التحولات في الشمال وأثرها في مستقبل الجنوب
Keywords: 
العلاقات الاقتصادية الدولية
النزاع بين الشمال والجنوب
Full text: 

مجلة الدراسات الفلسطينية: نعيش في هذه الآونة انقلابات كبرى بسبب ما يجري في أوروبا الشرقية وداخل الاتحاد السوفياتي. ولا بد من القول إن دول الجنوب تنظر إلى هذه التغيرات بكثير من القلق لأن ثمة انطباعاً بأن هناك خطاً مَعْلَماً فاصلاً ينهض ليفصل فصلاً قاطعاً بين عالمين اثنين: العالم الذي نشعر بأنه في صدد التكون بين أوروبا  الشرقية وأوروبا الغربية ليضمهما معاً من جهة، ثم الجنوب من جهة أخرى.

هل تعتقدون أن المعالم الفاصلة بين هذين العالمين هي بمثل الوضوح الذي نقول؟ ثم، وبصورة أعم، ما هي الآثار المنظورة لهذه الانقلابات التي نشهد تلاحقها في الجنوب؟

إدغار بيزاني: أود، بادىء ذي بدء، أن أستبعد التناول (Approche) الذي يرى أن الشرق يطلب منا موارد كثيرة (بحيث أنه لن يبقى لدينا إلا القليل الذي نقدمه للجنوب) بصفته مقاربة غير حصيفة. لماذا؟ لأنه إذا كان الشرق يأخذ منا مادة كثيرة في المدى القصير فلأن العاملين الاقتصاديين (Opérateurs économiques) عندنا يعتقدون أنه سوف يعيدها في المدى المتوسط. أي عندما تصبح أعماله وشؤونه في حال أفضل. فالشرق حيز اقتصادي يثير من الثقة ما لا يثيره الجنوب. غير أني أعتقد أن مقاربة من هذا النمط ليست المقاربة الصحيحة. لهذا فإني أريد أن أصحح هذا الانطباع الأول بانطباع آخر – ولعلي سأقول الآن عكس ما ذهبت إليه منذ قليل؛ فأنا لست واثقاً بأننا لن نكتشف في الشرق عالماً دونيّ النمو حقاً. وفي الأساس، فإن الفرضية الضمنية للعاملين الاقتصاديين هي أن ثمة فارقاً في الثقافة بين الشرق والجنوب، وأن ثقافة الشرق أقرب إلى ثقافتنا، وأننا لسنا هناك إزاء دول سائرة في طريق النمو، بل أمام دول تملك هيكلياتها وبناها، وأن كل ما تعانيه هو تأخر في النمو. وهو وضع يجعل الأمور مختلفة تماماً. وبعبارة أخرى، فإن مفهوم مشروع مارشال [جديد] ليس مفهوماً ملائماً ولا فعالاً فيما عنى القسم الأعظم من الجنوب بسبب نقص الهياكل والبنى التحتية فيه، لكنه ملائم وفعّال في الشرق. بيد أني لست متيقناً شخصياً فيما عنى نتائج السباق الجاري للحصول على الأموال، أو نتائج الزحف نحو الشرق. ولست أرى من ذا الذي يستطيع أن يتنبأ بها سلفاً كلما تجاوزنا الآونة الراهنة المباشرة إلى المستقبل.

وهناك تناول آخر يبدو لي مغيَّباً على الرغم من جوهريته، وهو التحليل السياسي الذي سيتوصل الجنوب إليه نتيجة زعزعة الأنظمة "السلطانية"* في الشمال. وأنا هنا أُنحي جانباً كلمة "أنظمة ديكتاتورية" (Dictatoriaux) لأنها تحتاج إلى ساعات من التعليقات، وأكتفي بالقول "سلطانية". وبما أن أنظمة الشرق "السلطانية" هذه باتت في قيد التحول القاطع، فإن السؤال يطرح نفسه لمعرفة ما إذا كان هذا القول سيفضي إلى اجتياح من نمط أيديولوجي أو مؤسسي، يجتاح معه أنظمة الجنوب "السلطانية". فذاك في اعتقادي إحدى المشكلات الحقيقية المطروحة. وأود أن تعذروني على المقارنة التي سأقوم بها للفور، إلا إن التصريحات العديدة التي صدرت في إسرائيل والرامية إلى البرهنة أن ما يجري في جنوب إفريقيا لا يمكن نقله إلى إسرائيل وفلسطين بسبب اختلاف الأوضاع، هي تصريحات أثارت لديّ اهتماماً غير عادي. بلى، فإحدى المشكلات التي نستطيع طرحها على أنفسنا هي بالضبط مسألة معرفة ما إذا كان هذا العالم الذي نراه في قيد الحركة، يتحرك في كل مكان وفق الترسيمات (Schémas) ذاتها أو لا.

ثالثاً – وهذا أيضاً هو مجرد انطباع أولي – لا أدري ما سوف يحدث في الشرق، وأعتقد أن لا أحد يدري. فنحن نعرف العناصر (Les Composantes) لكنا لا نشعر بمحصلتها. فعدد هذه العناصر هو على قدر من العظم، ووتيرة تطورها هي على قدر من السرعة، بحيث أنه يمكن أن يحدث في لحظة معينة تصادف أو تلاقي أحداث تولد تجديدات هائلة لم يكن في وسع أحد أن يتوقعها. وهكذا، مثلاً، فإن قضية ألمانيا الشرقية ما كانت لتتخذ البعد التي هي في صدد اتخاذه، إلا لأن غورباتشوف اضطر إلى أن يسلم بما كان لا يتوقع عنده التسليم به، وذلك لأن ألمانيا الشرقية بدأت تفرغ وتخوي. ولو أن أحداً قال ذلك قبل أسابيع، لعدّ قوله هرطقة. لا بد، إذاً من الحذر؛ إذ لن نعرف المحصلات لمجرد أننا نعرف العناصر.

مكسيم رودنسون: دول الجنوب، ولا سيما العربية منها، هي دول طالما سعت لإيجاد شريك أو صديق لها داخل عالم القوى العظمى. وإذا كانت سعت لذلك فلأنها كانت تشعر بالحاجة إليه. وغالباً ما بحثت عنه قبل الحرب العالمية الثانية، في ألمانيا – هتلرية كانت أو غير هتلرية – فالحق أن هذا ليس بالأمر المهم. أما بعد معركة ستالينغراد فإنها راحت تبحث عنه في الاتحاد السوفياتي وحلفائه. وأما الآن، فإن العالم الثالث سيشعر بأن ما يجده أمامه هو كتلة عاتية، مهيمنة وخطرة. إن هذا هو الانطباع الذي سيغلب عليه، في كل حال، حتى لو كان غير صحيح بالكامل. لكني أعتقد أن فيه الكثير من الصحة. والنتيجة هي أن دول الجنوب سيتولد فيها يأس، ستزداد حدته أمام هذه الكتلة المتماسكة التي لا وهن فيها. من هنا ينشأ إمكان – أجده طبيعياً في هذه الحالات – لوقوع أعمال لا يضبطها ضابط، ولا سيما على الصعيد السياسي. وقد يكون مثل هذه الأعمال لاعقلانياً جزئياً، وهي أفعال وتصريحات لا يمكن لها إلا أن تصدم العالم "الأول" أو "الثاني".

ريجيس دوبريه: لا جدال في أن هناك – على صعيد الوعي الجماعي – ستاراً حديدياً مؤسسياً وعسكرياً بات يخلي مكانه لستار حديدي ذهني وسياسي آخر. والستار الأول الذي تدمّر كان في الشرق؛ أما الثاني الذي بدأ يتكون فوراً في إثر انهيار الأول، ففي الجنوب، إذ أنه لحظة ينفتح الشرق والغرب أحدهما على الآخر، نشهد انغلاقاً وإرتاجاً نفسانيين إزاء ما سمّيتموه الجنوب. وقد حلّت العنصرية المعادية للمغاربة محل معاداة الشيوعية، لجهة التعبئة في مشروع محافظ. ففكرة الغريب انتقلت، فيما يبدو لي، من حيز إلى آخر. ولا يزال من المهم أبداً أن نعرف من هو الأجنبي للحظة معينة. ومن المؤكد أن الأجنبي  أو الغريب كان، بالنسبة إلى الغربي، الإنسان التوتاليتاري، إنسان ما وراء الستار الحديدي، إنسان الظل، الرجل الحديدي أو الرجل الذي قُدّ من رخام. كنا متأخرين جداً، نعيش – وفي فرنسا خاصة – إلى سنتين خلتا أو ثلاث في عصاب العداء للسوفيات، وهو عصاب نفسي مصطنع. هذا الغريب نكتشفه اليوم كنظير لنا، كأخينا. وهكذا، فإن اتصالات بدأت تعقد. وكثيرون من المثقفين يذهبون اليوم أول مرة في حياتهم إلى موسكو. وأنا أراهم حولي، يعودون من موسكو ليذهبوا إلى بودابست. إنه ضرب من الاكتشاف، ونوع من النشوة التي تتسم في رأيي بالرومانسية ذاتها والسذاجة ذاتها اللتين اتسم بهما جيلي في اكتشافه العالم الثالث. كنا نذهب إلى الجزائر ونسافر إلى باماكو، ونزور هافانا مثلما أرى اليوم أبناء العشرين أو الثلاثين أو الأربعين عاماً يذهبون إلى برلين الشرقية. أصبح الغريب اليوم إنسان الجنوب. الإنسان الذي لا حيز مشترك (Interface) معه. فليس ثمة حيز تلاق ثقافي ولا هامش التقاء سياسي. أما حيز التلاقي الاقتصادي والسكاني فسلبي. إنسان الجنوب هو الهجرة (L’immigration)، وهو العنصرية (Le racism) والأصولية (L’intégrisme). إن في هذا انقلاباً في العواطف الجماعية يبدو لي هائلاً. هذا فيما عنى النقطة الأولى التي تبدو لي أساسية. ذلك بأني لا أعتقد، في العمق، أن الاقتصادي يقود التاريخ. بل المعطيات الثقافية هي التي تشكل حالة حضارة وتعطيها هيأتها في لحظة معينة. هناك حضارة أوروبية في قيد إعادة التكون. والحال هو أن أوروبا ما زالت تتكون كلما مَهَرت نفسها بالشعور بمصير مشترك، ضد طرف ما. وهي لم تعد تستطيع أن تكون ضد الخطر الشيوعي أو الخطر الأصفر. بل تبدو لي وهي تتكون بصورة كامنة ضد الخطر الإسلامي. ونحن هنا إزاء لاوعي جماعي تشترك فيه وتتقاسمه تحت أنظارنا الصحافة مع الشارع وترهص به.

