا ـ المملكة العربية السعودية الذي افرزته ازمة الخليج. وقد أشار الى هذا وزير الدفاع الأميركي ديك تشيني في حديث له جاء فيه انه "ستنشأ عن ازمة الخليج[ ترتيبات جديدة من شأنها ان تعزز قدرة الحكومات في تلك المنطقة من العالم على ضمان أمنها الذاتي، علاوة على الترتيبات التعاونية التي ستسمح للولايات المتحدة بالقيام بدور أكبر ]أمنيا[ مما كنا نقوم به في الماضي."(15) وليس من الواضح تماما ما إذا كان مركز الثقل في العلاقات الأميركية بدول المنطقة سينتقل (وفقا لهذا التصور) الى الجانب العربي على حساب اسرائيل، كما يذهب بعض التقديرات الغربية، او ما إذا كان النظام الأمني الجديد المفترض سيسير في خط متواز مع العلاقات الأميركية ـ الاسرائيلية الأمنية الاستثنائية. وعلى صعيد آخر، يطرح بعض الجهات الأميركية تساؤلات بشأن إمكان تطوير العلاقات الأمنية بسوريا بالذات، في السمتقبل القريب، حتى عقب التحسن الأخير في العلاقات بالغرب. (16)

إقامة بنية امنية "خليجية" محلية، حيث يتم التركيز على إيجاد سبل ضمان الأمن والاستقرار في منطقة الخليج بالذات، من دون التطلع بالضرورة الى بناء نظام أمني إقليمي شامل. وهنالك بعض ما يشير الى ان الادارة الأميركية تنظر الى هذا الخيار الأخير كبديل أولي على الأقل ضمن المرحلة القريبة المقبلة. وقد ركز الوزير الأميركي مرة أخرى، في اللقاء الأخير الذي تم بينه وبين لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ، على هدف احتواء العراق وردعه وإقامة بنية امنية تشتمل على الاجراءات الكفيلة بتشكيل "كابح مستمر للقدرات الحربية العراقية"، بالإِضافة الى "نوع من الحظر المستمر" على وصول الأسلحة الى هذا البلد، سواء كانت أسلحة تقليدية أو غير تقليدية. وشدد الوزير الأميركي كذلك على ضرورة القيام بجهود رئيسية من أجل الحيلولة دون انتشار أسلحة الدمار الشامل في المنطقة، مما قد يتطلب إجراءات الرقابة والتحقق الصارمة جدا جدا. (17)

وإذا كانت الولايات المتحدة لم تستقر بعد على اي من هذين التصورين للبنية الأمنية الإِقليمية المطلوبة، بما في ذلك إمكان الدمج بينهما، فان هنالك بعض الأسئلة الحيوية التي لم يقدم الجانب الأميركي جوابا واضحا عنها حتى الآن:

أولا ـ كيف ستشارك الولايات المتحدة في اية صيغة من صيغ البنية الإِقليمية الأمنية المطلوبة، وضمن اي نطاق؟ يتضح من كلام المسؤولين الأميركيين ان الولايات المتحدة تنوي، في الأحوال كافة، الحفاظ على قوات معزَّزة في المنطقة كجزء من النظام الجديد. لكن يبدو ان التركيز سينصب على القوات البحرية لا القوات البرية، بحسب قول بيكر نفسه.(18) ومن المؤكد ان ردات الفعل المحلية على مشروع النظام الأمني الجديد ستتفاوت وفقا لطبيعة الانتشار الأميركي المحتمل، وأماكن حشد القوات الأميركية، مما قد يعود فيؤثر في قدراتها على الردع او الاحتواء.

