The Confused French Position Regarding the Gaza War: Backgrounds, Motives and Reflections
Publication Year: 
Language: 
Arabic
Number of Pages: 
7

كشف هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر وما تلاه موقفاً فرنسياً رسمياً داعماً بقوة لإسرائيل في المرحلة الأولى من "حرب غزة الخامسة". وعلى الرغم من محاولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاستدراك إلى جهة المطالبة بضرورة حماية المدنيين في غزة، والدعوة إلى مؤتمر إنساني في باريس، وتأييد وقف إطلاق النار في مجلس الأمن الدولي، فإن مواقفه بقيت بعيدة عن مواقف أسلافه، شارل ديغول وفرنسوا ميتران وجاك شيراك، الذين تميزوا بمواقف أكثر تأثيراً واستقلالية،[1]  وأتى هذا التخبط في الموقف الفرنسي من حرب غزة ليضاف إلى سلسلة نكسات في السياسة الخارجية الفرنسية.

في إبّان المرحلة الأولى من هذه الحرب، انتقل تموضع باريس من الانحياز إلى مصلحة إسرائيل إلى تردد ماكرون في زيارتها، وبعد ذلك إلى موقف أقل انحيازاً وأكثر توازناً، الأمر الذي يعكس ارتباكاً ويعبّر عن عدم وجود سياسة متماسكة وفاعلة. لذا، يبدو من الضروري التذكير بالسياسة التقليدية الفرنسية في هذه المنطقة من العالم، وفهم الخلفيات والدوافع التي أملت الموقف الأخير، ورصد الانعكاسات في موقع فرنسا وصورتها، بالإضافة إلى الانعكاسات في المشهد الفرنسي الداخلي، وعلاقات فرنسا الخارجية، ودورها في الشرق الأوسط. 

الاصطفاف الفرنسي المنحاز 

داهمت عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر إسرائيل، وسببت لها هزة وجودية، وصدمة لا سابق لها، وسرعان ما احتضنتها واشنطن، ودعمتها القوى الغربية الأُخرى، واصطفت باريس في هذا المحور نفسه. وما دفع باريس إلى اتخاذ موقف كهذا وجود 41 فرنسياً (من أصحاب الجنسية المزدوجة) بين الضحايا، وكذلك وجود مفقودين ورهائن فرنسيين جرّاء الهجوم، وهكذا، وبحسب وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، فإن فرنسا كانت "الدولة الأكثر تضرراً بعد إسرائيل." ولهذا، كان الأرجح قبول اعتبار هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر معادلاً لـ11 أيلول/سبتمبر الإسرائيلي، وتشبيه حركة "حماس" بتنظيم داعش، وما يعتري ذلك من عدم تنبُّه إلى آثار الاحتلال والمعاناة الفلسطينية بصورة عامة، والغزّية بصورة خاصة.

وفي مسعى لإبراز فرنسا كطرف دولي مؤثر في الشرق الأوسط، أعلن إيمانويل ماكرون أنه سيؤخر زيارته إلى إسرائيل -خلافاً لغيره من الزعماء الغربيين الذين تقاطروا بسرعة إلى هناك- كي يكون في إمكانه تقديم إضافة مفيدة في تضامنه أو رؤيته للحل. لذا، فقد تمت زيارته في 24 تشرين الأول/أكتوبر، بعد أكثر من أسبوعين من بدء المواجهات، وبعد أن زارها الزعماء الغربيون الرئيسيون. وربما يكمن التفسير الأولي لهذا في الرغبة في تجنب إخفاق ردات الفعل السريعة، كما حدث عند الاندفاع في زيارة بيروت في 6 آب/أغسطس 2020، بعد يومين من انفجار مرفئها، وطرْحِه مبادرة لم تثمر، أو قياساً مع جهوده الدبلوماسية المتكررة والفاشلة عشية الهجوم الروسي على أوكرانيا.[2]  وهكذا، فقد ساد هذه المرة اعتقاد أن سيد الإليزيه سيتجنب التعجل من أجل تقديم اقتراح قابل للنجاح.

