The First 10 Years of Egyptian-Israeli Relations: Analysis and Evaluation
Keywords: 
مصر
اسرائيل
النزاع العربي الاسرائيلي
التطبيع
Full text: 

على الرغم من أنه يمكن العودة بالعلاقات المصرية – الإسرائيلية إلى سنة 1977 (زيارة الرئيس السادات للقدس)، أو إلى سنة 1978 (توقيع اتفاق كامب ديفيد)، أو إلى سنة 1979 (عقد المعاهدة المصرية – الإسرائيلية)، فإن البداية الرسمية سوف تظل في سنة 1980، أي السنة التي شهدت إلغاء المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، وإنشاء سفارة كل من الطرفين لدى الطرف الآخر.

وبذلك، فإن عقد الثمانينات، كان العقد الأول في العلاقات السياسية الرسمية بين إسرائيل ودولة عربية. ولأن هذه العلاقات هي الأولى من نوعها، وأنها جاءت في أعقاب تطورات صاخبة غيرت وجه الأحداث في المنطقة، فضلاً عن أنها تتم بين إسرائيل وأكبر دولة عربية، فقد كان من الطبيعي أن تحظى بكمٍّ كبير من الدراسات والكتابات: الإسرائيلية، والغربية، والعربية. ولذلك، فإن إحدى مشكلات تناول هذا الموضوع هي ما يجد الباحث فيه نفسه من طوفان من التحليلات والبيانات مما يحتم فرز ما تتزايد إمكانات صدقه وصحته عما تتزايد إمكانات كذبه وزيفه، وتمييز ما هو مهم وما هو ثانوي أو أقل أهمية، والأكثر من ذلك التمميز بين ما هو سبب أو متغير مستقل وبين ما هو نتيجة أو متغير تابع، وهكذا.

في ضوء هذه الاعتبارات، فإن سعينا هنا لتحليل وتقويم الأعوام العشرة الأولى للعلاقات المصرية – الإسرائيلية سوف يتم وفق إطار للتحليل يفرق بين كل من العوامل المحددة أو الحاكمة لتلك العلافات، وبين مضمون هذه العلاقات وخصائصها، ثم وظيفة هذه العلاقات أو عائدها.

 أولاً: محددات العلاقة المصرية الإسرائيلية

 تتحدد العلاقات السياسية بين أي دولتين من حيث مداها أو عمقها أو فاعليتها، بعديد من العوامل المرتبطة بطبيعة كل من الطرفين ومصالحه، والأوضع الإقليمية والدولية المحيطة، وكذلك الوضع التاريخي الذي تتفاعل تلك العلاقة فيه. وفي هذا السياق العام، ليس من الصعب كثيراً على محلل العلاقات المصرية – الإسرائيلية أن يرصد ثلاثة مجموعات من العوامل المحددة، أو الحاكمة لتلك العلاقات منذ أول لحظة؛ فهناك أولاً المحددات المرتبطة بالوضع السياسي الأوسع الذي ولدت فيه تلك العلاقات وتطورت. وهناك ثانياً المحددات المرتبطة بطبيعة أو جوهر تلك العلاقات، كآلية للانتقال من حالة "الحرب" إلى حالة "السلام"؛ ثم هناك ثالثاً المحددات النابعة من طبيعة وأوضاع الطرفين المباشرين للعلاقة، أي مصر وإسرائيل.

 أ   المحددات المرتبطة بأوضاع

تسوية الصراع العربي الإسرائيلي

مثل أية علاقات بين دولتين، نشأت في أوضاع مشابهة، فإن العلاقات المصرية -  الإسرائيلية نشأت وتطورت كجزء لا يتجزأ من عملية أكبر وأوسع، أي: تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي وفق الأوضاع والمعطيات التي توفرت عقب زيارة السادات للقدس، وبدء عملية "السلام" المصرية – الإسرائيلية.

ويعني ذلك، بعبارة محددة، أن نشأة العلاقات المصرية – الإسرائيلية كانت نتاجاً وتعبيراً مباشراً عن عملية "السلام" المصرية – الإسرائيلية، كما أن تطور هذه العلاقات تأثر تأثراً مباشراً بمسار الصراع العربي – الإسرائيلي، ومراحل النجاح والإخفاق التي صادفتها محاولات تسويته، طوال عقد الثمانينات.

فوفقاً للبند الثالث من المادة الأولى من "معاهدة السلام بين جمهورية مصر العربية ودولة إسرائيل والموقعة في واشنطن في 26 [آذار/] مارس 1979"، فإنه "عند إتمام الانسحاب المرحلي المنصوص عليه في الملحق الأول، يقيم الطرفان علاقات طبيعية وودية بينهما طبقاً للمادة الثالثة فقرة 3." ووفقاً للمادة المذكورة فقرة 3: "يتفق الطرفان على أن العلاقات الطبيعية التي ستقام بينهما ستضمن الاعتراف الكامل، والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، وإنها المقاطعة الاقتصادية والحواجز ذات الطابع المتميز المفروضة ضد حرية انتقال الأفراد والسلع. كما يتعهد كل طرف بأن يكفل تمتع مواطني الطرف الأخر الخاضعين للاختصاص القضائي بكافة الضمانات القانونية. ويوضح البروتوكول الملحق بهذه المعاهدة (الملحق الثالث) الطريقة التي يتعهد الطرفان – بمقتضاها – بالتوصل إلى إقامة هذه العلاقات، وذلك بالتوازي مع تنفيذ الأحكام الأخرى لهذه المعاهدة."(1)  

أما البروتوكول المذكور، والمسمى "بروتوكول بشأن علاقات الطرفين"، فيتضمن بدوره ثماني مواد تنص على إنشاء كل من: العلاقات الدبلوماسية والقنصلية؛ العلاقات الاقتصادية والتجارية؛ العلاقات الثقافية؛ حرية التنقل؛ التعاون في سبيل تنمية وعلاقات حسن الجوار؛ النقل والمواصلات؛ التمتع بحقوق الإنسان؛ المياه الإقليمية.(2) 

ووفقاً للقانون رقم 66 لسنة 1980 الذي صدر في مصر في 18 شباط/ فبراير 1980، فقد ألغي القانون رقم 506 لسنة 1955، والخاصة بمقاطعة إسرائيل، وكذلك جميع القوانين المرتبطة به والقرارات والتشريعات الصادرة تنفيذاً لأي منها. كما صدر القانون رقم 26 لسنة 1980، الذي قرر في مادته الأولى "إنشاء سفارة جمهورية مصر العربية لدى حكومة دولة إسرائيل، على أن يكون مقرها مدينة تل أبيب." وفي 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 650 لسنة 1981، الذي نصت مادته الأولى على إنشاء قنصلية عامة لجمهورية مصر العربية في مدينة إيلات.(3)   

فإذا كانت هذه النشأة "التعاقدية" للعلاقات المصرية – الإسرائيلية، كجزء من معاهدة السلام بين البلدين، قد أضفت عليها طابعاً "إلزامياً بمعنى ما، إلا أنها حملت معها،  منذ ميلادها علاقتها – ربما غير المباشرة – بباقي عناصر عملية السلام، وتأثرها إيجاباً وسلباً بتطوراتها. فمن وجهة النظر المصرية المعلنة، كانت تلك العملية من شقين متوازيين: التسوية السلمية للصراع العربي – الإسرائيلي، وفي القلب منها القضية الفلسطينية من ناحية، وتحقيق السلام بين مصر وإسرائيل بوجه خاص من ناحية أخرى. والواقع أن وثيقتي كامب ديفيد: "إطار السلام في الشرق الأوسط"، و "إطار الاتفاق لمعاهدة سلام بين مصر وإسرائيل"، قد عكستا هذا التوازي النظري. غير أن معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، والخطاب المتبادل بين مصر وإسرائيل في شأن إجراءات الحكم الذاتي، اللذين وقعا بهد ذلك بستة أشهر تقريباً، أبرزا بقوة مدى ثانوية الشق الخاص بإقرار "السلام في الشرق الأوسط" بجانب المعاهدة المصرية – الإسرائيلية. ثم ما لبثت التطورات على أرض الواقع أن أنهت عملياً أي بعد "عربي" لعملية السلام بين مصر وإسرائيل، وأبرزت بكل وضوح حقيقتها كصلح مصري – إسرائيلي منفرد.

