Edward Said and the Role of the Intellectual
Full text: 

كثيراً ما كان تقييم "أخلاقية المثقف" و"المصلحة لدى السياسي" و"تجرد الأخصائي"، مجال سجال، وخصوصاً بين المثقفين أنفسهم، إذ لكل صاحب رأي ما يسرده من أدلة وبراهين، في هذه القضية. وهذه المقالة تناقش تلك الصفات من خلال قراءة نظرة إدوارد سعيد إلى أدوار المثقف والسياسي والأخصائي، قراءة نقدية، بهدف وضعهم جميعاً، أمام المساءلة.   إن كتابة إدوارد سعيد عن المثقف ودور المثقف، تكاد ترتبط جوهرياً بمفاهيم أُخرى ساهم فيها سعيد مساهمة حاسمة. ومن أهم هذه المفاهيم، مفهوم النقد؛ إذ لا يستقيم الحديث عن دور المثقف من دون الحديث عن النقد، وفي كلتا الحالتين، فإن النقد، كأداة وممارسة، والمثقف، كذات، يسائلان ويقفان في مواجهة أي فكر هوياتي يقوم على اعتبار أن هناك هوية ثقافية سرمدية مكتفية ومتماهية مع ذاتها. ومن خلال استجواب أي سلطة تسعى للهيمنة والسيطرة، أكانت هذه الهيمنة عن طريق السياسة، أم الثقافة، أم الدولة، أم المجتمع، أم القبيلة، أم الحزب، فإن مشروع سعيد في كتاباته المتعددة يهدف إلى تثبيت تعدد الأصوات، بدلاً من استبداد الصوت الواحد، وإلى إقرار تمازج الهويات والحضارات وعدم الانكفاء في واحدة منها، وإلى الانتباه الدائم إلى أن أي هوية ثقافية هي في مسار تطور دائم، وأنها وريثة ما سبقها، وهي في حالة حوار مستمر مع ثقافات أُخرى. وقد يحمل كتابه الأخير: "فرويد وغير الأوروبيين"، والذي يشير فيه إلى الأصول غير اليهودية لموسى ولأفكاره، تنبيهاً لنا إلى أنه في صلب الهوية اليهودية وأساسها، تقف شخصية غير يهودية.[1] في إشارة إدوارد سعيد هذه، يقول لنا إنه حتى الهويات القبلية المغلقة مثل اليهودية، غير واعية لشرط وجودها، وإن "الآخر"، دائماً وأبداً، حاضر في صناعة الهوية. بهذا المعنى، فإن "الأنا" نوع من الـ "نحن" على الدوام، ذلك بأن هذه الأنا التي تؤمن بفرادتها وتتغنّى بأصالتها، إنما هي مكتظة بحضور "الأنوات" الأُخرى، وهذه الـ "نحن" تحوي في داخلها "هم" و"أنتم". وأي محاولة لإلباس قبعة واحدة ووحيدة لهذه الـ "نحن"، إنما هي إخضاع الكثرة والوفرة والتعدد لصوت وصورة أيقونية واحدة. يرتبط دور المثقف عند سعيد بنوع معين من الثقافة والفعل الثقافي. وعندما نتحدث عن الثقافة، يمكننا أن نميز بين مفهومين لها: الأول، باعتبارها نوعاً من توحيد دلالات الرمز والمعنى لدى الجماعات، وهي بهذا المعنى، تشكل المخزون المعرفي والمجالي والوجداني لجماعة معينة، فتتغلغل في الوعي واللاوعي لتصبح شفافة وبديهية، وجاهزة دائماً للاستعمال والاستحضار في الفرح والحزن، وفي الطقوس المختلفة، وفي طرق التعبير عن المشاعر. وهذا المفهوم يسعى لتكريسها كعامل إجماع وموضع اتفاق. والثقافة هنا، هي أساساً موروث يعبّر عن طريقة معينة في الحياة، فعندما نتحدث عن ثقافة شعب معين، فنحن إنما نتحدث عن طريقته الخاصة في الحياة والتذوق.[2] غير أننا نتعامل مع الثقافة ضمن مفهوم ثانٍ ذي نكهة كونية موضوعية تعتبر الثقافة فعل تجاوز مستمراً يقوم على قدرتنا على الابتعاد عن بدائية ارتباطنا بالطبيعة وفطرية هذا الارتباط، وعلى قدرتنا على صوغ حريتنا وممارستها، ذلك بأن الثقافة هنا هي جهد دائم. إن الفعل الثقافي ككتابة قصيدة، أو إخراج مسرحية، أو اكتشاف علمي، أو تأليف مقطوعة موسيقية، يحيل إلى فعل فردي يقوم على الفرادة والتجاوز والتجديد، وعلى استئناف الماضي وموروثه، وتقديم تفسير ومعنى جديد للعالم الذي نعيشه، ولتجاربنا الحياتية المعاشة.[3] بناء على هذين النموذجين من الثقافة، يمكننا أن نفكر في نموذجين من المثقفين: نموذج يرى أن دوره الأساسي خلق الإجماع وتوحيد المعاني وصوغ أحلام الجماعة ومشاريعها الكبرى،[4] بينما يقف النموذج الآخر في حالة استفسار مستمرة، فيستجوب الإجماع، ويخشى الاتفاق، ويبقى في حالة مساءلة متواصلة مع تلك القيم السائدة. وإدوارد سعيد ينظر إلى المثقف بصفته هذه: إنه دائم التساؤل، والمشاكس الذي يخشى الإجماع، لأن هناك مَن يختنق دائماً تحت سحابة هذا الإجماع، ولأن الصوت الواحد والموحد والوحيد، يأتي دائماً على حساب أصوات جرى إخراسها، ودور المثقف هو استعادة الأصوات الخرساء. بناء عليه، ليس مفاجئاً أن ترى سعيد يستلهم تراث جوليان بيندا في حديثه عن المثقفين،[5] حتى إن كان يعتقد أن حماسة بيندا لفكرة المثقف الأخلاقي، الفذ، الذي يمثل ضمير البشرية ويتحدث باسمها في المفارق الكبرى والامتحانات الصعبة، هي حماسة مبالغاً فيها بعض الشيء، ذلك بأن بيندا يعرض صورة مثالية للمثقف الذي يتوقع منه أن يُعرّض نفسه للنبذ والإبعاد، أو الصلب، وبالتالي، ليس مصادفة أن الأمثلة التي يوردها بيندا تشمل شخصيات تاريخية مثل المسيح، وسقراط، وفولتير، وإميل زولا. وعلى الرغم من موقف إدوارد سعيد هذا، فإنه لا يخفي إعجابه بالنموذج الذي يقدمه بيندا، وبأن شخصية المثقف التي ينسجها تبقى جذابة آسرة،[6] وإن كان يعتقد أن قدرة أي مثقف على الاستقلال الكامل عن المجتمع ومغرياته هي قدرة محدودة، وأن علينا أن نبحث عن استقلال نسبي وليس استقلالاً كاملاً. أمّا بشأن تحفظه على النموذج المبالغ فيه لبيندا، فإنه يرى في المثقف نوعاً من الضمير الجماعي الذي يعرف الحقيقة ويواجه مراكز القوة، المتميز والمتمرد، المحرِج والمشاكس دائماً، غير المنساق مع جماعة قومية أو حزب. ومثلما يقول: "فالعبرة الأساسية برمّتها أن يكون محرِجاً ومناقضاً، بل حتى مكدِّراً للصفو العام."[7] غير أن أسئلة كثيرة تواجه طرح سعيد هذا، منها: ما قيمة هذه المشاكسة والإحراج؟! ولماذا يكون التمرد والخروج عن المألوف وتحدي الجماعة والاستئناف عليها وعلى مشاريعها أموراً مرغوباً فيها؟ وهل الوقوف في وجه القوة شيء إيجابي دائماً؟ نحن بحاجة إلى القوة وإلى الجماعة أحياناً كثيرة، لكن ألا تحتاج مشاريع التحرر وبناء المجتمعات الجديدة إلى قوة مركزية تدير الأمور؟ لا يطور سعيد رداً واضحاً على هذه التساؤلات، وإن كان رده مضمراً بعض الشيء في نصه. إن الحاجة إلى استجواب الإجماع والمشاريع الجماعية ومراكز القوة، نابعة من حقيقة وجود فجوة دائمة ـ حتى عندما تكون المشاريع نبيلة والأهداف سامية جداً ـ بين الفكرة وتجسيدها المادي على أرض الواقع؛ هناك مسافة غير قابلة للجسر أبداً بين الوعد والتنفيذ، ودور المثقف هو أن يحرس هذا الوعد وهذه الفكرة، وأن يحميهما من السقوط في الجمود، ومن الاعتداد بالذات. وكي تسترشد الممارسة بالفكرة، فإن على الفكرة أن تبقى مستقلة عن مادية تحققها، وأن تبقى على مسافة كافية،[8] لتستطيع الممارسة مراجعة نفسها يومياً. إن دور المثقف وفقاً لسعيد، هو الإبقاء على هذه المساحة والمسافة، والحفاظ على جذوة معيارية الفكرة متقدة، لأن من دون هذا البعد ـ هذه المسافة ـ يصبح النقد مستحيلاً، ومن دون النقد، تتحول الفكرة إلى دوغما جامدة تسحق كل ما يقف في طريقها. ويكتمل دور المثقف لدى سعيد باجتماع عدة صفات فيه يمكن شرحها على الشكل الآتي: المثقف والشهادة: المثقف في مواجهة رجل السياسة والأيديولوجيا الأولى هي الشهادة، إذ يشير سعيد إلى أنه في كثير من الأحيان فإن دور المثقف لا يكون في مشاركته في مواقع القوة، أياً تكن تلك القوة: الحكومة، أو الإعلام، أو الشركات العابرة للقارات، وطبعاً، ليس في الانتماء إليها، لكن "تعمّد عدم الانتماء إلى هذه السلطات يعني، من أوجه عدة، عدم القدرة على إحداث تغيير مباشر، لا بل الاقتصار على دور شاهد يشهد على أمر مرعب لم يكن ليسجَّل لولاه."[9] وقضية دور الشاهد هذه موضوع في بالغ الأهمية، لم يكن سعيد أول مَن توقف عنده. وقد يكون المرجع الأهم في هذا السياق، أطروحات وولتر بنيامين بشأن التاريخ، والتي يشير إليها سعيد بنفسه. فبموجب تلك الأطروحات، يبدو التاريخ ذا سطح أملس، لأن مَن يكتب التاريخ هم المنتصرون عادة، غير أن هذا السطح يُخفي تحت براءته، كثيراً من الضحايا والمآسي التي أُخرست وأُخرجت من التاريخ ومن روايته. ويكمن دور المثقف هنا، في "تخليص" هذا النوع من الضحايا من قسوة التاريخ الذي لا يرحم، والذي يكتب نفسه من وجهة نظر المنتصرين؛ باعتبار أن جميع الحلقات السابقة، والأثمان السابقة، والضحايا كلهم، كانوا ضروريين في مسيرة تقدّم التاريخ كي يسير على سكّته، وليصل إلى محطته الأخيرة. وبموجب هذا المنطق للتاريخ، لا وجود للخسارات المطلقة، لأن كل خسارة، من وجهة نظر التاريخ المستقبلي، تبدو محطة ضرورية في حبكة التاريخ الماضية نحو الأمام، نحو التقدم، نحو حقوق الإنسان، نحو الاشتراكية، نحو الرخاء، ونحو الديمقراطية والليبرالية. عندما يصرّ سعيد على التزام المثقف "دور الشاهد الذي يشهد على أمر مرعب لم يكن ليسجَّل لولاه"، فإنه يصرّ على رفض منطق غائية التاريخ، ورفض منطق الغايات التي تبرر الوسائل. فدور المثقف أن "يسجل" ذلك "الأمر المرعب"، بغضّ النظر عن الأهداف المستقبلية والغايات الجماعية الكبرى، والتي باسمها يجري تبرير هذا "الأمر المرعب" الذي يجري هنا والآن، بينما لا يستطيع السياسي أن يستجير بالمستقبل كي يغطي على فظاعته وجرائمه، ولا تستطيع الغايات الكبرى والأهداف السامية أن تبرر الأدوات القامعة والمرعبة. ومن هنا، يكتب سعيد "أن الخيار الرئيسي الذي يواجهه المثقف هو إمّا أن يتحالف مع استقرار المنتصرين والحكام، إمّا أن يختار السبيل الأكثر صعوبة، معتبراً ذلك الاستقرار حالة طوارىء تهدد الأقل حظاً بخطر الانقراض الكامل."[10] بهذا المعنى، يقارب سعيد رؤية فوكو بشأن المثقف، والتي قال فيها: "أنا أحلم بالمثقف الذي يحطم البراهين والتعميمات [....] والذي هو دائم الحركة. لا يعرف وجهته، ولا يعرف كيف سيفكر غداً، لأنه منشغل بالإصغاء إلى أصوات الحاضر."[11] إن أصوات الحاضر هذه، هي الأصوات التي يطلب منا سعيد الإصغاء إليها. من المثير في هذا السياق مقارنة ومراجعة موقف سارتر وألبير كامو من هذه القضية تحديداً، وموقف سعيد المحتمل من نقاشَيهما. ففي إثر اكتشاف المجازر التي قام بها ستالين، ليس في حق القوى الرجعية والمحافظة فحسب، بل ضمن سياسة التطهير داخل الحزب الشيوعي نفسه أيضاً، عرفت الساحة الثقافية سجالاً مهماً وحاداً بين سارتر وكامو، وكان الأول منهما في تلك المرحلة من حياته، قد دخل في المرحلة الماركسية، محاولاً أن يزاوج بين فكره الوجودي واعتناقه الجديد للماركسية. أمّا كامو، فكان في حلّ من تلك المزاوجة، بل إنه خرج آنذاك مُديناً جرائم ستالين في العلن، غير آبه بما يمكن أن تؤول إليه تلك الإدانة، ولا بإمكان توظيفها في سياق الحرب الباردة ضد المشروع والفكر الاشتراكيين. لقد ارتأى كامو أن ينحاز إلى الضحايا، وأن يرى العالم من خلال وجهة نظر مَن يقع عليه القمع والبطش، إذ لا شيء عنده يستطيع أن يبرر هذا البطش: لا مسيرة التاريخ، ولا مشيئته، ولا المشروع الاشتراكي برمّته. أمّا سارتر، وإن كان قد دان المجازر، فإنه اتخذ في المقابل، موقفاً أكثر حذراً، محاولاً أن يفهم السياق، خشية أن يجري توظيف الحديث عن هذه الجرائم في السياق العام للحرب الباردة. عندها، وجّه سارتر اتهاماً لكامو بأنه ينظر إلى التاريخ "من جهنم" ـ وجهنم هنا هي وجهة نظر ضحايا التاريخ ـ وليس من وجهة نظر صانعيه الذين يمضون قدماً نحو مستقبل أفضل للبشرية جمعاء. لم يقتنع كامو بهذا الكلام على التاريخ ومشيئته، وظل وفياً للضحايا، وأراد أن يكون شاهداً على ذلك "الأمر المرعب". ويبدو لي أن سعيد، المعجب بدور سارتر كمثقف ناقد من الطراز الأول، كان سيقف مع كامو في هذه المواجهة بينهما.[12]   المثقف في مواجهة الخبير المحترف الصفة الثانية التي ركز عليها سعيد تتعلق بمسألة التخصص والاحتراف. فإدوارد سعيد في كتابه: "صور المثقف"، وفي كتابات أُخرى، يشير إلى هذه المسألة من باب الإيماء والحوار والمساجلة، فيعرّج على أعمال كثير من المفكرين والأدباء والناقدين ويقتبس منها، من دون أن يتمكن القارىء من أن يحدد موقف سعيد الواضح من النص الذي اقتبسه، كأن على القارىء أن يستشفّ النص السعيدي من بين النصوص الأُخرى التي يرقص معها نصه بحركة رشيقة. ويبدو أن حديث إدوارد سعيد عن الاحتراف والتخصص قد يخلط الأمور بعضها ببعض، وربما من المفيد هنا تقديم نماذج لذلك: يركز إدوارد سعيد على دور المثقف بصفته هاوياً، كي يستطيع التحرر من إملاءات المال والسلطة. ولذلك يكتب: "في رأيي إذن، أن الواجب الفكري الأساسي هو البحث عن تحرر نسبي من مثل هذه الضغوط. من هنا كان تصوري للمثقف كمنفيّ وهامشي وهاوٍ، وخالق لغة تحاول قول الحق للسلطة."[13] ويضيف في موقع آخر أن "الخطر الهام الذي يتهدد المثقف هذه الأيام [يكمن] في مسلك سوف أسميه الاحترافية. وما أعنيه بالاحترافية هو اعتبار وظيفتك كمثقف وكأنها عمل تؤديه كسباً للرزق بين التاسعة والخامسة... ومن ثم تصبح غير مثير للجدل وغير معنيّ بالسياسة، و(موضوعياً)."[14] وعليه، فإن سعيد يدعو إلى مواجهة الإغراءات والضغوطات الواقعة على المثقف بما يدعوه "الهواية، أي الرغبة في ألاّ يكون الربح أو المكافأة الباعث الوحيد على النشاط الفكري، بل أن يكون الدافع هو الشغف، والاهتمام الذي لا يفتر، بالوضع الأشمل بإقامة صلات عبر الحدود والحواجز، وبرفض التقييد الحصري بحقل اختصاص معين."