About Cellmates, Icons of the Homeland ... and the Beirut Explosion
Date: 
August 19 2020
Author: 
blog Series: 

عن بيروت: حملنا الوجع في صدورنا وأقمنا الحداد على جدار الزنزانة

لم تهتز جدران السجن لكن انفجار مرفأ بيروت هزّ كياناتنا وقلوبنا ووجداننا، وشعرنا بأن السجن أثقل، والقهر أكثر قهراً. شعرنا كم هي أيادينا وأرجلنا وقدراتنا مكبّلة. نخوتنا تشدّ بضمائرنا لكن السجن له جدران خانقة.

 

مجدل نتيل، بدون عنوان، ٢٠١٥

 

تتفتح الأحلام وروداً وتموت في ريعانها، ككل بلدٍ عربي ذاق طعم المعاناة مُرغماً؛ كان لبنان، تاريخه المتكرر يُعيد المعاناة ذاتها على شعبه وأهله، إن كان إهمال داخلي أو تخريب متعّمد، فالنتيجة واحدة، عادت بيروت وحيدة وسط الدمار، حمل البحر والشاطئ جثث العشرات من أبنائها، تطايرت أحلامهم في السماء وتبددت مع دخان الانفجار الأخير، أحبة تفرقت بهم السُبل، بعضهم صعد إلى السماء شهيداً والآخر يعانق الذكرى والوجع، وكثير منهم يرقد تحت الركام مجبراً.

إن كانت الشعوب العربية تعيش القدر واحداً، فلبنان يعيشه مضاعفاً، يدفع أثماناً باهظة في كل مرة، وفي كل مرة يرتقي الظالم ويبيت المظلوم قهراً.

بيروت ستبقى نشيد الحياة، والجميلة بكل أهلها ومعالمها ومعانيها وأفكار كتّابها ومفكريها، ممن نعاقر كلماتهم في الأسر، أمثال وليد صليبي وأمين معلوف وإلياس خوري.

بيروت هُتاف مناضليها، شباباً وشيباً سواء أكانوا رجالاً أم نساء وأطفالاً، وعلى كل كتف منهم همُّ بلادهم يُحمل، أمل لبنان بهم وحدهم، لا بيد غريب طامع، ولا قريب مستبد.

أنفاس الأبرياء ومن غافلتهم النيران أرهقت أنفاسنا نحن الأسرى، حملنا الوجع في صدورنا، أقمنا الحداد ونكسّنا الأعلام التي رسمناها على جدران الزنازين، قلوبنا معكم، أينما كنتم وبأيّ حالٍ أضحت حالكم، ننحني إجلالاً لمُصابكم، ولبيروت عروس البحر، ألف تحية من أسرى الحرية في سجن النقب الصحراوي

الأسير رشدي أبو مخ (صالح) .... صاحب القلب الدافئ في برد سجن النقب الصحراوي

في أحد أركان المعتقل، يكمن المتنفس الوحيد لهاتين العينين المكتظتين بالصور، تراهما بسطوعٍ أجمل كلما مر فوقهما بصيصُ نور، ويحملهما معه أينما اتكأ يعلقهما في كل الزوايا، ويثبتهما فوق "البرش"، كي يصحو ويملأ ناظريه بنهار علّه يبدو أجمل ....

تساءلت دائماً عن الشيء الذي يقفُ وراء عزيمة رجل على أعتاب الستين من عمره للعطاء وللبذل من دون مقابل، عن إرادة العيش لديه، على الرغم من الأربعة وثلاثين عاماً من القهر، لم تملّ روحه خدمة رفاقه الأسرى، فأينما وجد العمل وجدته متألقاً وبكامل حضوره. إنه للمريضِ حارس وخصوصاً رفاقه المرضى بالسكري، كونه على موعدٍ مع إبرة الأنسولين مرتين في اليوم .... ذهابه وإيابه إلى عيادة السجن طيلة فترة الاعتقال وإصابته بمرض السكري، منحاه خبرةً كافية للإرشاد والنصح.

في رفقته ابتسامة يمنحها لكل من تقاربت به عيناه، تحكي .. تبكي .. تقّوي .. تقهر .. تتأمل .. تنتقم .. يتلقى كل صاحب همٍ رسالته من عينيه.

وعلى الرغم من أيامه الكثيرة وأوقاته اللامحدودة التي عاشها بين جدرانٍ كانت شاهدة على وحدته، فقد استطاع أن يبقى في قيد الوطن بانتمائه وعطائه وتواضعه الذي يذكرنا برفاق الأمس، ممن فاحَ التراب بذكرهم الطيب.