إن هذا "الشلل" الذي أصاب منذ اللحظات الأولى الشق "العربي" من عملية السلام، انعكس على العلاقات المصرية – الإسرائيلية، التي هي حجر الزاوية في السلام المصري -  الإسرائيلي، ووضع حدوداً صارمة على تطور تلك العلاقات وحصرها – في جوانب كثيرة منها، كما سنرى حالاً – في الإطار القانوني الشكلي. وفي هذا السياق، فإن كل خطوة "عدوانية" إسرائيلية إزاء الفلسطينيين، وبقية العرب، كانت تعمل أثرها السلبي، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في العلاقات المصرية – الإسرائيلية. وينطبق هذا على التعنت الإسرائيلي في مباحثات الحكم الذاتي، مثلما ينطبق على الإصرار على بناء المستعمرات، وعلى قرار الكنيست بتوحيد القدس كعاصمة لإسرائيل سنة 1980، وكذلك على ضرب المفاعل النووي العراقي في حزيران/ يونيو 1981.

وقد عملت الدولة المصرية، في ظل رئاسة السادات، على التقليل من الأثر السلبي لتلك الإجراءات في العلاقات المصرية – الإسرائيلية. وعلى سبيل المثال: فعندما أقدمت إسرائيل على تدمير المفاعل النووي العراقي أعرب السادات عن خشيته أن يكون هذا التصرف "قد تسبب في إعادة بناء الحاجز النفسي، وفتح الجروح التي تصور أنها أُغلقت إلى الأبد." ومع ذلك فقد أضاف: "علينا أن نعطي لهذه حجمها الحقيقي، علينا ألا نصور هذا الحادث كما لو كان خطاً سياسياً جديداً، وإنما هو في الحقيقة يعتبر غلطة ارتكبت، وامتحاناً لعملية السلام من جانب إسرائيل. لقد ارتكبت إسرائيل غلطة شنيعة بهذا التصرف، غلطة تشكل أكبر خطر لعملية السلام ذاتها، ولكن علينا أن نصمد، وأن نتمسك بأساس السلام."(4) 

فإذا كان الرئيس السادات قد بادر إلى عملية السلام مع إسرائيل، وساهم مباشرة في وضع الأساس "القانوني" للعلاقات المصرية – الإسرائيلية، إلا أنه لم يقدَّر له أن يعيش تطوراتها الفعلية إلا لفترة قليلة للغاية، انتهت باغتياله في تشرين الأول/ أكتوبر 1981. وبذلك، فإن خبرة العقد الأول من العلاقات المصرية – الإسرائيلية إنما ترتبط بالدرجة الأولى، بحكم الرئيس حسني مبارك منذ أواخر سنة 1981 حتى اليوم.

والواقع أن إسرائيل لم تربط في سلوكها إزاء مصر – منذ اللحظة الأولى للعلاقات بها -  بين تلك العلاقات وسلوكها إزاء العالم العربي، أو إزاء المسألة الفلسطينية. لذلك فإن "الحرص" على تلك العلاقات لم يكن قط رادعاً لسياستها العدوانية، بل – على العكس تماماً – فقد تعاملت مع السلام مع مصر باعتباره عنصر تحييد للقوة المصرية، من شأنه أن يطلق يدها أكثر في التعامل مع باقي الأطراف العربية. ولذلك يمكن القول أن التهديد الإسرائيلي اتخذ – في الثمانينات – أبعاداً إضافية: فقد تأكدت، من ناحية أولى، شمولية التهديد الإسرائيلي للعالم العربي من خلال تعقب أي مصدر للقوة القائمة أو المتوقعة على امتداد الإقليم العربي كله، بدءاً بضرب المفاعل النووي العراقي في حزيران/ يونيو 1981 إلى ضرب مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس في تشرين الأول/ أكتوبر 1985. كما اتسع نطاق تهديدات إسرائيل بشن عملية عسكرية ليشمل اليمن الشمالي والسودان. وخاضت إسرائيل وأنصارها معارك محمومة ضد بيعات السلاح الأميركية للسعودية والأردن في الكونغرس الأميركي. من ناحية ثانية، فقد بدا أن إسرائيل – بعد تحييد مصر وخروجها من دائرة الصراع المسلح – تسعى لإحكام سيطرتها على منطقة القلب العربي. ومع الإصرار على السيطرة على مرتفعات الجولان وإعلان إخضاعها للقوانين والإدارة الإسرائيلية، وكذلك إحكام السيطرة على الضفة الغربية وغزة من خلال الاستمرار في الاستيطان، قامت إسرائيل في حزيران/ يونيو 1982 بغزوها للبنان الذي أشعل الحرب العربية – الإسرائيلية الرابعة، مما مكّن إسرائيل من تحقيق هدفين: الحد بشدة من فعالية القوة العسكرية الفلسطينية غير النظامية، التي كان المطاف قد انتهى بها إلى التركيز في لبنان؛ وتثبيت الوجود الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، وإحكام السيطرة على مياه الليطاني.

في مواجهة هذه التطورات، فإن السياسة المصرية منذ تولي الرئيس مبارك السلطة لم تهتم بتقليل آثارها السلبية في العلاقات المصرية – الإسرائيلية، بل اتجهت – على العكس – إلى الإدارنة المستمرة للسلوكيات الإسرائيلية، واعتبارها مبرراً قوياً للحد من العلاقات بإسرائيل. وكان دائماً على رأس تلك السلوكيات ما تعلق بحل المشكلة الفلسكينية، بما في ذلك الإصرار على بناء المستعمرات في الضفة الغربية وقطاع غزة، والرؤية الضيقة للحكم الذاتي، ورفض الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، فضلاً عن الرفض المطلق للتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية. وفغي إطار التوجه العربي للسياسة الخارجية المصرية، في عهد الرئيس مبارك، والحرص على الإعادة التدريجية للجسور المصرية - العربية، يمكن القول إن السلوك الإسرائيلي المعرقل للتوصل إلى الحد الأدنى الممكن قبوله لحل المشكلة الفلسطينية وللصراع العربي – الإسرائيلي من ناحية، وضرورات دعم العلاقات المصرية – العربية من ناحية أخرى، كانت محددات أساسية للعلاقات المصرية – الإسرائيلية طوال الثمانينات، وأن اتجاه تأثير تلك المحددات كان نحو تقليص تلك العلاقات كمياً ونوعياً وليس توسيعها.

 ب المحددات المرتبطة بآلية الانتقال

من حالة الحرب إلى حالة السلام (التطبيع)