[15] تشير هذه الفقرة إلى تعامل سعيد مع المشكلات التي يثيرها الاحتراف، وتلك التي يثيرها التخصص، باعتبارها تعود إلى نوع واحد من المشكلات. لهذا، من المفيد التمييز منطقياً بين الاثنين. إن خطر الاحتراف ناجم عن تسخير العمل الفكري الحر للمثقف، إلى مجرد تنفيذ وظيفة. فالخطر هنا هو خطر الوظيفة ذات المقومات والمتطلبات الواضحة، والتي يتقاضى المرء في مقابلها معاشاً ومكافأة. المشكلة هنا ثنائية الأبعاد: الأول يتعلق بالاعتماد المادي على صاحب العمل أو المشغل، الأمر الذي يحرم المثقف الاستقلالية الضرورية لعمله. أمّا الثاني، وهو ذو مستوى أكثر عمقاً، فيتعلق بأن المثقف ـ مثلما يفهمه سعيد ـ يجب أن يكون تحت سطوة أفكاره، أي أن ينقاد وراءها، بمعنى ألاّ يكون استراتيجياً في فكره. غير أن فكرة الاحتراف المقترنة بفكرة الوظيفة تفترض نوعاً من الأداء المحدد سلفاً، والمعروف المعالم، أي أن الوظيفة سابقة في توصيفها على دور الشخص الذي يؤديها، وهنا تكمن المشكلة حصراً، وهي أن الموظف لا يمكن أن تحدد وظيفته مسبقاً، لأنها بحكم تعريفها غير قابلة للحصر وللتعريف، ولأنها تقوم على تلقائية التقاء الفكر بالمسؤولية. وبمقارنة لغوية، تشي اللغة العربية بمعنى أكثر عمقاً لدور المثقف بصفته "هاوياً"؛ ففي اللغة الإنجليزية صفة "الهاوي" (amateur) تعني عكس المحترف، بينما في اللغة العربية، فإن "الهاوي" هو مَن يتبع هواه، أي أنه لا يقوم بما يقوم به إرضاء لأحد، ولا يقوم به بشكل استراتيجي أو مخطط له، وإنما يقوم به كما يتبع العاشق هواه، ومثلما يلعب الولد بألعابه. الهوى واللعب، بعكس العمل، لا هدف لهما يتجاوزهما: يلعب المرء حين يهوى، ويهوى حين يلعب. كلاهما يحتكم إلى قانونية داخلية خاصة به، ولا يحتكم إلى إملاء من الخارج. هذا لا يعني أن المثقف حين يقوم بدوره النقدي، فإنه يتسلى أو يتلهى، لكنه هو مَن يفرض على نفسه المنظومة المعيارية، والواجبات الأخلاقية التي يعتقد أنه يجب أن يلتزم بها. المثقف بهذا المعنى ليس فوضوياً (anarchist)، بل هو حر. وحر بمعنى أن لا أحد يفرض عليه أجندته، غير أنه ليس حراً بمعنى التحرر من أي التزام، لأنه يبقى تحت سطوة ضميره وما يمليه عليه. نستنتج إذاً، أن سؤال الاحتراف شيء وسؤال التخصص شيء آخر. فالجواب على مشكلة الاحتراف هو أن يكون المثقف هاوياً، في حين أن مشكلة التخصص لا يكون الجواب عليها أن يكون المثقف هاوياً فقط، بل إنها تثير أيضاً نوعاً آخر من الأسئلة يلمّح إليه سعيد في نصه تلميحاً. يقتبس سعيد من كتاب راسل جاكوبي، ويوافقه فيه على اعتباره "أن مثقف اليوم هو، على الأرجح، أستاذ أدب منغلق على نفسه، ذو دخل مضمون، لا يستهويه التعاطي مع العالم الأبعد من حدود حجرة التدريس [....] غرضه الرئيسي هو التقدم الأكاديمي لا التغيير الاجتماعي."[16] وفي صفحة أُخرى، يشير سعيد إلى المثقف باعتباره صاحب "الاهتمام الذي لا يفتر، بالوضع الأشمل، وبإقامة صلات عبر الحدود والحواجز، وبرفض التقيد الحصري بحقل اختصاص معين."[17] ترى ما الذي كان يقصده سعيد تماما؟ لا أعتقد أن سعيد يريد القول إنه يحق لكل شخص أن يخوض في أي مجال من مجالات العلوم، من دون أي تأهيل ومعرفة خاصين بالمجال. ولا أعتقد أنه كان سيرحب بي مثلاً (كباحث في القانون والفلسفة السياسية) كي أدرس في قسم الأدب المقارن في جامعة كولومبيا. ولا أعتقد أنه يقصد بذلك أنه على استعداد لأن يسلِّم جسده لعلاج على يد طبيب غير مختص، أو يذهب إلى محكمة مع محام هاوٍ، أو يبني بيتاً من دون استشارة مهندس معماري مؤهل. إذاً، ما المشكلة التي تكمن في الاختصاص تحديداً، من وجهة نظر سعيد؟ الاختصاص بحد ذاته ليس مشكلة، ونحن ـ وسعيد كذلك ـ نريد ونرغب في أن يكون هناك مختصون في شتى مجالات الحياة العملية. وإذا أتيح لكل شخص أن يعمل في شتى الموضوعات، بغضّ النظر عن معرفته ومستوى تأهيله، فهي الكارثة بعينها. إذاً ما المشكلة مع الاختصاص؟ المشكلة الأولى أخلاقية في جوهرها، وتكمن في مَيل المختص، مع الوقت، إلى القناعة التامة بأن المجال المعرفي الذي يبحثه محدد المعالم، ويعمل بموجب منطق داخلي متماسك ومنسجم، وأن جل ما عليه القيام به هو الانصياع لهذا المنطق الداخلي التحليلي والذهاب معه إلى نهايته. هذا هو منطق التطور العملي في العصر الحديث، ذلك بأن رجل الاقتصاد يبحث في أنجع الوسائل للتعامل مع قلة الموارد، وهو حين يقوم بعمله وبحثه هذا، يضع جانباً أسئلة تتعلق بالجمال والأخلاق والدين. والأمر ذاته ينطبق على عمل باحث القانون الذي يقوم على فهم متطلبات فكرة الحق القانوني، والتي تختلف في جوهرها عن الأخلاق والدين والاقتصاد، وقِس على ذلك... وقد تكون فلسفة ديكارت التحليلية واحدة من مصادر إلهام هذا التراث البحثي، فهي تقوم على فكرة تفكيك أي مشكلة تواجه الفكر إلى مجموعة من المشكلات الفرعية، وعلى التعامل مع كل مشكلة على انفراد بصفتها معضلة محددة تحتاج إلى حل. إن هذا "التواضع" في حل المشكلات وفي فهم العالم، هو أحد أسرار نجاح المشروع العلمي للحداثة، بعيداً عن محاولة الإجابة عن أسئلة كبرى دفعة واحدة، مثل الموت، والله، والسعادة، والحرية، والوجود... إلخ. لقد أعطى هذا الاختصاص كل فرع من فروع المعرفة نوعاً من الحرية كي تنمو وتتطور، من دون طول انتظار لما يجري في مجالات أُخرى، ومن دون ترقب أي تأشيرة دخول من أي سلطة خارجة عن سلطة البحث ومنطقه، وسلطة الميدان البحثي نفسه. من هنا نفهم لماذا تطورت فلسفة الأخلاق بعد أن تحررت من سيطرة اللاهوت الديني عليها، ولماذا تطور علم الاقتصاد وفقه القانون، بعد أن استقلا وخرجا من تحت عباءة فلسفة الأخلاق. لكن، على الرغم من هذا النجاح، فإن هناك خطراً جدياً كامناً في هذا التقسيم لمجالات العلم والبحث وكثرة التخصص، وهذا الخطر يندرج في اعتقاد المحترف بأن جل دوره هو الانصياع لما يقتضيه مشروعه البحثي، بموجب المنطق الداخلي للبحث. الخطر هنا يكمن في الإلغاء الطوعي لمسؤولية الباحث، اعتقاداً منه أنه يمتثل لمنطق بحثي صارم، وأن المطلوب منه هو الانصياع لهذا المنطق. إن القبول الأعمى بوجود منطق حديدي من هذا النوع، يجعل الباحث مجرد برغي في ماكينة كبيرة أُسند إليه دور محدد. في هذا النوع من الممارسة العلمية تختفي المسؤولية الفردية، أو بكلمات أبسط: إنها هروب من الحرية الإنسانية إلى قدرية علمية لا تختلف في جوهرها عن القدرية الدينية، إن لم تكن أكثر خطورة منها. إن كل باحث وعالم وصاحب اختصاص حين يبحث في موضوع معين، أو يقوم بتجارب معينة، يقوم في الوقت عينه بأكثر من عمل: فمن ناحية، هو يقوم بشكل آني ومباشر، بعمل بحثي يهدف إلى الإجابة عن سؤال معرفي في مجال معين (الفيزياء؛ القانون؛ الطب؛ الاقتصاد؛ إلخ.)