لاسمه نصيبٌ من شخصيته؛ رشدي أبو مخ (صالح) المولود سنة 1962، ابن بلدة باقة الغربية في الداخل المحتل، من الرجال القابضين على جمر النضال في زمن الفتور والتخاذل.

على موعدٍ مع الصباح من دون كلل، ينتعل حذاءه ويربطه بحزم استعداداً لكل جديد، يحدّث أخباره بقراءة الصحف حال وصولها في الصباح، فلا رأيٌ يمر ولا حديثٌ يعبر دون أن تراه عيناه، ولا حديث أو نقاش في أي تطور إلاّ وله رأي سديد ....

رفيقي صالح؛ استمد العزيمة من الذاكرة، عيونه كانت مُعلّقة في أحد زوايا الوطن، ذكَّرته دائماً بأيام الوطن الجميل.

في ذلك الأسر أبطال ذكرتهم الجدران وبوابات السجن وأسلاكه، حُفِرت ملامحهم في ظلام الزنزانة، شبعت سلاسل العدو من أطرافهم، قيّدت أرجلهم وأيديهم ليالٍ طوال، ريحُ ذكراهم عبقت في سماء الطرقات وهم ينتقلون من سجن إلى آخر، وباتت الجدران تسمع أصواتهم.

لكن الآذان في الخارج لم تسمع بهم، لم تنطق الأفواه بأسمائهم، ليس نسياناً بل عجزاً، وتجاوزتهم صفقات التبادل. بقوا خلف كواليس النضال لسنوات، مثل صالح أبو مخ، وإبراهيم أبو مخ، ومحمد داوود "أبو غازي"، ووليد دقة، وإبراهيم بيادسة، وكريم يونس، وماهر يونس وجمعة آدم؛ وغيرهم، وكثيرون ممن سيبقى تاريخنا يتيماً من دونهم، مفتقراً إلى القيّم الإنسانية، ما لم يمنحهم مكانتهم الحقيقية.

الأسير المحرر صدقي المقت "مانديلا سورية"

قال "لا يمكن"، لكل شيء يقف بينه وبين ذاته، خشية أن يضيع المبدأ في زحام التنازلات وبين دفّات المساومة.

صدقي المقت .. الرفيق المناضل .. مانديلا سورية الحر .. الشريك الحقيقي للحلم بالتحرير من دون التفريط، صاحب الكلمة التي لا ولم تتجزأ.

فاوضوه على اشتراط حريته بالإبعاد عن الجولان المحتل، فلم يتخلَّ، ولم تهن عليه أعمار رفاقه التي ذهبت في سبيل التحرير، ولم يعتد تقديم التنازلات ليمجد ذاته، أو لأن يرفّه عن نفسه بالحرية المزيفة التي قدمها الاحتلال له.

ذكرى رفاقه الشهداء، وهما: سلطان الولي وهايل أبو زيد، اللذان نهش المرض جسديهما واستنزفها حتى بعد تحررهما، بسبب الإهمال الطبي لهما في الأسر، والحياة المزرية التي يعيشها الأسير داخل المعتقل؛ حفرت العقل وأوجعت القلب، كلما اشتعلت الروح حنيناً إلى الخارج دقت نواقيسها.

ذهابه إلى دمشق كان الخيار الأسهل والأشهى، حيث كان في إمكانه أن يحظى بكل ما يريد، لكنه رفض رفاهية الإبعاد إلى الجزء الآخر من وطنه سورية، وفضّل على ذلك الاشتباك من داخل الزنازين.

بإرادته لا بإرادة الاحتلال، بقي ابن الجولان السوري المحتل في دائرة الاشتباك وساحة المواجهة مع الاحتلال، مدركاً الهدف الأبعد الذي يرمي إليه الاحتلال من قرار الإبعاد، والذي يفضي إلى إنهاء التأثير المستقبلي للمقت في ساحة الجولان المحتل، مدركاً حجم قدرته على إيجاد بيئة حقيقية لمناهضة الاحتلال وللعمل الكفاحي.

وعلى الرغم من توقه المؤبد إلى هواء دمشق العريقة، رفض أن يدخلها حاملاً عبء التنازل ليكون من جديد على ناصية الكفاح، متشبثاً بإيمانه الدائم بالحرية والنصر.

صدقي المقت، رفيق من رفاق الثورة والكفاح، مثال للكلمة الواحدة ومن الرجال القلائل وأصحاب اليد النظيفة، ممن لم تلطخهم المهادنة مع المحتل، ومن الرموز العربية ذات الخطوة الثابتة.