ثانيا ـ هل المقصود (في حال تبني نموذج النظام الأمني الخليجي المحلي) إقامة مثل هذه البنية قبل إنهاء الأزمة الراهنة وكجزء من أسلوب معالجتها، ام ان المطلوب هو إقامة البنية المرجوة بعد تحقيق هدف إخراج القوات العراقية من الكويت؟ يبدو من كلام بيكر بشأن ضرورة الجمع بين "الحصار والمقاطعة والاحتواء" انه سيتم العمل لإِقامة البنية الجديدة كأداة للضغط على العراق حاليا، بالاضافة الى النظر الى كيفية إدامتها في المرحلة اللاحقة لحل النزاع الراهن. غير ان هنالك في الغرب من يرى ان طرح مفهوم "الاحتواء" من الآن، سيبدة تراجعا عن النية الغربية ـ الدولية باللجوء الى القوة وحسم الصراع مع العراق عسكريا، كما قد يبدو انه ينطوي على استعداد للتعايش مع النظام العراقي الحالي في مرحلة لاحقة، وإنْ كان ذلك بشروط قاسية. ومن ناحية اخرى، ليس واضحا أبدا كيف ستُفرض على العراق إجراءات نزع السلاح و"التحقق والرقابة الصارمة جدا جدا" من دون توجيه ضربة عسكرية ماحقة اليه أولا. لكن لعل اهم العقبات القائمة أمام مشروع البنية الأمنية المحلية في الخليج (من غير ان يكون للعراق موقع في هذه البنية) هو كيف سيتم إدخال إيران في مثل هذا المشروع، وماذا سيكون موقف القوى المحلية والخارجية المعنية بهذه البنية في حال اتخذت إيران موقفا صريحا ومعاديا من نظام امني يديم الوجود العسكري الأميركي في المنطقة الى امد غير مسمى؟ وليس من الصعب الاستشهاد هنا بالتصريح الذي أدلى به المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية الايرانية علي احمد خامنئي تعقيبا على الحديث بشأن النظام الأمني المقترح، والذي جاء فيه: "تقوم الولايات المتحدة منذ مدة طويلة بخندقة نفسها في الخليج الفارسي، وهذا ليس مقبولا لدينا، او لدى اية دولة اخرى في المنطقة. لن تقبل الشعوب الاسلامية أبدا قيام الولايات المتحدة بخلق الأنظمة الدفاعية والأمنية في المنطقة، وستقاتل الطمع والسيطرة الأميركيين في الخليج الفارسي." (19) ومما يزيد الأمر تعقيدا، من وجهة النظر الأميركية، الموقف السوري المؤيد لإِيران فيما يتعلق بقيام نظام امني محلي "بمشاركة بلدان المنطقة"، بحسب ما ورد في البيان السوري ـ الايراني المشترك الصادر عقب زيارة الرئيس حافظ الأسد الأخيرة الى طهران.(20)

ثالثا، في حال تبني صيغة البنية الإِقليمية الأمنية الشاملة ـ اي البنية التي تتجاوز منطقة الخليج ـ هناك صعوبة واضحة بالنسبة الى دور اسرائيل المحتمل فيها. ويتضح من كلام وزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر، ان الولايات المتحدة ترى وجوب مشاركة اسرائيل (بالإِضافة الى الولايات المتحدة نفسها) في مثل هذا المشروع، كما أكد ذلك خلال زيارته الأخيرة لسوريا، مضيفا انه "عندما نتكلم عن بنية امنية إقليمية، لا يمكن إبعاد اية دولة في المنطقة عنها. كما انه لا يمكن، في رأيي على الأقل، استثناء الدول من خارج المنطقة منها."(21) ويبدو ان التصور الأميركي لا يقتصر على إدخال اسرائيل في النظام الأمني المنشود بغية دعم امن الدولة العبرية واستقرارها فحسب، بل يشتمل أيضا على تطبيق إجراءات نزع السلاح على اسرائيل كسواها من الأطراف المحلية الأخرى. فقد ذكر الوزير بيكر، في شهادته الأخيرة أمام مجلس الشيوخ الأميركي، ان إجراءات الرقابة والتحقق، المنبثقة من النظام الأمني الجديد، "لن تتوقف عند مسألة الأسلحة الكيمياوية ]اي القدرات العراقية في هذا المجال[ بل يجب ان تشمل الأسلحة النووية والبيولوجية والتكنولوجيا الصاروخية، ويجب ان تشمل جميع الدول في المنطقة".(22) وقد اعتبر هذا الكلام انه موجه الى اسرائيل بصورة خاصة، في وقت لم يسبق لأية إدارة من الإدارات الأميركية ان تطرقت الى مسألة التسلح النووي والصاروخي الاسرائيلي.