يقصد بذلك أن اختلاف الرؤية المصرية عن الرؤية الإسرائيلية لحجم وطبيعة العلاقات المطلوب إقامتها، كان بذاته مصدراً لتحديد العلاقات بين البلدين وتكييفها. وإذا كان المسلم به أن تنتقل هذه العلاقات من حالة "الحرب" إلى حالة السلام، فإن الاصطلاح الذي ساد للتعبير عن ذلك هو اصطلاح "التطبيع" (Normalization)، أي العملية التي يتم بمقتضاها الانتقال من علاقات عدائية وصراعية إلى علاقات "طبيعية" أو "عادية". غير أن الاتفاق على اصطلاح "التطبيع" لم يعن، في النهاية، اتفاقاً على مضمونه. ويعود بعض الباحثين الإسرائيليين باصطلاح التطبيع في الفكر السياسي الإسرائيلي إلى خطاب لآبا إيبن أمام الأمم المتحدة سنة 1968، غير أن استخدامه شاع في مرحلة متأخرة للمفاوضات المصرية – الإسرائيلية، التي سبقت توقيع اتفاق كامب ديفيد.(5)   ويمكن اعتبار المفهوم الذي يقدمه شمعون شمير، السفير الحالي لإسرائيل في القاهرة، نموذجاً واضحاً لمفهوم التطبيع لدى النخبة السياسة الإسرائيلية. فطبقاً لهذا النموذج، يعتبر مفهوم التطبيع مفهوماً فريداً في العلاقات الدولية، "وهو قد نبع لدى الإسرائيليين من الوعي بأن نزاعهم مع العرب، على غير ما هو معتاد في الصراعات الدولية، إنما كان يدور بشأن حق دولتهم في الوجود. وعليه، فقد توقعوا أن يكون بين ما يحصلون عليه من الجانب العربي في أية معاهدة للسلام، أشياء غير ملموسة أو غير واضحة، مثل 'الاعتراف' أو 'القبول'. ولمّا كان ما يقدمه الإسرائيليون هو تنازلات إقليمية محددة تنطوي على مخاطر أمنية، فقد أرادوا التيقن من أنهم سوف يحصلون على المقابل. وبالتالي بدا التطبيع تجسيداً محدداً لاستعداد المصريين لتناول العلاقات، ومؤشراً على إخلاص المصريين في استعدادهم لفتح صفحة جديدة في علاقتهم بإسرائيل، وتعبيراً عن الالتزام الذي يصعب الرجوع عنه."(6)   ووفقاً لهذا المفهون، فإن التعبيرات الرمزية والشفوية للاتجاهات المصرية، بدت ذات أهمية كبيرة للإسرائيليين، كما توقعوا أن تؤدي عملية التطبيع إلى إزالة الدعايات "المعادية" وعمليات التلقين الأيديولوجي التي أجّجت الصراع، وأن تثبت "جدية" السلطات المصرية في تعليم الرأي العام قبول السلام مع إسرائيل. كما كان المأمول أن يؤدي البدء بهذه السياسات، وخصوصاً التبادل العلني للمعلومات، إلى تغيير الصور والاتجاهات المتبادلة. بطريقة تقلل من إمكانات العودة إلى حالة الحرب. وفوق ذلك، فقد كان هناك توقع أن تؤدي اتفاقيات التطبيع إلى إيجاد شبكة ممتدة من التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تساهم في إضفاء طابع "إنساني" على العلاقات، وتقلل إمكان العودة إلى العلاقات العدائية.(7)   غير أن مفهوم التطبيع عند الجانب المصري ظل يحمل مضموناً مختلفاً. وكما عبر عن ذلك منذ فترة طويلة بطرس غالي، وزير الدولة المصري للشؤون الخارجية، فإنه "وفقاً لما نصت عليه معاهدة السلام، فإن العلاقات بين البلدين هي علاقات طبيعية. وكلمة طبيعية تعني تماماً ما نقول، فهي لا توحي بأي شكل من الأشكال بوجود علاقات خاصة أو تحالف أو تعاون استراتيجي بين الدولتين. فمثل هذا التعاون يتصور قيامه يوم أن يتحقق السلام العادل والشامل، ولكن ليس في معاهدة السلام ما يلزم مصر بأي شيء يتجاوز العلاقات الطبيعية والعادية، تحكمها الاعتبارات والمصالح التي تحكم العلاقات العادية بين أي دولتين."(8)    فإذا كانت المعاهدة المصرية – الإسرائيلية قد تضمنت ليس فقط الاتفاق على إقامة "علاقات طبيعية" تشمل علاقات دبلوماسية واقتصادية وثقافية، وكذلك ضمانات لحرية الأشخاص والسلع، وإنما أيضاً بروتوكولاً مرفقاً يبين الوسائل التي ستستخدم لتنفيذ تلك العلاقات، إلا أنه بدا واضحاً بسرعة أن السلطات المصرية لم تنظر إلى كل تلك الوسائل باعتبارها أمراً ملزماً بقدر ما هي مشاريع للعمل مقبولة، من حيث المبدأ، ولكن كيفية تنفيذها ودرجة إلحاحها ترتبطان بتطور أوضاع العلاقات بصورة عامة.

والواقع، أن هذه الرؤية المصرية للتطبيع تعكس مفهوماً مصرياً للسلام يختلف عنه لدى إسرائيل. فالسلام – من وجهة النظر الإسرائيلية، واتساقاً مع ما سبقت الإشارة إليه – مفهوم مثقل بمعان أيديولوجية ورمزية، ومحقق للحلم الصهيوني، والتطبيع – بالتالي – إضافة لجسم من المنافع والتفاعلات المادية الملموسة إليه. لكن الصورة تختلف كثيراً عند الجانب المصري؛ فالسلام لدى النخبة السياسية المصرية، التي وافقت السادات على توجهاته وسارت معه في تنفيذها، إنما هو استجابة براغماتية لأوضاع توازن القزى الاستراتيجي بين العرب (ومصر في المقدمة) وبين إسرائيل بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر، ثم أنه بعد ذلك نتيجة للعجز عن تحمل أعباء حرب أخرى، فضلاً عن أنه شرط لتحقيق الإصلاح الاقتصادي، وتحويل الموارد نحو التنمية. وفي هذا النطاق، فإن معناه وضع حد للأعمال العدائية المسلحة، وإقامة واستمرارية علاقات سلمية بدولة مجاورة. وفي هذا السياق، وكما جاء على لسان مبارك (ومن قبله السادات)، فإن إسرائيل لا تتمتع بوضع متميز في مصر، وسفارتها واحدة من 120 سفارة في القاهرة لا أكثر ولا أقل. بل أن مصر أكدت في سنة 1988 شرعية سريان معاهدة الدفاع العربي المشترك، وأعلنت أن المعاهدة المصرية – الإسرائيلية ليس لها أولوية على التزامات مصر العربية الأخرى.(9)  

 ج المحددات المرتبطة بالمواقف الداخلية لطرفي العلاقة:

قامت الأوضاع الداخلية لكل من مصر وإسرائيل بدور أساسي في تكييف العلاقة بالطرف الآخر. فمن ناحية إسرائيل، استمرت المواجهة بين مدرسة حزب العمل بقيادة شمعون بيرس وبين المدرسة المقابلة لكتلة الليكود بقيادة مناحم بيغن ثم يتسحاق شمير. وعلى الرغم من أن الاستقطاب بين هاتين المدرستين يعود إلى أصول الحركة الصهيونية منذ بداية القرن، فإنه اشتد منذ سنة 1967 عندما أصبح "مستقبل الأرض المحتلة" القضية الأساسية في إسرائيل. غير أن هذا الخلاف ظل – حتى سنة 1977 – خلافاً نظرياً في الأساس بسبب سيطرة حزب العمل على المسرح الساسي تماماً. أما منذ حزيران/ يونيو 1977 وتولي الليكود للحكم، فقد تحول الجدال الأيديولوجي النظري إلى صراع سياسي عملي. ونظراً إلى أن الليكود لم يحل بصورة مطلقة محل حزب العمل، وإنما تغلب عليه بأغلبية ضئيلة (1977-1984) أو كان متعاطفاً معه وأشركه في الحكم (1984-1988)، فقد حد هذا الوضع كثيراً من قدرة الليكود على اتخاذ القرارات في قضايا الحرب والسلام، وجعل المناقشات التي تدور بين المعسكرين تنعكس انعكاساً مباشراً على المسلك العملي الذي تتبعه إسرائيل. ولأن تولي حكومة بيغن للسلطة كان قبل خمسة أشهر فقط من رحلة السادات للقدس، فإن هذا الجدال بين الجانبين حكم بقدوة موقف إسرائيل في العلاقات بمصر طوال عقدها الأول. فبالنسبة إلى مدرسة الليكود – التي كان مناحم بيغن أبرز المعبرين عنها – "فإن الرسالة التاريخية لهذا الجيل هي المحافظة على سلامة أراضي إسرائيل الكبرى، من أجل الشعب اليهودي، وأن السلام مع مصر لا يجوز أن يتعارض مع هذا الهدف. وقد استلزم تحقيق هذا السلام تقديم تنازلات كبيرة، لكن الليكود لم يكن ليقبله لو أنه فرض أية قيود على إقامة المستعمرات أو اعترف بحقوق وطنية جماعية للسكان العرب في الضفة الغربية وغزة، أو حال دون المطالبة فيما بعد بضم هذه الأراضي إلى إسرائيل."(10)   ومن وجهة النظر تلك، فإن السلام مع مصر كان إنجازاً عظيماً "لأنه أزال خطر الحرب من إحدى الجبهات، وفصل مصر عن المعسكر العربي المتمسك بالحرب، وأطلق يد إسرائيل للتركيز على إقامة إسرائيل الكبرى. وكان أيضاً خطوة مهمة في الطريق إلى السلام، وهو الطريق الذي ستستمر إسرائيل في السير فيه ما دام لا يشكل خطراً يهدد سيطرتها على الأراضي برمتها. ولن يكون اتفاق سيناء نموذجاً لاتفاقيات تعقد من الدول العربية الأخرى، على قاعدة أن السعي للسلام مستقبلاً سيتم على أساس يختلف عن مبدأ 'الأرض في مقابل السلام'."(11) 

