بدت عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها حركة "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ضد القوات الإسرائيلية ضمن ما يُعرف بمستوطنات "غلاف غزة"، مفاجأة للجميع نظراً إلى السلوك المتحفظ الذي أبدته الحركة إزاء عدوانَين متتابعَين للاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، استهدفا في الدرجة الأولى حركة الجهاد الإسلامي؛ الأول كان في آب/أغسطس 2022، والثاني كان في أيار/مايو 2023، لكن حجم العملية وعمقها ونتائجها طرح أسئلة كثيفة عن أهداف الحركة من هذه العملية الأضخم في شكلها ونتائجها في تاريخ المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وبالتالي، ومع تعمُق الرد الإسرائيلي الذي أخذ شكل الإزاحة السكانية، واتُّهِم بالإبادة الجماعية، وجعل على رأس أهدافه القضاء على حركة "حماس"، وظهر من نمط سلوكه العسكري توجهاً، في الحد الأدنى، إلى فرض مناطق عازلة داخل قطاع غزة، وهو ما يعني عودة احتلال مناطق من القطاع، وتأسيس قوة شرطية موالية له، بدأ الحديث عن اليوم التالي للحرب، ومن ثم مستقبل حركة "حماس" وحضورها في المشهد السياسي الفلسطيني.
تقرأ هذه الورقة موقف حركة "حماس" من الحرب، ابتداء من أهداف الحركة، ومروراً بمجريات الحرب، وانتهاء بما يمكن أن تفضي إليه الحرب من نتائج وآثار في الحركة ومستقبلها وحضورها.
أولاً- "طوفان الأقصى".. نظرة في المنطلقات
على الرغم من المفاجأة التي سببتها عملية "طوفان الأقصى"، نظراً إلى ما عكسته الحركة عن نفسها، منذ نهاية معركة "سيف القدس" في أيار/مايو 2021؛ من رغبة في الهدوء، والبحث عن فرص سياسية لرفع الحصار، أو تحسين الأوضاع الاقتصادية لسكان القطاع، وتجنُبها المشاركة المباشرة في رد عدوانَي آب/أغسطس 2022 وأيار/مايو 2023، اللذين استهدفا حركة الجهاد الإسلامي، فإنها كانت تعطي باستمرار مؤشرات إلى حدث ضخم تستعد له، من شأنه أن يفجر الأوضاع لو بقيت 3 ملفات على حالها، وهي: المسجد الأقصى، والأسرى في سجون الاحتلال، وحصار قطاع غزة.
وقد حذّر رئيس حركة "حماس" في قطاع غزة، يحيى السنوار، في خطاب له في 30 نيسان/أبريل 2022، من أن استمرار سياسات الاحتلال تجاه القدس والمسجد الأقصى من شأنها أن تشعل حرباً دينية، مشيراً إلى بعض مظاهر تلك السياسات قائلاً: "ممنوع أن تتكرر"، ومنوّهاً إلى تجهيز حركته دفعة صاروخية للدفاع عن المسجد الأقصى، ومؤكداً عمل الحركة على تبييض السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين، ومتحدثاً عن تنسيق جارٍ مع ما سماه "محور القدس" لتشغيل خط بحري يكسر الحصار عن غزة.[1]
اختُبرت تصريحات السنوار هذه بجملة من الأحداث؛ منها اعتداءات مستوطني الاحتلال على المسجد الأقصى في أيار/مايو التالي مباشرة لهذه التصريحات، والعدوانَان المشار إليهما سابقاً على القطاع، من دون أن تفعل الحركة شيئاً، وهو ما وفر انطباعاً بكونها مجرد خطابة دعائية، لكن تصريحات كهذه لم تكن الأولى من نوعها.
