مقدمة
اقتحمت الهجمات الأخيرة على السفن التجارية في البحر الأحمر المشهد الدامي للعدوان الإسرائيلي على غزة لترتفع معها جدية المخاوف حيال تمدد الصراع المسلح إقليمياً وتهديد أمن الممرات البحرية. لقد أشار الحوثيون في أكثر من بيان إلى أنهم سيواصلون استهداف السفن والمصالح الإسرائيلية حتى "يتوقف العدوان الإسرائيلي على غزة"، كما حذروا من أن "أي وحدات عسكرية توفر الحماية للسفن الإسرائيلية ستُعتبر أهدافاً مشروعة."
ردت الولايات المتحدة على الهجمات بإطلاق عملية "حارس الازدهار"، عبر تركيز تحالف لقدرات بحرية حليفة بهدف السيطرة على النطاق المؤدي إلى مضيق باب المندب، وهي تقوم منذ 12 كانون الثاني/يناير، مع بريطانيا بتنفيذ ضربات ضد أهداف للحوثيين داخل اليمن. الرد الحوثي أتى بإعلانه جميع المصالح الأميركية والبريطانية أهدافاً مشـروعة؛ الأمر الذي يذهب إلى تفسيرات متعددة بشأن الجدية والأهداف الكامنة وراء استهداف تلك المصالح في دول الخليج العربي أيضاً، وليس فقط تلك التي تـمر عبر البحر الأحمر.
إن مسألة تأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر ليست مسألة ميزان قوى، أو نفقات دفاعية تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها لتأمينها، إنما هي مسألة استراتيجية أميركية في التعامل مع الصراعات في المنطقة والعالم. لقد أثبتت التجربة أن خيارات واشنطن منذ خمسينيات القرن الماضي هي إدارة الصراعات وتطويرها والاستثمار فيها، وليس حلها أو إنهاؤها، فهل تخرج مسألة حرية الملاحة في البحر الأحمر عن السياقات الأميركية أم ستضيف فصلاً جديداً إلى فصول إدارة الصراعات في المنطقة ودائماً على الطريقة الأميركية؟
في الأهمية الجيوستراتيجية المتزايدة للبحر الأحمر
يفرض الموقع الجغرافي للبحر الأحمر نفسه على معادلات القوة الإقليمية والدولية، فهو همزة الوصل بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي بما يجعله في وسط القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبما يضعه في موقع التأثير في حركة التجارة العالمية، وهدفاً حيوياً يحتل موقعه في سياسات الدول الكبرى. ويكمن ثقله على مستوى الأمن العربي في تموضع سبع دول عربية على 90% من شواطئه، وهو ما أعطى تلك الدول دوراً مؤثراً وحساساً في ميزان القوى والسياسات الدولية. وقد استقرت على ضفتيه دول الاستعمار القديم، مثل بريطانيا وإيطاليا وفرنسا والبرتغال، كما خاضت عليهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي غمار منافسة شرسة استجابة لطموحاتهما الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية. وليس من قبيل المصادفة أن يشكّل الصراع العربي - الإسرائيلي في حينه منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى سنة 1977 عنواناً رئيسياً لاصطفاف دول البحر الأحمر بين القوتين العظميين، وهو اصطفاف استمر حتى انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المنظومة الاشتراكية العالمية في سنة 1991.
عاد البحر الأحمر إلى الواجهة في مطلع سنة 2008 مع تزايد عمليات القرصنة قبالة سواحل الصومال حيث سجل المكتب الدولي للملاحة البحرية اختطاف 26 سفينة ونحو 374 بحاراً خلال العام. وقد بلغ اهتمام الدوائر الدولية بالقرصنة ذروته عبر قرارات مجلس الأمن رقم 1814 و1816 ثم القرار 1838. وقد اشتمل القرار 1816، بناء على طلب الولايات المتحدة وفرنسا، على مبدأ جواز دخول السفن الحربية إلى المياه الإقليمية الصومالية بموافقة حكومتها لمكافحة القرصنة البحرية.