أما مدرسة حزب العمل، والتي يمثلها بقوة شمعون بيرس، فترى أن الهدف الذي له الأولوية هو "رؤية إسرائيل اليهودية والديمقراطية والقوية والمتصالحة مع جيرانها (العرب) والمقبولة لدى العالم المستنير. ومن وجهة النظر تلك، فإن لاتفاق كامب ديفيد أهميته في حد ذاته، وكذلك بوصفه خطوة أولى في عملية السلام." ومع إصرار هذه المدرسة على مقولة الحقوق التاريخية للشعب اليهودي في أراضيه العريقة، إلا أنها ترى أيضاً أن لا بد لإسرائيل من تقديم حلول وسط بشأن الأراضي، والتخلي عن المناطق التي يقطنها العرب بأعداد كبيرة. ويرى مؤيدو هذه المدرسة "أن عدم الوصول إلى تسوية أكثر شمولاً ربما يؤدي إلى انهيار على الجبهة الشرقية، بل قد يؤدي أيضاً إلى إضعاف السلام القائم مع مصر."(12)

ومع عدم التورط في المبالغة في تقدير عمق الاختلاف العملي بين المدرستين، فسوف يظل من الصحيح أن السلوك الإسرائيلي إزاء مصر كان محصلة لوجهتي النظر معاً. فمن وجهة نظر الليكود، لم يكن هناك انزعاج من الاحتكاكات التي وقعت مع مصر، ما دامت مصر بعيدة عن العرب المتشددين. أما حزب العمل، فقد كان أكثر حرصاً على تطور العلاقات، ومع ذلك فقد ساد الاعتقاد أن "العمليات التي تخدم 'أمن إسرائيل'، مثل العمليات العسكرية الانتقامية والوقائية ضد الدول العربية الأخرى، وإنشاء المستعمرات في المناطق الأمنية، وتعزيز السيطرة في الجولان، يجب أن يكون لها الأولوية على مراعاة حساسيات المصريين."(13)  

أما على الجانب المصري، فلا شك في أن السياسة المصرية إزاء إسرائيل كانت محصلة للتوجه الرسمي لاحترام اتفاقية السلام وتنفيذها من ناحية، وللتوجه الجماهيري المعارض لعمليات التطبيع، وخصوصاً بين قطاعات مهمة من المثقفين من ناحية أخرى. وكما سبقت الإشارة، فإن المبرر الأساسي للنخبة الحاكمة المصرية للتوجه نحو السلام إنما ارتبط برؤيتها للتوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، ولجدوى الحرب معها بالتالي، فضلاً عن المشكلات الاقتصادية الهائلة. وصاحب هذا التوجه الدعوة التي سادت أواخر السبعينات والتي تشكك في عروبة مصر وجدوى علاقاتها العربية. وفي مواجهة تلك التوجهات، فإن القلة التي تنتمي إلى القوى الإسلامية واليسارية والناصرية، والتي عارضت منذ اللحظة الأولى زيارة السادات لإسرائيل، فضلاً عن الاتفاق وتطبيع العلاقات بها، ما لبثت أن اتسعت شيئاً فشيئاً مع تطور العلاقات، وتداعيات السياسية الإسرائيلية في المنطقة. وفي حين سجل حزب العمل الاشتراكي (أكبر أحزاب المعارضة  رسمياً في حينه) عشرة تحفظات إزاء المعاهدة المصرية – الإسرائيلية، على الرغم من تصويته إلى جانبها في مجلس الشعب، إلا أنه عاد – بمناسبة الذكرى الثانية لتوقيعها – فسحب تأييده لها. وفضلاً عن ذلك، فإن استمرار المشكلات الاقتصادية، بل تصاعدها، وخفوت الآمال في الرفاهية الموعودة مع السلام، ساهما في خفض الحماسة لأية علاقات وثيقة بالإسرائيليين.

وعلى الرغم من أن غياب السادات، وتولي الرئيس مبارك للسلطة أواخر سنة 1981، لم يحملا معهما تغيراً في الموقف المصري المبدئي من العلاقات بإسرائيل، فقد حدثت تغييرات ملحوظة في الحجوم النسبية للقوى السياسية، وفي موقع الأولوية الذي كانت تحتله العلاقات المصرية – الإسرائيلية في الوعي العام. وبصدد هذه المشاعر والتعبير عنها، على وجه الخصوص، فقد اجتذبت جماعات الإسلام السياسي أعداداً أكبر من الأنصار، وتعاظم بالتالي دورها في الحملة المعادية لإسرائيل.(14)   ويرصد المراقبون للعلاقات المصرية – الإسرائيلية، في الثمانينات، ثلاث لحظات حرجة في تاريخ تلك العلاقات: غزو لبنان سنة 1982، وقصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس سنة 1985، ثم انتفاضة الأرض المحتلة منذ أواخر سنة 1987. وفي كل من تلك اللحظات، تفجرت المشاعر الشعبية المعادية لإسرائيل. ومع ذلك، يظل هناك مكان مهم للعداء لإسرائيل في توجهات القوى المعارضة الرئيسية في مصر بحكم مصالحها وأفكارها الأصلية. ويسري هذا بدرجات مختلفة من الوضوح والحسم على كل من حزب العمل الاشتراكي، وحزب الوفد الجديد، وحزب التجمع الوطني التقدمي، والإخوان المسلمين وغيرهم من الحركات الإسلامية، ثم الناصريين. وكما سبق أن ذكرنا، فإن حزب العمل الاشتراكي سحب سنة 1981 موافقته المشروطة الأولى على المعاهدة المصرية – الإسرائيلية، ثم صعّد بقوة من حملته ضد العلاقات بإسرائيل، وخصوصاً بعد تحالفه مع الإخوان. وكما يقول برنامج التحالف، فإن الصهيونية هي أخطر أعدائنا.(15) 

واعتبر برنامج الوفد أن اتفاقية كامب ديفيد "أصبحت منعدمة من أساسها وغير ذات موضوع." أما المعاهدة المصرية، وعلى الرغم من عدم المطالبة بإلغائها، فقد أحدل البرنامج مع مصر من التمسك بها.(16) أما حزب التجمع، فقد اتخذ منذ اللحظات الأولى أشد المواقف عنفاً ضد زيارة السادات لإسرائيل، وكامب ديفيد، والمعاهدة مع إسرائيل، استناداً إلى أيديولوجيته الاشتراكية المعادية للولايات المتحدة وللصهيونية، ودفاعاً عن الدور القيادي لمصر في العالم الثالث وحركة عدم الانحياز. أما حركات الإسلام السياسي، فإن رفضها العنيف للمعاهدة وللتطبيع رافقه التأكيد الصارم أن الوسيلة الوحيدة للتعامل مع اليهود هي الحرب والقتال، وفق ما أجازه اللّه. وبالمثل، فقد دأب الناصريون بلا هوادة على معارضة المعاهدة والعلاقات بإسرائيل، استناداً إلى البعد القومي العربي أيديولوجيتهم السياسية.

 ثانياً: مضمون العلاقات المصرية الإسرائيلية

 ساهمت المحددات السابقة، أي تطورات الصراع العربي – الإسرائيلي ومحاولات تسويته، والتباين في مفهوم التطبيع بين مصر وإسرائيل، والأوضاع الداخلية في كل من مصر وإسرائيل، في صوغ العلاقات المصرية – الإسرائيلية. وليس من الصعب على المراقب لتلك العلاقات، لدى محاولة تحليل مضمونها أو محتواها، أن يفصل بوضوح بين الشكل الرسمي أو القانون لها من ناحية، وبين المضمون الفعلي لها من ناحية أخرى.

 أ الإطار الرسمي للعلاقات:

بين توقيع المعاهدة المصرية – الإسرائيلية في آذار/ مارس 1979، وإتمام الانسحاب الإسرائيلي من سيناء في حزيران/ يونيو 1982، وُقِّع بين الطرفين ما يقرب من خمسين اتفاقية للتعاون في المجالات كافة: من النقل الجوي والزراعة والمواصلات والتجارة والشرطة إلى الثقافة والسياحة. وتشكل هذه الاتفاقيات، فضلاً عن اتفاقية السلام نفسها، الإطار الرسمي – القانوني للعلاقات المصرية – الإسرائيلية، الذي ساد طوال الثمانينات، ولا يزال يحكم وينظم تلك العلاقات حتى اللحظة الراهنة.