هناك صعيد آخر سأكون فيه أكثر قطعية إذا استطعت: كان العالم ثنائي القطبية، وكنا نعيش حتى هذه الصبيحة مثلما كان العالم الثالث يعيش، شأننا، وَهْمَ وجود جبارين. ونحن نكتشف اليوم أنه لم يبق سوى جبار واحد. كان الاتحاد السوفياتي بالنسبة إلى كثيرين ظاهرة هائلة، قدرة عظمى كما تشهد بذلك محتويات الصحف والمجلات طوال الأعوام العشرين الماضية. ونحن لن نحلل هنا مجدداً نقاط ضعف الاتحاد السوفياتي، لكن لنقل أن ذلك الجبار العسكري قد تكشف عن جبروت غير فعّال ويؤدي إلى عكس المطلوب دبلوماسياً. جبروت عقيم سياسياً على الصعيد الداخلي، وغير منتج أو مدمّر على الصعيد الاقتصادي. هوذا، إذاً، بلد آخر يضاف إلى بلاد الجنوب. هوذا بلد متخلف آخر. أنه وصف أقرب إلى الهزل كما يقال. لكن، أليس  أنها ظاهرة هائلة، ظاهرة نهاية وهم القطبية الثنائية هذه. يبقى أن معنى هذا بالملموس أن أميركا ستسيطر على العالم، ولا سيما على العالم الثالث. وحين أقول أميركا فإني لا أراوغ ولا أضلل فيما عنى هذه الوحدة التي هي وحدة متوهمة إلى حد بعيد. فلا جدال في أن ثمة كثيراً من مراكز السلطة في الولايات المتحدة لا مركزاً واحداً، وأنه ليس ثمة سياسة إمبراطورية بالمعنى الروماني والمتماسك للكلمة هناك. لكن هذه الأميركا التي هي على طريق الأفول ولا ريب، تاريخياً، تجد نفسها – بالثقافة ونمط الحياة والسلطان المالي والاقتصادي – سيدة اللعبة. وهذا والحق يقال أمر جديد بالنسبة إلى العالم الثالث، وإلى العالم الثالث التقدمي خاصة؛ أعني أنه جديد قياساً بما كان الحال عليه منذ عشرة أعوام. وما يجري في أميركا الوسطى، والغزو الذي تعرضت باناما له وتقبّله الوجدان الغربي الخيّر، يبدوان لي انموذجين في تمثيلهما لهذا الضرب من الاحتكار الذي بات معترفاً به للولايات المتحدة الأميركية؛ احتكاراً ليس عسكرياً فحسب، بل سياسي واقتصادي ومعنوي أيضاً. بل أن ثمة من ينادي اليوم بواجب التدخل. وهي فكرة فظة فاضحة وتترجم إلى تملك الأقوى لحق التدخل لدى الأضعف. ذلك بأن التدخل لن يتم في الصين، بل في دول لا تستطيع الحيلولة دونه. ويقيناً أنه سيتم باسم القيم الكونية. وطبعاً، فإنه كان يستحيل تصور هذا التدخل قبل عشرة أعوام. ولهذا فإني أعتبر أن تدهور المواقع التاريخية لما نسميه العالم الثالث، في هذا الوضع، هو تدهور خطر جداً وجسيم جداً.

أما النقطة الثالثة التي أود أن أدلي بها، فهي أن فكرة الجنوب تبدو لي مجردة حقاً. ولعلها خادعة أيضاً شأن ما كانت عليه فكرة الشرق منذ زمن، وربما كذلك فكرة الغرب. ومما يزيد في فسادها هو أن الجنوب لم يعد يملك أدوات التلاحم أو أدوات التمثيل الدولي التي كان يملكها عبر عدد من المؤسسات، مثل: منظمة الوحدة الإفريقية، وحركة عدم الانحياز، أو ربما جامعة الدول العربية، وهذا فضلاً عن التنوعات المعترف بها داخل هذا العالم من ثقافية ودينية وقومية واقتصادية، ومن مراحل نمو، إلخ. وفي المقابل، فإن الشمال مهر نفسه بأدوات حضور والتقاء ومفاوضة داخلية: فهناك الجماعة الأوروبية طبعاً، هناك كذلك أشكال من التحالف العسكري، مثل منظمة حلف شمالي الأطلسي وحلف فرصوفيا اللذين يتحاوران فيما بينهما، واللذين لن يعودا يشكلان سوى بنية تقنية (Techno-structure) واحدة. وبعبارة أخرى، فإن المفارقة تشاء – فيما يبدو لي – أن يكون ثمة قدر أعظم من التجانس لدى الأغنياء مما لدى الفقراء. وهذا التفتت الظرفي الذي يعانيه الجنوب يؤكد أكثر، فيما يبدو لي، بطلان وفساد مصطلح "الجنوب"، وفي أية حال بطلان أداة التعريف (ال) وخطرها. فإما أن نعود إلى الاعتبارات الأسطورية، وإما نرجع إلى الاعتبارات الجغراسية التي لا تخلو من الأسطورية والتي طالما أترعونا بها. وعلى هذا، فإني آمل بأن يكون بات من الواضح لدينا هنا أننا لا نتحدث عن الجنوب إلا بمصطلحات جغرافية.

مكسيم رودنسون: أود أن أُعقب بكلمة صغيرة على ما قاله ريجيس دوبريه. أولاً، إن مصطلح الجنوب ليس مصطلحاً سلبياً محضاً، أي أنه ليس مجرد ما ليس شمالاً، وأنتم تستخدمونه في لحظة معينة بحكم مقتضيات الأمور. غير أن الفارق الكبير بين الشبان والجيل الذي يتلوهم، أي بين من كانوا يذهبون إلى هافانا وليما والجزائر في الماضي وبين من يسرعون إلى زيارة موسكو وبودابست اليوم هو، بصورة خاصة، أنكم كنتم تذهبون إلى هناك بحثاً عن شركاء متواطئين معكم ضد...

ريجيس دوبريه: بل لتلقي دروس، في حين أن القوم اليوم يعطون دروساً وهذا بالغ الدلالة في حد ذاته.

مكسيم رودنسون: لا أدري من يعطي الدروس ومن يتلقاها. ما أردت قوله هو أنكم كنتم تذهبون هناك لتجدوا شركاء متواطئين معكم ضد العالم الذي تقعون فيه، أي الغرب النقدي (L’occident critique) كما يقول [عبد الله] العروي. كنتم تذهبون وتقيمون تحالفاً مع تلك الأجزاء من العالم الثالث التي كنتم ترتادونها. وهذا عكس حال أولئك الذين يذهبون إلى الشرق اليوم. فهم يجدون هناك عالمهم إياه، ويتحالفون باسم عالمهم هم – وبالوكالة عنه. وهم يعرفون أنهم سيجدون حلفاء. فهم في البوتقة ذاتها، وسيجدون تواطؤات لن تكون "ثورية" بالنسبة إلى عالمهم، بل بالعكس.