، لكنه من ناحية أُخرى، وفي الوقت نفسه، يساهم في مشروع هو دائماً أكبر من بحثه، بل يجعل بحثه جزءاً منه. وهذا المشروع لا يكتمل إلاّ بوجود باحثين آخرين، وبوجود مشروع بحثي، ومجتمع علمي، واقتصاد، ودولة، إلخ. فهناك مثلاً، مَن يطور شرائح إلكترونية، وهناك مَن يبني دوائر إلكترومغناطيسية، وهناك مَن يبني علبة من البلاستيك. وعندما يجري وضع هذه العناصر معاً تصبح حاسوباً هو جزء من مشروع علمي وحضاري معين. وباحث التاريخ الذي يكتب تاريخ مفكر معين، ربما يبني في الآن نفسه مدماكاً في رواية لمشروع قومي معين. وعالم الآثار الذي يبحث في آثار حضارة معينة، قد يساهم في تفنيد معتقدات سائدة لشعوب كاملة. إن أي نشاط علمي أو فكري أو ثقافي قد يصبّ، من حيث تدري أو لا تدري، في سياق أوسع ربما يكون له تأثير أبعد وأشمل من النتاج العلمي المباشر والآني. إن هذه الحقيقة البديهية تعني أنه، إلى جانب كون الواحد منا باحثاً أو مؤرخاً فيزيائياً أو عالم آثار، أي أصحاب اختصاص والتزام تجاه هذا الاختصاص، فإننا لا نتوقف عن ممارسة هوياتنا الأُخرى عندما نقوم بنشاطنا البحثي: نحن نستمر في كوننا مواطنين، وفي كوننا آباء وأمهات، وفي كوننا أعضاء مجتمع وعالم معين، كما نبقى أصحاب مسؤولية تجاه هذه الانتماءات جميعاً. إن التشديد على الهوية الاختصاصية للباحث تحوي أحياناً رغبة دفينة في إخفاء دوره بصفته مواطناً، وربما كان هذا بالذات، ما يقلق سعيد في الإفراط في التركيز على التخصص: أي محاولة الإفلات من المسؤولية. في هذا السياق، يمكن القول إنه في أي نشاط اختصاصي علمي أو فكري، هناك فائض ما، يقع حتماً خارج أي اختصاص؛ فالسؤال عن كيفية خفض نسبة الدهنيات في الدم وبواسطة أي نوع من الأدوية، هو سؤال علمي يخص علماء الطب. لكن السؤال الحتمي عمّا إذا كان من الحكمة حقن الجسم بمثل هذه الأدوية، نظراً إلى تأثيرها السلبي في مزاج الأفراد، هو سؤال خارج عن علوم الطب، إذ لا جواب طبياً عن سؤال من هذا النوع. كما أنه لا جواب في علم الفيزياء، عن الآثار الاجتماعية المترتبة على إقامة منتزهات في الفضاء الخارجي، وإن كان سؤال كيفية إقامة هذه المنتزهات من صميم علم الفيزياء. والسؤال عن هوية قاتل جون كنيدي سؤال تاريخي، لكن السؤال عمّا إذا كان هذا الموضوع يستحق بذل جهد تاريخي في هذا الاتجاه، أو كيف يمكن أن يؤثر هذا الاكتشاف في الثقافة السياسية الأميركية، فيقع خارج علم التاريخ. قياساً على ذلك، عندما يحذر سعيد من دور المختص، فهو إنما يحذر بصورة خاصة من تلك الرغبة لدى المختص في إقامة الأسوار حول نفسه، والتي تسعى لإعفائه من المسؤولية الاجتماعية والسياسية، ولا يحذر من الاختصاص بحد ذاته. أمّا المشكلة الثانية المتعلقة بالاختصاص، فمشكلة معرفية في جوهرها، وليست أخلاقية بالضرورة، وتكمن في "العقم" الذي قد ينشأ عن الاختصاص في موضوع معين، من دون الالتفات إلى غيره من الاختصاصات، ومن دون النظر في حقول معرفية مجاورة. فـ "الحياة" كلٌّ واحد، وحدةٌ واحدة، تهطل علينا مطراً غزيراً لتبلل كياننا. وإذا كان من المتعذر أن نفهم الحياة دفعة واحدة، فذلك لا يعني ألاّ نحاول فهمها كوحدة واحدة. صحيح أن للعقل الإنساني ممارسات متنوعة في عدة مجالات: العلوم، والأخلاق، والجمال...، إلاّ إن العقل الإنساني واحد حين يقوم بتلك النشاطات المتعددة. إن هذا الفهم يتطلب أن نقيم جسوراً بين حقول المعرفة، بعد أن قمنا بفصلها بعضها عن بعض، كـ "استراتيجيا حربية" للسيطرة على الحياة، غير أن دور العقل لا ينحصر في التفكيك والتقسيم، بل يمتد أيضاً إلى جمع أوصال ما فككه، وإن كان من الضروري القيام بذلك بحذر شديد. إن الحاجة إلى إقامة الجسور والقفز عن الحواجز لا تقف تماماً في مواجهة الاختصاص، بل على العكس من ذلك، تفترض تعدد الاختصاصات وليس إلغاءها. فالمطلوب معرفياً هو إقامة العلاقات عبر الحواجز، ورؤية طرق تأثير معارف حقل معين في حقل آخر، والطريقة التي تهاجر فيها الأفكار من حيز معرفي إلى آخر. هذا كله لا ينفي الاختصاص، وإنما يدعو إلى عدم الاكتفاء باختصاص واحد معين، ويعتبر أن الأمور المثيرة حقاً تحدث عادة في نقاط الالتقاء بين الحقول، وفي معابر الحدود والحواجز نفسها، لأن هذه المناطق نفسها تقع بدورها على هامش السيطرة المحكمة للمركز، وبالتالي فهي مرشحة للتجديد والابتكار. ولا شك في أن هذا هو ما يقصده سعيد في نهاية الأمر.   الثقافة القومية؛ الولاء؛ النقد لقد أمضى سعيد كثيراً من وقته ومن كتاباته مدافعاً عن حقوق الشعوب المستعمرة في نيل استقلالها والتحرر من نير الاستعمار والسيطرة، ولهذا، فإنه ينتبه وينبّه إلى خطر الانجراف وراء الرطانة القومية التي تقوم على صناعة التماهي والتجانس بين أفراد الأمة، إلى درجة تهدد بقتل أي نزعة نقدية. وهو يشير إلى أن كتّاباً ثوريين مثل فانون، انتبهوا من قبل لهذه النزعة وحذروا منها. ويستشهد أيضاً بمواقف الشاعر الهندي طاغور ودوره، والذي لم يتوانَ عن اتخاذ موقف نقدي تجاه الحركة القومية الهندية، حتى عندما كانت تخوض معارك عادلة ضد أعدائها.[18] هذه الروح النقدية، وفقاً لسعيد، يجب أن تسود في كل وقت، وهو يرى أن "من غير الكافي ترديد الشعارات الوطنية المناهضة للاستعمار كما هي مجسدة في الحزب والقيادة، فهناك دائماً مسألة الهدف الذي يستلزم تحليل الخيارات حتى في حومة المعركة"، والولاء للجموع لا يمكن أن يجر المثقف إلى "درجة تخدير الحس النقدي."[19] ويصل الأمر به إلى حد اتخاذ موقف عام مطلق يفضل فيه النقد على الولاء، فيكتب: "هل يُلزم واقع القومية المثقف الفرد، الذي هو محور الاهتمام في كل ما أرمي إليه هنا، بالمزاج العام، بدواعي التضامن أو الولاء الأزلي، أو الوطنية القومية؟ [....] الجواب المختصر هو أن التضامن لا يعلو أبداً على النقد."[20] هذا كلام جريء وضروري، وخصوصاً في عالم مثل عالمنا العربي، والذي تلتقي فيه فكرة الدولة مع الدولة القائمة، والدولة مع الحزب الحاكم، والحزب الحاكم مع لجنته المركزية، ولجنته المركزية مع رئيس الحزب، لينتهي الأمر بأن أي نقد لرئيس الحزب هو انتقاص من هيبة الدولة؛ وأي مساءلة لممارسات زعيم الثورة تُعتبر تشكيكاً في المسيرة برمّتها؛ وأي مراجعة لقرار أو خطوة معينة هي خيانة للمشروع بأكمله. يعلل سعيد أسبقية النقد على الولاء في مقالته عن النقد العلماني، فيبرر هذه الأسبقية، ويعتبر أنه حتى في حمى المعركة، يجب أن يكون هناك نقد، لأنه "يجب أن يكون هناك وعي نقدي أصلاً كي يكون هناك موضوعات ومسائل ومشكلات وقضايا وقيم، وحتى حيوات، تستأهل النضال من أجلها."