لكن هذا الاعتقاد تلاشى مع اقتراح الرئيس إيمانويل ماكرون، انطلاقاً من إسرائيل، وإلى جانب بنيامين نتنياهو، الداعي إلى تشكيل "تحالف دولي ضد حماس ʾالإرهابيةʿ" يكون بمثابة امتداد للتحالف الدولي ضد داعش، وقد أثار هذا استغراب إسرائيل والولايات المتحدة وعدم حماستهما، ولم تعتبرا الاقتراح عملياً وقابلاً للحياة، كما كان صادماً لكثير من الدول وقطاعات واسعة في الفضائَين، العربي والإسلامي، أن يتم النظر إلى حركة حماس كما يُنظر إلى تنظيم داعش، وظهر فشلُ تسويق الاقتراح جلياً في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ويبدو أنه صيغ من جانب أحد مستشاري الرئيس العسكريين،[3]  ولم يمر عبر قناة وزارة الخارجية الفرنسية، ولاقى انتقادات فرنسية حادة، سواء أكان ذلك من حيث الشكل، إذ لم يتم تنسيقه مع الشركاء التقليديين، أم من حيث المضمون، لعدم تطابق الوقائع والتوصيف والبيئة.

وربما كانت زيارة ماكرون إلى رام الله، في سياق تحسين الأداء الدبلوماسي المتعثر، أول زيارة من زعيم غربي للسلطة الفلسطينية، مع إعادة تأكيد الأفق السياسي، وإعادة حل الدولتين. وإذا كانت المواقف الأولية المندفعة نحو الاصطفاف مع إسرائيل قد أثارت غضب المتعاطفين مع الفلسطينيين في فرنسا وغيرها، فسرعان ما أصبحت المواقف الفرنسية المؤيدة لوقف إطلاق النار محور انتقاد الفريق الموالي لإسرائيل، وبدت فرنسا كأنها لا ترضي أي طرف، وتخسر إمكان تأدية دور الوسيط.

وسرعان ما أحدث التموضع الفرنسي الملتبس تململاً في الداخل الفرنسي، واستنكاراً من جانب "الشارع العربي"، والذي أعرب عن صدمته من غياب الخطاب الفرنسي المتوازن. وفعلاً، كان يصعب التمييز بين التضامن ضد منفذي "11 أيول/سبتمبر الإسرائيلي"، والتغطية على الهجوم الإسرائيلي التدميري. وهكذا، لم تأخذ باريس مصالحها على الضفة الأُخرى من المتوسط وفي العالم العربي بعين الاعتبار، وبدت كأنها لا تملك رؤية استراتيجية، وكان الانفعال الذي ساد في إثر 7 تشرين الأول/أكتوبر مفاجئاً، لأنه جسّد قطيعة مع السياسة التقليدية للجمهورية الخامسة الفرنسية.  

التنكّر للمواقف الفرنسية المتوازنة 

يتذكر المراقبون والمتابعون قيام الجنرال شارل ديغول، مؤسس الجمهورية الخامسة، بإرساء أسس "السياسة العربية لفرنسا"، والتي ترتكز على تحسين العلاقة مع الضفة الأُخرى من المتوسط، والتعامل مع الدول العربية خارج منطق عهد الاستعمار بهدف تجاوز مرحلة "حرب الجزائر" و"الغزو الثلاثي في السويس" والتعاون النووي مع إسرائيل. ونفذ ديغول وعده بالوقوف ضد الطرف المعتدي، ومن هنا جاء قراره حظرَ بيع السلاح الفرنسي إلى إسرائيل بعد ضرب مطار بيروت سنة 1968. وبرز التوجه الفرنسي الجديد في فترة لاحقة، مع اعتماد المجموعة الاقتصادية الأوروبية (أصبحت الاتحاد الأوروبي لاحقاً)، في دفع فرنسا إعلاناً يعترف بالحق الفلسطيني في البندقية سنة 1980، وأيضاً في خطاب فرنسوا ميتران في الكنيست سنة 1982 وتطرقه إلى "حل الدولتين"، ووقفة جاك شيراك في القدس القديمة سنة 1996، ورفضه الحرب على العراق سنة 2003. 