في خطابه الأول بعد معركة "سيف القدس"، وصف السنوار تلك المعركة بكونها مجرد مناورة صغيرة تؤشر إلى ما يمكن أن يكون عليه الحال لو مس الاحتلال المسجد الأقصى، وأن حركته "ستحرق الأخضر واليابس إن لم يرفع الحصار." ومنذ ذلك الخطاب، بدأت مصطلحات المعركة الكبرى، والحرب الشاملة، ووحدة الساحات، تدخل التداول الخطابي لحركة "حماس"، فقد قال السنوار في خطابه هذا: "كل شعبنا وكل قوى أمتنا وكل قوى المقاومة والممانعة ستكون في المعركة القادمة إذا نادانا الأقصى والشيخ جراح، ونحن جاهزون للمعركة الكبرى."[2]
لم تكن خطابات السنوار المؤشر الوحيد إلى ما يدور في أجندة "حماس"، فقد صرح مروان عيسى، نائب القائد العام لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة "حماس" لبرنامج "ما خفي أعظم" الذي تبثه قناة "الجزيرة"،[3] أن: "ملف الأسرى هو الأهم على طاولة كتائب القسام"، وأنه الملف الذي "سيكون صاعق ومفجر المفاجآت القادمة"،[4] وحتى قبل عملية "طوفان الأقصى" بأقل من شهرَين، كان صالح العاروري، نائب رئيس حركة "حماس"، ورئيس إقليم الضفة الغربية فيها، يتحدث عن "حرب شاملة" تريدها حركته ويريدها "محور المقاومة" ويتحضر لها الجميع.[5]
يمكن وضع هذه التصريحات في سياق واحد لخطاب محمد الضيف، قائد كتاب القسام، والذي أعلن به انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، جاعلاً أهدافها: إطلاق الأسرى، وإنهاء الممارسات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وحماية المسجد الأقصى، لكن اللافت في خطابه أنه عدّ عملية "طوفان الأقصى" بداية العودة إلى مشروع التحرير والعودة وإقامة الدولة، فضلاً عن دعوته جماهير الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة سنة 1948 إلى الالتحاق بهذه العملية، موجهاً نداء مباشراً إلى "المقاومة الإسلامية في لبنان وإيران واليمن والعراق وسورية" للالتحام مع المقاومة في فلسطين، فيما سماه "يوم الثورة الكبرى من أجل إنهاء الاحتلال الأخير ونظام الفصل العنصري الأخير في العالم."[6]
يمكن أن يُفهم من مجمل التصريحات تلك أن حركة "حماس" وضعت 3 أهداف رئيسية مباشرة لها من عمليتها تلك: تحرير الأسرى، ووقف الاعتداءات على المسجد الأقصى، ورفع الحصار عن قطاع غزة، إلاّ إن التصريحات التي تحدثت عن الحرب الشاملة، وتوقعها التحام "محور المقاومة" بها، والدعوات المباشرة التي وجهها محمد الضيف إلى عناصر ذلك المحور للالتحام في المعركة، ووصفه العملية بأنها ثورة تحرير كبرى، كلها تشير إلى أن الحركة، وخصوصاً قيادتها العسكرية، كانت لديها تطلعات أكبر من هذه المعركة، مبنية على تجربة معركة "سيف القدس"، وهو ما أعطى الحركة توقُعاً أن حدثاً ضخماً واستثنائياً من شأنه أن يعيد دمج الفلسطينيين في مشهد كفاحي واحد يسنده انخراط "محور المقاومة" في الحرب، وهو ما يضع فلسطين على عتبة التحرير، ويبدو ذلك واضحاً في الخطاب التفصيلي الذي ألقاه الناطق العسكري لكتائب القسام في اليوم الخامس من الحرب، حينما قال إن فكرة معركة "طوفان الأقصى" بدأت من حيث انتهت معركة "سيف القدس"، والتي، بحسب وصفه، "وحّدت الساحات وحشدت الأمة" بحيث ينبغي أن تحدث المعركة "الفارق الكبير في مستقبل الصراع مع الاحتلال"، مشيراً إلى ملفَّي الأسرى والأقصى في إطار الأهداف المباشرة.[7]
ثانياً- الحرب.. قراءة في المسارات..