[21] وعليه، ليس مصادفة أن نموذج المثقف يستقي بعض مواصفاته من نموذج المنفي؛ ذلك الشخص الذي يعيش خارج وطنه، ولا يشعر بحميمية مفرطة معه، ويحافظ على مسافة منه تؤهله لإقامة هذا الوطن / المجتمع. وليس مصادفة أن سعيد يستعمل كلمة "مسافة" (distance) في معرض توظيفه لماهية دور النقد، باعتبار أن هذه المسافة ضرورية للعملية النقدية.[22] ما من شك في أن النقد يحتاج إلى هذه المسافة، وإلى هذا الانفصال الآني بين الذات والجماعة، وبين الفكرة وتجسدها المادي، وبين الهوية وصورة الهوية عن ذاتها. لكن ما أردت أن أضيفه (وهو أمر يشير إليه سعيد من دون أن يتوقف عنده كفاية)، هو أن الولاء نفسه أيضاً شرط النقد، وأن الولاء والتضامن هما قيمة ضرورية بذاتيهما أولاً، وهما شرط لقيم أُخرى أيضاً. قد يكون من المفيد في هذا السياق العودة إلى أبجديات الفلسفة. لقد كان أفلاطون أول الفلاسفة الذين كانوا على وعي بضرورة المسافة بين الفكرة وتجلّيها المادي (ولا أدّعي أن إدوارد سعيد أفلاطوني)، وكان حريصاً على إبقاء مسافة بين الفيلسوف الحاكم وبين الأمور المادية الحياتية. فمن المفروض ألاّ يتزوج الفيلسوف الحاكم كي لا يكون عنده أولاد وأحفاد وسلالة، وألاّ يكون صاحب أملاك وعقارات في الدولة، لأن من شأن هذين الأمرين أن يجعلاه منغمساً ومتورطاً ومنحازاً، أي أن يفقد الحس النقدي الضروري كي يحكم ويقيّم الأمور بنزاهة وبمسافة متساوية بين أعضاء الجمهورية، وهو ما يمنع الاحتراب داخلها. لذلك كله، عارض أفلاطون فكرة الملكية الخاصة.[23] هذا "البعد"، أو التجرد من الانغماس في حياة الجماعة، يضمنان نوعاً معيناً من القدرة النقدية والنزاهة. إلاّ إن المشكلة التي نام عليها أفلاطون وصحا عليها أرسطو، تقوم على السؤال التالي: حتى إذا ضمنّا أن الفيلسوف الحاكم قادر على أن يحكم بالعدل، وأن يقيّم الأمور نقدياً، فما مصلحته في ذلك؟ بمعنى: ما الحافز لديه كي ينهض صباحاً ويذهب إلى عمله، ليحكم بالعدل ويقيّم الأمور نقدياً وموضوعياً؟ وكيف يمكن أن نعيد "زرع" هذا الفيلسوف بين شعبه ومجتمعه بعد أن "اقتلعناه" منهما؟ وكيف نعيده إلى الحياة بعد أن جردناه من صفاته البشرية؟ وكيف نعيد ارتباطه بالجماعة بعد أن سعينا لفكّ أي ارتباط له بها؟[24] لا يعني ما سبق، أن "المسافة" غير ضرورية للنقد، بل الإشارة إلى أن كلمة "المسافة" هي كلمة علائقية تعني مسافة بين اثنين موجودين داخل وحدة معينة. النقد يحتاج إلى "المسافة" كقوة طاردة عن المركز، لكنه يحتاج إلى "الولاء" باعتباره قوة جاذبة في اتجاه المركز؛ قوة قادرة على خلق جمهور يتحدث بلغة يمكن للجميع فهمها، المنتقِد والمنتقَد. إن غياب هذا الحد الأدنى من الحميمية يولّد سؤالين تلقائيين: الأول، ما هو حافز المنتقد على تقديم نقده؟ والثاني، ما الحافز لدى جمهور المستمعين على الاستماع إلى هذا النقد، والإصغاء إليه أساساً؟ أوليس هناك ضرورة لوجود نوع من العلاقة الحميمية التي تقوم على الولاء، والاهتمام بالمصير المشترك للجماعة، والقلق إزاء مصيرها ومستقبلها، كي يتحفز الناقد ليقدم نقده؟ وفي المقابل، أوليس هناك حاجة لدى الجماعة إلى أن تكون مقتنعة بأن المثقف الذي يقوم بنقدها مهتم وقلق إزاء مصيرها وأحلامها وآمالها وآلامها؟ أوليس هذه الـ "نحن" ضرورية لغوياً وبلاغياً، كي يكون من الممكن دخول المحادثة والمشاركة فيها وتقديم النقد؟ بهذا المعنى، فإن مشكلة المثقف ربما تكون شبيهة بمشكلة الفيلسوف الحاكم لدى أفلاطون؛ كلاهما قادر على اتخاذ موقف تحليلي وقيمي وأخلاقي كوني، لكن السؤال هو أي رغبة لديهما في اتخاذ موقف كهذا إن لم يكن بدافع الانتماء، وأضيف هنا الحب؟ وأي رغبة لدى الجمهور في الاستماع إن لم يكن لديه الحد الأدنى من الثقة بالمثقف، وأضيف أيضاً هنا، بعض الحب؟ وإذا كانت الثقافة القومية مع نزعتها إلى الهيمنة والإخضاع ومطالبتها الدائمة من أفرادها بقبول قيمها السائدة، تشكل نوعاً من القيود، وإذا كان دور المثقف هو التمرد على هذه القيود، فعلينا أن نقرّ أيضاً بأن وجود القيود نفسه هو شرط التمرد، فالمرء يتمرد ضمن سياق معين. وكي يكون التمرد ذا معنى، عليه أن يصوغ نفسه ضمن أفق ثقافي معرفي وجداني متفق على قواعده الأساسية. والثقافة كاللغة، تقيّدنا وتمكّننا من الحرية في آن معاً، تماماً كقوانين لعبة الشطرنج أو السُلّم الموسيقي: تحدد لنا الحركات المسموحة، لأن من دون هذا التحديد لا إمكان للعب الشطرنج، أو عزف الموسيقى. لم يكن إدوارد سعيد غافلاً عن هذه الأمور طبعاً، لكنه لم يكن صريحاً أيضاً. وللأمانة والدقة، فإنه لم يُنظّر للمثقف المتنسّك المنعزل، ولم يتحدث عن الاستقلال الكامل، وإنما النسبي. وأكبر دليل على ذلك، أن حديثه عن المثقف ورد في سياق حديثه عن المنفى والإنسان الذي يعيش فيه. ومَن يعش في المنفى لا يفقد صلته بالوطن الذي جاء منه، ولا يصبح غريباً عنه تماماً، بل يبقى على هامشه، ويقف على الحدود بين مجتمعه والمجتمع الآخر الذي هاجر إليه. ولا يستوي موقف الذي يقيم على الحدود ويبقى في حالة قلق دائم، مع الموقف الجازم بالمطلق، والذي أطلقه سعيد، بأنه في حال تنافس الولاء مع النقد فإن الأسبقية للنقد دائماً وأبداً. لا أسبقية لشيء على شيء، فالمثقف لا يستطيع أن يركن إلى الأجوبة المريحة الواثقة بأن النقد سابق دائماً على الولاء، بل يتعين على النقد أن يكون ناقداً لنفسه أيضاً، وأن يعي شروط حضوره، وعلى المثقف أن يختار متى يطلق نقده ومتى يؤجله.   سعيد بين إمانويل كانط وماكس فيبر إن شغف إدوارد سعيد وحماسته في الدفاع عن المظلومين والمقهورين، ورغبته في الوقوف إلى جانب القضايا العادلة ـ حتى إن كانت خاسرة ـ هي أمور مركزية وراسخة في كتاباته كافة. كما أنه لا يمكن فهم كتاباته عن المثقف ودوره، من دون هذا الربط المحكم الذي يقيمه بين المثقف من جهة، وقيم العدالة والحرية من جهة أُخرى. وعليه، فإنه يشير إلى أن التدخل الفاعل للمثقف في حياة المجتمع "يجب أن يرتكز على إيمان للمثقف راسخ لا يتزعزع في مفهوم للعدالة والإنصاف يسمح بالاختلافات بين الأمم والأفراد"،[25] وإلى أن المثقفين هم دائماً في موقع "يتيح المجال للاختيار ويقوم أكثر من غيره على المبادئ، بحيث يمكّنهم فعلاً من قول الحق في وجه السلطة."