إدغار بيزاني: أود أن أبدي تحفظاتي إزاء موقف ريجيس دوبريه من الولايات المتحدة. أولاً، لأني أعتقد أن الإبقاء على قوة الولايات المتحدة هو بسبب الوهم في شأن قوة الاتحاد السوفياتي. والأساس الذي قامت هيمنة الولايات المتحدة عليه هو حاجة عالم ما إلى الحماية ضد أيديولوجية بعينها. لكن مع تواري الشرعية الأيديولوجية للقوة الأميركية، فإني لا أدري ما سوف تصير هذه القوة إليه. ولا أدري كيف ستكون قدرتها على إدارة نفسها. ثانياً، إني لست واثقاً بأن الرأي العام الأميركي لن يطالب، مع تضاؤل الخطر في الشرق أو مع ظهوره بمظهر المتضائل، بعودة العسكريين الأميركيين إلى البلد. كما أني لست متأكداً من أنه لن تكون ثمة قطيعة استراتيجية بين أوروبا والولايات المتحدة، وبالتالي انحلال الحلف الأطلسي. كما أني لست واثقاً بأننا لن نشهد حينذاك بروز ضرورة قيام دفاع أوروبي ذاتي، الأمر الذي سيكون أهم واقعة جديدة. فبعد المشكلة المالية التي سوف تحل سريعاً، وكضمان تقدمه ألمانيا إلى أوروبا الغربية، سيحين ولا ريب حينُ المشكلة العسكرية وفي زمن قصير نسبياً، بحيث أني أتساءل (وهذا مع قبولي للتحليل الفوري المباشر الذي يجريه ريجيس دوبريه) ما إذا كان ذلك كله لا يحضر ويهيئ للانتقال، خلال مدى متوسط، إلى عالم متعدد القطبية، وفي النهاية إلى تطبيق تلك الرؤية التي يرى العلماء العالم بها؛ عنيت جدلية الفوضى والنظام، على صعيد رؤية العالم. إننا نخرج من العالم المنظم الذي همَّش العالم الذي كانت تسوده الفوضى، أي الجنوب، لندخل عالماً ليس في اي مكان منه نظام خالص أي نظام لا يتراسل تراسلاً جدلياً مع الفوضى. وسأحاول أن أُضفي المزيد من الوضوح على فكرتي هذه. فالنظام المثالي ليس الواحد وإنما هو الاثنين، بل الاثنين المتوازن (Le deux équilibré) أي حين يعلم كل واحد ما هو الآخر. وانطلاقاً من اللحظة التي يتدخل فيها ثالث كمتغيرة مستقلة (Variable autonome) يمكن أن تنحاز إلى هذا أو ذاك (إلى الواحد أو إلى الآخر)، فإنه تتولد حينذاك الفوضى، ويتولد انموذج آخر من اللعب، مختلف بالكامل عن اللعبة السابقة. ذلك بأننا نخرج حينئذ من التوازن لندخل في البحث عن التوازن والسعي إليه. إلا أنه سعي لن يتحقق، ولن نبلغه ولا ريب مطلقاً. وعلى هذا، فإني أعترص بمعنى من المعاني على سؤالكم الجوهري، لأني لا أومن بوحدة الشمال إزال الجنوب. وأعتقد أن العالم سينقسم من دون أن يشغله شاغل الجنوب، لكن بصورة تختلف عن صورة انقسامه التي سادت حتى الآن. بل أني سأطرح السؤال على نحو آخر: هل من المعقول أن نتصور أوروبا والولايات المتحدة واليابان مقيمة على تحالفها، وفيّاً بعضها لبعض، في حين أنه لا ينافس بعضها إلا بعضها الآخر؟

مجلة الدراسات الفلسطينية: مصدر قلق أهل الجنوب – وسنواصل تسميتهم بهذه التسمية لدواع عملية محضة -  هو بصورة خاصة هذا التحديد الظاهر الذي يحدّ بين عالمين. إذ حتى لو كان ثمة تفاوتات داخل كل منهما، وحتى لو استمرت التناقضات بين اليابان والكتلة الأوروبية، وحتى لو عمدت أوروبا إلى القطيعة مع الولايات المتحدة، فإنه تظل هناك فكرة حدود ستثير لدى الأم الفقيرة الشعور بأنها ملفوظة تدفع دفعاً متزايداً إلى الأبواب. ثم أننا، فضلاً عن ذلك، نسمع في العزف الجماعي الأيديولوجي الذي يعزف في هذه الآونة موضوعة تجعل من كل تضامن مع العالم الثالث سلوكاً بدائياً متخلفاً (Archaïque). وثمة خطاب أكثر اعتماداً للنزعة الكلبية (Plus cynique) يقول إننا سنجدنا مواجهين بعالم أغنياء يحتمون وراء أسوار مرتجة، وأمم فقيرة تقف على الأبواب بطبولها وزماميرها، بحيث أن الاتصال الوحيد بينها سيكون عبر استمرار الاستغلال وعبر التدخلية (Interventionnisme) المتزايدة، وخصوصاً مع حق التدخل الشهير، ثم تتخلل ذلك كثرة من أعياد الموسيقى واحتفالات الصدقة والإيتاء. يضاف إلى ذلك عامل آخر، هو التغير في إدراك الاتحاد السوفياتي اليوم؛ ذلك بأنه بات يُنظر إلى الاتحاد السوفياتي، في كل مكان تقريباً، كقوة ضعيفة. وهذا أمر محسوس تماماً لدى العرب. فقبل الآن كان تلافي إغضاب السوفيات واجباً وفريضة. أما اليوم، فإننا بتنا نجد أولئك الذين كانوا يقومون بتبخير موسكو يتساءلون عما إذا كان السفر إليها للتحدث عن مستقبل العلاقات الثنائية، مثلاً، هو أمر يستحق العناء. ثم أن هذا الضعف يأتلف مع صورة أخرى لا تني تزداد انتشاراً في دول الجنوب، هي إقبال السوفياتيين على الغربنة (Occidentalisme). وهذا كله يطرح الكثير من الأسئلة في الجنوب: أية مكانة سوف تكون لنا بعد في استراتيجية السوفيات وفي إدراكهم للعالم وتصورهم له؟ هل لا يزال ثمة مراجح (Contrepoids) للولايات المتحدة الأميركية يوازنها في العالم؟ إذ حتى لو وافقنا على أن العالم لن يكون وحيد القطبية، إلا أن الولايات المتحدة ستظل – في كل حال – تحتل فيه موقع الغلبة. فما هي النتائج التي ستترتب على ذلك؟

مكسيم رودنسون: إني موافق تمام الموافقة. فما تقولونه يتفق مع ما كنت أقوله. فحتى لو قلنا أن هذا الإدراك خطأ، جزئياً أو كلياً، إلا أنه لا بد من أخذه في الاعتبار. ولا جدال في أن العالم العربي، بين عوالم أخرى، يرى الأمور على هذا النحو. قد يكون ذلك خطأ، لكني في الحقيقة لست متيقناً من خطئه. ونحن حتى لو قبلنا بذلك إلا أنه لا يغير شيئاً في هذه الترسيمة التي تفرض نفسها على الأذهان، فيما كان يسمى العالم الثالث سابقاً، أو فيما يسمى الجنوب، أو ما شئتم من التسميات. فالمقصود هنا هو ما ليس شمالاً، ما ليس المجتمعات النامية صناعياً. المهم أن أهل الجنوب يرون الأمور على هذا النحو.

هناك نقطة نُحّيت جانباً حتى الآن، لكنها صعبة المعالجة لأننا ما زلنا في وسط المعبر (Milieu du gué)، وهي الشرق السوفياتي، فأهل الجنوب يشعرون بتضامن عميق مع جزء من الأمم التي تتمرد الآن. وأحداث أمس أو أول أمس في طاجكستان بالغة الدلالة في هذا الخصوص. فأهل دوشنبه لديهم الانطباع بأن الروس والسلاف يحابون بكل الصور أولئك الذين هم إخوانهم في الدين – أي الأرمن – لأنهم مسيحيون ولأنهم ليسوا بمسلمين. ولعل هذا الانطباع خطأ جزئياً، لكنه ربما كان صحيحاً جزئياً. وفي كل حال، فإنه ليس من المهم أن نعرف ما إذا كان انطباعهم خطأ أم صواباً؛ فثمة كتلة لا تزال تشعر، منذ زمن بعيد، بأنها تنتمي إلى العالم الثالث السوفياتي. وما زلت أذكر مقالات بنيغسن (Bennigsen) في الخمسينات عن الشقوق في القوقاز، أو تلك الندوة الخارقة التي عُقدت في باكو عن دور الإمام شامل الداغستاني في القرن التاسع عشر. فليس مصادفة أنه كان هناك الداغستانيون والآزريون الذين كانوا يفسرون كيف أن شامل كان رجلاً شجاعاً وبطلاً من أبطال النضال ضد الإمبريالية من جهة، وكان هناك من جهة أخرى الأرمن والجيورجيون – يدعمهم الروس والأوكرانيون بصورة متكتمة في تلك الأثناء – والذين كانوا يقولون إن شامل كان من أنصار الرق ومعادياً، علاوة على ذلك، للمرأة. تلك المواقف باتت تنعكس الآن في الوقائع. هناك، إذاً شعور تضامن يتعبأ (se mobilize). لكن تعبئته لا تتم حول واقع وإنما حول متخيل. إذ ربما كان الأرمن لا يحظون بالقدر المزعوم من الحماية. فالحق أنني لا أعلم ذلك، لكن المهم في رأيي هو ردات فعل جماهير العامة في شوارع دوشنبه (ستالين أباد سابقاً) وفي مدن طاجكستان الأخرى. فإلى ماذا سيصير هذا الشرق السوفياتي؟ نحن، ولأكرر ذلك مرة أخرى، ما زلنا في وسط المعبر. لكني أعتقد أنه سيتحلل ويتفكك، وأن تحلله سوف يتسارع تسارعه في إبان ثورة 1905.