يتبين أنه كانت لحركة "حماس" أهداف مباشرة من العملية، وأُخرى أبعد تتوقع منها إحداث انقلاب شامل في الأوضاع الجارية، تحشد بها الجماهير الفلسطينية من جهة، وتجذب بها إليها حلفاءها في "محور المقاومة" من جهة أُخرى، وهذا ما يفسر الحجم الكبير للعملية، حتى وإن كانت الحركة من موقعها السياسي قد تأخرت في إصدار صيغة مكتوبة توضح فيها من جهة أهدافها من العملية، وتدفع بها من جهة أُخرى الاتهامات التي اجترحها الاحتلال الإسرائيلي بشأن مجريات عملية "طوفان الأقصى"؛ من استهداف للمدنيين، واغتصاب للنساء، وقطع لرؤوس الأطفال، وهي اتهامات ثبت كذبها لاحقاً.[8]
في وثيقتها التي سمتها "حماس" "هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟"، والتي أصدرتها الحركة في 21 كانون الثاني/يناير 2024، فندت الحركة الاتهامات الإسرائيلية، ووضعت عمليتها في سياق الصراع الطويل مع الاحتلال، وحددت أهدافها في مواجهة مخططات التهويد والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، بالإضافة إلى قطع الطريق على مشاريع اليمين الإسرائيلي المتطرف الرامية إلى حسم قضيتَي الضفة الغربية والقدس، والإفراج عن الأسرى، ورفع الحصار، وإنهاء الاستيطان، وإحياء قضية العودة، وإقامة الدولة الفلسطينية.[9]
وإذا كانت تلك أهداف كبرى، فإن مطالب الحركة التي ترتبت على مجريات الحرب تمثلت في وقف العدوان، وفك الحصار، وإدخال المساعدات، وتوفير مستلزمات الإيواء، وإعادة الإعمار، ومحاسبة الاحتلال، ودعم المقاومة، ورفض المشاريع الإسرائيلية والدولية لتحديد مستقبل غزة بمعزل عن إرادة الشعب الفلسطيني، والوقوف في وجه محاولات التهجير.
إن التحول الجاري هنا مبني على الفعل الإسرائيلي هذه المرة، ليحوّل موقف "حماس" من الهجوم الاستراتيجي إلى الدفاع، في مواجهة توغُل الاحتلال إلى عمق قطاع غزة، بحجم ربما لم يكن متوقعاً من جانب الحركة، إذ سخر الناطق العسكري لكتائب القسام في خطاب له في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2023 من تلويح الاحتلال بعملية برية قائلاً إن ذلك "مثير للسخرية، فكيف لهذا الجيش المهشم، الذي أخرجنا فرقة منه عن الخدمة في محيط غلاف غزة أن يجرؤ على مواجهة يتمناها تسعة أعشار جيش القسام وأركانه وأسلحته"،[10] إلاّ إن الاحتلال بدأ عمليته البرية فعلاً في 27 تشرين الأول/أكتوبر، وامتدت العملية إلى شمال القطاع ومدينة غزة بالكامل، ثم تكثفت لاحقاً في خان يونس، ليعلن الاحتلال المرحلة الثالثة من الحرب،[11] بتقليص الكثافة النارية، والتركيز على العمليات الخاصة، وبدء إقامة منطقة عازلة داخل القطاع فعلياً،[12] وهو ما يعني العودة إلى الاحتلال البشري المباشر، وذلك بينما تتحدث المصادر الإسرائيلية عن هجوم وشيك[13] على مدينة رفح، على الرغم من الرفض المصري، وهو ما ربما يعني دفعاً نحو نزوح جديد، وكارثة إنسانية مضاعفة.
وبينما الهدف الإسرائيلي الكبير المعلَن وهو "القضاء على ’حماس‘"، أو "النصر الشامل" عليها،[14] والذي ظل قائماً على الأقل على مستوى الخطاب، فإن الجهود لا تزال محصورة في هدنة موقتة يُسعى لأن تكون طويلة يجري خلالها تبادُل للأسرى، وقد تصاعد في الأثناء الحديث عن اليوم التالي للحرب، وهو الحديث الذي يشير مباشرة إلى مستقبل حركة "حماس".
ثالثاً- الحرب.. تطلّع إلى النهايات..