ومع إيمانويل ماكرون، اختفت "السياسة العربية لفرنسا"، وزادت الهفوات كما في ملفات أُخرى، وضربت التوجهات الجديدة والرهانات الخاطئة دور فرنسا التقليدي المتمتع بهامش من الاستقلالية، وكذلك صورة فرنسا على الساحة الدولية. بالنسبة إلى معارضي الرئيس ماكرون، فإن هذه السياسات تتناقض تماماً مع مصالح فرنسا، التي لم يتوقف نفوذها عن الانحسار في مناطق كالمغرب العربي أو أفريقيا جنوب الصحراء، إذ سيفضي الموقف من الأحداث الأخيرة إلى مزيد من الانحسار في دور فرنسا في المنطقة العربية.[4]  ويستدرك بعض المثقفين المنتقدين لموقف الرئاسة الفرنسية في تفسير أحد أسباب التغييرات الغربية بأن "القضية الفلسطينية التي كانت قضية تحرّر وطني لشعب يقاوم الاحتلال في نظر قسم معتبَر من الرأي العام، باتت تُدرَج اليوم في إطار ʾالتهديد الإسلاميʿ."

ويحدو الارتباك والتخبط في الأداء الرئاسي الفرنسي إلى محاولة فهم الدوافع والمتغيرات التي أملت هذه التوجهات. ومن دون شك، فإن حدة الاستقطاب الدولي منذ حرب أوكرانيا تنعكس في مقاربات السياسات الخارجية الأوروبية، ولا يمكن التقليل من تأثير مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل، وخلط كل ما هو إسلامي بالإرهاب (مع التغاضي عن الاحتلال والاستيطان وفق المعايير المزدوجة). وكل ذلك جعل دور فرنسا كوسيط في مهب الريح، إلاّ إن الخلفية الداخلية تبدو من العوامل المرجحة في بلورة القرار الماكروني.  

تصدير الصراع في الشرق الأوسط إلى فرنسا

تحتضن فرنسا أكبر جماعة من أصول عربية أو معتنقة للدين الإسلامي في أوروبا الغربية، وتوجد فيها، في وضع مماثل، أكبر جماعة يهودية. ولذا، فإنه منذ ثمانينيات القرن الماضي، كانت هناك انعكاسات فرنسية داخلية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. 

ومما لا شك فيه، أن عمليات الإرهاب الكبرى التي ضربت فرنسا في الفترة 2015 – 2016، وعملية ذبح أستاذ فرنسي سنة 2020 من جانب جماعة متطرفة إسلامية، أدت إلى الخلط بين الإسلام والإرهاب، وبما أن حماس حركة مدرجة على لائحة الإرهاب، فقد أفلحت الدعاية الإسرائيلية في تقديم سرديتها لما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر. 

وتكاثَر تسجيل حوادث "معادية للسامية" منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، من دون الإشارة إلى إحصاء للحوادث المدرجة في خانة الإسلاموفوبيا التي تصاعدت في السنوات الأخيرة، وهذا التخبط في التوصيف والمقاربة أدى إلى اضطراب عند الرأي العام، إذ أشار استطلاع أجرته شركة يوجوف لمصلحة موقع هافينغتون بوست، إلى أن 72٪؜ من الفرنسيين يخشون أن يتم استيراد الصراع إلى داخل فرنسا،[5]  مع التحذير من العواقب الممكنة على الأمن والتماسك الاجتماعي. ويأتي ذلك في الوقت الذي كان يتم فيه النقاش البرلماني بشأن قانون الهجرة الجديد، مع تسجيل صعود اليمين المتطرف الذي انحاز إلى إسرائيل في الحرب ضد حماس، ويندفع نحو الانزلاق في "صراع الحضارات والثقافات". 