إدغار بيزاني: ما تقولونه يتعلق بالشرق السوفياتي الساخن أي بآسيا الجنوبية، لا بالشرق السوفياتي البارد أي بسيبيريا الشاسعة وصولاً إلى الحدود الصينية. فموضوعات الرهان هناك هائلة. إذ لو بقيت سيبيريا سياسياً في الشمال، فإن الشمال لن يحتاج حينذاك إلى الجنوب من أجل المواد الخام. فكندا مضافة إلى سيبيريا مضافة إلى البقية الباقية من الشمال، تكفي تغذية هذا الأخير بالمواد الخام.

ريجيس دوبريه: لم نعش، في الشمال، في الوهم فحسب بل كذلك في تلك القناعة المعقولة بأننا نحتاج إلى الجنوب من أجل المواد الخام والمنتوجات القاعدية الأساسية. والثورات التكنولوجية والثورات الاقتصادية الجارية تجعلنا مستقلين عن الهياكل والبنى التحتية لهذا الجنوب الذي كان يعتبرها مرتكزاً للثروة العالمية، أي كمنجم لليد العاملة والمواد الخام في آن. فبالمعلوماتية (L’informatique) والمواد والأعتدة الجديدة، نستطيع الاستغناء عن الجنوب. وهنا أيضاً لم نعد في الأيديولوجيا وإنما في أصلب المستقرات الصلبة (Le plus solide du solide).

إدغار بيزاني: يقال إننا بتنا في عصر عالمي. والعالمية هذه تعني تكاثر المبادلات ورفع الحواجز من أمامها. لكن ما هي هذه المبادلات يا ترى؟ مبادلات ماذا؟ أهي مبادلات مواد أولية؟ لكن لمّا كانت مساحة نصف الكرة الشمالي الإجمالية، أي بما في ذلك سيبيريا، موازية لمساحة نصفها الجنوبي، فإن طاقات الثروة في باطن الأرض متساوية في كلا الشمال والجنوب بحكم قانون الأعداد الكبرى (La loi des grands nombres) باعتبار أن ثروة باطن الأرض هي في الإجمال موزعة بصورة نسبية على المساحات الشاسعة. أم تراها مبادلات معلومات؟ لكن الواضح أن غلبة الشمال ساحقة. أم هي مبادلات المنتوجات المصنعة؟ هنا أيضاً نجد غلبة الشمال ساحقة. إذ ذاك تطرح مشكلة رابعة نفسها: فهل يمكن تبادل الأرزاق بحرية من دون أن يأتلف ذلك مع حرية تنقل الأشخاص؟ إن المشكلة ستكون المقايضة بين تداول الأرزاق وتنقلها من جهة، وبين تنقل الأشخاص (الذي هو في صدد أن يصبح مطلب الجنوب الأساسي) من جهة أخرى. ذلك بأنه لا بد هنا من أن نستحضر في أذهاننا أبداً بعض الأرقام. ففي الاثنتي عشرة سنة الماضية، شهدت المعمورة ولادة مليار إنسان جديد، 900 مليون منهم في الجنوب و100 مليون في الشمال. وسيولد في الإحدى عشرة سنة المقبلة مليار آخر، 930 مليوناً منهم في الجنوب  و70 مليوناً في الشمال. لا بد من اعتبار وتدبر أفق هذه المعطية الجماهيرية (Donnée de masse) أو معطية ميكانيكا السوائل  (Donnée de mécanique des fluides) هذه إذا جاز لي أن أستخدم هذا التعبير. وقناعتي – وهي مجرد قناعة لا حكم أصدره – هي أنه سيكون علينا أن نواجه موضوعياً طفرة في ظاهرة الهجرة. فمن ظاهرات اللجوء الفردي والبحث عن عمل سننتقل إلى ظاهرات جماعية تشبه ما يحدث في ميكانيكا السوائل، أي أننا سنجد حشوداً كبرى تعاني إفراط الضغط في جانب، في مواجهة أمكنة وحيزات تشهد تديناً في الضغط السكاني في الجانب الآخر، الأمر الذي سيطرح مشكلة الإرتاج المحكم أي الإقفال بأحكام (Étanchéité). إذ ما هو الجدار المحكم الإرتاج؟ أهو الجدار الأيديولوجي شمال – جنوب (الذي أثاره ريجيس دوبريه وبحق منذ قليل) الذي سيمنع تسرب حركة البشر؟ أفترى جداراً من هذا النوع سيظل محكماً في وجه حركة الناس متيحاً في الحين ذاته حركة الأرزاق وتداولها؟ تلك إحدى كبرى المشكلات التي سيكون علينا أن نطرحها.

مجلة الدراسات الفلسطينية: يبدو أن هيئات الأركان تعمل على فكرة الإرتاج المحكم هذه، طارحة سيناريوهات من نوع الزوارق البشرية (كتلك التي كانت تحمل لاجئي الهند الصينية)، فهل هناك شيء ملموس من وجهة النظر هذه؟

إدغار بيزاني: خذوا الحدود المكسيكية – الأميركية على المحيط الهادي، ثم تابعوها عابرين الأطلسي ومضيق جبل طارق فالدردنيل فالقوقاز، ثم لتجتازوا بعد ذلك حد سيبيريا الجنوبي الذي يشمل شمال أوستراليا واليابان ونيوزيلندا، فإنه يكون عندكم الشمال من جهة والجنوب من الجهة المقابلة. عنصر الريب الوحيد هو الجمهوريات الساخنة، عنيت الجمهوريات السوفياتية. ما هي النقاط التي تشتمل، في الأفق الذي ذكرتموه، على المشكلات الحقيقية؟ إنها الحدود المكسيكية – الأميركية والبحر الأبيض المتوسط. إذ هل هناك اندفاع للهند نحو الشمال؟ لا أعتقد ذلك؛ فاندفاعها يتم بالأحرى نحو إفريقيا. تلك هي الوقائع المنيخة. واسمحوا لي بأن أكرر ما سبق أن قلته: المسألة في نظري هي معرفة ما إذا كان في الإمكان مواصلة الدعوة إلى حرية تداول المواد والأفكار والمعلومات ومنع حرية تداول البشر – أي تنقلهم؟ وفي اعتقادي إن هذه هي المشكلة الجوهرية التي سوف تطرح نفسها.

ريجيس دوبريه: وأنا أضيف إلى هذه الجغراسية (Géopolitique) أندونيسيا وأوستراليا، أي الضغط الأندونيسي الرهيب. هذا الضغط يتجه جغرافياً وجهة شمال جنوب، لكنه على العكس من ذلك في الواقع.

إدغار بيزاني: هناك فرضية يبدو أننا نحَّيناها جانباً، هي انقطاع السياق أو المنحى أو المسار القائم في الشرق. إني لا أعتقد أن في وسع هذا الانقطاع إذا وقع أن يكون ذا ديمومة، بل أعتقد أن الأمور أُفلتت من عقالها بحيث أنها ستستأنف مسارها. لكن ماذا إذا اغتيل غورباتشوف، أو ماذا إذا أصبح خروتشيف؟ وماذا إذا تحول إلى بريجنيف آخر؟ إن أساس فرضياتنا هو الطابع القطعي، أي الذي لا رجوع عنه  للظاهرة التي نشاهدها اليوم في الشرق. لكن ماذا إذا سارت الأمور على نحو آخر؟ لهذا كنت أقول منذ قليل إن ثمة عناصر لا يمكن التنبؤ بها. إن هذه الظاهرة لن تعود القهقرى على المدى المتوسط. فلا عودة إلى النظام السابق. لكن نحو ماذا ترانا سائرين؟ أفلن نشهد قيام ديكتاتوريات يمينية في بولونيا ورومانيا؟ إن هذا هو عنصر لايقين في يقيننا، وفي فرضياتنا.