فوفقاً لمعاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية: "تنتهي حالة الحرب بين الطرفين ويقام السلام بينهما"؛ و"تسحب إسرائيل كافة قواتها المسلحة من سيناء إلى ما وراء الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تحت الانتداب"؛ و"يطبق الطرفان فيما بينهما أحكام ميثاق الأمم المتحدة ومبادىء القانون الدولي التي تحكم العلاقات بين الدول في وقت السلم"؛ و"تقام ترتيبات أمن متفق عليها، بما في ذلك مناطق محدودة التسليح في الأراضي المصرية والإسرائيلية وقوات أمم متحدة ومراقبون من الأمم المتحدة." وتتمتع السفن الإسرائيلية والشحنات المتجهة من إسرائيل وإليها بحق المرور الحر في قناة السويس ومداخلها. وأُلحق بالمعاهدة البروتوكول الذي سبقت الإشارة إليه والذي نظم إقامة العلاقات الدبلوماسية والقنصلية بين البلدين، فضلاً عن غيرها من العلاقات. وتنفيذاً للمعاهدة وللبروتوكول الملحق، صدرت في مصر عدة قوانين وقرارات تنفيذية في مقدمتها: قانون رقم 66 لسنة 1980 بإنهاء المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، والقرارات الخاصة بإنشاء سفارة مصر في تل أبيب وقنصليتها العامة في إيلات، والقرارات الخاصة بإنشاء وتحديد اختصاصات اللجنة العامة لتطبيع العلاقات المصرية – الإسرائيلية، وترتيب الانسحاب النهائي من سيناء. ويضاف إلى هذه الوثائق محاضر اجتماعات اللجنة العامة (المصرية – الإسرائيلية) لتطبيع العلاقات، وكذلك اللجنة العليا (المشتركة) لترتيبات الانسحاب النهائي من سيناء.(17)  

أما العلاقات التجارية، فينظمها "اتفاق التجارة" الذي وقع في القاهرة بتاريخ 8 أيار/ مايو 1980، والبروتوكولات التنفيذية له. ووفقاً للاتفاق المذكور، يتم تبادل السلع بين الدولتين طبقاً للقوانين السائدة فيهما، ويمنح كل من الطرفين الطرف الآخر معاملة الدولة الأولى برعاية وفقاً لشروط الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة. وغطت الاتفاقية، والبروتوكولان الملحقان، كل التفاصيل مثل إجراءات تنشيط وتسهيل التجارة العامة، والجمارك والإعلانات التجارية والمصارف، والتجارة مع القطاع العام المصري، والمناطق الحرة، وتسهيل حركة النقل بين البلدين.(18)  

أما العلاقات الثقافية، فقد نظمها الاتفاق الثقافي الذي عقد بين الدولتين في 8 أيار/ مايو 1980، والبرنامج التنفيذي للاتفاق الذي وقع بعد ذلك في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1981، وبروتوكول التعاون بين اتحاد الإذاعة والتليفزيون في مصر وهيئة الإذاعة والتليفزيون في إسرائيل، الموقع في القاهرة بتاريخ 16 شباط/ فبراير 1982، والبروتوكول الخاص بإنشاء المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة الذي وقع في القاهرة بتاريخ 25 شباط/ فبراير 1982. وقد نص الاتفاق الثقافي على أن يعمل الطرفان "على تشجيع التعاون في ميادين الثقافة والفن والعلوم بما يتفق مع قوانين ونظم كل منهما"، و"تشجيع الاتصالات وتبادل زيارات الخبراء في المجالات الثقافية والنفية والتقنية والعلمية والطبية"، وكذلك تشجيع "ما يحقق التعرف على حضارة وثقافة الطرف الآخر." وضم البرنامج التنفيذي للاتفاق 39 مادة غطت مجالات التعليم والبحث العلمي والثقافة (بما في ذلك الفنون التشكيلية والموسيقى والعروض المسرحية والكتب) والإذاعة والتلفزة والشباب والرياضة والآثار والصحة. ونص الاتفاق بين هيئتي الإذاعة والتليفزيون على تبادل البرامج التي تعكس ظواهر الحياة الثقافية والاجتماعية، "على ألا تتم أية تعديلات على البرامج المتبادلة بدون الاتفاق المتبادل مسبقاًَ، وكذلك تبادل المعلومات والبرامج الإخبارية." ووصف البروتوكول الخاص بإنشاء المركز الأكاديني الإسرائيلي في القاهرة ذلك المركز بأنه "قناة للاتصالات بين المؤسسات التعليمية والعلمية المصرية والإسرائيلية، طبقاً للقوانين المصرية"، وأن هدفه "تنمية الدراسة والبحث في المجالات التعليمية والعلمية والثقافية والتكنيكية والأثرية والتاريخية"، وذلك من خلال أنشطة مثل: استضافة الباحثين الإسرائيليين في مصر (على ألا يزيدوا على 15 باحثاً)، وتقديم الخدمات للباحثين المصريين الراغبين في الذهاب لإسرائيل، وعقد الندوات، وإنشاء مكتبة للمراجع. كما أن للمركز أن يقدم برامج زمالة للباحثين الإسرائيليين في موضوعات معينة، وذلك بإشراف وزارتي التعليم العالمي والثقافة في مصر وبموافقتهما.(19) 

وفي ميدان السياحة، وقعت مذكرتا تفاهم في كل من القاهرة (10 آذار/ مارس 1980) وإسرائيل (17 كانون الأول/ ديسمبر 1981)، وكذلك محاضر متفق عليها في إسرائيل (17 أيلول/ سبتمبر 1981) والقاهرة (27 تشرين الأول/ أكتوبر 1981، و5 نيسان/ أبريل 1982). وتضمنت مذكرة آذار/مارس 1980 اتفاق الطرفين على ضمان "سهولة وكفاءة سير العمليات السياحية بهدف النهوض بالسياحة فيما بين البلدين." وأكدت أن "النهوض بالسياحة الدولية لكلا البلدين هدف ينبغي تشجيع كافة المبادرات نحوه." ونظمت مذكرة كانون الأول/ ديسمبر 1981 حركة السياحة بين البلدين، والتعاون بينهما في المنظمات السياحية الدولية، والتعاون الفني بين الحكومتين في مجال تخطيط السياحة وتنميتها، وتنظيم العلاقة بين جميع الجهات العاملة بالسياحة في مصر وإسرائيل، وتنظيم خدمات "المعديات" بين ميناءي أسدود وحيفا وميناء بور سعيد، وتنظيم السياحة إلى المنتجعات الصحية، ومشكلات صرف العملة للمسافرين والسياح. وعالجت المحاضر المتفق عليها قضايا تفصيلية عديدة، مثل: توفير حرية الحركة للسياح المصريين والإسرائيليين بين الدولتين، والتعاون من أجل النهوض بالمشاريع المشتركة في مجال السياحة من البلاد الأخرى وتبادل المعلومات بين وزارتي السياحة، واستمرار تشغيل المرافق والمنشآت السياحية في سيناء، وترتيبات عبور السيارات السياحية الحدود، وتبادل التمثل السياحي من خلال مكاتب سياحية رسمية ملحقة بسفارة كل من الدولتين لدى الأخرى، وسائل تشجيع أنشطة الترويج السياحي، وتنظيم أسابيع سياحية متبادلة، وتدابير أمن السياحة.(20) 

وفي 24 آذار/مارس 1980، وقعت في تل أبيب مذكرة للتفاهم بين البلدين، وضعت الأساس للتعاون في المجال الزراعي. وحددت هذه المذكرة طرائق التعاون المقترحة في: المشاريع المشتركة؛ الأنشطة المشتركة في المشاريع العملية؛ البرامج المشتركة للبحوث التطبيقية؛ نشر المعرفة ونقلها؛ برامج التبادل ومنح التدريب. وحدد ملحق لتلك المذكرة المجالات المقترحة للتعاون في التنمية الزراعية بأنها: تطوير محاصيل الحقول والزهور، والإنتاج الحيواني، وصيد الأسماك والمزارع السمكية، والخدمات البيطرية، وحماية النباتات، وأنشطة ما بعد الحصاد، والتصنيع، ومؤسسات الإنتاج والتسويق والتخطيط الزراعي، والتنمية الزراعية المتكاملة، وأساليب التوسع الزراعي، ونقل التكنولوجيا، وبرامج البحوث المشتركة.(21) 