ومع إطلاق الصين مبادرة الحزام والطريق في سنة 2013 أضحى البحر الأحمر حلقة الوصل الأكثر أهمية بين الشرق والغرب، ما وضعه في قلب المنافسة الجيوسياسية منذ العقد الماضي بين الولايات المتحدة والصين، القطب الاقتصادي الصاعد. وعلى هذا النحو توسعت الاستثمارات في البنى التحتية من جيبوتي إلى البحر المتوسط، إلى جانب تزايد الوجود العسكري الغربي والصيني وبعض الدول الناشطة الأُخرى.
وفيما يمكن اعتباره فصلاً من فصول التنافس الدولي على المنطقة، طرحت قمة العشرين الأخيرة في أيلول/سبتمبر الماضي مشروع "الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)"[1] كبديل لـ "مبادرة الحزام والطريق"، وهو عبارة عن ممر شرقي يربط الهند بشبه الجزيرة العربية وممر شمالي يرتبط بأوروبا، بما يتجاوز دور البحر الأحمر تماماً. وبقدر ما تعنيه هذه المبادرة الجيوسياسية الكبرى الجاذبة لكثير من الدول الإقليمية، فإنها تقصي البحر الأحمر عن دوره بتحويله إلى ممر بحري داخلي، كما تضيف أكثر من تحدٍ اقتصادي ووجودي لدوله، وتهمش موقعها الجيوسياسي، ودورها الريادي في الحركة الاقتصادية.
في فصول العسكرة الدولية للبحر الأحمر
شغل البحر الأحمر عبر التاريخ الحديث حيّزاً مهماً في تطلعات الدول الكبرى التي تشاركت السيطرة العسكرية على مداخله، ولا سيما فرنسا وبريطانيا والبرتغال، للإبقاء على طريق الهند سالكة أمامهم، كما اعتمد بعضها استخدام المساعدات السياسية والاقتصادية والعسكرية كطريقة فعالة لجذب دوله إلى معسكرها. وقد استُعيدت الحاجة إلى عسكرة البحر الأحمر مجدداً مع تصاعد هجمات القرصنة خلال سنتي 2008 و2009، وهو ما أفضى إلى إنشاء فرقة عمل بحرية تحت سلطة الأمم المتحدة،[2] أساسها "مجموعتا العمل المشتركة 151 و152" اللتان شُكلتا في سنة 2005، إذ تعهدت 20 دولة بالمساهمة فيها بالسفن والطائرات. ومنذ حينه، قامت فرق العمل هذه بتقسيم البحر الأحمر وخليج عُمان وخليج عدن والمحيط الهندي إلى مناطق متعددة، تولت كل منها تأمينه، الأمر الذي أدى إلى انخفاض معدل هجمات القراصنة الصوماليين، لتصبح حوادث القرصنة نادرة اليوم بعد أن كانت تزيد على 100 حادث سنوياً.
وفي نيسان/أبريل 2023، انضمت فرقة عمل جديدة إلى قوات العمل البحرية المشتركة- وهي فرقة العمل 153 التي تولت مصر قيادتها مؤخراً[3]- للقيام بدوريات في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن، وهي جزء من تحالف يضم 39 دولة بقيادة نائب أميرال الأسطول الخامس الأميركي المتمركز في البحرين. كما شُكّلت مجموعة عمل أُخرى، هي فرقة العمل 154، في أيار/مايو، للتركيز على جهود التدريب المتعددة الجنسيات.