رفعت الحركة من شعبيتها في هذه الحرب، على الأقل كما تشير أحدث استطلاعات الرأي؛ إذ ارتفعت نسبة التأييد لها أكثر بثلاثة أضعاف في الضفة الغربية مقارنة بالوضع قبل ثلاثة أشهر من الحرب، وفي غزة ارتفعت، لكن بقدر محدود،[15] كما أنها أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة الإقليمية والدولية، وقطعت الطريق نسبياً على مشاريع تطبيع متجاوزة للقضية الفلسطينية، كان آخرها مشروع التطبيع السعودي الإسرائيلي، إذ أعلنت وزارة الخارجية السعودية أخيراً أنه "لن تكون هناك علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ما لم يتم الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود سنة 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وإيقاف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وانسحاب أفراد قوات الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة كافة"،[16] وهو ما يمكن عدُه تحولاً بالنسبة إلى تصريحات سابقة لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أدلى بها في أيلول/سبتمبر 2023، وقال فيها إن بلاده تتقدم كل يوم أكثر نحو التطبيع مع إسرائيل، وإن ما يأمل به هو تسهيل حياة الفلسطينيين، ودمج إسرائيل في الشرق الأوسط.[17]
إن تطورات الحرب ركزت النقاش السياسي بشأن قضايا وقف الحرب وتبادل الأسرى، وما يُسمى بـ "اليوم التالي" للحرب، مع عودة أميركية إلى الحديث عن دولة فلسطينية، والإيحاء بإمكان الاعتراف بها،[18] وهو ما جعل جهد "حماس" منصباً على وقف الحرب، وتحسين المبادرات المقترحة لوقفها، وعلى ما يفضي إلى انسحاب قوات الاحتلال وإعادة الإعمار، مع ملاحظات أُخرى لها متعلقة بالأسرى والمسجد الأقصى، كما في ردها على مبادرة مباحثات باريس لتبادل الأسرى.[19]
ولا يعني ذلك تراجع القيمة الاستراتيجية لعملية "طوفان الأقصى"، لكن نتائجها لم تكن فورية كما أملت الحركة، ولا سيما أنها لم تفجر ثورة كبرى على الفور، ولم تجذب انخراطاً من "محور المقاومة" أكثر تأثيراً في مجريات الحرب، ودفعت الحرب البرية الإسرائيلية، وما نتج عن عموم الحرب من كارثة إنسانية، نحو نقاش جديد متعلق؛ أولاً، بوقف الحرب، وثانياً، بما يلي الحرب من تسوية يريدها الإسرائيليون محصورة في غزة، تضمن لهم إدارة غير معادية، ويسعى الأميركيون لأن تكون أكثر شمولاً، بما يعيد تنشيط السلطة الفلسطينية لتتولى هي إدارة قطاع غزة،[20] وهو التصور الذي يبدو مقبولاً أكثر لدول الإقليم الأكثر التصاقاً بقطاع غزة، كمصر.[21]
وتخوض "حماس" هذه الحرب وهي لا تحظى بتعاطف إقليمي، كما أن موقف السلطة الفلسطينية إزاء الحرب والحركة بدا متحفظاً؛ إذ لم تقرّب الحرب بين الطرفين الفلسطينيين المتخاصمَين، وذلك في الوقت الذي لم تعطِ إسرائيل مؤشرات إلى نيتها وقف الحرب، وإن كان الطرفان ربما دخلا مفاوضات في الحرب نفسها يراهن فيها الإسرائيليون على قوة نيرانهم وقدرتهم على تعميق الكارثة الإنسانية، وجعْلها عامل الضغط الأكبر على "حماس"، بينما تراهن "حماس" على صمودها الذي بدا مفاجئاً للجميع، بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. ففي مؤتمر صحافي جمع وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، برئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري محمد بن خليفة آل ثاني، في الدوحة في 6 شباط/فبراير 2024، بشأن مقترح تبادل الأسرى، قال وزير الخارجية الأميركية إن عدم استسلام "حماس" هو الذي جعل تفاهمات "تبادل الرهائن" الطريق الأفضل المتاح الآن.