[26] هذه الحماسة لفكرة العدالة هي في منتهى الأهمية، وقد وظفها سعيد في خدمة قضايا عادلة كثيرة وعلى رأسها قضية فلسطين. والعدالة لا تتطلب نقد الأمم والقوميات الأُخرى، بل استجواب مستمر للسلطة أينما وأياً تكن. هذا الشغف بالعدالة مهم جداً، لكنه غير مفهوم ضمناً. وسعيد يقف هنا في صف كثيرين من المفكرين الذين أولوا العدالة مكانة خاصة في كتاباتهم، وعلى رأسهم إمانويل كانط الذي اعتقد أنه إذا غابت العدالة عن العالم، فلا قيمة لحياة البشر على وجه البسيطة.[27] وفي موقع آخر، يقتبس كانط المبدأ القديم الذي يقول: "فلتعمّ العدالة، حتى لو اقتضى الأمر أن يلقى جميع الأوغاد موتهم"،[28] وهي المقولة الموازية للمقولة الشعبية الدارجة عندنا، والتي تقول: "لتعمّ العدالة، حتى لو أطبقت السماء على الأرض". هذه الحماسة للعدالة تفترض أن يكون المرء على معرفة ودراية بما تقضي به العدالة، وما تلزمنا به. وبالنسبة إلى فيلسوف مثل كانط، فإن مقتضيات العدالة دائماً محددة ومعروفة وواضحة، وهو يقول في مقالته الشهيرة عن النظرية والممارسة: "إن الفرد حين يسأل نفسه عن واجباته الأخلاقية والقانونية (وذلك بفارق عن السؤال عن الطريق إلى السعادة) في كل وضع وحالة، لن يكون لديه أي لبس أو حيرة بشأن الجواب الذي يعطيه لنفسه، وهو دائماً على يقين تلقائي إزاء الواجب الذي يجب أن يؤديه."[29] بموجب هذا المنطق الكانطي، فإن الفرد ـ وكل فرد كانطي هو فرد مثقف بمعنى إمكان استقلالية الرأي وعدم الانصياع التلقائي وراء الجماعة ـ يمر بمرحلتين: الأولى، يشخّص فيها ما تقتضيه العدالة، وهذا أمر قابل للتحقق بدرجة عالية من اليقين؛ الثانية تقوم على إخضاع الفرد للاعتبارات الأُخرى للعدالة، والتي تعلو الاعتبارات كافة. لا يتبنّى سعيد مقولات كانط كما هي، لكنه يتبنّى صيغة معينة لهذه المواقف. إن قول الحق في وجه السلطة يفترض أن لدينا قدرة دائمة على أن نعرف ما هو الحق والحقيقة، كي نقولهما في وجهها، كما يفترض وجود أنطولوجيا معينة ليس مؤكداً موافقة سعيد عليها. لقد كان إدوارد سعيد سبّاقاً في توظيف أدوات فوكو التحليلية، كي يُظهر لنا بلباقة بارعة أن ما يصوغه الفكر الاستشراقي ـ في كل ما يتعلق بالشرق، على اعتبار أنه نوع من المعرفة الصرفة ـ ما هو إلاّ ضرب من خطاب يقوم على التحكم والسيطرة. وقد نبّهنا سعيد في كتابه "الاستشراق"، إلى صعوبة معرفة الحقيقة من دون علاقات القوة، فهل عاد إلى تبنّي فكرة عن الحقيقة، تجد نفسها خارج علاقات القوة والسيطرة؟ في سياق البحث عن مفهوم الحقيقة، وعندما يجري الحديث عن الحق، يحيلنا سعيد إلى ضرورة "الثبات في مساندة معايير السلوك الدولي ودعم حقوق الإنسان."[30] يعي سعيد تماماً، أن من المتعذر اليوم الحديث عن الحق والحقيقة بالطريقة نفسها التي جرى الحديث فيها عن هذه المفاهيم قبل 200 عام، بعد انكشاف أوروبا على عوالم وحضارات وأعراق متنوعة. وعليه، فإنه يصوغ نظرية مخففة عن الحق والحقيقة، آخذاً في الاعتبار تحولات ما بعد الحداثة، ويكتب في هذا السياق: "ومع أننا محقّون في الحزن على اختفاء الإجماع على مقوِّمات الموضوعية، لكننا لسنا من منطلق مماثل، هائمين كلياً في ذاتية تطلق العنان لأهوائها."[31] يوحي ما سبق بأن سعيد لا يولي ما يكفي من الأهمية للخلافات العميقة جداً في تأويل منظومة حقوق الإنسان وتفسيرها، وأنه يعول عليها وعلى موضوعيتها أكثر ممّا تستحق. إن حق الملكية الفكرية على معادلات صناعة الأدوية يتعارض دائماً مع حق جماهير واسعة من العالم في الصحة والعلاج؛ والحق في حرية التعبير يصطدم بالأمن القومي؛ وحق الاحتجاج والتظاهر يصطدم بحق حرية الحركة؛ وحق الشعوب في تقرير مصيرها وإغلاق حدودها يصطدم بحق الأفراد في الهجرة؛ والطرق التي يجري فيها تفسير القانون الدولي ومنظومة حقوق الإنسان، هي أكثر إشكالاً ممّا يتخيله أولئك الذين لا يتعاملون بالقانون. هذه الإشكالات الجدية كلها تجعل من الصعوبة بمكان، الركون إلى وضوح فكرة الحق وسطوعها كموضوع مفروغ منه. غير أن القضية الأهم والأساسية لا تكمن في صعوبة التقاط ما يمكن اعتباره الحق والحقيقة وتشخيصه، وإنما في كيفية تصرف المرء باعتباره مثقفاً عندما يعتقد أنه يكتشف حقيقة معينة، أو عندما يعتقد أن الموقف الأخلاقي يقتضي منه اتخاذ موقف ما. ماذا عليه أن يعمل عندها؟ في هذه النقطة بالذات، يبدو أن إدوارد سعيد كان جارفاً في موقفه حين جزم بأن النقد سابق دائماً على الولاء، وأن دور المثقف أن يجهر بالحق حتماً، مهما تكن النتائج. لكن هل حقاً يقتصر دور المثقف على قول الحق والحقيقة؟ أليس على المثقف مسؤولية معينة في قول الحق والحقيقة؟ هل واجبه أن يقولهما حتى لو أطبقت السماء على الأرض وانهارت الدنيا؟ هل تنتهي المسؤولية بمجرد قوله الحقيقة والحق؟ يبدو سعيد أميل إلى قبول هذا الدور للمثقف، وهناك كثير من المنطق في هذا الموقف، لأنه موقف لا يقبل المساومة، وهو ينحدر من التراث الكانطي الديونطولوجي (Deontology) الذي لا يُبقي للمرء إمكاناً للمقايضة: بعض الكذب من أجل الكسب المادي؛ سرقة أدوية لمعالجة مريض؛ بعض العنف لتحسين وضع حقوق المواطن في الدولة. قد تبدو الأمور سهلة إلى حد ما، عندما يتنازع قلب المرء وازع أخلاقي من ناحية، في مقابل رغبة في الثراء ـ المصلحة أو المنفعة. في هذه الحال، قد يبدو للبعض أن الوازع يجب أن يكون حاداً وواضحاً، من دون إمكان لمقايضة أو مساومة، لكن، قد يمثل أمامنا شخص ليس لدينا شك في نيّاته، وهو لا يسعى لثراء أو منفعة أو مصلحة على الإطلاق، بل يتنازعه في اللحظة نفسها وازعا الأخلاق والمصلحة اللذان يشدانه في عدة اتجاهات: والد يحار في أن يساعد ابنه مادياً في تعليمه، أو أن يساعد صديقه المريض جداً؛ صحافي مرموق وصلته وثائق تُظهر قائد ثورة شعبه في فضيحة جنسية أو مالية، وإذا تم نشرها قد تقضي على القائد وعلى الثورة ومشروعها؛ صديق يطلب من صديق أن يكذب لأجله كي يساعده في أزمة صحية؛ وزير يطلب من مساعده عدم نشر معلومة معينة يمكن أن يؤدي نشرها إلى الهلع وانهيار البورصة؛ جندي في المعركة يطلب منه قائده القيام بأعمال غير أخلاقية ضد العدو لحسم المعركة؛ إلخ. هناك تيار فلسفي كامل، يقف على رأسه كانط، يعتقد أنه حين نقوم بما يجب أن نقوم به أخلاقياً، فإننا غير مسؤولين عمّا يحدث بعد ذلك. قد تقود الصدف أو الحظ أو الرب، إلى تسلسل أحداث معينة أدت إلى مصيبة ما. لكن، ما دمنا قمنا بما نراه أخلاقياً، وبما توجبه علاقات الحق والعدالة، فلا مسؤولية مباشرة علينا فيما حدث. واجب علينا أن نقوم بما تمليه العدالة ومتطلباتها، وبعد ذلك فإن الأمر متروك للحظ، ولمشيئة القدر والرب.[32] يصف عالم الاجتماع ماكس فيبر في مقالته "السياسة كصنعة"،[33] الفرد الذي يتصرف بموجب هذا المنطق بأنه يعمل بموجب "سياسة القناعات"، أي أنه يختار قناعاته ويعمل بموجبها، كأنها تتحدث من خلاله وهي التي تحرّكه، أو كأنه لا يتحرك ومعدوم الإرادة أمام سطوة هذه القناعات والمبادىء. لكن فيبر يحذرنا من هذا الانصياع لقناعاتنا ومبادئنا، ويقدم في مقابل هذا النموذج من العمل في الحيز السياسي العام، نموذج "سياسة المسؤولية" التي تقوم على الوعي التام بأننا مسؤولون عن طريقة توظيفنا لقناعاتنا، وبأنه لا يمكن غسل اليد من النتائج المترتبة عن أفعالنا، حتى إن كانت هذه الأفعال نابعة عن قناعة عميقة وحقيقية، وليس عن رغبة في الكسب أو المنفعة أو الشهرة. فشخص كهذا يمكن أن يبرىء نفسه أمام الله، كونه لم يرتكب خطيئة، ونيّاته كانت جيدة، ولم يسعَ لمنفعة أو مكسب شخصي من أي نوع كان، لكن، ذلك كله لا يعفيه اجتماعياً وسياسياً من تحمّل مسؤولية فعله، حتى إن كان فعله شهماً ومستقيماً ومستمداً من مبادىء نبيلة وسامية. إن رجل "سياسة المسؤولية" ليس رجلاً لا يملك المبادئ، ولا هو من النوع النفعي الذي يعتبر أن أخلاقيات موقف معين تقاس بموجب كمية المنفعة المتأتية عنه، بل هو الشخص الذي لا يستطيع أن يعفي نفسه ـ في نهاية الأمر ـ من القول: "لقد قمت بما قمت به عن قناعة، ولا شأن لي فيما حدث بعد ذلك من نتائج." وعلى الرغم من مبدئيته، فإن موقف "سياسة القناعات" عندما يوظّف من دون الالتفات إلى النتائج، ربما يستدعي نوعاً من الشخصية الانتهازية التي تسعى للظهور النظيف على حساب تداعيات المواقف المتخذة. في هذه النقطة، قد يتخذ النقاش بشأن دور المثقف اتجاهاً آخر، ويوضح سعيد موقفه كالتالي: هناك رجال سياسة يعملون من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة، وقد تكون هذه الأهداف نبيلة وسامية: التحرر من الطغيان؛ إشاعة العدالة؛ رفع مستوى المعيشة؛ التخلص من الإجرام في المجتمع؛ رفع المستوى الصحي وتخفيض عدد حالات الوفاة؛ إلخ. وإذا كان دور رجل السياسة أن يسعى لتحقيق هذه الأهداف، فإن دور المثقف الذي يتركز همه على الانتباه اليقظ والدائم لئلا تداس قيم أساسية أُخرى، ليس السعي لتحقيق هذه الأهداف فقط، بل التنبه إلى أن هذا السعي يجب أن يبقى ضمن أصول وضوابط وقواعد تضمن الالتزام بمعايير الحد الأدنى من الأخلاق والعدالة، أي مجموعة حقوق الإنسان الأساسية. وعند قبول توزيع الأدوار هذا بين المثقف والسياسي، يطفو على السطح بعض الأسئلة التي تبحث عن إجابة. وأحد أهم هذه الأسئلة يتعلق بالطبيعة المختلفة للأدوار: إذا كان دور رجل السياسة تحقيق الأهداف الجماعية المنشودة، ودور المثقف يقتصر على التقويم والتقييم والمراقبة والنقد، فإن مهنة رجل السياسة (السياسة بمعناها النبيل) تبدو أكثر تعقيداً وشمولاً في نظرتها إلى مجمل الواقع وتركيباته، مقارنة بدور المثقف الذي يبدو محدوداً نسبياً، وسلبياً في ظل عدم اكتراثه بالنتائج المترتبة، واكتفائه بدور النقد والتقييم. قد يكون هذا التقسيم مهماً وضرورياً في المجتمع، فالمثقف لا يملك جيشاً ولا شرطة ولا أموالاً ولا إذاعة، لكنه في المقابل حرّ، وغير ملزم بتحقيق نتائج جماعية أو تقديم تقرير عن إنجازاته إزاء المجتمع. بهذا المعنى، فإنه لا يملك قوة تحت تصرفه لأنه لا يملك مسؤوليات محددة ومهمات واضحة، عدا النقد، بينما يملك رجل السياسة القوة، إلاّ إنه عرضة للمحاسبة على ما حققه من إنجازات جماعية للمجتمع برمّته، وهو ليس مثل المثقفين الذين لن يحاسبوا بسبب ارتفاع غلاء المعيشة، والانفلات الأمني، وانهيار البورصة، أو اندلاع حرب غير متوقعة.   نحو إعادة ترتيب المفاهيم: المختص؛ المثقف؛ السياسي أشرنا في بداية هذه المقالة إلى أن أحد مآخذ سعيد على نموذج المثقف المعاصر هو خطر الاختصاص، بمعنى أن يحصر المثقف نفسه في إطار بحثه العلمي، وبين جدران مكتبه الجامعي، ملتزماً القواعد الصارمة لبحثه وأجندته البحثية، ومتّبعاً الصرامة العلمية المطلوبة في البحث العلمي الأكاديمي. وعرضنا أيضاً انتقاد سعيد هذا النوع من المثقفين لانكفائه على نفسه، وعدم قدرته على التواصل مع حقول العلم الأُخرى والانفتاح عليها، وعدم انشغاله بالقضايا التي تهمّ عصره ومجتمعه. كما تطرقنا إلى اتهامه الضمني لهذا المثقف أنه بانكفائه هذا يفضّل نوعاً من الأمان الشخصي والمادي، على المجازفة والمخاطرة النابعتين من ضرورة اتخاذ المواقف المبدئية الواضحة في قضايا الحياة والمجتمع. إن هذا الحياد الذي يبدو أنه يتسم بالموضوعية هو نوع من الهروب من المسؤولية. انطلاقاً من هذا، يصير من المرجح الادعاء أن النقد الذي يوجهه سعيد إلى رجل الاختصاص الذي لا شأن له سوى موضوع اختصاصه، حتى إن هبطت السماء إلى الأرض، يوازيه نقد مشابه يستطيع أن يقوم به رجل السياسة تجاه المثقف، كونه يبني مواقفه على "سياسة القناعات" بلغة ماكس فيبر، غير آبه بما فيه الكفاية لما قد تؤول إليه وتسبّبه مواقفه المبدئية. فمن ناحية، قد يدّعي رجل السياسة أن السياسة بهذا المعنى أسمى ما يمكن أن تتطلبه الأخلاق، لأنها تأخذ كل شيء بعين الاعتبار؛ ومن ناحية أُخرى، إن رجل الاختصاص العلمي الذي لا يهجر مكتبه ولا يهتم ضمن عمله البحثي بقضايا العالم الكبرى ومشكلاته، قادر على صوغ نقد لدور المثقف السعيدي، يشابه ويوازي النقد الذي يوجهه ذلك المثقف إلى رجل السياسة. فهذا المثقف يحاول وضع جميع الأمور تحت عباءته، وينظر إلى الأمور بشمولية خانقة، لا تترك أي مسافة أو مجال للمساءلة أو النقد. إن دور المثقف لدى سعيد هو إقامة هذه المسافة، والإبقاء على هذا البعد قائماً بين شرعية الأهداف وشرعية الوسائل: فالأهداف السامية والنبيلة لا تستطيع أن تبرر الأدوات غير الأخلاقية وغير العادلة، والأهداف الجماعية للتقدم والتحرر لا تستطيع أن تبرر الأدوات القمعية لكمّ الأفواه ومصادرة الحريات الفردية، وضرورة حفظ الأمن لا تعني زج المواطنين اعتباطاً في السجون من دون محاكمة. عند هذه النقطة بالتحديد، يستطيع الخبير المختص أن يواجه المثقف بالحجج والادعاءات والاتهامات ذاتها: فدور المختص هو البحث والتعمق والتفحص، وهذا مشروع علمي في الأساس، قبل أن يكون أخلاقياً، أخذاً في الاعتبار أن العلم يحتمل الموضوعية. أمّا الاخلاق فهي دائماً موضوع خلاف ونقاش ووجهات نظر، كما أن زجّها داخل عالم الممارسة العملية