والأدهى من كل ذلك أن التضييق على الحريات العامة أتى لإسكات الأصوات المؤيدة للفلسطينيين، وهو ما زاد الطين بلة. وقد زاد كل من منع التظاهرات في الأيام الأولى، واعتبار بعض التصريحات معادية للسامية وتستلزم الملاحقة القضائية، الخشية بحسب أحد الناشطين من "قبضة رقابية وأمنية تختلط فيها دوافع الانحياز إلى الرواية الإسرائيلية، بحوافز كتم أي صوت مخالف ومتعاطف مع الشعب الفلسطيني حتى في أدنى المستويات الإنسانية."

لكن سرعان ما اضطر وزير الداخلية إلى التسليم برأي مجلس الدولة، الذي طعن في الحظر المطلق لتظاهرات التأييد للفلسطينيين؛ إذ كان للانقسام في الرأي العام والطبقة السياسية أثره في تغيير مقاربة التعامل مع تظاهرات الاستنكار لحرب غزة، كما أدى زعيم اليسار الراديكالي جان - لوك ميلانشون دوراً محورياً في هذا التحول.

ويلقي كل ذلك بظلاله على السجالات داخل الطبقة السياسية الفرنسية، وعلى صنع القرار داخل السلطة التنفيذية. ومما لا شك فيه، أن تجدد الحرب في الشرق الأوسط سيكون عامل انقسام إضافياً في فرنسا التي عانت جرّاء اضطرابات الصيف الماضي، وتخشى اهتزاز الاستقرار الداخلي.  

فقدان الموقع الريادي 

من هنا، تأتي محاولات الرئيس إيمانويل ماكرون لإعادة توجيه البوصلة في الأداء الدبلوماسي، لكن ضياع الدور المؤثر والصوت المسموع في حرب غزة دفع الدبلوماسية الفرنسية إلى التركيز على لبنان تحت عنوان جهود منع توسع الحرب، وهذا يتطابق مع الموقف الأميركي، وما يزيد هشاشة موقف فرنسا على صعيد إقليمي أشمل عدم قدرتها على تأدية دور ريادي اعتادته في توجيه الموقف الأوروبي تبعاً للانقسام الحاد داخل مواقف الاتحاد، وللتبعية الاستراتيجية لواشنطن. 

في مطلق الأحوال، ينبغي ألاّ نبالغ في مقاربة النفوذ الفرنسي في المنطقة (حالياً أو في الماضي) بأكثر مما يجب، لكن العلاقات الوثيقة لفرنسا مع مختلف الجهات الفاعلة الإقليمية يمكن أن تجعل باريس - وراء واشنطن طبعاً - عنصراً مساعداً في بعض الملفات إذا كانت الأوضاع مناسبة للمحافظة على بعض التأثير الإيجابي في الشرق الأوسط. 

 

[1]  Christian Lequesne et autres, La politique extérieure de Jacques Chirac (Paris : Riveneuve, 2013);

François Mitterrand, Réflexions sur la politique extérieure de la France : introduction à vingt-cinq discours (1981-1985) (Paris: Fayard1986).

[2]  Christian Chesnot et Georges Malbrunot, LE DЀCLASSEMENT FRANÇAIS (Paris: Michel Lafon, 2022).

[3]  Xavier Chatel, conseiller aux Affaires stratégiques de l'Elysée, L’Opinion, 26/9/2023. 

[4]  Alain Gresh, “Le droit de résister à l’oppression’’, Orient XXI, 9/10/2023. 

[5]  Huffingtonpost, 3/11/2023.

1
Author Bio: 

خطار أبو دياب: أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس.