The Last Night the Jailer Called Them by Their Serial Number
Date: 
May 10 2023
blog Series: 

دخل ضابط القسم بكل أبهته الأمنية وخلفه شرطي بدا منظره غرائبياً، يحمل جرة من الغاز على ظهره، أو كما كان يسمى "جحش العد"، يضغط على جرة الغاز بتكاسُل، ويرسل عينيه، ببلاهة، شمالاً ويميناً، شرطي آخر يقف على الباب اليتيم للغرفة يسدّه بجثمانه الضخم ويعبث بمؤخرته وينتشي. ينادي ضابط العدد بلغة عربية مكسّرة على الأسماء، يبدأ بالاسم الأول، فتعطيه اسم العائلة أو الجد.

 

المصدر: الميادين

 

كان هناك أسرى يحوّلون العدد إلى مهزلة، ينادي ضابط العدد على اسمك الأول، فتعطيه اسم العائلة مع بعض التحوير، فتتحول إلى نادرة، فيضحك الجميع ما عدا ضابط العدد وعناصره الذين يبدون كالطرشان في الزفة. أذكر شاباً كان ينادي الضابط على اسمه، فيرد عليه "برقعك"، وهو تحوير لاسم عائلته براقعة، كان هناك شاب من مدينة يطا يتفنن في ردوده، مرة يرد "تاج راسك"، وأُخرى "سيدك"، ويضحك الشباب، "شو هالعدد اللي فش فيه هيبة".

لا أعرف في ليلة العدد الأخيرة ما قبل "التحرير الكبير" بساعات قليلة، بمَ رد محمود العارضة وزكريا عندما نادى الضابط على اسميهما، أتخيله مثلاً ينادي زكريا، فيرد "مروح"، أو مثلاً ينادي الضابط على العارضة، فيرد " كاسر عينك"؛ وفي صباح اليوم التالي، دخل ضابط العدد صباح يوم الإثنين إلى الغرفة (5) في القسم (2)، في سجن جلبوع قرب بيسان المحتلة، كان يصنف ثلاثة من الأسرى، بحسب بطاقة "التشخيص" الأمنية، بأن كلاً منهم "عالي الخطورة" لمحاولتهم الهرب أكثر من مرة. فتح ضابط الأمن باب الغرفة ونادى على الأسماء، فلم يسمع غير رجع صوته والصدى، وبدأ يندب حظه التعيس حين تزامنت مناوبته مع لحظة "الهروب الكبيرة"، أما القادري فنظر إلى ساعته، السادسة والربع بتوقيت ما بعد النفق، أما بتوقيت سجن جلبوع، فكانت صدمة ما بعد العدد الصباحي، حيث وقفت المنظومة الأمنية على رجلٍ واحدة، إذ تحولت موثوقيتها الأمنية إلى خرقة بالية وانفتحت في جدرانها مسامات نفذ من خلالها الأسرى وتحولوا إلى أطياف عصية على التصنيف والعد والإحصاء.

العدد كآليات للإخضاع وآليات للمقاومة

استقر العدد في السجون الإسرائيلية على ثلاث مرات في اليوم، صباحاً وبعد الظهر وعدد المساء، بالإضافة إلى ما يُعرف بالعد الأمني الذي يأتي بشكل مفاجئ. لا فرق بينه وبين العدد اليومي، لكن لا توقيت محدداً له، ومن نافلة القول التأكيد أن كل أشكال العد هي أمنية بالدرجة الأولى، كل شيء في هذه الدولة يحيل إلى الأمن، وهو مبتدأها وخبرها، إسرائيل دولة العد والعتاد. يأتي العدد في السجون الاستعمارية كمنظومة تهدف بشكل أساسي إلى السيطرة والضبط والتحكم في زمن الأسير ومكانه، ولا يمكن فصل المفهوميْن عن بعضهما البعض، والزمن مكون أساسي من مكونات السجن، والزمن في السجن هو زمن انضباطي، بتعبير فوكو، بمعنى أنه وقت متصل لممارسة الرقابة والهيمنة وأشكال السيطرة المتعددة، ولا يمكن مقاربة العد في السجون الاستعمارية بمعزل عن سياق استعماري أطول، كانت تلجأ إليه الدول الاستعمارية للإحصاء كأداة للسيطرة على السكان الأصليين، العدد هو ابن هذا الميراث الإحصائي القائم على توظيف المعرفة الاستعارية للضبط والهيمنة على المعتقلين.