رفيقي صدقي المقت ابن مجدل شمس في الجولان السوري المحتل .... عهداً لكل ذكرى صغيرة كانت أو كبيرة عاشت فينا داخل الأسر.... كل الأوقات العصيبة والمشاعر الموجعة، وعلى الرغم من لحظات حاصرتنا باليأس أو الضيق .... عهداً لكل ملامح الفرحة مع كل خبر جميل يأتينا من خارج الأسر.... عهداً رفيقي سيبقى الأمل فينا بالتحرير والعودة إلى أوطاننا أحراراً ما بقيت الروح وما فني الجسد.

تحية مفخرة وعز لفلسطين وللجمهورية العربية السورية ولاّدة الأبطال، ولكل الأحرار أصحاب المواقف الثابتة.

بقربك إلى الأرض .... جعلوك الأقرب إلى قلوبنا

حين تغيب شخصية كفاحية فلسطينية يقوم الأسرى بتنظيم نشاط سواء حدادي أو بإصدار بيان يعمم على الأسرى، أو نشاط تثقيفي يقوم على إثراء الحياة الاعتقالية بالحديث عن المسيرة الشخصية والكفاحية لترتسم مسيرة الشعب. وحين جاءنا نبأ وفاة بسام الشكعة بكت قلوب الأسرى حزناً على الشخص والمسيرة والحنين إلى نهضتنا التي نراها تتآكل يوماً بعد يوم، في وقت نحن الفلسطينيين وبالذات الأسرى أحوج ما نكون إلى الأمل. وفيما يلي ما ورد في تأبين بسام الشكعة:

لم أكن أعلم في صغري أن ذلك الاسم الذي تحمله مدرستي الابتدائية، مدرسة بسام الشكعة، يحمل اسم شخصية مناضلة ومتفانية فذة، ذات قيم ومبادئ ومفاهيم وطنية وعروبية، وقيم وأخلاق إنسانية، فقد كبرنا على اسم الرفيق المناضل بسام الشكعة، فوجدناه قامة وطنية من قامات فلسطين، وإنساناً بحدود بلاد العرب. وفي أول لقاء معه في منزله سنة 1997، شعرت كم أن ذلك الإنسان المثقل بالعجز الجسدي، والهموم الوطنية والعربية، ذو قلبٍ كبير وفكرٍ مستنير، قادر على إشعال العقول والقلوب بالكفاح، والإرادة والأمل، على الرغم من الأسى الذي عاشه رفيقنا أبو نضال، ومما جعله الاحتلال يتعايش معه، فإنه كان يمتلك إرادة البقاء المقاتلة، والروح المتفانية دوماً، وعزيمة النضال والمقاومة كمبدأ ونهجٍ للتحرير، رجل عشق الأرض والقضية، وبشخصية نادرة الوجود في واقع اليوم، واقع أسقط المفاهيم الوطنية والأخلاقية، واقع الوجوه الكالحة والتائهة، رجل بعد أن بترت قدميه، قال: "جعلوني أقرب إلى الأرض"، في إشارة منه إلى أرض فلسطين، وجعلوه الأقرب إلى قلوبنا، رجل على الرغم من بتر ساقيه لم ينحنِ إلاّ لشهداء فلسطين، ولم يركع  يوماً للاحتلال، ولم يعطهم ما أرادوا، فقطعوا ساقيه، ولم ينقطع نضاله الوطني والقومي.

اليوم وها قد رحل عنا الرفيق أبو نضال جسداً، وما عدنا عاجزين عن الكلام كما كنا، بل تنهمر الكلمات كالمطر، لأن الفراغ الذي تركه أكبر من أن ينتهي بالكلام عليه.

أبو نضال الذي أجاب عن أسئلة وطنية وقومية وأممية، وبقي المشرق في حين غاب الآخرين، ولعل أحقية إجاباته وحقيقتها بأن فلسطين هي المنطلق والعمق القومي والعربي، والتحالف من أجل تحرير فلسطين، ومقاومة الاحتلال لفهم لغة الصراع، هي السبب الحقيقي وراء محاولة اغتياله، ومن هنا من داخل السجن، ومن وراء الجدران الكافرة، والأسلاك الشائكة، أختم لأن المقال محكوم بقصر المقام، فلا يسعني إلاّ أن أقول: "عذراً رفيقنا أبا نضال، فحاضرنا عقيم بأن يأتي بمثلك."

Read more