وتم تنظيم النقل الجوي بين البلدين بموجب الاتفاقية التي وقعت في القاهرة بتاريخ 8 أيار/ مايو 1980 بين البلدين، باعتبارهما طرفين في اتفاقية الطيران المدني الدولي واتفاقية مرور الخطوط الدولية الجوية الموقعة في شيكاغو سنة 1944. وحددت اتفاقية حقوق النقل المتبادلة، بما فيها الطيران عبر إقليم الطرف الآخر من دون الهبوط فيه، والهبوط في الإقليم الآخر للأغراض غير التجارية، والهبوط بغرض إنزال وأخذ حركة دولية من ركاب وبضائع وبريدـ، من الطرف الآخر وإليه. ونظمت الاتفاقية تحديد مؤسسات النقل في الدولتين، والتي يحق لها تشغيل الخطوط المتفق عليها، ومسائل الإعفاء من الجمارك والرسوم الأخرى، والشهادات الرسمية للطيران، وأحكام الحمولة، وحل المنازعات... إلخ. وقد رافق هذه الاتفاقية وتلاها توقيع عدد من مذكرات التفاهم التي تناولت كل التفاصيل العملية بشأن تشغيل خطوط الطيران مثل: الشركات المختصة، وعدد الرحلات، وأنواع الطائرات، وأجور السفر، واسعار الشحن، ومسارات الطيران، وخدمات المرور الجوي، والأرصاد الجوية.(22) 

أما في مجال النقل والمواصلات البرية والبحرية، فقد وقع عدد من مذكرات التفاهم والمحاضر المتفق عليها بين سنتي 1980 و 1982. وبمقتضى مذكرة تفاهم وقعت في إسرائيل بتاريخ 30 آذار/مارس 1980، تم تنظيم النقاط الأساسية التي تضمن "تسهيل النقل البحري وكافلة حرية الأشخاص والمركبات"، وفي مقدمة هذه النقاط: تنظيم دخول الأفراد من كلا الجنسيتين، ودخول سيارات الركاب الخاصة، وتنظيم وثائق السفر. ونظمت مذكرات التفاهم الأخرى، وكذلك المحاضر المتفق عليها، حركة الشاحنات بين البلدين، ومنافذ السفر، وطرق المرور، وتأشيرات الدخول والرسوم والجمارك، ومكافحة التهريب... إلخ.(23) 

ونظم عدد من مذكرات التفاهم ومحاضر الاجتماعات المتفق عليها جميع نواحي الاتصالات السلكية واللاسلكية بين البلدين، وخدمات البريد، وكذلك تنسيق ترددات الإرسال الإذاعي والتلفزي. وحددت مذكرة وقعت في كانون الأول/ديسمبر 1981، طرق الاتصال ومحطاتها في سيناء، وبيع المنشآت الاتصالية الإسرائيلية في سيناء إلى مصر، بما في ذلك كافة التفاصيل الفنية الدقيقة.(24)  

 ب مسار العلاقات الفعلي:

ليس هنا من شك في أن السمة الأساسية، التي نظر الباحث في العلاقات المصرية -  الإسرائيلية في عقدها الأول، هي التناقض الحاد بين شمول الإطار القانون والرسمي الذي وضع لتلك العلاقات، بل الذي كان هناك حرص وإلحاح على إنجازه، ليشمل النواحي كافة تقريباً، وبين ضيق حجم ما تحقق فعلياً على أرض الواقع. ومع أن الباحث لن يعدم عديداً من التفاصيل الصغيرة لمبادرات واتصالات هنا وهناك، فإن المحصلة النهائية للعلاقات تظل محدودة ومحصورة في ميادين معينة لا تتعداها على أي نحو ملموس. وقد لخص شمعون شمير تلك المحصلة النهائية في عبارة واحدة، بقوله: إن النقاط الإيجابية الرئيسية لعملية التطبيع حتى الآن هي افتتاح السفارتين، والمكاتب القنصلية، وتبادل الزيارات من جانب كبار الساسة والمسؤولين، وبيع النفط المصري لإسرائيل، والتجارة بالمنتوجات النفطية، وحجم متواضع للتجارة العامة (معظمها بالسلع الزراعية)، واستخدام السفن الإسرائيلية لقناة السويس والموانىء المصرية، ورحلات منتظمة للطيران التجاري، وحجم كبير للسياحة الإسرائيلية في مصر، والاتصالات السلكية واللاسلكية، ونشاط المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة."(25)

وليس هناك خلاف تقريباً في أن أفضل فترات الانتعاش في العلاقات كانت الفترة المبكرة بين توقيع الاتفاقيات المختلفة، وخصوصاً قرب الانتهاء من الانسحاب من سيناء، ولأسابيع قليلة بعده، حتى الغزة الإسرائيلي للبنان في حزيران/ يونيو 1982. ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم، ساد مستوى متدن من العلاقات بصورة ثابتة تقريباً، وباستثناءات فردية محدودة.

وبصورة عامة، فقد شهدت الممارسة في مجال العلاقات الدبلوماسية تبادل التمثل الدبلوماسي والقنصلي، وعقد اثنتي عشرة قمة مصرية – إسرائيلية، بدءاً بزيارة السادات في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977 وانتهاء بلقاء بيرس – مبارك في الاسكندية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1986. وتمت – على المستويات التالية – زيارات حزبية وبرلمانية.(26)   أما علة الصعيد التجاري، فكان النفط أكبر البنود في التجارة المصرية – الإسرائيلية. وطوال العقد الأول للعلاقات، استوردت إسرائيل من مصر نفطاً خاماً في حدود ما قيمته 500 مليون دولار سنوياً (فضلاً عن شراء كميات كبيرة من النفط المصري أيضاً في سوق البضاعة الحاضرة)، وصدرت إلى مصر منتوجات نفطية مكررة في حدود ما قيمته 60 مليون دولار سنوياً. وفي السنوات الأخيرة، انخفضت هذه الأرقام بشدة نتيجة انفخاض أسعار النفط العالمية. وفيما عدا النفط، كان حجم التجارة بين البلدين ضئيلاً جداً. ومع أن صادرات إسرائيل إلى مصر في سنتي 1981 و1982 كانت في حدود ما قيمته 15-17 مليون دولار، إلا أنها انخفضت عن ذلك واستقرت في حدود ما قيمته 4 – 7 ملايين دولار سنوياً. أما صادرات مصر إلى إسرائيل فكانت قيمتها أقل من ذلك.

وفيما عدا البترول، فإن أهم الأرقام يتعلق بالسياحة أو – على وجه التحديد -  بالسياحة الإسرائيلية إلى مصر. وقد بلغ متوسط عدد السياح الإسرائيليين سنوياً، في الفترة محل الدراسة، 35 ألف سائح تقريباً. لكن سنة 1987 شهدت تضاعف هذا الرقم تقريباً. وفي الفترة نفسها، عبر الحدود من إسرائيل إلى مصر نحو 550 ألف سائح يحملون جوازات من الدول الغربية (وتضاعف عددهم سنة 1987 أيضاً). وكذلك، عبر الحدود من إسرائيل إلى مصر ما متوسطه سنوياً 60 ألف فلسطيني من الضفة الغربية وغزة. وفي سنة 1987، احتلت إسرائيل مع الضفة الغربية وغزة المركز الرابع في عدد السياح إلى مصر. أما السياحة المصرية إلى إسرائيل – في المقابل – فلم يتعد متوسطها السنوي طوال فترة الدراسة 2000 – 3000 سائح.(27) 

وقد كان التعامل في الميدان الزراعي مرشحاً منذ البداية، من جانب إسرائيل، ليؤدي دوراً مهماً في العلاقات بين البلدين. ووضعت الاتفاقية الزراعية الطموحة، السابق الإشارة إليها، وتم الاتفاق مبكراً على عدد من الإجراءات التنفيذية للتعاون على مستوى ثنائي (مصري – إسرائيلي)، ومستوى ثلاثي (مصري – إسرائيلي – أميركي). وفي هذا السياق، تم تأسيس مشروع "الجميزة" الذي شمل نشاطات للري والميكنة الزراعية والتدريب المحصولي ونقل التكنولوجيا، وشاركت هولندا فيه. كما اتفق على مشروع بحثي (مصري – إسرائيلي – أميركي) لتطوير المناطق القاحلة، وآخر لنقل التكنولوجيا. وأُسست حلقة عمل لبحثو التربة والمياه، وتم تبادل الخبراء في مجال حماية النباتات، وبرنامج للمبيدات الحشرية، وزودت مصر ببعض اللقاحات والمعدات، فضلاً عن تقديم مساعدات تدريبية وكذلك مساعدات فنية لمزرعة في قرية ميت أبو الكوم.(28)  

وعلى الرغم من الدفعة التي اتسم التطبيع بها في المجال الثقافي في البداية، مثل تبادل مجموعات من الشباب، وتبادل فرق موسيقية ومعارض فنية، وتبادل برامج تلفزية، ومشاريع مشتركة للبحث العلمي، ومراجعة الكتب الدراسية لاستبعاد العبارات المعادية، فإن تلك الدفعة  سرعان ما توقفت فعلياً منذ حزيران/ يونيو 1982، وإنْ ظلت هناك مبادرات فردية متناثرة من الجانبين،(29)   لم ترق قط لخلق "حركة" لتفاعل ثقافي بأي معنى.

 ثالثاً: خصائص العلاقات المصرية الإسرائيلية وآثارها

 إن تجربة عشرة أعوام من العلاقات المصرية – الإسرائيلية توفر أساساً موضوعياً سليماً، يمكن – بناء عليه – اختبار كثير من الأحكام والافتراضات التي طرحت لتقدير تأثير تلك العلاقات والعمق الذي يمكن أن تذهب إليه. وفي حين راودت بعض الإسرائيليين (كتاب وصحافيون، إلخ) الآمال في مجالات واسعة للتعاون، بل التفاعل بينهم وبين المصريين، وأطلقوا العنان لتصور مشاريع تغطي كل نواحي الحياة تقريباً، فإن الكثيرين من الجانبالعربي ذهبوا بعيداً في تصوراتهم بشأن السيطرة أو الهيمنة الإسرائيلية على اقتصاد مصر وثقافتها. إلخ. غير أن حقائق السياسة، أو هي – بتعبير أدق – حقائق الجغرافيا والتاريخ والمصالح الوطنية الجوهرية، سرعان ما طبعت بتأثيراتها القوية مسار العلاقات المصرية – الإسرائيلية، من دون أية شعارات أو دعاوى صارخة أو صاخبة. والواقع، أن الفجوة التي اتسعت بسرعة بين مشاريع وخطط التعاون، التي قننتها الاتفاقيات المصرية – الإسرائيلية العديدة، وبين الواقع الهزيل الذي آلت إليه، إنما تعود إلى تأثير المحددات الرئيسية التي حكمت العلاقات المصرية – الإسرائيلية منذ يومها الأول، كما سلفت الإشارة، والتي تعلقت بالتعثر في تسوية الجوانب الأخرى للصراع العربي – الإسرائيلي ( وفي مقدمته القضية الفلسطينية)، والضغوط الداخلية المناهضة للعلاقات، فضلاً عن الاختلاف في رؤية "التطبيع" بين البلدين. وتقضي النظرة المتفحصة لتلك العلاقات في عقدها الأول، في ضوء تلك المحددات، إلى عدد من الملاحظات الأساسية:

1- إن العلاقات المصرية – الإسرائيلية ظلت، في جوهرها، عند الحد الأدنى لها. وهو ما وصفه – بحق – الدكتور بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية في مصر بأنه "سلام بارد". ومع أنه يمكن رصد عديد من العوامل التي حددت تلك العلاقات عند هذا الحد الأدنى، فسوف يظل من الصحيح أن ما سمح لتلك المحددات بأن تعمل أثرها إنما هو الاختلاف في النظرة إلى "السلام" و"التطبيع" بين كل من مصر وإسرائيل، كما سبقت الإشارة. فمنذ اللحظة الأولى، كانت إسرائيل هي الطرف الساعي لـ"التطبيع" وتوسيع العلاقة، وكانت مصر هي الطرف المتحفظ في ذلك الاتجاه. فمصر قد حصلت على مكسب مادي محدد (على الرغم من كل التحفظات إزاءه) وهو عودة سيناء باكامل إليها، في حين أنها قدمت عناصر رمزية ومثالية، أي الاعتراف بإسرائيل وإنهاء حالة الحرب معها. وبداهة، فإن تلك المكاسب المعنوية لم تكن كافية للإسرائيليين، وكان إصرارهم على دعمها بمكتسبات مادية محددة كجزء لا يتجزأ من اتفاقية السلام. ويعني ذلك – بالتالي – أن التطبيع كان مطلباً إسرائيلياً لذاته. لكن ذلك الوضع أدى إلى أن أصبح التطبيع، بالنسبة إلى المصريين، "أداة" للتعامل مع إسرائيل، ووسيلة للضغط والمناورة بها، وليس هدفاً مطلوباً لذاته. ولم تدخر السياسة الإسرائيلية وسعاً لأن تقدم للحكومة المصرية الأسباب تلو الأسباب التي تجعل هذه الأخيرة تحد من التطبيع ومن سياساته. وزاد في هذه الدوافع، أنه كان من الصعب تصور أن يكون لدى الإسرائيليين أشياء أو خبرات ثمينة يقدمونها لمصر من خلال التطبيع.

ولأن هذا الحد من العلاقات ارتبط، بالدرجة الأولى، بالموقف الإسرائيلي من القضية الفلسطينية، ومن تطورات تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي بصورة عامة، فليس هناك سبب للاعتقاد أن ذلك الحد الأدنى سوف يتغير، ما لم يتغير الموقف الإسرائيلي المشار إليه.

2- ومع ذلك، وعند هذا الحد الأدنى، يمكن القول إن استفادة مصر من العلاقات بإسرائيل في عقدها الأول، كانت أقل كثيراً مما استفادت به إسرائيل. حقاً لقد حصلت مصر على سيناء (بصرف النظر عن شروط ذلك الحصول)، لكن ليس هناك ما يثبت الاستفادة من القنوات العديدة التي فتحت للتوغل في المجتمع الإسرائيلي، والاقتراب أكثر منه، وفحصه ودراسته عن كثب. وغالباً، فإن العوائق البيروقراطية، و"الأمنية" كانت هي المعوق لذلك، قبل أي شيء آخر. وهكذا، ففي حين تدفق على مصر مئات وآلاف من الإسرائيليين يجوبون مصر ويدرسونها ويحللون الأوضاع فيها، ويرصدون إمكانات مستقبلها، فإن الأمر لم يكن بتلك الصورة من الجانب  المصري.

3- غير أن الثمرة الأهم للعلاقات المصرية – الإسرائيلية، بالنسبة إلى مصر، تظل هي الثمرة التي لم تكن واضحة في البداية، أي: تنامي الفتور (بل الرفض) الشعبي إزاء إسرائيل وإزاء العلاقات بها. وتبدو هذه النتيجة مثيرة للغاية؛ فهي تعني – في الواقع – أن الإسرائيليين، عندما ذهبوا إلى مصر وتعاملوا مع المصريين، إنما ذهبوا بعدائهم معهم! وهكذا، فإن العداء "الرسمي" القديم لمصر إزاء إسرائيل، في ظل الانقطاع عن أي اتصال بها (والذي ساد بقوة بالذات في الفترة الناصرية) استبدل به الآن عداء "شعبي" حديث في ظل الاتصال المباشر بإسرائيل. وهناك العديد من الأسباب التي تدعونا إلى الاعتقاد أن هذا العداء الأخير أكثر تجذراً وفاعلية، وإنْ كان أقل صخباً وضجيجاً.

إن مقتضى هذه النظرة هو التركيز على العداء الشعبي لإسرائيل ليس كسبب لفتور العلاقات بها (فليس في ذلك، في الواقع، أي جديد) وإنما كنتيجة لوجود تلك العلاقات، ولآلياتها.

ولم يأت الموقف المعارض لنمو العلاقات المصرية – الإسرائيلية (أو: التطبيع) من داخل الأحزاب والقوى السياسية السابق الإشارة إليها فقط، وإنما جاء أيضاً من نقابات واتحادات مهنية وهيئات ثقافية، وكان في مقدمتها نقابات المحامين والصحافيين والأطباء والصيادلة والبيطريين وبعض شُعب نقابة المهندسين، والاتحاد العام للعمال ونقاباته العامة، واتحاد طلاب الجمهورية (قبل حله)، ونقابات المهن الفنية، ونوادي أعضاء هيئات التدريس في الجامعات المصرية... إلخ.