يقع العدد المتواصل في داخل السجون الاستعمارية الإسرائيلية في قلب السياسات الاستعمارية داخل السجون التي تهدف إلى إخضاع الجسد وتشكيله وتذويت الرقابة الدائمة في نفس الأسير وروحه، بقصد الردع وتحطيم روحه الثائرة، بمعنى آخر، يلعب العدد دوراً محورياً في تثبيت الأسير في مكان وزمان استعماريين يخضع فيهما الأسير لشبكة علاقات القوة التي يحاول السجّان جاهداً تأكيدها بشكل متواصل ومستمر، في المقابل، يجترح الأسرى بنية مضادة لمواجهة هذه السياسات وتفريغها من محتواها، أو عرقلتها وإعطاب الماكينة الاستعمارية داخل السجون الإسرائيلية والخروج من الزمان والمكان الاستعماري الأحادي إلى فضاءات متعددة، ومن ضمن هذه السياسات النضالية مسخرة العدد إن جاز التعبير، أو المقاومة عبر السخرية وتحويل جدية الأمن الاستعماري إلى نكتة لا تثير الضحك بقدر ما تثير الاشمئزاز، وبتعبير أكثف، حاول الأسرى عبر سنوات نضالهم مقارعة أيديولوجيا الإخضاع القائمة على الزمان والمكان، بسيطرة الأسرى على زمانهم ومكانهم وتحرير مستقبلهم من أبدية تحاول إسرائيل قرصنتها واجتراح آليات للخلاص.

يُشترط في العدد أن تقف له، بمعنى أن يدخل ضابط العدد، فتقوم من على برشك (سريرك)، أو تخرج من الحمام وتتسمر أمام الضابط، لذلك كان العدد كريهاً على نفوس الأسرى، وكانوا يقاومونه بأشكال عديدة من التباطؤ والتثاقل في التعامل مع فرقة العدد، إلى التحايل عليه، وفي كثير من المرات تحويله إلى مهزلة وحفلة للتندر.

بعض الضباط كان يأتي إلى العدد "قرفان" من بزته الشرطية كما يقال، وبعضهم يأتي إلى العدد يقاتل ذباب وجهه، وبعضهم الآخر يأتي كأنه قادم إلى مأتم، فما إن يدخل إلى الغرفة حتى يخرج منها، وبعضهم متحمس ومتنشط ويدخل "فارد عضلاته"، يا أرض اشتدي ما عليك قدي. بعض الضباط يكتفي، إذا كنت في الحمام، بأن تُخرج له أي شيء من جسدك يثبت له أنك ما زلت تتنفس، مثلًا أن تطل برأسك وهو ممتلئ بالرغوة والصابون، وبعضهم لا يقبل منك سوى أن تخرج من تحت الدوش بالكامل، فتضع أي شيء عليك وتخرج مهرولاً.   

أصعب فترات العدد تكون صباحاً، عندما يكون الأسرى نائمين، في السجون المركزية تقف إلى جانب البرش (السرير) "مفتح عين ومغمض العين الأُخرى" حتى لا تطير "النعوسة"، وما إن يخرج ضابط العدد حتى تعود إلى فراشك بحركة بهلوانية، الكثيرون من الأسرى يتعاملون مع العد الصباحي كمنبه، فيبدأون يومهم بعد العد، ويباشرون مهماتهم وبرنامجهم اليومي، من ممارسة الرياضة، أو القراءة، أو صنع كوب ساخن من النسكافيه أو القهوة.

في معتقلات مثل النقب، على سبيل المثال، يختلف العدد بعض الشيء، وخصوصاً في الصباح، ما إن يتم التنبيه عبر مكبرات الصوت حتى يخرج الأسرى مسرعين نحو الساحة، بعد العدد، لا تسمع سوى أقدام مهرولة نحو الأبراش، تسمع طرق "مشايات البلاستيك" على الأرض، تخرج "طرقعة" تشبه قبقاب غوار، فيهتز السجن وأبراجه، وتتذكر رائعة فيروز "خبطة قدمكن عالأرض هدّارة.. إنتوا الأحبة وإلكن الصدارة"، من الجدير القول هنا إن الأسرى في المعتقلات يقفون فوق أرقامهم في ساحة الأقسام في كلّ من عوفر والنقب، وهنا يصل التصنيف الاستعماري إلى ذروته عبر تحويلهم إلى كائنات غير قابلة للحياة وحتى الموت، وتحويلهم إلى حيوات عارية ومستباحة في محاولة السلطة الاستعمارية فرض سيطرتها على الأسرى كأجساد خاضعة، لكن الحركة الأسيرة، عبر نضالاتها المتراكمة، لم تكن سالبة الإرادة بقدر ما خلقت من فضاءات السيطرة تلك فضاءات للتمرد والعصيان، ورفضت أن يتحول الأسرى إلى أجساد وأرقام.