وسوف تعمل الحركة على وقف الحرب بأفضل شروط ممكنة، ثم ستسعى، عبر صفقة الأسرى، للتأثير في نخبة حركة "فتح" بالإفراج عن شخصيات يمكن أن تكون أكثر قابلية للتقارب مع الحركة؛ كالأسير مروان البرغوثي، وربما يكون الموقف المفضل لها هو حكومة موحدة انتقالية تشرف على إعادة الإعمار، وتهيئ لانتخابات وطنية شاملة،[22] لكن الأمر برمّته مرهون بنتائج الحرب، وباستعداد حركة "فتح" ونخبة السلطة الفلسطينية لالتقاط الفرص التي تصنعها الحرب، وانتهاج خط أكثر اقتراباً من حركة "حماس".
رابعاً.. خلاصة استشرافية.. "حماس" بعد الحرب..
يمكن الخلوص مما سبق إلى أن الحرب انتقلت من هجوم استراتيجي رفع من شعبية "حماس" وطنياً وعربياً، وجعلها في صدارة النقاش السياسي الإقليمي والدولي، إلى هجوم إسرائيلي مدمر كان من أهدافه طمس عملية "طوفان الأقصى"، ومع طول أمد الحرب غير المسبوق في تاريخ الصراع، فإن هذه الحرب صارت عنوان اللحظة الراهنة، والخروج منها هو أهم قضايا حركة "حماس".
وإذا كانت شعبية الحركة قد ارتفعت في مطلع هذه الحرب، فإن تلك الشعبية، وخصوصاً في قطاع غزة، يمكن أن تتآكل مع استمرار الحرب، وتعمُّق الكارثة الإنسانية، وتحوُّل وقف إطلاق النار إلى قضية وحيدة في الأفق الراهن بالنسبة إلى سكان القطاع، فإذا أُضيف إلى ذلك إمكان إبرام صفقة تبادل أسرى، فإن مستقبل "حماس" سيدور في إطار الإمكانات التالية:
1- تدرك حركة "حماس" أن الكارثة الإنسانية التي فرضها الاحتلال على قطاع غزة لن تسمح لها بعد ذلك بإدارة القطاع، وهو ما يحتم عليها البحث في معالجات وطنية تجعل من حكومة وطنية مفتاحاً لقضايا إعادة الإعمار. والنتائج التي ستنتهي إليها الحرب هي التي سوف تحدد تلك الصورة الإدارية للقطاع ومدى ارتباطها بموقف وطني عام يدمج الضفة الغربية وقطاع غزة في حالة وطنية واحدة سياسياً ونضالياً، وهو ما يعني أن فرص حركة "حماس" في حضور أفضل لها على المستوى السياسي في الأفق القريب مرهونة في أول الأمر بكيفيات الخروج من الحرب، وقدرتها على تحسين هذا الخروج، ولا ينفك عن ذلك بالضرورة موقع الحركة الإقليمي وعلاقاتها الدولية.
2- يتصل بذلك موقف السلطة الفلسطينية، بما تمثله أيضاً من موقف لمنظمة التحرير وحركة "فتح"، فإن النخبة التي تقود هذا المثلث لم تُظهر تعبيرات عملية، أو حتى خطابية كافية، متعاطفة مع حركة "حماس" في هذه الحرب، إنما ظلت سياسات السلطة وبعض تصريحات نخبتها وبعض من يتصل بها محل جدل واضح، وهو ما يعني أن هذه النخبة كانت أقرب إلى انتظار نتائج الحرب وأخذ مسافة من "حماس"، وهو الأمر الذي لا يساعد في تشييد جبهة وطنية يشترك فيها الجميع بعد الحرب للنهوض بأعباء ما بعد الحرب.
3- يمكن لـ "حماس" أن تراهن، لتحسين موقفها وتجديد شعبيتها والتأثير في نخبة السلطة، على صفقة التبادل التي من شأنها، في حال جرت وفق معايير كبيرة لمصلحة الفلسطينيين، أن توفر للحركة الفرص التالية:
-
التذكير بعملية "طوفان الأقصى" بصفتها إنجازاً عسكرياً واستراتيجياً فلسطينياً، وستكون صفقة التبادل من نتائجها المباشرة، التي تتضافر مع النتائج التراكمية التي سوف تظهر في الأفقَين؛ المتوسط والبعيد.