مجلة الدراسات الفلسطينية: إذا كان في وسع الشمال أن يستغني عن الجنوب، فيما عنى المواد الأولية، فإن معنى هذا أن موضوعة الإمبريالية والاستغلال لن تعود تعمل كما كان شأنها في الماضي. فهل سندرك ذلك في الوقت الملائم؟ ثم إلى أية مراجع (Références) أيديولوجية سيستطيع الجنوب أن يرجع ليفكر في علاقته بالشمال؟

ريجيس دوبريه: إننا نعيش بالضبط انهيار المراجع، أو على الأقل انزياحها أو انكسارها. فحين كان هناك عالم واضح التناحر: الخير والشر، أو الشر في مقابل الخير، كانت الأمور تقبل الانعكاس. وكان هناك، في كل حال، نمطان للتنمية وأنموذجان للإنسان. تلك مرحلة كانت لا تزال مرحلة عقل، لكننا دخلنا اليوم مرحلة اللاعقل (Déraison). فقد أنفقنا قرابة مائتي عام لننتقل من التمرد إلى الثورة. وفي الإجمال، فإنه حدث بين سنة 1789 وسنة 1968 أن انتقلت الحركة المحلية السلفية (أو الماضوية) التي لا تملك مشروعاً شمولياً كونياً، من حال العنف الغريزي إلى حال امتلاك مشروع عقلاني لتغيير العالم. إننا ننتقل الآن من الثورة إلى التمرد. والحال أن الانتقال من الثورة إلى التمرد هو تفجر عنف الشتات، عنف المنفى والبعثرة. إنه الفوضى المطلقة. وكي أواصل ما كان إدغار بيزاني يقوله منذ قليل، فإني استشهد بعبارة بول فاليري المعروفة: "ثمة خطران يهددان العالم: النظام والفوضى." ونحن ننتقل من الخطر الأول إلى الخطر الثاني، لكن هذا الأخير سيكون أكثر دموية، فيما يبدو لي، من الأول. فهو سيكون، باديء ذي بدء، أكثر دموية في الشمال لأنه يسخن الرهان العسكري وينتزع عنه جليده، ذلك بأن الردع [النووي] سيستبعد لأنه لم يبق ثمة تناحر كتل، ثم تناحر قوى عظمى مركزية. وعلى هذا، فإن العودة إلى السلاح التقليدي هي العودة إلى الحرب الممكنة؛ عودة قد تتسبب بها الاحتدامات الحدودية أو الهيجانات الوحدوية أو طفحانات الكيل القومية مثلاً. وها نحن أولاء في أوروبا خطرة جداً بـ"القوة"، أي خطرة بخطر لا يزال في حال الكمون ولم ينتقل إلى حال الفعل. وهي خطِرة لأنها لم تعد تملك الضمانة النووية. وها نحن أولاء كذلك في جنوب بالغ الخطورة، خطورة تعود إلى عوامل عسكرية، منها انتشار الأسلحة الصاروخية العابرة للمسافات البعيدة، والأسلحة الكيماوية، وخصوصاً أنها جميعاً لا تخضع لأية رقابة، ولا سيما بعد إنشاء صناعات تسلح متطورة نسبياً في الهند وأندونيسيا والعراق والبرازيل.

إدغار بيزاني: وخصوصاً بسبب مبيعات السلاح بين الجنوب والجنوب.

ريجيس دوبريه: وبخلاف هذه المسائل التقنية العسكرية المحضة، هناك كذلك الضغط السكاني والتفكك الأيديولوجي ونهاية تأطير المجتمعات بأيديولوجيات كالماركسية واللينينية إلخ، كانت هي في نهاية الأمر، وبالغا ما بلغ جنونها، عقلانية. وهناك أيضاً بدء انتفاضات من نوع ولى زمانه، أي من نوع سلفي أصولي قومي أو قبلي، وهو ما أسميه عالم التمرد الذي هو في النهاية عالم أكثر دموية من عالم الثورة. هناك حديث كثير اليوم عن الغولاغ (Goulag). لكن الفتن وحركات الانتفاض العامية (Jacqueries) أو الشعبوية في الغرب ما قبل الصناعي، لم تكن تشكو هي أيضاً في هذا المضمار من شيء. وبعبارة أخرى، فإن تشخيصي هو، ولا ريب، أكثر تشاؤماً مما يليق بأن يقال. ولا ريب أن الثورة كانت – كما نكتشف ذلك اليوم – شيئاً يُخشى جانبه، إلا إن التمرد هو في أية حال أمر رهيب.

مجلة الدراسات الفلسطينية: نلاحظ بالمناسبة تفاقماً واحتداماً للخصوصيات في أوروبا. ولعله ينبغي لنا التساؤل عما إذا كان ذلك لا يوشك أن يسدد ضربة شبه قاتلة للكونية الشمولية؟ ثم ألا يمكن لهذا أن يغذي، عبر انعكاسات متوازية، ما يطلق عليه بصورة عامة اسم الخصوصيات (Particularistes)، ولا سيما الخصوصيات المتحدية (Communautarisme) والأصولية الدينية في الجنوب؟

مكسيم رودنسون: بلى. يقيناً. فحين يسوء منقلب الأمور يتعلق الملأ بهذه القيم كما كان الحال أبداً. فمع انهيار الآمال الكونية الشمولية والأيديولوجيات التي قادت أهل الجنوب أو العالم الثالث، فإن من البديهي أن تتنامى الآن أيديولوجيات قومية أو قوموية أو متحدية. ومعنى هذا أنه كائناً ما كانت التسمية التي نعطيها لها، فإنها ستكون أيديولوجيات تتأسس – في جانب كبير منها -  على هوية الوحدات القومية، وهي أيديولوجيات ربما كانت فقيرة مجردة نظراً إلى تفتت هذا الشكل من أشكال الوحدة السلبية التي هي العداء للغرب. أو لعلها تتخذ شكلاً متوهماً هو شكل صراع الإسلام ضد المسيحية. ولعل إشكالية توينبي، على انهيار الحضارات والمؤتلفة مع فكرة تحالف البروليتاريا الخارجية والبروليتاريا الداخلية، ستمنى هنا بضربة؛ إذ إن البروليتاريا الداخلية لا تبدو مندفعة كثيراً نحو التمرد، حتى بمعنى الفتنة العامية. أما البروليتاريا الخارجية فإنها مفرطة التعبئة، وستزداد تعبؤاً. ونحن واجدون هنا إشكالية جزيرات محاصرة: جزيرات واسعة اتساع قارات ومحاصرة. [إنها إشكالية غير جديدة]؛ فكثيراً ما حدث في تاريخ العالم أن فكّر المفكرون في إنشاء جزيرات سعادة وحضارة، تحرّزاً من البربري. بلى، فكثيراً ما جرت الأمور على هذا النحو. لكن الشعوب، على وجه العموم، تتدمر بالكامل وهي تنتظر البربري. فهذا شأن اليونانيين مثلاً الذين لم يتوقفوا عن إلحاق الدمار بأنفسهم، على الرغم من علمهم الوطيد بأن ثمة تهديداً خارجياً يتهددهم. كان لديهم الكثير من الأذهان الألمعية التي كانت تبدي لهم ذلك، غير أنه لم يكن يسعهم القبول بتفوق إسبارطة على أثينا أو أثينا على إسبارطة، فكانوا يحتربون حتى الرجل الأخير. وكذلك كان الأمر في الصين، حيث شُيّد السور العظيم احتماء من البرابرة. ثم جاءت بعد ذلك الحدود الرومانية (ليميس). وقريباً منا كان بناء خط ماجينو. إلا أن ذلك كله لم يستطع الصمود أمام تدفق البروليتاريا الخارجية. فكيف يكون الأمر إذا تعبأت البروليتاريا الخارجية ولم يعد لديها حتى طريق الكونية الشمولية التي كان يضمنها حضور بروليتاريا داخلية في غرب نقدي. لكن هذه البروليتاريا الخارجية تسير في وجهة معاكسة، لأنها تتفتت في أيديولوجيات قومية بالمعنى الفضفاض  للكلمة. ولهذا فإن الذهاب في هذه الوجهة يبدو شبه محتوم، إن لم نقل محتوماً تماماً. وعلى العموم، وكما كان إدغار بيزاني يقول تقريباً، فإن النظام يولد من الفوضى، ومن الفوضى يتولد النظام. وعلى هذا، فإنه ستتكون بعد ذلك خليصة (Synthèse) أكثر استقراراً. غير أننا، في هذه اللحظة، لا نزال داخل حركة برونية (Brownien) متزايدة، أي حركة فوضوية لجزئيات غير واضحة. وأعتقد أن ثمة تفككاً كبيراً جداً بالمعنى الحقيقي لا المجازي للكلمة.

أما فيما عنى الأصولية، فإنها أيديولوجية قومية بالمعنى الواسع الفضفاض. إنها قومية مفرطة (Hyper-nationalisme). وهي في حالة الإسلام قومية متحدية أو جماعية مفرطة لا  قومية عرق، حتى لو كان ذلك لا يبدو في بعض الأحيان أكيداً. فالحق أنه لا يجوز تفسير كل شيء بعامل أو عاملين. إذ ثمة أبداً كثير من الأمور تسير في وجهة معاكسة. وهناك ردات فعل مراجحة (Contrepoids) وأخرى مضادة (Contre-actions). وأفضل الأمثلة لذلك، مثال قريب منا: إنه الأيديولوجية الفلسطينية التي ليست أصولية بل قومية طبعاً، لكنها منفتحة بقدر كاف في وجهة الكونية الشمولية لا في وجهة الانكفاء الأصولي. ونستطيع أن نسوق كذلك أمثلة أخرى.