وفي خضم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وصل عدد السفن الحربية الصينية في الشرق الأوسط بداية كانون الأول/ديسمبر إلى ستة. ووفقاً لبيان صادر عن وزارة الدفاع الصينية فإن فرقة العمل البحرية الرابعة والأربعين تقوم بعمليات منتظمة في المنطقة منذ أيار/مايو 2023، وقد أنهت تدريباً مشتركاً مع البحرية العُمانية خلال زيارة لعُمان لتبدأ بعدها زيارة ودية إلى الكويت. وقد رست السفن الحربية التابعة لفرقة العمل الصينية، وتضم مدمرة صواريخ موجهة وفرقاطة وسفينة إمداد. والجدير بالذكر أن الصين التي لا تشكل جزءاً من فرقة العمل الجديدة، تستخدم بكثافة طريق البحر الأحمر وتتمتع بنفوذ على إيران، الراعي الرئيسي للحوثيين.
لماذا شكّلت الولايات المتحدة قوة عمل جديدة؟[4]
إن وجود خمس فرق عمل بحرية في الشرق الأوسط، بما فيها حاملتا الطائرات "يو إس إس باتان"، و"دوايت دي آيزنهاور"، مصحوبة بمدمرات وطرادات دعم، تشمل "يو إس إس كارني"، وهي مدمرة يمكنها إسقاط الصواريخ، و"يو إس إس باتان"، التي يمكنها حمل القوات والمروحيات، و"يو إس إس كارتر هول"، و "يو إس إس ميسا فيردي"،[5] يعني أن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يفتقرون إلى القدرات البحرية في المنطقة.
لقد أشار عدد من المسؤولين الأميركيين إلى ضرورة إنشاء قوة عمل بحرية سادسة تحت رعاية القوات البحرية المشتركة لحماية الشحن التجاري في البحر الأحمر؛ فوفقاً لمستشار الأمن القومي جاك سوليفان، تجري الولايات المتحدة مناقشات مع العديد من حلفائها بهدف إنشاء قوة عمل جديدة لمرافقة وضمان المرور الآمن للشحن التجاري في البحر الأحمر. وقد أشار نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة إلى أن الإجراءات التي اتخذتها القوات البحرية المشتركة للدفاع عن السفن الحربية التابعة للتحالف والسفن التجارية الأُخرى المهددة بالهجوم، هي استخدامات مشروعة وضرورية لحماية التجارة الدولية واستعادة النظام القائم على القواعد في البيئة البحرية الإقليمية، ما يطرح تساؤلات حيال الأسباب التي حدت واشنطن إلى اتخاذ القرار بالذهاب نحو هذا الخيار. ومما لا شك فيه أن للولايات المتحدة التي ستضطلع بالدور الأكبر في تعزيز قدرات هذه القوة التزامات وشراكات اقتصادية وسياسية تريد تطبيقها، وربما تفرضها على دول المنطقة كما على الدول الأوروبية المستفيدة من هذه القوة.
من جهة أُخرى، يثير الرد الأميركي "غير المتكافئ" على التصعيد العسكري الذي يمارسه الحوثيون في اليمن بحجة دعم غزة- وكذلك على هجماتها في العراق وسورية- تساؤلات كثيرة حيال الأسباب الكامنة وراء ضبط النفس الذي تمارسه واشنطن والاكتفاء بإجراءات موضعية لا تقارب التهديدات المطروحة بشكل فاعل على الرغم من الأخطار التي تسببها تلك الهجمات، سواء على الأمن البحري أو على استقرار المنطقة. وتبلغ هذه التساؤلات حدود القلق بشأن صدقية الحرص الأميركي على استقرار البحر الأحمر وأمنه، وحيال موقف واشنطن من تطور اقتصادات المنطقة المرتبطة بشكل أساسي بهذا الممر.