في ذات المرات؛ وفي أثناء العدد المسائي الأخير الذي تُغلق بعده غرف السجن، ويُحبس الأسرى داخل ليل غرفهم الطويل، دخل ضابط العدد مفتول العضلات مزهواً بجبروت دولته، دخلت جوقة العدد التي لا تعزف إلا نشازها الأمني، وبدأ الضابط بعدّ الأسماء وتشخيصها على مدونة المعلومات على جهازه النقال، غادر الضابط بعد أن اطمأن إلى أنظمة العد والعتاد، وأغلق باب الغرفة، فسمع صراخاً عالياً وأصوات استغاثه بلغة عبرية مخنوقة، فلم ينتبه ضابط الفرقة إلى أن الأسرى أمسكوا بجندي العدد الأخير وحشروه، وأشبعوه ضرباً ورفساً حتى هرع كل جنود الأرض، وبعد أن أفرغت كل ما في جعبتها من أسطوانات الغاز، و"عينك ما تشوف إلا النور." كما قال أحدهم.

الإضراب ذروة المواجهة

في الإضراب عن الطعام كذروة للمواجهة التي تلجأ إليها الحركة الأسيرة، يكون فيها الجسد السلاح الوحيد في مواجهة آليات تتفنن في قمع الجسد، تتحول المواجهة بين أجساد لا تملك إلا لحمها وعظمها وعصيانها في مواجهة أجساد مدججة بالموت والقتل والتصنيف والقمع، كان الأسرى يرفضون الوقوف من أجل العدد والتعامل معه. الإضراب عن الطعام، وهو حالة عصيان تصل إلى أقصاها وتكون ذروتها عندما يحرر الأسير موته وحياته من منظومة الموت الاستعمارية كمنظومة تملك الموت والحياة، تحيي مَن تشاء وتميت مَن تشاء، يسترجع فيها الأسرى إدارة شؤون موتهم وكذلك حياتهم، ليعود الموت والحياة شأناً فلسطينياً يتمثل بشكل أساسي في إضرابات الأسرى عن الطعام.

في سجن نفحة الصحراوي وفي إضراب سنة 2012 الشهير الذي نفّذته الحركة الأسيرة بشكل شبه جماعي، وشمل العديد من السجون، كان التعميم من الهيئة العليا للحركة الأسيرة بعدم الوقوف من أجل العدد، كان الأسرى يبقون على حالهم ممددين على أبراشهم، ولا ينظرون حتى لضباط العدد، بعضهم كان يجلس ويضع رجلاً على أُخرى ويهزها في وجه زبانية الإحصاء، بعضهم الآخر كان يدير ظهره ولا يعير طقوس العدد أي أهمية، كان الإضراب فرصة كبرى للانتقام من سياسات العدد وضباطه، ومناسبة وطنية لتحدّيه، كان ضابط العدد يعبر إلى الغرفة، يعدّ ويشخص، ولا يأبه به أحد، كأنه غير موجود، فيشتعل رأسه وتنتفخ عروقه وتخرج عيناه من جحرها.

التشخيص الأخير

يأتي ضابط السجن ويبلّغ ممثل المعتقل من جاءت أسماؤهم "شحرور" (أي إفراج)، وقبل أن يركب المعتقل المفرَج عنه في بوسطة السجن إلى الأسفلت كما يقول الأسرى (أي من سيارة السجن وحتى الخروج إلى الحرية)، تمرّ بسلسلة من التشخيص والعد حتى يخيّل إليك أنك ستعدّ إلى ما لا نهاية. تكثف لك إدارة السجون جرعات متزايدة من العد كي لا تنسى أنك مررت بماكينة الإحصاء الاستعمارية تلك، حتى أن العد الأخير يكون قبل ذلك، وأنت على أعتاب درج البوسطة (سيارة السجن) لتغادرها. تصرّ تلك الدولة على أن لا تراك، إلا عبر معيارها التصنيفي، وتصر تلك الدولة على أنك "اللامرئي" إلا من خلال تشخيصها ومنظومتها المعرفية، وتحاول تأبيد تلك السياسات على جلدك وروحك، لكنك في لحظة خروجك من قفص البوسطة واجتيازك حاجز الظاهرية، تشعل أول سيجارة تأخذها من أول عابر طريق تصادفه. ومع سحبة أول "مجّة" من السيجارة، يختلط في صدرك هواء الحرية مع دخان السيجارة وعوادم السيارات، فتنسى العدد وتوقيته، وتبدأ رحلتك عائداً من جغرافيا السجون "المخبرية" إلى جغرافيا أكثر اتساعاً وأكثر سجناً إن جاز التعبير.  تمتد رحلة الفلسطيني من سجنه الكبير إلى سجنه الضيق، وبينهما سياسات تريد الهيمنة والإخضاع والسيطرة، وبينهما نفق علقت فيه الثورة الفلسطينية، بعد أن تحولت إلى سلطة ودولة مستحيلة، وأسرى تجاوزتهم الرسمية الفلسطينية، لكنهم مازالوا يتقنون صناعة الأمل والمستقبل وخلق أزمنتهم الموازية "ويصحّون الضمير النائم".

انظر

From the same blog series: The Prisoners

Read more