إدغار بيزاني: لدينا عدة جدليات متزامنة بينما نحن لا نتحكم في ائتلافاتها الممكنة كافة. لدينا جدلية النظام/ الفوضى التي هي جدلية تنتمي إلى حيز السلطة، ولدينا جدلية الوحدة/ التنوع التي تنتمي إلى حيز الثقافة، وجدلية اقتصاد/ مجتمع التي تنتمي إلى حيز ثالث. ونحن نرى هذه اللعبة المتعددة تظهر في كل مكان. فالاقتصاد ضد المجتمع هو، مثلاً، معركة اليسار التي لا يطرحها اليمين في الغرب وفق المصطلحات ذاتها. والتنوع والوحدة داخل النظام السياسي هما عبارة عن ملكه أو إمكان أن نكون متنوعين. ذاك، إذاً، تناول أول يمكن أن يكون عنصراً قاعدياً (Élément de base). غير أن أكثر ما يدهشني هو أننا لم نعِ بعد نهاية مفهوم الدولة – الأمة. فقد عشنا حقبة ما من التاريخ كان يختلط فيها باعثا الاجتماع البشري؛ عنيت باعث المتحد والجماعة (Motif de communauté) من جهة، وباعث المنفعة وتيسير العيش (Motif de commodité) من جهة أخرى. فنحن معاً لنكون معاً، ونحن معاً لنعمل أو لنصنع معاً. ودمج هذين المفهومين أفضى إلى الدولة – الأمة: فنحن متحد جماعي، ونحن نصنع معاً. وهكذا نشأت دول ليست أمماً واعتبرت نفسها دولاً – أمماً. وقد نجحت فرنسا في دولتها الأمة لأن هذا الشكل حدث فيها منذ زمن بعيد. فقد انطلقت من تنوعها وتوصلت إلى المجانسة. أما روسيا فإنها لم تنجح في تكوين دولة أمة. وفي لعبة التنوع/ الوحدة، والنظام/ الفوضى، والاقتصاد/ المجتمع هذه، رأينا العالم يسعى لتحقيق توازن بين نظم التنظيم المحكومة بفكرة المنفعة واليسر (Les systèmes d’organisation commoditaire) السالفة الذكر وبين نظم التعبير المتحدية الجماعية (Les systèmes d’expression communautaire). وحين نقابل أوروبا – الجماعة الأوروبية مثلاً بالعالم العربي، ندخل في إشكالية خارقة للعادة. فالأمة في العالم العربي أكبر من الدول. وأما في أوروبا – الجماعة فإن الدولة التي هي في قيد محاولة النشوء أكبر من الأمم. لكنا ما زلنا نستخدم الكلمات ذاتها وما زلنا نتخبط ونتعثر في البحث عن وحدة تجمع كلا المقاربتين للحقيقة السياسية وللواقع السياسي، أي تجمع بين التناول عبر هوية الوجود (L’approche par l’identité d’être) وبين التناول عبر هوية الإرادة (L’approche par l’identité de volonté).

.......

ريجيس دوبريه: ما نجح ديغول فيه هو التأليف الخارق بين أمة ودولة. وقد نجح فيه في فرنسا لأننا دولة – أمة: لقد أعاد تنشيط وتحريك هذا التكافل الرائع العجيب. وعلى هذا فإنني أتفق مع إدغار بيزاني بقدر ما اختلف معه. لكن بينما كان هو يبدو أنه  يجعل المنفعة السالفة الذكر تأتي بعد المتحد الجماعي وتعقبه، فإني ألاحظ العكس، لأني ألاحظ أن ثمة عودة هائلة إلى الثقافات بصفتها اسمنتاً موحداً للمجتمعات، بما في ذلك المجاميع الدولية. أو لنقل أن البعد الرابع للحياة الدولية، بعد الأبعاد الثلاثة الأخرى (أي البعد الاقتصادي والعسكري والسياسي) هو البعد الثقافي. وقليل من الناس يعرف ذلك. ولهذا فإن أغلبية المثقفين الفرنسيين يسخرون من الفرانكوفونية ويستخفون بها استخفافهم بأدنى الأشياء وأحقرها. إنهم مخطئون. وما هذا إلا تأخر الوعي عن التاريخ.

إدغار بيزاني: أود أن أقول أني لم أقدم اقتراحي في متتالية تاريخية وإنما في لعبة تناوبية. وسأرد بالضبط على التناول الذي قدمه ريجيس دوبريه، لأبدي إلى أي حد أنا أتفق معه. فهو يقول: "كلما ازداد توحد العالم ازداد تفتته"، وأنا أقول إنه كلما ازداد تفتتاً ازداد سعياً للوحدة من جديد. وسنظل نجد أنفسنا أمام هذه اللعبة أبداً. والاكتشاف الكبير الذي نحن في صدد اكتشافه هو أنه بينما كان لدينا شعور في القرن التاسع عشر بأننا نؤسس نظاماً أزلياً، نظام مفاهيم أزلياً في حقل السياسية، فإننا نعرف اليوم بأننا ندخل في تعاقب توازنات ينبغي لنا أن نديرها وسط المغيبات. وبهذا المعنى لم يعد البعد الاقتصادي يفسر العالم. ذلك بأن تنوع وتغير المجموعات أو الجمعيات المتحدية سيظلان يناوئان ويضادان أبداً نزعات الاقتصاد القصيرة المدى. إن بحثي هو هنا، أي في هذه اللعبة الثابتة الدائمة بين الواحد والآخر، في حين أننا كنا اعتقدنا أنها توقفت على مستوى الدولة – الأمة.

مكسيم رودنسون: إن هذا يذكر بعدد من الأشياء التي لم أكن افكر فيها، لكني "غطست" فيها منذ زمن. فأنا ما زلت لا أرتاح إلى مصطلح الهوية هذا. وسبب عدم ارتياحي إليه هو أنه يقول أشياء كثيرة جداً. وفي المقابل، فإني كنت مرتاحاً حين تحدث ريجيس دوبريه عن تتابع يتقدم من القبيلة إلى الدولة – الأمة، وإلى الإمبراطورية. فهذا ما أطلق عليه، مستخدماً مفاهيم سوسيولوجية، اسم البنى أو الهياكل الفوق -  وظيفية (Structures suprafonctionnelles). وهذا المصطلح الذي أستعيره من جورج غورفيتش (Gurvitch) يبدو لي ممتازاً. فأنتم تجدون في العام الاجتماعي مجموعات أو تجمعات لها وظائف، فلديكم مجموعة صيادي الأسماك بالسنارة، ومجموعة لاعبي الشطرنج، ومجموعة الناس الذين يتكلمون لساناً واحداً، إلخ. فهناك مجموعات مما هبّ ودبّ، بما في ذلك المجموعات السياسية التي توجد لأهداف وظيفية، لتسيير الدولة أو لتدميرها كل من منزلته – فالأمر من هذه الزاوية سيان. وهناك هياكل وبنى متعددة الوظائف، بحيث أن المجموعات تشغل عدة وظائف في آن. وهناك أيضاً مفهوم الفوق وظائفية هذا الذي يشير إلى الهيكلية أو البنية التي توجد فيها الوظائف الممكنة كافة، بما في ذلك تلك التي ليست موجودة الآن. والقبيلة أو حتى المنوعات مما دون القبيلة، هي التي كانت مجموعات عرقية سلالية (إثنية) إلى هذا الحد أو ذاك – لأنها كانت هياكل منظمة تضم أناساً يأمرون، وآخرين يطيعون، وثالثين يرتهنون. إلخ... بعد هذه نصل إلى هياكل واسعة جداً تتسع تدريجاً بمقدار ما تتوفر إمكانات وجودها. والاقتصاد هو الذي يلعب هنا على إمكانات جمع مجموعة ما تحت إمرة واحدة. إن ذلك ليس ممكناً دائماً – فهو لم يحدث في جزيرة العرب قبل الإسلام مثلاً. لكن كلما وجدت الإمكانات وتوفرت، وجدت بنى وهياكل أوسع نسميها حينذاك دولة، ولها أشكال مختلفة. إن الماركسية المتمذهبة أو المتأدلجة كانت تتخيل بنية شرعية، أي وفقاً لشريعة أنجلز (أي وفقاً لترسيمته) التي كانت ترى أنه لم يكن هناك دولة قبل، وصار هناك دولة بعد. لكن هذا ليس صحيحاً تماماً؛ فحتى "قبل"، وُجدت بنى وهياكل متماسكة إلى هذا الحد أو ذاك، تشبه نمطيتها نمط الدولة وتجري الآن محاولة تأكيدها باستقصاءات وتحقيقات أنثروبولوجية سياسية. وباختصار، فإن هناك دولاً هي، والحق يقال، بنى وهياكل صلبة؛ ومنها أنواع عدة: الدولة – الأمة، والدولة – القبيلة، والدولة – الكنيسة. مثل هذه الهياكل القوية الصلبة يحتضن أناساً بصورة تتيح ممارسة الإدارة ممارسة جامعة أي مشتركة، وتحت وحدة قيادة ما.