وتبلورت بفعل الممارسة أشكال جديدة من التنظيمات المناهضة للتطبيع مع إسرائيل، مثل: لجنة الدفاع عن الثقافة القومية"، و"اللجنة القومية لمناصرة شعبي فلسطين ولبنان"، و"لجنة الدفاع عن الاقتصاد القومي"، و"لجنة مقاطعة السينما الصهيونية"، و"لجنة مناهضة الصهيونية"... إلخ.(30) 

وفي مواجهة بعض الفِكَر التي ترددت في شأن إمكان مد مياه النيل عبر سيناء إلى إسرائيل، شاركت قوى عديدة – سياسية وحزبية ونقابية – في حملة رفض قوية استطاعت أن تجهض أية محاولات لتجسيد هذه الفِكَر في مشاريع ملموسة.

ويمكن أيضاً القول إن هذا المناخ العام ضد تنمية العلاقات المصرية – الإسرائيلية هو ما يفسر، في الأساس، حقيقة أن السياحة بين مصر وإسرائيل إنما سارت – عملياً – في اتجاه واحد، أي من إسرائيل إلى مصر. وساعد قرار الأنبا شنودة – بابا الأقباط -  بوقف الحج إلى القدس، ما دامت الكنيسة المصرية لم تتسلم دير السلطان، وتأكيده أن المسيحيين لن يذهبوا إلى القدس إلا مع إخوانهم المسلمين، في حرمان السياحة المصرية لإسرائيل من أهم أرصدتها المرتقبة. كما أفلحت حملات المثقفين المصريين غالباً ضد اشتراك إسرائيل في المعرض السنوي للكتاب في القاهرة، وضد مشاركة الخبراء الإسرائيليين في المؤتمرات العلمية، أو زيارة بعض كتابهم لمصر.(31)  وفي الواقع، فإن إدانة إسرائيل والصهيونية، وإبراز الأوجه السلبية للتعامل معهما، والتشديد – في المقابل – على الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، كانت موضوعاً لسلاسل متوالية من المطبوعات والندوات والمحاضرات التي نشطت فيها قطاعات مهمة من المثقفين المصريين. كما حوصرت، من ناحية أخرى، مظاهر النشاط الثقافي لإسرائيل في القاهرة، وتعقبت حملات الإدانة العناصر التي دمغت بالتعاون مع إسرائيل.(32) 

وأخيراً، فإن مقاومة التطبيع مع إسرائيل لم تكن عملاً سلمياً وجماهيرياً فحسب، بل تجسدت أيضاً في مصر في أعمال عنيفة منظمة لسنا بحاجة إلى استرجاعها هنا، بدءاً باقتحام الفلاح سعد حلاوة مقر جمعية زراعية في إحدى قرى القليوبية واحتجاز موظفيها كرهائن يوم تسليم السفير الإسرائيلي أوراق اعتماده فق القاهرة، وانتهاء باغتيال الرئيس السادات نفسه في تشرين الأول/ أكتوبر 1981، مروراً بقتل الجندي سليمان خاطر لسبعة سياح إسرائيليين في آب/ أغسطس 1985 وعمليات الاغتيال التي قامت "منظمة ثورة مصر" بها ضد الدبلوماسيين الإسرائيليين في القاهرة في حزيران/ يونيو 1984، وآب أغسطس 1985، وآذار/مارس 1986، والتي اعتقل أفرادها سنة 1987.

وهكذا، تأخذ العلاقات المصرية – الإسرائيلية وضعها "الطبيعي" بحكم حقائق الأشياء. ومع أن "مصر" مثقلة بهمومها ومشكلاتها، وتعاني ضعفاً وتدنياً في الأداء العام فيها على نحو ملحوظ، فإن وصف شمعون شمير للعلاقات بين الطرفين يظل صحيحاً إلى حد بعيد: "إن علاقات مصر مع إسرائيل لم تتحول إلى أمر عملي داخل الحياة اليومية للشعب المصري، من ينظر إلى الشارع المصري يتضح له على الفور أن السلام لم يصبح بارداً كما يقولون بل أصبح في طي النسيان، إن العلاقات بين مصر وإسرائيل محدودة ومقيدة داخل دوائر مقيدة معزولة عن بقية مجالات الحياة!"(33)  

 

المصادر:

(1) جمهورية مصر العربية، وزارة الخارجية، "تطبيع العلاقات بين جمهورية مصر العربية ودولة إسرائيل" (القاهرة، 1983)، ص 8.

(2) المصدر نفسه، ص 9 – 10.

(3) المصدر نفسه، ص 12.

(4) حديث الرئيس السادات إلى صحيفة "مايو"، 15/6/1981 – نقلاً عن: د. أحمد يوسف أحمد، "الاستمرارية والتغير في السياسة الخارجية للرئيس مبارك"، في: "السياسة الدولية"، عدد 69، يوليو 1982، ص 114.

(5) شمعون شمير، "عامات بعد توقيع معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر" (بالإنكليزية) – نقلاً عن: محسن عوض، "الاستراتيجية الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية"، سلسلة الثقافة القومية رقم 16 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988)، ص 12.

(6) شمعون شمير، "النظرة الإسرائيلية لمصر وعملية السلام: ازدواجية لرؤية"، في:

William B. Quandt, The Middle East: Ten Years After Camp David (Washington, D. C.: Brookings Institute, 1988), p. 201.                                                          

(7) شمير، "النظرة الإسرائيلية..."، مصدر سبق ذكره، ص 203.

(8) د. بطرس بطرس غالي، "سياسة مصر الخارجية في مرحلة ما بعد السادات"، في: "السياسة الدولية"، عدد 69، يوليو 1982، ص 82.

(9) شمير، "النظرة الإسرائيلية..."، مصدر سبق ذكره، ص 193.

(10) عي الدين هلال دسوقي، "السياسة الخارجية المصرية منذ كامب ديفيد"، في:

Quandt, op.cit., p. 97. 

(11) شمير، "النظرة الإسرائيلية..."، مصدر سبق ذكره، ص 193.

(12) المصدر نفسه، ص 194.

(13) المصدر نفسه، ص 206.

(14) سعد الدين إبراهيم، "التطورات الداخلية في مصر"، في:

Quandt, op.cit., p. 30.       

(15) "برنامج التحالف الإسلامي"، في: "الشعب، 24/3/1987.

(16) "برنامج حزب الوفد الجديد 1987".

(17) جمهورية مصر العربية، وزارة الخارجية، "تطبيع العلاقات..."، مصدر سبق ذكره، ص 7 – 16.

(18) المصدر نفسه، ص 30.

(19) المصدر نفسه، ص 44.

(20) المصدر نفسه، ص 54.

(21) المصدر نفسه، ص 66.

(22) المصدر نفسه، ص 84.

(23) المصد نفسه، ص 98.

(24) المصدر نفسه، ص 120.

(25) شمير، "النظرة الإسرائيلية..."، مصدر سبق ذكره، ص 202.

(26) محسن عوض، "الاستراتيجية الإسرائيلية..."، مصدر سبق ذكره، ص 150.

(27) شمير، "النظرة الإسرائيلية..."، مصدر سبق ذكره، ص 203.

(28) محسن عوض، "الاستراتيجية الإسرائيلية..."، مصدر سبق ذكره، ص 154 – نقلاً عن: وزارة الزراعة الإسرائيلية، "ملحق محادثات جرت في تل أبيب، 5 – 10 كانون الثاني/ يناير 1982" (بالإنكليزية).

(29) أنظر في هذا الصدد: حازم هاشم، "المؤامرة الإسرائيلية على العقل المصري" (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1986).

(30) محسن عوض، "الاستراتيجية الإسرائيلية..."، مصدر سبق ذكره، ص 251.

(31)   المصدر نفسه، ص 256.

(32) المصدر نفسه، ص 258.

(33) نقلاً عن: حازم هاشم، "المؤامرة الإسرائيلية..."، مصدر سبق ذكره، ص 176.

Author biography: 

أسامة الغزالي حرب: خبير في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في "الأهرام".