-
تعزيز موقع الحركة، بالنسبة إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، وذلك في حال نجحت الحركة في فرض الإفراج عن قيادات مهمة في الفصائل الأُخرى، كمروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، وأحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو أمر من جهة يمكن أن يفيد في التأثير في الصيغ القيادية والتنظيمية في حركة "فتح"، بما يوفّر إمكاناً أفضل لتقارُب الحركتَين، ومن جهة أُخرى في تحسين قدرة "حماس" على تأسيس جبهة وطنية تنضم إليها قوى أساسية، كحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وهو ما يمكن أن يكون خياراً منظوراً من الحركة في حال لم ينجز الفلسطينيون اتفاقاً وطنياً أوسع يعيد تأهيل منظمة التحرير لتسع حركتَي "حماس" والجهاد الإسلامي.
-
إن إنجازاً كهذا، تصير فيه صفقة التبادل في واجهة الموقف، مع وقف الحرب وبدء عمليات الإعمار، سيسمح بالعودة إلى تقييم الحرب انطلاقاً من اللحظة التأسيسية صبيحة 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهو ما يحتفظ لحركة "حماس" بمكاسبها الشعبية في الضفة الغربية، ويعيد ترميم شعبيتها داخل قطاع غزة.
4- على مستوى الرؤى السياسية، فمن غير الواضح أن "حماس"، بعد تجاوُز الشهر الرابع للحرب، قد بدأت صوغ رؤية سياسية تنسجم مع استثنائية عملية "طوفان الأقصى"، إذ لا تزال الأطروحات السياسية، بصيغها المتعددة، تدور في إطار الخطاب التقليدي الفلسطيني الداعي إلى إقامة دولة فلسطينية. إن حجم الكارثة التي أوقعها الاحتلال بالفلسطينيين لا يزال يحول دون القدرة على تطوير برنامج نضالي أرفع سقفاً، ويلاحظ جوهرياً ما تكشفه سياسات الإبادة والتهجير والمحو الإسرائيلية، والفشل المؤكد لمشروع التسوية القائم على أطروحة حل الدولتَين، إلاّ إنه، وبعد انتهاء الحرب، وانعكاسها في مفاعيل كفاحية تالية في ساحات فلسطينية أُخرى، والتخفف المتدرج من نتائج الحرب المادية والنفسية، فإنه وفي الأفقَين، المتوسط والبعيد، من المرجح أن تبدأ صيغ جدية، وأكثر جذرية في الصعود مكان أطروحة حل الدولتَين، أو أطروحة الدولة الفلسطينية الغامضة التي عبّرت عنها حركة "حماس" في وثيقتها السياسية التي أصدرتها سنة 2017.[23]
خامساً- وأخيراً..
لن يتمكن الاحتلال من القضاء على حركة "حماس"، وذلك لكونها حركة منبثقة من المجتمع الفلسطيني، وتتمتع بعناصر ثابتة ودائمة لتجديد موقعها وشعبيتها، كما أنه لا يمكن للوعي الفلسطيني تجاوز الحركة التي كانت عنوان هذا المشهد، في الحرب الأكثر طولاً وملحمية بين الفلسطينيين والاحتلال، لكن هذه الحرب بالغة الوطأة والثقل على الحركة، وهو ما يعني بالضرورة أثراً عميقاً في موقعها ومكانتها، وحتى بنيتها الداخلية.
إن هذا التحليل ارتكز على الموقف الجاري بمحاولة إنهاء الحرب بصيغة تفاوضية، بيد أن الإمكانات الأُخرى لا تزال قائمة، ومن ذلك أن تطول الحرب أو تتجدد أو تتوسع إقليمياً، ومستقبل الحركة، صعوداً وهبوطاً، منوط كذلك بهذه الإمكانات، وهو ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار، بما في ذلك موقع الحركة الإقليمي وعلاقاتها الدولية ومستوياتها التمثيلية للشعب الفلسطيني وقضيته.