واليوم، قد تكون أمام هبوط نمط الدولة – الأمة وإنْ كنت في الحق غير مقتنع تماماً بذلك، وأميل إلى الاعتقاد أنها ستفتت وتحجم بحيث تصبح مثل المنمنمات الفارسية، أو تُبلقن كما كان يقال لحظة كنا نرتعب مما كان يجري في البلقان. فهذا، في النهاية، هو ما يجري الآن. وأخيراً، فحتى لو سلمنا بأن الدولة – الأمة هي في أزمة (وينبغي ألا ننسى ضرورة ووجوب تعريفها)، إلا أن البشرية لا تستطيع أن تستغني عن مثل هذه الأشكال فوق – الوظيفية. فهناك دول، وسيظل هناك دول. وحتى لو تبعثرت البشرية كلها وتوزعت على عشرة آلاف دولة من طراز الليختنشتاين إلا أنها ستكون دولاً. إذ أني لا أرى كيف يمكن الاستغناء عن الدولة. وقد يصبح لدينا دول – قبائل حضرية من ناحيتنا، مثل تدمر إذا جاز لي الكلام على هذا النحو. ولهذا، فإني أشك في إمكان تواري الدولة – الأمة هذا. فلنمتنع من تسمية هذا دولة إذا شئنا، أو من تسميته أمة وليكن عامل الوحدة هو اللغة... لا بأس. بل إن الأمور تكون في هذه الحالة الأخيرة مُثْلى، بل إني سأتجرأ وأقول مثالية كما يقال في مصطلحاتنا القديمة. وإنما هو كاوتسكي (Kautsky) من كتب سنة 1914 كتاباً جميلاً في اللغة كمعيار للقومية. فمعيار الأمة الوحيد، بالنسبة إلى كاوتسكي، كان اللغة ولا شيء آخر. وكان يطلق لسانه ضد من يضعون معايير أخرى مثل أوتو باور (Otto Bauer) الذي كانت كتابته أكثر لطافة بكثير؛ الأمر الذي لم يجعله يلاقي كثيراً من النجاح. وفي أية حال، فإني أعتقد أننا لا نستطيع أن نستغني عن هياكل وبنى من نوع الدولة.

إدغار بيزاني: وهذا أيضاً لم أقله البتة. فما وضعته موضع المساءلة والنظر، أو ما لاحظت أن التاريخ وضعه موضع إعادة نظر، هو الكمية الضرورية من الحيز الفاصل بين الدولة والأمة. لقد اعتقدنا أن الدولة – الأمة هي الهدف، وحققناها في مكان ما من العالم. لكني أتساءل لأعرف ما إذا لم نكن الآن في صدد طلب شيء آخر.

ريجيس دوبريه: الفلسطينيون، مثلاً، يطالبون بدولة – أمة.

إدغار بيزاني: إنهم أمة تسعى وراء دولة. لكن هل تراهم حين ستنشأ الدولة – الأمة سينغلقون على أنفسهم في دولتهم – الأمة؟ إن كل شيء يبدو أنه يثبت العكس.

مكسيم رودنسون: هل النمسا دولة -  أمة؟ إنه سؤال يجب أن يطرح رديفاً للسؤال بشأن جمهورية ألمانيا الديمقراطية. الناس كلهم يدعون إلى إعادة توحيد الدولتين الألمانيتين على معايير لا تريد تطبيقها على النمسا. أليس هذا غريباً؟

ريجيس دوبريه: للحظة الراهنة ليس إلا.

مجلة الدراسات الفلسطينية: ما دمنا نتكلم عن الدول، فلنتناول مسألة الحدود. من الممكن أن يتغير بعض معالم وصُوى الدول في أوروبا مع إعادة قولبة وصوغ الحدود المنبثقة من الحرب العالمية الثانية. هناك إمكان تفجر جزئي في الاتحاد السوفياتي. وهذا أمر من شأنه أن ينعكس على الجنوب بوضع مبدأ عدم المساس بالحدود الموروثة من المرحلة الاستعمارية موضع إعادة نظر، مع كل ما قد يحمله هذا الأمر معه من نزاعات بين الدول، وخصوصاً نزاعات الحروب الأهلية؟

مكسيم رودنسون: هذا طبيعي، ولا بد من أن يقع. فالإبقاء على هذا المبدأ كان أمراً مصطنعاً، إلا أن الحفاظ عليه فترة من الزمن كان أولى وأفضل. أما عدم المساس بالحدود مهما تكن، أي سواء أكانت موروثة من الاستعمار أم من سواه، فهو مناقض للطبيعة العميقة للأشياء. ويقيناً أن الإبقاء على الحدود كان يؤاتي السلام، وكان خيراً بالنسبة إلينا نحن الذين منينا بالحرب وويلاتها، إلا إنه ما كان يمكن أن يظل قائماً إلى ما لا نهاية. وفي أية حال، فإنه دام دواماً طويلاً. لكن يجب ألا نخدع أنفسنا بالأوهام. فلن نؤبِّد إلى الأزل حدوداً رسمها بسمارك أو سواه على خريطة. إننا لن نؤبِّد إلى الأزل الحدود بين مالي وبوركينا، أو بين الشيبوك والدنكا والنوبيين والعرب في  السودان.

ريجيس دوبريه: هذه الموضوعة تدفع بنا إلى الالتفات نحو إدغار بيزاني لنسأله: ماذا عن اختفاء الدولة – الأمة؟ إذ ما الذي نشهده في هذه الآونة؟ إنه بالأحرى اختفاء وتواري الدول المتعددة القوميات، أي وضع كل ما هو فدرالي وكل ما هو اتحاد جمهوريات في البرزخ: يوغسلافيا، والاتحاد السوفياتي. ويأخذني خاطري إلى اتحادات فدرالية أخرى كالهند ثم، لم لا، كندا حيث ظاهرة كويبيك التي وإنْ لم تفض إلى شيء إلا أنها لم تختف. بل تبدو لي، على العكس، أنها تعاود الانبعاث. هذا ما ألاحظه في "ديغوليتي" (Gaullisme) السادرة، ثم أسرع إلى القول أن لا صلة لديغول بما يسمة اليوم الديغولية.

إدغار بيزاني: هذا توضيح لا حاجة إليه.

ريجيس دوبريه: ألاحظ، في "ديغوليانيتي" (Gaullianisme) السادرة، أن حدود الدول تنزع بطبيعة الأشياء إلى التقارب مع حدود الأمم. وبعبارة أخرى، فإن ثمة مطابقة للاصطلاحي (Convention) على الطبيعي أو للاصطلاح على الطبيعة، أي للقانوني، ليس على الجغرافي، بل على التاريخي: على الذاكرة واللسان والثقافة المشتركة. وثمة هنا أمر يمكن أن يثير القلق لأن من البديهي أن مبدأ القوميات قد طالما سحب صاعق المجازر وأدى إلى عدم استقرار كبير، لأن من البديهي أن تفكك امبراطورية هو أبداً أمر مولد للحرب: إمبراطورية النمسا والمجر، والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية السوفياتية اليوم. لا بد حينذاك من الخيار بين الحرية والحرب. وبصورة عامة، فإن أولئك الذين يصيحون عاشت حرية الإستونيين والآزريين لا يعرفون بالضبط نتائج ما يقولون؛ فهم يقولون عاشت الحرب من دون أن يدروا. وبعبارة أخرى، فإن هنا، ولا ريب، شيئاً مقلقاً للقوم العاقلين.

عندما نفهم طبيهة الأشياء فإنه يحين الحين بالنسبة إلى اليميني كي يصير إنساناً، أي يسارياً. ويقيناً أن الطبيعة هي بطبيعتها أنانية ماضوية، وأن الإنسان اختص بصنع الاصطلاح أي بصنع الدول والقواعد القانونية وعصبات الأمم أو هيئاتها أو جمعياتها. ولهذا، فإني لست قومياً بالمعنى العادي المبتذل للكلمة، بل أحدد نفسي كوطني، أي كإنسان يحترم قومية الآخرين، أي كشخص يطالب بأن يكون للعامة وطن، وبحق كل أقلية أو شعب مكون تاريخياً في أن تكون له دولة. وأنا لا أقول هذا لأني أتحدث إلى فلسطينيين، فلقد قلته أبداً، وأقوله كذلك للإسرائيليين الذين هم شعب. وللأسباب ذاتها التي تجعل الفلسطينيين شعب، فإن للشعب اليهودي الحق في أن تكون له دولة.

مكسيم رودنسون: إن الشعب الإسرائيلي، "الشعب اليهودي"، أو تدرون...

ريجيس دوبريه: إذاً، أنا ألاحظ مثلكم أن المصطنع (Artifice) لا يمكنه أن يحكم العالم. إلا أن العالم من الجهة الأخرى يصبح مجنوناً إذا زالت المصطنعات القانونية، أي مصطنع العقد والإصلاح.