 عامل "الربط" مجددا

ان الحديث الأميركي عن ضرورة المساهمة الاسرائيلية في البنية الأمنية الاقليمية المطروحة يعود بنا، حُكما ، الى مسألة "الربط" وتشعباتها. فاذا كان المقصود قيام مشاركة عربية ـ أميركية ـ اسرائيلية في مثل هذه البنية، فمن البديهي ان يفترض ذلك اتخاذ الخطوات الجذرية في اتجاه حل النزاع العربي ـ الاسرائيلي. وليس من الواضح أبدا كيف ستوافق الأطراف المحلية على نظام من هذا النوع او على خطوات لنزع الأسلحة والسيطرة عليها، في غياب الاتفاق الواسع بشأن إنهاء هذا النزاع. وهذا بدوره يطرح تساؤلات جديدة عما إذا كان في الامكان "فصل" النظام الأمني الهادف الى "احتواء" وردع العراق، عن النظام الأمني الهادف الى دعم الأمن والاستقرار في المنطقة كلها. وإذا لم تتوفر سبل "الفصل"، فما هي سبل "الربط" المتاحة؟

ليس من المرجح ان تنكبّ الولايات المتحدة على محاولة الإِجابة عن مثل هذا السؤال في المستقبل القريب المباشر. غير ان المنطق الذي يطرحه الجانب الأميركي بشأن إقامة بنية امنية إقليمية جديدة قد يقوده الى إعادة النظر في إمكانات عقد مؤتمر دولي للسلام، وهو لمّح الرئيس جورج بوش نفسه اليه خلال اللقاء الأخير الذي تم بينه وبين الرئيس السوفياتي غورباتشوف في هلسنكي.(23) غير ان مجرد الاهتمام الأميركي المجدد بهذا الإِطار لتحقيق تسوية عربية ـ اسرائيلية، لا يعني بالضرورة تبنّي الولايات المتحدة للمفهوم العربي لدور المؤتمر الدولي وفاعليته، ولا يعني إقرارها بالحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة او بموقع منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. لكن، في المقابل، فان الاستمرار في ادعاء "الفصل" بين ازمة الخليج والنزاع العربي ـ الاسرائيلي قد يتراجع أمام واقع الأحداث في المنطقة من جهة، وأمام التضارب والغموض اللذين لا يزالان يحيطان بالسياسة الأميركية ـ الغربية تجاه المنطقة من جهة اخرى.

 

(1) راجع نص المبادرة في باب وثائق، في هذا العدد.

(2)  راجع باب وثائق، في هذا العدد.

(3)  راجع باب وثائق، في هذا العدد.

(4)  راجع : "الحياة" (لندن)، 6/10/1990.

(5)  راجع: المصدر نفسه، 18/10/1990.

(6) راجع: المصدر نفسه، 10/10/1990. 

(7)  المصدر نفسه.

(8)  راجع: المصدر نفسه، 16/10/1990.

(9)  أنظر مثلا: Jerusalem Post (International Edition), October 20, 1990.

(10)  راجع: The Independent, October 18, 1990.

(11)  راجع الكلام المنسوب الى آرون دافيد ميلر، مسؤول شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية، في صحيفة Houston Chronicle, September 15, 1990.

(12)  New York Times, September 6, 1990.

(13)  راجع باب وثائق، في هذا العدد.

(14)  راجع: "الحياة" (لندن)، 6/10/1990.

(15)  راجع: Christian Science Monitor, September 10, 1990.

(16)  New York times, September 6, 1990.

 (17)  راجع: The Guardian, October 18, 1990.

(18)  Ibid, September 15, 1990.

(19)  راجع: The Independent, September 15, 1990.

(20)  راجع باب وثائق، في هذا العدد.

(21)  The Independent, September 15, 1990.

 The Guardian, September 15, 1990. (22)

(23) راجع: "الحياة" (لندن)، 6/10/1990.