يجعلها عرضة للتشويه، ويخضعها لأجندة غير الأجندة العلمية الصارمة التي تسعى لتحقيقها، فضلاً عن أن هناك حاجة مستمرة إلى الإبقاء على مسافة نقدية، بين عملية البحث العلمي وعملية التقييم الأخلاقي الاجتماعي لهذه الممارسة العلمية. وما تدخّل الحزب الشيوعي الروسي في ثلاثينيات القرن الماضي، في الأجندة البحثية للباحثين في علوم الوراثة والبيولوجيا، سوى مثال واحد لهذا الإخضاع القسري. وإذا خضع العلم تماماً لشمولية المشاريع الأخلاقية وكولونياليتها ـ حتى لو كانت سامية ونبيلة ـ فإنه يصبح عرضة لأن يضل طريقه. على العلم أن يبقى قادراً على مفاجأتنا، حتى أخلاقياً، لأن إخضاع العلم لأجندة أخلاقية تقدمية إنسانية قد يؤدي بنا إلى إخفاء نتائج بحثية تتعارض مع مواقفنا الأخلاقية، أو قد يؤدي إلى تبنّي نتائج علمية نعتقد أن اعتناقها أو قبولها علمياً، ربما يساهم في تبنّي المجتمع قيم المساواة والعدالة. إذا نظرنا إلى الموضوع بهذه الشمولية، سيبدو لنا أن المثقف يقع في منطقة وسطى بين رجل السياسة الذي يدّعي أنه صاحب النظرة الأشمل، ورجل الاختصاص صاحب النظرة الأضيق. كما سننتبه أيضاً، إلى أن نوع النقد الذي يقدمه رجل السياسة للمثقف شبيه بنقد المثقف لرجل الاختصاص. كذلك الأمر من الناحية الأُخرى: إن نقد رجل الاختصاص للمثقف، شبيه بنقد المثقف لرجل السياسة. إن جميع هذه الأدوار تحوي نوعاً من القوة، ونوعاً من الحرية، ونوعاً من المسؤولية، وأينما توجد هذه الأدوار الثلاثة، فإن من الطبيعي والممكن أن يساء استعمالها، وقد نسمّي سوء الاستعمال هذا نوعاً من الانتهازية. غير أن الانتهازية ليست صفة خاصة بالسياسيين، بل هي صفة عامة أيضاً؛ فمثلما قد يكون السياسي انتهازياً، يمكن للمثقف والخبير المختص أن يكونا كذلك. والاستقامة ليست صفة ملازمة للمثقفين تحديداً، بل ربما تكون صفة للخبراء المختصين ورجال السياسة أيضاً. إلاّ إن معنى الاستقامة وضروراتها في السياسة، يختلفان عن ضروراتها ومتطلباتها لدى المثقف ولدى الخبير المختص. أمّا معنى الاستقامة وضروراتها في هذه المجالات المتنوعة، فموضوع خارج نطاق هذه الورقة المختصرة، والتي ركزت على تسليط الضوء على فكر إدوارد سعيد، ورؤيته إلى دور المثقف. [1] إدوارد سعيد، "فرويد وغير الأوروبيين" (بيروت: دار الآداب، 2004). [2] أوروبياً، هذا هو المعنى الذي تبنّاه جزء من الفكر العضوي الرومانسي الألماني مثلاً، ولا سيما عند ممثليه الفكريين من أمثال يوهان غوتفريد هيردر، ويوهان غوتليب فيشته. [3] رايموند ويليامز يتحدث عن ثلاثة معانٍ للثقافة، اثنان منها يتشابهان مع التوصيف الذي قدمتُه أعلاه، وإن كانا لا يتطابقان معه تماماً. انظر: Raymond Williams, “The Analysis of Culture”, in Cultural Theory and Popular Culture: A Reader, edited by John Storey (Athens / USA: University of Georgia press, 1998), pp. 48-57. [4] إدوارد سعيد يقرأ ويفهم ماثيو أرنولد في كتابه "الثقافة والفوضى" (Culture and Anarchy)، ضمن السياق الذي يرى أن دور المثقف الأساسي رفع منسوب الشعور بالهوية المشتركة. انظر: إدوارد سعيد، "صور المثقف"، ترجمة غسان غصن، مراجعة منى أنيس (بيروت: دار النهار للطباعة والنشر، ط 3، 1997)، ص 43. [5] سعيد، "صور المثقف"، مصدر سبق ذكره، ص 14 و22. [6] المصدر نفسه، ص 24. [7] المصدر نفسه، ص 29. [8] فكرة المسافة الكافية (distance) تتردد عند إدوارد سعيد، باعتبار هذه المسافة شرطاً للنقد. انظر: Edward Said, “Secular Criticism”, in Edward Said, The World, the Text, and the Critic (Cambridge: Harvard University Press, 1983), pp. 1-31. [9] سعيد، "صور المثقف"، مصدر سبق ذكره، ص 18. [10] المصدر نفسه، ص 47. [11] انظر في هذا الصدد: Michel Foucault, Politics, Philosophy, Culture : Interviews and Other Writings, 1977-1984, edited by Lawrence Critzman (New York: Routledge, 1988), p. 124. [12] بشأن السجال بين سارتر وكامو انظر: Jean Paul Sartre, Situations, translated by Benita Elister (New York: George Braziller Publication, 1965), p. 101; Shoshana Felman, “Crisis of Witnessing: Albert Camus' Postwar Writings”, Cardozo Studies in Law and Literature, vol. 3, no. 2 (Autumn, 1991), pp. 197-242. وانظر بصورة خاصة: Ibid., pp. 209-217. [13] سعيد، "صور المثقف"، مصدر سبق ذكره، ص 17. [14] المصدر نفسه، ص 80 ـ 81. [15] المصدر نفسه، ص 82 ـ 83. [16] المصدر نفسه، ص 78. [17] المصدر نفسه، ص 82 ـ 83. [18] المصدر نفسه، ص 52. [19] المصدر نفسه. [20] المصدر نفسه، ص 45. [21] Said, “Secular Criticism”, op.cit., p. 28. [22]Ibid., p. 15. [23] انظر: b-c.462Plato, The Republic, section في كتابات متأخرة خفف أفلاطون حدة معارضته للملكية الفردية. [24] هذه الأسئلة لا يطرحها أرسطو على الإطلاق، غير أن طريقة معالجته مسألة الملكية الخاصة تتعدى كونها قضية مادية اقتصادية، بل إنها تشير إلى ارتباط المرء بالعالم الخارجي "وتورطه" فيه. والملكية الخاصة وطرق الإدارة والاستثمار التي يتحمل المرء فيها نتائج طريقة إدارته، هي شرط أساسي لنمو الشخصية، وتعلّم المسؤولية، ونمو الفضيلة والأخلاق في الحياة. انظر: section 1263a. Aristotle, Politics, [25] سعيد، "صور المثقف"، مصدر سبق ذكره، ص 99. [26] المصدر نفسه، ص 101. [27] انظر: Immanuel Kant, Metaphysics of Morals (Cambridge: Cambridge University press, 1996), p 105. [28] انظر: Immanuel Kant, “Perpetual Peace: A Philosophical Sketch”, in Perpetual Peace and other Essays (Cambridge: Hacket Publishing Company, 1983), p. 133. [29] انظر: Immanuel Kant, “On the Proverb: That May Be True in Theory, But is of no Practical Use”, in Immanuel Kant, Perpetual Peace and other Essays (Cambridge: Hacket Publishing Company, 1983), p. 70. [30] سعيد، "صور المثقف"، ص 101. [31] المصدر نفسه، ص 102. [32] يعبّر كانط عن هذا الرأي في أكثر من موقع. انظر:kant, Metaphysics of Morals…, op.cit., p. 19. [33] انظر: Max Weber, “Politics as Vocation”, in From Max Weber: Essays in Sociology, edited by Hans Heinrich Gerth and Charles Wright Mills (Oxford: Oxford University Press, 1946), pp. 77-128. وانظر بصورة خاصة: Ibid., pp. 125-127.

Author biography: 

رائف زريق: كاتب وأكاديمي فلسطيني.