إدغار بيزاني: هناك مثل إيطالي يقول “Fare disfare é sempre lavorare”، إنْشِئ ثم انقض ما أنشأت هو أبدا عمل. إنشاء الدول ثم حلها هو أبدا عمل. أود أن أقول أني لا أنكر أن الأمم تحاول أن تتماهى مع أداة سياسية تدعى الدولة، لكني أقول أنه منذ أن أقامت هذه الدولة وكوّنتها وهي تتساءل لمعرفة ما إذا كان يجب ألا تحولها أو تغير وجهتها؟ لماذا؟ لأن البعد الاقتصادي راسخ، ولأن عدد الأمم أكبر من أن يتيح للسياسي، أي للبعد السياسي – إذا ما كان لكل أمة تعبيرها السياسي – أن يتحكم بأي شكل من الأشكال في البعد الاقتصادي. فإنما هي هذه اللعبة بين الاقتصادي والمجتمع هو ما تعرب الأمة عنه وما يزيد في ضرورة وجود أمم واسعة مهمة ولها معناها من وجهة النظر القارية. نحن، إذاً، في صدد نقض وحل الهياكل والبنى القائمة وخصوصاً الدول – الأمم كما تصورناها. إني لا أستبعد أن تتشكل دول – أمم، لكني أقول إنها ما أن تتكون حتى تتجمع، وهذا كي يسعها التدخل كضوابط في الاقتصاد الدولي.

أما فيما عنى مشكلة الحدود الموروثة عن الاستعمار، فإني أعتقد أن الإبقاء عليها كان حكمة. لكنا لم نعد مع مرور الزمن نفقه  معناها، بل إنها تصبح أمراً لا يمكن الدفاع عنه أحياناً. فكيف السبيل للخروج من ذلك؟ هناك الانفصال البسيط المحض، أي أن جزءاً منفصلاً يصبح مستقلاً ذاتياً. وهذا إمكان أولي. وثمة إمكان آخر هو أن ينضم الجزء المنفصل إلى جميع آخر، وهو إمكان أخطر من وجهة نظر توليد الحرب كما يقول ريجيس دوبريه. وهناك حالة ثالثة هي حالة طلب وحدة تتجاوز طابع الحدود الموروثة المصطنع للالتحق بنظمة حدود (Système de frontières) تكون أكثر تماسكاً وتوافقاً مع التاريخ والجغرافيا. وأعتقد أننا نشهد مطالب من هذا النوع في مختلف بلاد العالم.

لكني أود أن أطرح سؤالاً على ريجيس دوبريه: هل إن تأقلم المجتمعات والوحدات البشرية؛ هل إن إدماج البعد الإقليمي، بُعد الأرض، في تنظيم هذه المجتمعات، لم يوضع هو الآخر بدوره موضع إعادة نظر بصورة من الصور؟ سآخذ مثلاً لمستوى داخل بلد واحد لا لمستوى العالم أو لمستوى منطقة من العالم. عندما أرى كينشاسا، أو عندما أرى لاغوس أو أبيدجان، أو ربما القاهرة – وإنْ بدرجة أقل – فإني أرى خريطة البلاد ترتسم وتتكون على أرض المدينة وإقليمها. في كينشاسا، مثلاً، لديك حي الكيبو وحي الباكونغو... إلخ. أنا، في النهاية، أتساءل لمعرفة ما إذا لم يكن علينا أن نخترع نمط ديمقراطية مفارقة للأرض والإقليمي (Extra-territorialisé). فتلك هي المشكلة التي تطرحها كورسيكا علينا. فنحن نقول لأنفسنا إن في كورسيكا تلاعباً انتخابياً. لكن من المستحيل، من وجهة أخرى، على كورسيكي مقيم في باريس أن يتخيل نفسه غير مقترع في كورسيكا. إنَّا واجدون هنا أيضاً تجاوزاً للرابطة أو للصلة (التي اعتبرناها حتى الآن ضرورية بضرورة مطلقة) بين الأرض والجماعة، أو بين الإقليم والمتحد الجماعي؛ تجاوزاً تساعد عليه الاتصالات. ففي الماضي، أي حين كانت العودة عسيرة جداً من الناحية الجغرافية، فإنه كان لاكتساب جذور جديدة معنى. أما اليوم، فإن وسع الإنسان البقاء على صلة بجذوره القديمة بحيث أن قطعها بات في تناقص مستمر. ونحن نرى إلى ولادة نظمة تنظيم (Système d’organisation) أساسها الاتصال ومفارقة العلاقات الإنسانية للأرض والإقليم.

مكسيم رودنسون: هذا الكلام كان مضمون النقاش في مؤتمر الحركة الاشتراكية الديمقراطية النمساوية المجرية الذي عُقد في برنو (Brno) سنة 1906 أو سنة 1907. فقد نوقشت مشكلة القوميات في إمبراطورية النمسا والمجر نقاشاً واسعاً، وجرى اقتراح إنشاء هيكلية يكون فيها للإيطاليين – إيطاليي  ترنت مثلاً – متحد أو جماعة بإقليم ثم متحد أو جماعة مفارقة للإقليم تضم إيطاليي الإمبراطورية كافة، وكذلك الآخرين جميعهم، الكروات، السلوفين، التشيك إلخ. كانت تلك معركة كبرى. وقد تقدم أوتو باور، بصورة خاصة، بحل. ثم تدخل لينين في النقاش بأهدافه التكتية الضيقة لمعرفة ما إذا كان يجب تطبيق هذا الحل على الحزب، وما إذا كان سيصير في الحزب شرائح مفارقة للإقليم. ثم تدخّل بعد ذلك ستالين سنة 1913، بمقولاته الفظة، شارحاً على سبيل المثال أن اليهود هم، في أية حال، مفارقون للإقليم (Extra-territoriaux)، وأنه لا يمكن بالتالي تأمين قومية لهم، الأمر الذي لم يمنعه من أن يعاملهم، فور وصوله إلى السلطة، كأمة لها لغتها القومية وهي اليديش، وبعد ذلك إقليمها بيروبيدجان. وعلى هذا، فإن مؤتمر برنو شهد نقاشاً واسعاً لهذه المسألة؛ فقد كانت تلك كل مشكلة إمبراطورية النمسا والمجر، ذلك بأن التشيك والإيطاليين... إلخ كانوا مبثوثين في كل مكان. ثم حلت كارثة خارجية وسوّت هذه المسألة، لكنها لم تكن التسوية الفضلى. كان ذلك بمثابة ظهور أناس من أهل المريخ. فقد قطعت العقدة المعضلة، ودمرت الإمبراطورية بأن جرى تقسيمها إلى خمس قوميات أو ست. وقد حسّن ذلك الأمور، لكن إلى أجل – فالحق أنه ليس ثمة نهاية للتاريخ.

ريجيس دوبريه: يبدو لي أن سؤال إدغار بيزاني يحمل جوابه معه. فالاتصالات، كما أوضح هو نفسه ذلك خير إيضاح – والتي  هي بطبيعة الحال ظاهرة جديدة بالنسبة إلى مؤتمر برنو لأنها ظهرت بعده – لم تلغ مسألة الإقليم، بل إنها جددته تجديداً إشكالياً متناقضاً. هناك، إذاً، بادىء ذي بدء مفارقة للإقليم (Déterritorialisation) إلا أنها تثير للفور إعادة أقلمة ذهنية (Reterritorialisation mentale) وذلك على شكل مفاقمة مسألة الهوية والدين والقومية – وهما مترابطان – وهذا من جهة أولى، ثم تثير من جهة ثانية الرغبة في إعادة تأليف الإقليم وتشكيله حيثما نقيم، بل بمجرد العودة إليه. وبعبارة أخرى، فإنه كلما سهل ابتعاد الإنسان عن أرضه رغب في العودة إليها. غداً يخرج فيلم "نسيان بالرم" (Oublier Palerme) لفرانشيسكو روسّي الذي يظهر إيطالياً – أميركياً، سياسياً بالغ السخف والضحالة، يعود إلى صقلية حيث يستولي عليه شعور ينتمي إلى عصر آخر. وهو لا يدري من أين تحدّر وسيموت كصقلي مضحياً بسيرته ومستقبله كأميركي. إنها إذاً، بالضبط، قصة ابن مهاجر فارق إقليمه ثم يطفح هوى الإقليم به في لحظة من اللحظات. والواقع أن الجذور استرجعته واستحوذت عليه. وبهذا المعنى، فإني لا أومن بأن العالمية من طراز القرية الكونية (Village planétaire) أو العالمية النابعة من الاتصالات، هي عالمية متماسكة. واعتقادي هو أنه يجب التفكير في الأمرين، كما يقول إدغار بيزاني، أو بعبارة أخرى، فإننا لم ننته بعد من مسألة الأرض والإقليم، وبالتالي من مسألة الدولة. 

طاولة مستديرة جرى تسجيلها

بالفرنسية يوم الثلاثاء،

13 شباط/فبراير 1990 في باريس

 

*   الأصل الفرنسي مشتق من كلمة دولة (Étatique)، وثمة من يترجمها بـ "دولتية". (المترجم)

Author biography: 

مكسيم رودنسون: مفكر ومستشرق فرنسي.

إدغار بيزاني: رئيس معهد العالم العربي، مستشار الرئيس فرنسوا ميتران.

ريجيس دوبريه: مفكر فرنسي، مستشار سابق للرئيس فرنسوا ميتران.