وفي إجراء أوروبي لا يمكن قراءته إلاّ من قبيل الشك في جدية واشنطن في تأمين حرية الملاحة عبر البحر الأحمر بما يضمن المصالح الأوروبية من جهة، ومن قبيل الحذر من جهة أُخرى حيال استخدام الولايات المتحدة لتحالف "حارس الازدهار" في صدام عسكري لا تريد أوروبا أن تكون طرفاً فيه، أعلن منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إطلاق مهمة بحرية في البحر الأحمر في غضون ثلاثة أسابيع للمساعدة في الدفاع عن سفن الشحن ضد هجمات المتمردين الحوثيين التي تعرقل التجارة وتؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
أتى قرار الاتحاد الأوروبي نزولاً عند طلب الشركات التي تطالب باتخاذ إجراءات من جانب الاتحاد الأوروبي، نظراً إلى الآثار السلبية المترتبة على إجبار السفن التجارية على تجاوز البحر الأحمر في طريقها من أوروبا وإليها، على أن تكون جاهزة لمباشرة العمل في 19 شباط/فبراير الحالي بالتزامن مع الاجتماع القادم لمجلس الشؤون الخارجية. تأكيد بوريل إن "نهج الاتحاد الأوروبي سيكون دفاعياً فقط، وأن الأمر يتعلق بحماية السفن واعتراض الهجمات من دون المشاركة في أي نوع من الإجراءات ضد الحوثيين، فقط منع هجماتهم"، يؤكد حذر الاتحاد الأوروبي من المشاركة في "حارس الازدهار الأميركي" الذي تشارك فيه المملكة المتحدة والدنمارك.
تساؤلات برسم الولايات المتحدة
يقدم تهديد الملاحة في البحر الأحمر منصة نموذجية لعودة الولايات المتحدة إلى المنطقة لتصفية الحسابات والإمساك بملفات مهمة، بما يسمح بالتعامل مع جملة من الأهداف دفعة واحدة؛ إذ سيسمح بإرهاق الصين اقتصادياً عبر عرقلة صادراتها المتوجهة إلى المنطقة العربية وأوروبا ورفع تكاليفها، وهو ما سيساهم في التوجه نحو طريق الهند الجديد، كما سيسمح بإعادة دول الخليج إلى كنفها وربما إحباط الاتفاق مع إيران الذي رعته الصين، ودائماً مع الاحتفاظ بالتهديد بالحرب الشاملة التي يبدو أنها أصبحت خارج الخيارات الأميركية.
لعل في الاندفاعة الأميركية إلى تشكيل القوة البحرية لحماية السفن في البحر الأحمر ما يكفي للتساؤل حيال المهمة النهائية التي تريدها الولايات المتحدة لهذا التحالف، وحيال وجود طموحات أميركية تتجاوز تأمين حركة التجارة الدولية عبر البحر الأحمر نحو الحصول على شرعية دولية للسيطرة على أحد أهم الممرات الدولية في العالم. فهل تدفع الولايات المتحدة من خلال وجود 11 قاعدة عسكرية في منطقة القرن الأفريقي القريبة من مدخله إلى اندلاع نزاعات بالوكالة بما يفضي إلى حال من عدم الاستقرار تستحيل معها الملاحة في البحر الأحمر؟
قد يكون في الهجوم الذي شنته الجماعة الإسلامية في العراق بطائرة مسيّرة نهاية الأسبوع المنصرم على القاعدة الأميركية المسمّاة "البرج 22" في شرق الأردن، وسقوط ثلاثة عسكريين واتخاذ الرئيس جو بايدن القرار بالرد ما سيضيف إلى المشهد في البحر الأحمر مزيداً من الضبابية، وما سيدفع بالقيادة الأميركية إلى توسيع دائرة المواجهة بين الخليج العربي والبحر الأحمر مروراً باليمن.
[1] The White House, “Memorandum of Understanding on the Principles of an India – Middle East – Europe Economic Corridor,” 9 September 2023.
[2] Resolution 2383 (2017) Adopted by the Security Council at its 8088th meeting, on 7 November 2017.
[3] Combined Maritime Forces (CMF), “Egypt Turns Over Command of Multinational Red Sea Task Force”, 12 June 2023; “Pentagon announces new international mission to counter attacks on commercial vessels in Red Sea,” AP News, 19 December 2023.
[4] “USS Dwight D. Eisenhower nuclear aircraft carrier enters Red Sea”, i24 News, 6 January 2024.
[5] “EU's Red Sea naval mission will not involve combat: Foreign Policy chief,” Middle East Monitor, 19 January 2024.