وفي كل الأحوال، فإن الحركة نفسها لا بد لها من أن تدخل نقاشاً داخلياً كبيراً بعد الحرب، بشأن أُطُرها التنظيمية، وتوازناتها الداخلية، وآليات اتخاذ القرار فيها، ورؤاها النضالية والسياسية، وأدوار الأقاليم الجغرافية الأُخرى فيها، ومستويات مساهمتها في الحرب، وهذا ربما يعني تغيراً في أطرها وهياكلها التنظيمية، وهو أمر سوف تتعزز إمكاناته بخروج قيادات مهمة للحركة من السجون في صفقة التبادل المممكنة.
[1] "كشف سر الرقم 1111.. السنوار: استمرار استباحة الأقصى يعني اندلاع حرب إقليمية دينية"، "الجزيرة"، 30/4/2022.
[2] "السنوار: سيف القدس مناورة... جاهزون للمعركة الكبرى"، "الأخبار"، 26/5/2021.
[3] "ما خفي أعظم.. في قبضة المقاومة"، يوتيوب، 6/6/2021.
[4] رمزي محمود، "’القسام‘: نمتلك أوراق مساومة لإنجاز صفقة تبادل أسرى مشرفة"، "الأناضول"، 6/6/2021.
[5] "العاروري للميادين: المقاومة الفلسطينية تتجهز لحرب شاملة ستكون نتيجتها هزيمة ’إسرائيل‘"، يوتيوب، 25/8/2023.
[6] "رسالة صوتية لقائد القسام لإطلاق عملية ’طوفان الأقصى‘"، "الجزيرة"، 7/10/2023.
[7] "أبو عبيدة: خطة دقيقة لطوفان الأقصى.. 3 آلاف مقاتل للمعركة و1500 للدعم والإسناد"، "الجزيرة"، 12/10/2023.
[8] نايف زيداني، "من قطع الرؤوس إلى الجرائم الجنسية... شيء من مسلسل الكذب الإسرائيلي"، " العربي الجديد"، 9/12/2023.
[9] "هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟"، مذكرة صادرة عن حركة المقاومة الإسلامية – "حماس".
[10] "أبو عبيدة: لن نتفاوض بشأن الأسرى تحت النار وما زلنا نتحكم بسير المعركة"، "الجزيرة"، 9/10/2023.
[11] أحمد الخطيب، "ماذا يعني الإعلان الإسرائيلي عن المرحلة الثالثة من حرب غزة؟"، "بي بي سي عربي"، 9/1/2024.
[12] "إسرائيل تعمل على إنشاء منطقة عازلة بغزة وتهدم ألف مبنى"، "الجزيرة"، 25/1/2024.
[13] "رغم غضب وتهديد مصر.. إسرائيل تدرس مقترحاً جديداً بشأن رفح"، "سكاي نيوز عربية"، 6/2/2024.
[14] "الجيش الإسرائيلي يستعد لتوسيع عملياته في رفح.. ونتنياهو يتعهد بـ ’نصر شامل‘"، "الشرق"، 6/2/2024.
[15] نتائج استطلاع الرأي العام رقم 90، المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، 13/12/2023.
[16] تصريح لوزارة خارجية المملكة العربية السعودية، 27/2/2024.
[17] “Palestinian issue important in negotiations with Israel: Saudi Crown Prince”, The Siasat Daily, 20/9/2023.
[18] Andrea Mitchell and Alexander Smith ,“What the U.S. recognizing a Palestinian state would mean”, NBC NEWS, 6/2/2024.
[19] "النص الحرفي لرد ’حماس‘ على ’اتفاقية الإطار‘"، "الأخبار"، 7/2/2024.
[20] Barak Ravid, “Inside U.S.-Palestinian talks about post-war Gaza”, AXIOS, 17/12/2023.
[21] "الكشف عن رسالة مصر لإسرائيل بشأن ’اليوم التالي‘ في غزة"، "معا"، 5/2/2024.
[22] . "أسامة حمدان يتحدث عن الشروط و’خلاصة‘ جهود الوساطة لوقف الحرب"، "سكاي نيوز عربية"، 25/1/2024.
[23] . نصّت "حماس" في وثيقتها المشار إليها على ما يلي: "ومع ذلك - وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أي من الحقوق الفلسطينية – فإن ’حماس‘ تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة"، انظر:
وثيقة المبادئ والسياسات العامة لحركة "حماس"، حركة المقاومة الإسلامية – "حماس"، 2017.